مسكّن الفؤاد عند فقه الاحبة والاولاد

الشيخ زين الدين علي بن أحمد الجبعي العاملي

مسكّن الفؤاد عند فقه الاحبة والاولاد

المؤلف:

الشيخ زين الدين علي بن أحمد الجبعي العاملي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٠

يعزيها بابنها ، فقال : « بلغني أنك جزعت جزعاً شديداً » قالت وما يمنعني يا رسول الله ، وقد تركني عجوزاً رقوباً؟! فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لست بالرقوب ، إنما الرقوب التي تتوفى وليس لها فرط ، ولا يستطيع الناس ان يعودوا عليها من أفراطهم ، فتلك الرقوب ».

وهذه الأحاديث كلها مستخرجة من أصول مسندة ، تركنا إسنادها وأصولها اختصاراً ، ولان الله سبحانه بفضله ورحمته قد وعد الثواب لمن عمل بما بلغه ، وإن لم يكن الأمر كما بلغه. ورد ذلك أيضاً في عدة أحاديث من طرقنا وطرق العامة.

٤١

فصل

فيما يتعلق (١) بهذا الباب

عن زيد بن أسلم قال : مات لداود عليه‌السلام ولد ، فحزن عليه حزناً كثيراً ، فأوحى الله إليه : « يا داود ، ما كان يعدل هذا الولد عندك؟ قال : يا رب ، كان يعدل هذا عندي ملء الأرض ذهباً ، قال : فلك عندي يوم القيامة ملء الأرض ثواباً » (٢).

وعن داود بن أبي هند (٣) قال : رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت ، وكأن الناس يدعون إلى الحساب ، قال : فقربت إلى الميزان ، ووضعت حسناتي في كفة وسيئاتي في كفة ، فرجحت السيئات على الحسنات ، فبينما أنا كذلك مغموم إذ اُتيت بمنديل أبيض ـ أو خرقة بيضاء ـ فوضعت مع حسناتي فرجحت ، فقيل لي : أتدري ما هذا؟ قلت : لا ، قيل : هذا سقط كان لك ، قلت : فإنه كانت لي إبنة ، ( فقيل : بنتك ليست كذلك ) (٤) ، لأنك كنت تتمنى موتها.

وعن أبي شوذب : ان رجلاً كان له ابن لم يبلغ الحلم ، فأرسل إلى قومه فقال : لي إليكم حاجة ، قالوا : ما هي؟ قال : إني أريد أن أدعو على ابني هذا أن يقبضه الله تعالى ، وتؤمنون على دعائي ، قال : فسألوه عن سبب ذلك ، فأخبرهم أنه رأى في نومه (٥) كأن الناس قد جمعوا ليوم القيامة ، وأصابهم عطش شديد ، فإذا الولدان قد خرجوا من الجنة معهم الأباريق ، وفيهم ابن أخ له ، فالتمس منه أن يسقيه فأبى ، وقال : يا عم ، إنا لا نسقي إلا الآباء ، فأحببت أن يجعل الله ولدي هذا فرطاً لي ، فدعا فأمنوا ، فلم يلبث الصبي حتى مات.

أخرجه البيهقي في ( الشعب ).

وعن محمد بن خلف (٦) قال : كان لإبراهيم الحربي ابن له إحدى عشرة سنة قد

__________________

١ ـ في نسخة « ش » : مما يلتحق.

٢ ـ رواه الشيخ ورام في تنبيه الخواطر ١ : ٢٨٧ ، والسيوطي في الدر المنثور ٥ : ٣٠٦ باختلاف في الفاظه.

٣ ـ في « ح » : داود بن هند ، والصواب ما أثبتناه من نسخة « ش » راجع « مجمع الرجال ٢ : ٢٧٩ ، الجرح والتعديل ٣ : ٤١١ / ١٨٨١ ، تهذيب التهذيب ٣ : ٢٠٤ / ٣٨٨ ، ميزان الأعتدال ٢ : ١١ / ٢٦١٣».

٤ ـ في نسخة « ش » : فقيل لي تيك ليست لك.

٥ ـ في نسخة « ش » : منامه.

٦ ـ في « ح » محمد بن أبي خلف ، والصواب ما أثبتناه من نسخة « ش » ، راجع « رجال النجاشي : ٢٧٠ ، ومعجم

٤٢

حفظ القرآن ، ولقنه أبوه من الفقه والحديث شيئاً كثيراً ، فمات فأتيته لاعزيه ، فقال : كنت أشتهي موته ، فقلت له : يا أبا إسحاق ، أنت عالم الدنيا ، تقول مثل هذا في صبي قد أنجب ، وحفظ القرآن ، ولقنته الحديث والفقه؟! قال : نعم ، رأيت في النوم كأن القيامة قد قامت ، وكأن صبياناً بأيديهم القلال (١) فيها ماء ، يستقبلون الناس يسقونهم ، وكان اليوم يوم يوماً حاراً شديد الحر. فقلت لأحدهم : إسقني من هذا الماء. فنظر إلي ، وقال : لست أنت أبي ، قلت : فأي شيء أنتم؟ قالوا : نحن الصبيان الذين متنا في دار الدنيا ، وخلفنا آباءنا ، فنستقبلهم ونسقيهم (٢) ، فلهذا تمنيت موته.

وروى الغزالي في ( الإحياء ) : إن بعض الصالحين كان يعرض عليه التزويج برهة من دهره فيأبى ، قال : فانتبه من نومه ذات يوم ، وقال : زوجوني ، فزوجوه ، فسئل عن ذلك ، فقال : لعل ( الله أن يرزقني ) (٣) ولداً ويقبضه ، فيكون لي مقدمة في الآخرة ، ثم قال : رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت ، وكأني في جملة الخلائق في الموقف ، وبي من العطش ما كاد أن يقطع قلبي ، وكذا الخلائق من شدة العطش والكرب ، فبينما نحن كذلك وإذا ولدان يتخللون الجمع ، عليهم قناديل من نور ، وبأيديهم أباريق من فضة وأكواب من ذهب ، يسقون الواحد بعد الواحد ، يتخللون الجمع ويتجاوزون أكثر الناس ، فمددت يدي إلى أحدهم ، فقلت : اسقني ، فقد أجهدني العطش ، فقال : مالك فينا ولد ، إنما نسقي آباءنا ، فقلت : ومن أنتم : ومن أنتم؟ قالوا : نحن من مات من أطفال المسلمين (٤).

