نزهة الأمم في العجائب والحكم

ابن إياس

نزهة الأمم في العجائب والحكم

المؤلف:

ابن إياس


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

وبمصر كنوز يوسف عليه السلام وكنوز الملوك من قبله ، والملوك من بعده ، لأنهم كانوا يكنزون ما يفضل من النفقات لنوائب الدهور وهو يقول الله عز وجل (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ)(١).

ويقال أن علم الكنوز في كنيسة القسطنطينية (٢) نقلت إاليها من طليطلة (٣) ويقال أن الروم لما خرجت من الشام ومصر اكنزت كثيرا من أموالها في مواضع أعدتها لذلك وكتب كتبا بأعلام مواضعها وطرق الوصول إليها ، وأودعت هذه الكتب في مكان في كنيسة القسطنطينية ومنها يستفاد معرفة ذلك ، وقيل أن الروم لم تكنز ، وإنما ظفرت بكتب معالم من اليونانيين والكلدانيين والقبط لما خرجوا من مصر والشام وحملوا تلك الكتب معهم وجعلوها في الكنيسة وقيل أنه لا يعطوا من ذلك أحدآ شيئا حتى يخدم الكنيسة مدة طويلة فيدفع إليه ورقة تكون حظه.

قال المسعودى : ولمصر أخبار عجيبة من الدفائن والبنيان ، وما يوجد في الدفائن من ذخائر الملوك التى استودعوها تحت الأرض وغيرها وقد أثبتنا جميع ذلك فى كتبنا فمن أخبارها ما ذكره يحيي بن بكير (٤) قال : كان عبد العزيز بن مروان فأتاه رجل متنصح فسأله عن نصحه فقال : بالقبة [ق ٧٤ أ] الفلانية كثير عظيم.

قال عبد العزيز : وما مصداق ذلك؟ قال : هو أن يظهر لنا بلاط من المرمر عند يسير من الحفر ثم ينتهي بنا الحفر إلى باب من النحاس تحته عمود من الذهب على أعلاه ديك عيناه

__________________

(١) ٥٧ ك الشعراء : ٢٦.

(٢) ويقال قسطنطينية باسقاط ياء النسبة ، قال ابن خرداذبه : كانت رومية دار ملك الروم وكان بها منهم تسعة عشر ملكا ونزل بعمورية منهم ملكان ، وعمورية دون الخليج ، وبينها وبين القسطنطينية ستون ميلا وملك بعدهما ملكان آخران برومية ، ثم ملك أيضا برومية قسطنطين الأكبر ثم انتقل إلى نرنيطة وبنى عليها سورا وسماها قسطنطينية وهى دار ملكهم إلي اليوم واسمها استانبول.

أنظر : معجم البلدان ٧ / ٨٦ ـ ٨٨.

(٣) بضم الطاءين وفتح اللام مدينة كبيرة ذات خصائص محمودة بالأندلس يتصل عملها بعمل وادى الحجارة من أعمال الأندلس.

(٤) هو يحيي بن أبي بكير واسمه نسر الأسدي القيسي أبو زكريا الكرماني كوفيء الأصل ، روي عن جرير ابن عثمان وإبراهيم بن طهمان وإبراهيم بن نافع المكي وإسرائيل وزائدة وزهير بن محمد وزهير بن معاوية وشعبة وسفيان وأبى جعفر الرازي ، ثقة مات سنة ٢٠٨ ه‍.

٦١