وحكى الشيخ أبو عبد الله بن النعمان في كتاب ( مصباح الظلام ) عن بعض الثقات : أن رجلاً أوصى بعض أصحابه ـ ممن أراد أن يحج ـ أن يقرأ سلامه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويدفن رقعة مختومة ـ أعطاها له ـ عند رأسه الشريف ، ففعل ذلك ، فلما رجع من حجه أكرمه الرجل وقال له : جزاك الله خيراً ، لقد بلغت الرسالة ، فتعجب المبلغ من ذلك وقال : من أين علمت تبليغها قبل أن اُحدثك ، فأنشأ يحدثه ، قال : كان لي أخ مات ، وترك ابناً صغيراً ، فربيته وأحسنت تربيته ، ثم مات

__________________

رجال الحديث ١٦ : ٧٤ ، خلاصة العلامة ١ : ١٦١ / ١٥٤ ».

١ ـ القلال جمع القلة : وهي الحب العظيم أو الجرة العظيمة « القاموس المحيط ٤ : ٤٠ ».

٢ ـ في نسخة « ش » : فنسقيهم الماء.

٣ ـ في نسخة « ش » : الله تعالى يرزقني.

٤ ـ إحياء علوم الدين ٢ : ٢٧.

٤٣

قبل أن يبلغ الحلم ، فلما كان ذات ليلة ، رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت ، والحشر قد وقع ، والناس قد اشتد بهم العطش من شدة الجهد ، وبيد ابن أخي ماء ، فالتمست أن يسقيني فأبى ، وقال : أبي أحق به منك ، فعظم علي ذلك ، فانتبهت فزعاً ، فلما أصبحت تصدقت بجملة دنانير ، وسألت الله أن يرزقني ولداً ذكراً ، فرزقنيه ، واتفق سفرك ، فكتبت لك تلك الرقعة ، ومضمونها التوسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الله عزوجل في قبوله مني ، رجاء أن أجده يوم الفزع الأكبر ، فلم يلبث أن حم ومات ، وكان ذلك يوم وصولك ، فعلمت أنك بلغت الرسالة.

وفي كتاب ( النوم والرؤيا ) لأبي الصقر الموصلي ، حدثني علي بن الحسين بن جعفر ، حدثني أبي ، حدثني بعض أصحابنا ممن أثق بدينه وفهمه ، قال : أتيت المدينة ليلاً ، فنمت في بقيع الغرقد (١) بين أربعة قبور عندها قبر محفور ، فرأيت في منامي أربعة أطفال ، قد خرجوا من تلك القبور ، وهم يقولون :

أنعم الله بالحبيبة عيناً

وبمسراك يا اميم إلينا

عجباً ما عجبت من ضغظة

القبر ومغداك يا اُميم إلينا

فقلت : إن لهذه الأبيات لشأناً ، وأقمت حتى طلعت الشمس ، وإذا جنازة قد أقبلت ، فقلت : من هذه؟ فقالوا : امرأة من أهل المدينة ، فقلت : إسمها اميمة؟ قالوا : نعم ، قلت : قدمت فرطاً؟ قالوا : أربعة اولاد ، فأخبرتهم بالخبر ، فأخذوا يتعجبون من هذا (٢).

وما أحسن من أنشد بعض الأفاضل ، يقول شعراً :

عطيته إذا أعطى سروراً

وإن سلب الذي أعطى أثابا

فأي النعمتين أعد فضلاً

وأحمد عند عقباها إيابا

أنعمته التي كانت سروراً

أم الاخرى التي جلبت ثوابا؟

__________________

١ ـ بقيع الغرقد : بالغين المعجمة ، هو مقبرة أهل المدينة « معجم البلدان : ١ : ٤٧٣ ».

٢ ـ البحار ٨٢ : ١٢٢.

٤٤

الباب الثاني

في الصبر وما يلحق به

الصبر في اللغة : حبس النفس من الفزع من المكروه والجزع عنه ، وإنما يكون ذلك بمنع باطنه من الاضطراب ، وأعضائه من الحركات غير المعتادة ، وهو ثلاثة أنواع :

الأول : صبر العوام ، وهو حبس النفس على وجه التجلد ، وإظهار الثبات في النائبات ، ليكون حاله عند العقلاء وعامة الناس مرضية يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون (١).

الثاني : صبر الزهاد ، والعباد ، وأهل التقوى ، وأرباب الحلم ، لتوقع ثواب الآخرة ، إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب (٢).

الثالث : صبر العارفين ، فإن لبعضهم التذاذاً بالمكروه ، لتصورهم أن معبودهم خصهم به من دون الناس ، وصاروا ملحوظين ( بشرف نظرته ) (٣) وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة ، قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (٤).

وهذا النوع يختص باسم الرضا ، وسيأتي في باب خاص.

والأول لا ثواب عليه ، لأنه لم يفعله لله ، وإنما فعله لأجل الناس ، بل هو في الحقيقة رياء محض ، فكلما ورد في الرياءات فيه ، ولكن الجزع شر منه ، لأن النفوس البشرية تميل إلى التخلق بأخلاق النظراء والمعاشرين والخلطاء ، فيفشوا الجزع فيهم ، وإذا رأوا أحوال الصابرين مالت نفوسهم إلى التخلق بأخلاقهم ، فربما صار ذلك سبباً لكمالهم ، فيحصل منه فائدة في نظام النوع ، وإن لم يعد على هذا الصابر.

والصبر عند الإطلاق يحمل على القسم الثاني.

واعلم أن الله ـ سبحانه ـ قد وصف الصابرين بأوصاف ، وذكر الصابرين في القرآن في نيف وسبعين موضعاً ، وأضاف أكثر الخيرات والدرجات إلى الصبر وجعلها

__________________

١ ـ اقتباس من سورة الروم ٣٠ : ٧.

٢ ـ اقتباس من سورة الزمر ٣٩ : ١٠.

٣ ـ في نسخة « ش » : بشريف نظره.

٤ ـ اقتباس من سورة البقرة ٢ : ١٥٥ ـ ١٥٧.

٤٥

ثمرة له ، فقال عز من قائل : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ اَئِمّةً يَهْدُونَ بِاَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا ) (١) وقال : ( وتَمَتْ كَلَمَتُ رَبِكَ الْحُسْنى عَلَى بَني اِسْرَآئيلَ بِمَا صَبَرُوا ) (٢) وقال تعالى : ( وَلَنَجْزينَّ الذينَ صَبَروا اجْرَهُم بِاحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون ) (٣) وقال : ( اُلئِكَ يُؤْتَوْنَ اَجْرَهُمْ مَرَّتَيْن بِمَا صَبَرُوا ) (٤) وقال : ( انما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب ) (٥).

فما من قربة إلا وأجرها بتقدير وحساب إلا الصبر ، ولأجل كون الصوم من الصبر ، وأنه نصف الصبر (٦) كان لا يتولى أجره إلا الله ـ تبارك وتعالى ـ كما ورد في الأثر.

قال الله تعالى : « الصوم لي ، وأنا اجزي به » (٧) فأضافه إلى نفسه من بين سائر العبادات ، ووعد الصابرين بأنه معهم ، فقال : ( واصبروا ان الله مع الصابرين ) (٨) وعلق النصرة على الصبر ، فقال : ( بلى إن تصبروا وتتّقوا ويا توكم من فورهم هذا يمددكم ربُكم

____________

١ ـ السجدة ٣٢ : ٢٤.

٢ ـ الأعراف ٧ : ١٣٧.

٣ ـ النحل ١٦ : ٩٦.

٤ ـ القصص ٢٨ : ٥٤.

٥ ـ الزمر ٣٩ : ١٠.

٦ ـ روى ابن ماجة في سننه ١ : ٥٥٥ / ١٧٤٥ ، والسيوطي في الجامع الصغير ٢ : ١٢٢ / ٥٢٠٠ : « الصيام نصف الصبر ».

٧ ـ رواه الصدوق في الخصال : ٤٥ / ٤٢ ، ومالك في الموطأ ١ : ٣١٠ / ٥٨ ، والبخاري في صحيحه ٣ : ٣١ ، وابن ماجة في سننه ٢ : ١٢٥٦ / ٣٨٢٣ ، وقال ابن الاثير في النهاية : ١ : ٢٧٠ بعد ذكر الحديث : قد أكثر الناس في تأويل هذا الحديث ، وأنه لم خص الصوم والجزاء عليه بنفسه عزوجل ، وإن كانت العبادات كلها له وجزاؤها منه ، وذكروا فيه وجوهاً مدارها كلها على أن الصوم سر بين الله وبين والعبد لا يطّع عليه سواه ، فلا يكون العبد صائماً حقيقة إلا وهو مخلص في الطاعة ، وهذا وإن كان كما قالوا فإن غير الصوم من العبادات يشاركه في سر الطاعة ، كالصلاة على غير طهارة ، أو في ثوب نجس ونحو ذلك من الأسرار المقترنة بالعبادات التي لا يعرفها إلا الله وصاحبها. وأحسن ما سمعت في تأويل هذا الحديث أن جميع العبادات التي يتقرب بها العباد إلى الله عزوجل ـ من صلاة ، وحج ، وصدقة ، واعتكاف ، وتبتل ، ودعاء ، وقربان ، وهدي ، وغير ذلك من أنواع العبادات ـ قد عبد المشركون بها آلهتهم ، وما كانوا يتخذونه من دون الله أنداداً ، ولم يسمع أن طائفة من طوائف المشركين وأرباب النحل في الأزمان والمتقادمة عبدت آلهتها بالصوم ، ولا تقربت إليها به ، ولا عرف الصوم في العبادات إلا من جهة الشرائع ، فلذلك قال الله عزّوجلّ : الصوم لي وأنا أجزي به : أي لم يشاركني أحد فيه ، ولا عبد به غيري ، فأنا حينئذ اجزء به وأتولى الجزاء عليه بنفسي ، لا أكله إلى أحد من ملك مقرب أو غيره على قدر اختصاصه بي.

٨ ـ الأنفال ٨ : ٤٦.

٤٦

بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ) (١). وجمع للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم ، فقال : ( اولئك عليه صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون ) (٢) فالهدى والصلوات والرحمة مجموعة للصابرين ، واستقصاء جميع الآيات في مقام الصبر يطول.

وأما الأخبار فقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الصبر نصف الإيمان » (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « من أقل ما اوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ، ومن اعطي حظه منهما لم يبال ما فاته من قيام الليل وصيام النهار ، ولئن تصبروا على مثل ما أنتم عليه ، أحب إلي من أن يوافيني كل امرئ منكم بمثل عمل جميعكم ، لكني أخاف ان تفتح عليكم الدنيا بعدي ، فينكر بعضكم بعضاً ، وينكركم أهل السماء عند ذلك ، فمن صبر واحتسب ظفر بكمال ثوابه ، ثم قرأ : ( ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا ) (٤) الآية » (٥).

وروى جابر : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن الإيمان ، فقال : « الصبر كنز من كنوز الجنة » ، وسئل مرة؟ ما الايمان ، فقال : « الصبر » (٦) وهذا نظير قوله عليه‌السلام : « الحج عرفة » (٧).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أفضل الاعمال ما اكرهت عليه النفوس » (٨).

وقيل : أوحى الله تعالى إلى داود عليه‌السلام : « تخلق باخلاقي ، وإن من أخلاقي الصبر » (٩).

__________________

١ ـ آل عمران ٣ : ١٢٥.

٢ ـ البقرة : ٢ : ١٥٧.

٣ ـ شهاب الأخبار : ٥٥ / ١٣٢ ، شرح نهج البلاغة لابن الحديد ١ : ٣١٩ ، الجامع الصغير ٢ : ١١٣ / ٥١٣٠ ، الترغيب والترهيب ٤ : ٢٧٧ / ٥ ، المستدرك على الصحيحين ٢ : ٤٤٦ ، الدر المنثور ١ : ٦٦ ، إرشاد القلوب : ١٢٧.

٤ ـ النحل ١٦ : ٩٦.

٥ ـ أخرجه الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء ٧ : ١٠٦.

٦ ـ المحجة البيضاء ٧ : ١٠٧.

٧ ـ مسند أحمد ٤ : ٣٠٩ ، ٣١٠ ، ٣٣٥ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٠٣ / ٣٠١٥ ، سنن الدارمي ٢ : ٥٩ ، سنن الترمذي ٤ : ٢٨٢ / ٤٠٥٨ ، وسنن النسائي ٥ : ٢٥٦ ، المستدرك على الصحيحين ١ : ٤٦٤.

٨ ـ رواه الشيخ ورام في تنبيه الخواطر عن علي عليه‌السلام ١ : ٦٣ باختلاف يسير.

٩ ـ إرشاد القلوب : ١٣٧ ، المحجة البيضاء ٧ : ٢٠٧ باختلاف في الفاظه.

٤٧

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنه لما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأنصار ، فقال : « أمؤمنون أنتم؟ » فسكتوا ، فقال رجل : نعم ، يا رسول الله. فقال : « وما علامة إيمانكم؟ » قالوا : نشكر على الرخاء ، ونصبر على البلاء ، ونرضى بالقضاء ، فقال : « مؤمنون ورب الكعبة » (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « في الصبر على ما يكره خير كثير » (٢).

وقال المسيح عليه‌السلام : « إنكم لا تدركون ما تحبون ، إلا بصبركم على ما تكرهون ».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لو كان الصبر رجلا لكان كريماً » (٣).

وقال علي عليه‌السلام : « بني الإيمان على أربع دعائم : اليقين ، والصبر ، والجهاد ، والعدل » (٤).

وقال أيضاً : « الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا جسد لمن لا رأس له ، ولا ايمان لمن لا صبر له » (٥).

وقال علي عليه‌السلام :« عليكم بالصبر ، فإنه به يأخذ الحازم ، وإليه يعود الجازع ».

وقال علي عليه‌السلام : « إن صبرت جرت عليك المقادير وأنت مأجور ، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت مأزور » (٦).

وعن الحسن بن علي عليهما‌السلام ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : « إن في الجنة شجرة يقال لها : شجرة البلوى ، يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة ، فلا يرفع لهم ديوان ، ولا ينصب لهم ميزان ، يصب عليهم الأجر صباً ، وقرأ عليه‌السلام : ( انما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب ) (٧) » (٨).

__________________

١ ـ المحجة البيضاء ٧ : ١٠٧ ، ورواه باختلاف في ألفاظه محمد بن همام في التمحيص : ٦١ / ١٣٧.

٢ ـ مشكاة الأنوار : ٢٠ ، والمحجة البيضاء ٧ : ١٠٧.

٣ ـ تنبيه الخواطر ١ : ٤٠ ، الجامع الصغير ٢ : ٤٣٤ / ٧٤٦١ ، منتخب كنز العمال ١ : ٢٠٨.

٤ ـ نهج البلاغة ٣ : ١٥٧ / ٣٠ باختلاف في ألفاظه.

٥ ـ نهج البلاغة ٣ : ١٦٨ / ٨٢ ، الكافي ٢ : ٧٢ / ٤ و ٥ ، جامع الأخبار : ١٣٥ باختلاف يسير ، وروي باختلاف في ألفاظه في التمحيص : ٦٤ / ١٤٨ ومشكاة الأنوار : ٢١.

٦ ـ نهج البلاغة ٣ : ٢٢٤ / ٢٩١ ، جامع الأخبار : ١٣٦.

٧ ـ الزمر ٣٩ : ١٠.

٨ ـ الدر المنثور ٥ : ٣٢٣.

٤٨

وعنه عليه‌السلام ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما من جرعة أحب إلى الله تعالى من جرعة غيظ كظمها رجل ، أو جرعة صبر على مصيبة ، وما من قطرة أحب إلى الله تعالى من قطرة دمع من خشية الله ، أو قطرة دم أهرقت في سبيل الله » (١).

وعنه عليه‌السلام : « المصائب مفاتيح الأجر ».

وعن زين العابدين عليه‌السلام : « إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي منادٍ : أين الصابرون؟ ليدخلوا الجنة بغير حساب ، قال : فيقوم عنق من الناس ، فتتلقاهم الملائكة ، فيقولون : إلى أين ، يا بني آدم؟! فيقولون : إلى الجنة ، فيقولون : وقبل الحساب؟! فقالوا : نعم ، قالوا : ومن أنتم؟ قالوا : الصابرون. قالوا وما كان صبركم؟ قالوا : صبرنا على طاعة الله ، وصبرنا عن معصية الله ، حتى توفانا الله عزوجل ، قالوا ، أنتم كما قلتم ، أدخلوا الجنة ، فنعم أجر العاملين » (٢).

وعن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قال الله عزوجل : إذا وجهت إلى عبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ، ثم أستقبل ذلك بصبر جميل ، استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً ، أو أنشر له ديواناً » (٣).

وعن أبن مسعود ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : « ثلاث من رزقهن فقد رزق خير الدارين : الرضا بالقضاء ، والصبر على البلاء ، والدعاء في الرخاء » (٤).

وعن ابن عباس رضي‌الله‌عنه قال : كنت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : « يا غلام ـ أو ياغليم ـ ألا اعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟ فقلت : بلى ، فقال : إحفظ الله يحفظك ، إحفظ الله تجده أمامك ، تعرف ( إلى الله ) (٥) في الرخاء يعرفك في الشدة ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً ، وأنّ النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً » (٦).

__________________

١ ـ الدر المنثور ٢ : ٧٤.

٢ ـ كشف الغمة ٢ : ١٠٣ باختلاف يسير ، وروي باختلاف في الفاظه في أمالي الطوسي ١ : ١٠٠ ، وفقه الرضا : ٣٦٨ ، وتنبيه الخواطر ٢ : ١٨٠.

٣ ـ جامع الأخبار : ١٣٦ ، الجامع الصغير ٢ : ٢٤٢ / ٦٠٤٣ ، منتخب كنز العمال ١ : ٢١٠.

٤ ـ دعوات الراوندي : ١٢١ / ٢٨٩ ، المستطرف ٢ : ٧٠ ، باختلاف يسير.

٥ ـ في « ح » : إليه.

٦ ـ مسند أحمد ١ : ٣٠٧ ، الدر المنثور ١ : ٦٦. وروي باختلاف يسير في مشكاة الانوار : ٢٠.

٤٩

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يؤتى الرجل في قبره بالعذاب ، فإذا أُتي من قبل رأسه دفعه تلاوة القرآن ، وإذا أُتي من قبل يديه دفعته الصدقة ، وإذا أتي من قبل رجليه دفعه مشيه إلى المسجد (١) ، والصبر حجزه ، يقول : أما لو رأيت خللاً لكنت صاحبه ».

وفي لفظ آخر : « إذا دخل الرجل القبر قامت الصلاة عن يمينه ، والزكاة عن شماله ، والبر يظل عليه ، والصبر بناحية (٢) يقول : دونكم صاحبي ، فإني من ورائه ، يعني : إن استطعتم أن تدفعوا عنه العذاب ، وإلا فأنا أكفيكم ذلك ، وأدفع عنه العذاب » (٣).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له » (٤).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ألا أجبكم إن المؤمن إذا أصاب خيراً حمد الله وشكر ، وإذا اصابته مصيبة حمد الله وصبر ، فالمؤمن ، يؤجر في كل شيء حتى اللقمة يرفعها إلى فيه ».

وفي حديث آخر : « حتى اللقمة يرفعها إلى فم امرأته » (٥).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « الصبر خير مركب ، ما رزق الله عبداً خيراً له ولا أوسع من الصبر » (٦).

وسئل صلى‌الله‌عليه‌وآله : هل من رجل يدخل الجنة بغير حساب؟ قال : « نعم ، كل رحيم صبور ».

وعن أبي بصير ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « إن الحر حر على

__________________

١ ـ الترغيب والترهيب ٤ : ٣٧٣.

٢ ـ يقال : هو في ناحية أو بناحية أي مبتعد. انظر « مجمع البحرين ـ نحا ـ ١ : ٤١٠ ».

٣ ـ روى عن أبي عبد الله في الكافي ٢ : ٧٣ / ٨ ، وثواب الاعمال : ٢٠٣ / ١ ومشكاة الانوار : ٢٦ باختلاف في الفاظه.

٤ ـ مسند أحمد ٤ : ٣٣٢ ، صحيح مسلم ٤ : ٢٢٩٥ / ٢٩٩٩ ، الترغيب والترهيب ٤ : ٢٧٨ / ٧.

٥ ـ مسند أحمد ١ : ١٨٢ و ١٧٧ و ١٧٣ ، الجامع الصغير ٢ : ١٤٨ باختلاف في الفاظه.

٦ ـ مسند أحمد ٣ : ٤٧ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٥٢ / ٢٠٩٣ ، المستدرك ٢ : ٤١٤ ، الجامع الصغير ٢ : ٤٩٦ / ٧٩١١. وفيها : « ما رزق الله عبداً .... »

٥٠

جميع أحواله ، إن نابته نائبة صبر لها ، وإن تراكمت عليه المصائب لم تكسره ، وإن أُسر وقهر واستبدل باليسر عسراً ، كما كان يوسف الصديق الأمين عليه‌السلام ، لم يضرر حريته أن استعبد وأُسر وقهر ، ولم تضرره ظلمة الجب ووحشته ، وما ناله أن من الله عليه ، فجعل الجبار العاتي له عبداً بعد أن كان ملكاً ، فأرسله ورحم به أمة ، وكذلك الصبر يعقب خيراً ، فاصبروا ووطنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا » (١).

وعن الباقر عليه‌السلام : « الجنة محفوفة بالمكاره والصبر ، فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنة ، وجهنم محفوفة باللذات والشهوات ، فمن اعطى نفسه لذّاتها وشهوتها دخل النار » (٢).

وعن عليّ عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : الصبر ثلاثة : صبر عند المصيبة ، وصبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاث مائة درجة ، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض ، ومن صبر على الطاعة كتب الله له ست مائة درجة ، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش ، ومن صبر عن المعصية كتب الله له تسع مائة درجة ، ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش » (٣).

وعن أبي حمزة الثمالي ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه ، كان له مثل أجر ألف شهيد » (٤).

وعن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : قال الله عزوجل : إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضاً ، فمن أقرضني منها قرضاً أعطيته بكل واحدة عشراً إلى سبعة مئة ضعف وما شئت من ذلك ، ومن لم يقرضني منها قرضاً فأخذت منه شيئاً قسراً ، أعطيته ثلاث خصال ، لو أعطيت واحدة منهن ملائكتي لرضوا بها مني.

____________

١ ـ الكافي ٢ : ٧٣ / ٦ ، مشكاة الأنوار : ٢١.

٢ ـ الكافي ٢ : ٧٣ / ٧.

٣ ـ الكافي ٢ : ٧٥ / ١٥ ، تنبيه الخواطر ١ : ٤٠ ، جامع الأخبار : ١٣٥ ، الجامع الصغير ٢ : ١١٤ / ٥١٣٧ منتخب كنز العمال ١ : ٢٠٨.

٤ ـ رواه الكليني في الكافي ٢ : ٧٥ / ١٧ ، وسبط الطبرسي في مشكاة الأنوار : ٢٦ رواه باختلاف في ألفاظه الحسين بن سعيد الأهوازي في كتاب المؤمن : ١٦ / ٨ ، وابن همام في التمحيص : ٥٩ / ١٢٥.

٥١

ثم تلا أبو عبد الله عليه‌السلام قول الله عزوجل : ( الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ) فهذه (١) واحدة من ثلاث خصال ( ورحمة ) إثنان ( واولئك هم المهتدون ) (٢) ثلاث.

ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « هذا لمن أُخذ منه شيئاً قسراً » (٣).

__________________

١ ـ في نسخة « ش » ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : فهذه.

٢ ـ البقرة ٢ : ١٥٦ ـ ١٥٧.

٣ ـ الكافي ٢ : ٧٦ / ٢١ ، الخصال : ١٣٠ / ١٣٥ ، مشكاة الأنوار : ٢٧٩.

٥٢

فصل

وعنه عليه‌السلام : « الضرب على الفخذ عند المصيبة يحبط الأجر (١) ، والصبر عند الصدمة الأولى أعظم ، وعظم الأجر على قدر المصيبة ، ومن استرجع بعد المصيبة جدد الله له أجرها كيوم أُصيب بها ».

وسأل رجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما يحبط الأجر في المصيبة؟ فقال : « تصفيق الرجل بيمينه على شماله ، والصبر عند الصدمة الأولى ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فعليه السخط ».

وعن اُم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم آجرني في مصيبتي ، واخلف لي خيراً منها ، إلا آجره الله تعالى في مصيبته ، واخلف له خيراً منها ».

قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأخلف لي خيراً منه : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢).

وفي لفظ آخر : أنّها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : « ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله عزّوجلّ : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، اللهّم آجرني في مصيبتي ، واخلف لي خيراً منه » قالت : فلمّا مات أبو سلمة رضي‌الله‌عنه ، قلت : أيّ رجل خير من أبي سلمة! أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم إنّي قلتها فأخلف الله لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

[ قالت : أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ] (٣) بحاطب ابن أبي بلتعة يخطبني ، فقلت له : إن لي بنتاً وأنا غيور ، فقال : « أما بنتها فادعوالله أن يغنيها عنها ، وأدعو الله أن يذهب بالغيره » (٤).

وفي حديث آخر : قالت : أتاني أبو سلمة يوماً من عند رسول الله صلى الله عليه

__________________

١ ـ روى الصدوق في الفقيه ٤ : ٢٩٨ / ٩٠٠ نحوه.

٢ ـ صحيح مسلم ٢ : ٦٣٢ / ٤ ، الترغيب والترهيب ٤ : ٣٣٦ / ٢ باختلاف يسير.

٣ ـ أثبتناه من البحار.

٤ ـ الترغيب والترهيب ٤ : ٣٣٦ / ٢.

٥٣

وآله فقال : سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قولاً سررت به ، قال : « لا يصيب أحداً من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول : اللهم آجرني في مصيبتي ، واخلف لي خيراً منها ، إلا فعل ذلك به ». قالت اُم سلمة : فحفظت ذلك منه ، فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت : اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منه ، ثم رجعت إلى نفسي فقلت : من أين لي خير من أبي سلمة : فلما انقضت عدتي استأذن علي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا ادبغ إهاباً (١) ، فغسلت يدي من القرظ (٢) وأذنت له ، فوضعت له وسادة أدم (٣) حشوها ليف فقعد عليها ، فخطبني إلى نفسي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلما فرغ من مقالته قلت : يا رسول الله ، ما بي أن لا يكون لك الرغبة ، ولكني امرأة في غيرة شديدة ، فأخاف أن ترى مني شيئاً يعذبني الله به ، وأنا امرأة قد دخلت في السن ، وأنا ذات عيال.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « أما ما ذكرت من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك ، وأما ما ذكرت من العيال فإنما عيالك عيالي » قالت : فقد سلمت نفسي لرسول الله ، فتزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالت أم سلمة : فقد أبدلني الله عزوجل بأبي سلمة خيراً منه : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤).

وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن للموت فزعاً ، فإذا أتى أحدكم وفاةُ أخيه فليقل : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ، اللهم اكتبه عندك من المحسنين ، واجعل كتابه في عليين ، واخلف على عنقه في الآخرين ، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده » (٥).

وعن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام : « إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من اصابته مصيبة فقال إذا ذكرها : إنا لله وإنا إليه راجعون ، جدد الله

__________________

١ ـ الإرهاب : الجلد من البقر والغنم والوحش ما لم يدبغ « لسان العرب ١ : ٢١٧ ».

٢ ـ القرظ : شجر يدبغ به ، وقيل : هو ورق السلم يدبغ به الادم. ومنه اديم مقروظ. « لسان العرب ٧ : ٤٥٤ ».

٣ ـ الأديم : الجلد ما كان ، وقيل الأحمر ، وقيل : هو المدبوغ « لسان العرب ١٢ : ٩ ».

٤ ـ مسند أحمد ٤ : ٢٧ ، والبحار ٨٢ : ١٣٩.

٥ ـ الجامع الكبير ١ : ٢٦٥ ، الفتوحات الربانية ٤ : ١٢٤ ، والبحار ٨٢ : ١٤١.

٥٤

ـ عز وجل ـ له أجرها ، مثل ما كان له يوم أصابته » (١).

__________________

١ ـ الجامع الكبير ١ : ٧٤٧ ، والبحار ٨٢ : ١٤١.

٥٥

فصل

وعن يوسف بن عبد الله بن سلام : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان إذا نزل بأهله شدة أمرهم بالصلاة ، ثم قرأ : ( وامر اهلك بالصلاة واصطبر عليها ) (١)(٢).

وعن ابن عباس أنه نعي إليه أخوه قثم وهو في سفر فاسترجع ، ثم تنحى عن الطريق فأناخ ، فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس ، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول : ( واستعينوا بالصبر والصلاة وانها كبيرة إلا على الخاشعين ) (٣)(٤).

وعنه أيضاً أنه كان إذا أُصيب بمصيبة قام وتوضأ وصلى ركعتين ، وقال : اللهم قد فعلت ما أمرتنا ، فأنجز لنا ما وعدتنا.

وعن عبادة بن محمد بن عبادة بن الصامت ، قال : لما حضرت عبادة ـ رضي‌الله‌عنه ـ الوفاة قال : أخرجوا فراشي إلى الصحن ـ يعني : الدار ـ ففعلوا ، ثم قال : إجمعوا لي موالي وخدمي وجيراني ومن كان يدخل علي ، فجمعوا.

فقال : إن يومي هذا لا أراه إلا آخر يوم يأتي علي من الدنيا ، وأول ليلة من ليالي الآخرة ، وإني لا أدري لعله قد فرط مني إليكم بيدي أو بلساني شيء ، وهو ـ والذي ـ نفس عبادة بيده ـ القصاص يوم القيامة ، فاحرج (٥) على أحد منكم في نفسه مني شيء من ذلك ، إلا اقتص مني قبل أن تخرج نفسي.

قال : فقالوا : بل كنت لنا والداً وكنت مؤدباً ، وما قال لخادم سوءاً قط ، قال : أغفرتم لي ما كان من ذلك؟ قالوا : نعم ، قالوا : نعم ، قال : اللهم أشهد ، ثم قال : أما فاحفظوا وصيتي : أُحرج على إنسان منكم يبكي ، فإذا خرجت نفسي فتوضؤا وأحسنوا الوضوء ، ثم ليدخل إنسان منكم مسجداً فيصلي ، ثم يستغفر لعبادة ولنفسه ، فإن الله عزوجل قال : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) (٦) ثم أسرعوا بي ولا تتبعوني بنار ،

__________________

١ ـ طه ٢٠ : ١٣٢.

٢ ـ الدر المنثور ٤ : ٣١٣.

٣ ـ البقرة ٢ : ٤٥.

٤ ـ الدر المنثور ١ : ٦٨.

٥ ـ أي اُقسم.

٦ ـ البقرة ٢ : ٤٥.

٥٦

ولا تضعوا تحتي أرجواناً (١)(٢).

وعن جابر ، عن الباقر عليه‌السلام ، قال : « أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل ، ولطم الوجه والصدر ، وجز الشعر ، ومن أقام النواح (٣) فقد ترك الصبر ، ومن صبر واسترجع وحمد الله ـ تعالى ـ فقد رضي بما صنع الله ، ووقع أجره على الله ـ عزجل ـ ، ومن لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء وهو ذميم ، وأحبط الله ـ عزوجل ـ أجره » (٤).

وعن ربعي بن عبد الله ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « إن الصبر والبلاء يستبقان إلى المؤمن ، يأتيه البلاء وهو صبور ، وإن الجزع والبلاء يستبقان إلى الكافر ، فيأتيه البلاء وهو جزوع » (٥).

وعنه عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ضرب المسلم يده على فخذه عند المصيبة إحباط لأجره » (٦).

وعن موسى بن بكر ، عن الكاظم عليه‌السلام ، قال : « ضرب الرجل على فخذه عند المصيبة ، احباط أجره » (٧).

وعن إسحاق بن عمار ، عن الصادق عليه‌السلام : « يا أسحاق ، لا تعدن مصيبة اعطيت عليها الصبر ، واستوجبت عليها من الله عزوجل الثواب ، إنما المصيبة التي يحرم صاحبها أجرها وثوابها ، إذا لم يصبر عند نزولها » (٨).

وعن أبي ميسرة قال : كنا عند أبي عبد الله عليه‌السلام ، فجاءه رجل وشكا إليه مصيبة ، فقال : « أما إنك إن تصبر تؤجر ، وإن لم تصبر يمضي عليك قدر الله عزوجل الذي قدر عليك وأنت مذموم » (٩).

____________

١ ـ الأرجوان : صبغ أحمر شديد الحمرة. يعني قماشاً مصبوغاً بهذا اللون. اُنظر « الصحاح ـ رجا ـ ٦ : ٢٣٥٢ ».

٢ ـ أخرجه المجلسي في البحار ٨٢ : ١٤١.

٣ ـ النواح : النساء يجتمعن للنياحة على الميت ، بالبكاء وما يتبعه « لسان العرب ـ نوح ـ ٢ : ٦٢٧ ».

٤ ـ الكافي ٣ : ٢٢٢ / ١.

٥ ـ الكافي ٣ : ٢٢٣ / ٣.

٦ ـ الكافي ٣ : ٢٢٤ / ٤.

٧ ـ الكافي ٣ : ٢٢٥ / ٩.

٨ ـ الكافي ٣ : ٢٢٤ / ٧.

٩ ـ الكافي ٣ : ٢٢٥ / ١٠ باختلاف يسير ، وفيه : عن فضيل بن ميسر.

٥٧

فصل

قال الصادق عليه‌السلام : « البلاء زين المؤمن ، وكرامة لمن عقل ، لأن في مباشرته ، والصبر عليه ، والثبات عنده ، تصحيح نسبة الإيمان » (١).

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : « نحن ـ معاشر الأنبياء ـ أشد بلاء ، والمؤمن الأمثل فالأمثل ، ومن ذاق طعم البلاء تحت ستر حفظ الله له ، تلذذ به أكثر من تلذذه بالنعمة ، ويشتاق إليه إذا فقده ، لأن تحت نيران البلاء والمحنة أنوار النعمة ، وتحت أنوار النعمة نيران البلاء والمحنة ، وقد ينجو منه كثير ، ويهلك في النعمة كثير ، وما أثنى الله تعالى على عبد من عباده ، من لدن آدم إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا بعد ابتلائه ووفاء حق العبودية فيه ، فكرامات الله ـ تعالى ـ في الحقيقة نهايات ، بداياتها البلاء ، وبدايات نهاياتها البلاء ، ومن خرج من شبكة البلوى جعل سراج المؤمنين ، ومؤنس المقربين ، ودليل القاصدين ، ولا خير في عبد شكا من محنة تقدمها ألف نعمة ، واتبعها ألف راحة ، ومن لا يقضي حق الصبر على البلاء ، حرم قضاء [ حق ] (٢) الشكر في النعماء ، كذلك من لا يؤدي حق الشكر في النعماء ، يحرم عن قضاء [ حق ] (٣) الصبر في البلاء ، ومن حرمهما فهو من المطرودين » (٤).

وقال أيوب عليه‌السلام في دعائه : « اللهم قد أتى علي سبعون في الرخاء ، فأمهلني حتى يأتي علي سبعون في البلاء » (٥).

وقال وهب : البلاء للمؤمن ، كالشكال للدابة ، والعقال للإبل (٦).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد ، ورأس الصبر البلاء وما يعقلها إلا العالمون » (٧).

هذا الفصل كله من كلام الصادق عليه‌السلام.

__________________

١ ـ مصباح الشريعة : ٤٨٦.

(٢و٣) أثبتناه ليستقيم السياق.

٤ ـ مصباح الشريعة : ٤٨٧.

٥ ـ مصباح الشريعة : ٤٨٩.

٦ ـ مصباح الشريعة : ٤٩٧.

٧ ـ مصباح الشريعة : ٤٩٧.

٥٨

فصل

وقال الصادق عليه‌السلام : « الصبر يظهر ما في بواطن العباد من النور والصفاء ، والجزع يظهر ما في بواطنهم من الظلمة والوحشة ، والصبر يدعيه كل أحد ، ولا يبين عنده إلا المخبتون ، والجزع ينكره كل أحد ، وهو أبين على المنافقين ، لأن نزول المحنة والمصيبة ، يخبر عن الصادق والكاذب.

وتفسير الصبر ما يستمر مذاقه ، وما كان عن اضطراب لا يسمى صبراً ، وتفسير الجزع اضطراب القلب ، وتحزن الشخص ، وتغير اللون ، وتغير الحال ، وكل نازلة خلت أوائلها عن الإخبات والإنابة والتضرع إلى الله تعالى ، فصاحبها جزوع غير صابر ، ( والصبر ما أوله مر ، وآخره حلو لقوم ، ولقوم مر أوله وآخره ، فمن دخله من أواخره فقد دخل ) (١) ومن دخله من أوائله فقد خرج ، ومن عرف قدر الصبر لا يصبر عما منه الصبر (٢).

قال الله عزوجل في قصة موسى والخضر عليهما‌السلام : ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً ) (٣) فمن صبر كرهاً ولم يشك إلى الخلق ، ولم يجزع بهتك ستره ، فهو من العام ، ونصيبه ما قال الله عزوجل : ( وبشر الصابرين ) (٤) أي : بالجنة والمغفرة ، ومن استقبل البلاء بالرحب ، وصبر على سكينة ، ووقار ، فهو من الخاص ، ونصيبه ما قال الله عزوجل : ( ان الله مع الصابرين ) (٥) » (٦).

__________________

١ ـ العبارة مضطربة في « ش » و « ح » : وما أثبتناه من مصباح الشريعة.

٢ ـ مصباح الشريعة : ٤٩٨.

٣ ـ الكهف ١٨ : ٦٨.

٤ ـ البقرة ٢ : ١٥٥.

٥ ـ البقرة ٢ : ١٥٣.

٦ ـ مصباح الشريعة : ٥٠١.

٥٩

فصل

في نبذ من أحوال السلف عند موت أبنائهم وأحبائهم

كانت العرب في الجاهلية ـ وهم لا يرجون ثواباً ، ولا يخشون عقاباً ـ يتحاظون (١) على الصبر ، ويعرفون فضله ، ويعيرون بالجزع أهله ، إيثار للحزم ، وتزيناً بالحلم ، وطلباً للمروة ، وفراراً من الاستكانة إلى حسن العزاء ، حتى كان الرجل منهم ليفتقد حميمه فلا يعرف ذاك منه ، فلما جاء الاسلام وانتشر ، وعلم ثواب الصبر واشتهر ، تزايدت في ذلك لهم الرغبة ، وارتفعت للمبتلين الرتبة.

قال أبو الاحوص : دخلنا على ابن مسعود وعنده بنون له ثلاثة غلمان كأنهم الدنانير حسناً ، فجعلنا نتعجب من حسنهم ، فقال : كأنكم تغبطوني بهم؟ قلنا : إي والله ، بمثل هؤلاء يغبط المرء المسلم ، فرفع رأسه إلى سقف بيت قصير ، قد عشش فيه الخطاف وباض ، فقال : والذي نفسي بيده لئن أكون نفضت يدي من تراب قبورهم ، أحب إلي من أن يسقط عش هذا الخطاف ، وينكسر بيضه ، يعني : حرصاً على الثواب.

وكان عبد الله بن مسعود رضي‌الله‌عنه يقرىء الناس القرآن في المسجد جاثياً على ركبتيه ، إذ جاء ت اُم ولده بابن له ، يقال له : محمد ، فقامت على باب المسجد ، ثم أشارت له إلى أبيه ، فأقبل ، فأخرج ، فأفرج له القوم حتى جلس في حجره ، ثم جعل يقول : مرحباً بسمي من هو خير منه ، ويقبله حتى كاد يزدرد ريقه.

ثم قال : والله لموتك وموت إخوتك أهون علي من عدتكم من هذا الذباب (٢) ، فقيل : لم تتمنى هذا؟ فقال : اللهم غفراً إنكم تسألوني ، ولا أستطيع إلا أن اُخبركم ، اُريد بذلك الخير ، أما أنا فاُحرز اُجورهم وأتخوف عليهم ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « يأتي عليكم زمان يغبط الرجل بخفة الحال ، كما يغبط اليوم بكثرة المال والولد ».

وكان أبو ذر رضي‌الله‌عنه لا يعيش له ولد ، فقيل له : إنك امرؤ لا يبقى لك ولد ، فقال : الحمد لله الذي يأخذهم من دار الفناء ، ويدخرهم في دار البقاء (٣).

__________________

١ ـ في « ح » يحافظون.

٢ ـ في « ش » : الذبان.

٣ ـ رواه المتقي الهندي في منتخب كنز العمال ١ : ٢١٢ ، وأخرجه المجلسي في البحار ٨٢ : ١٤٢.

٦٠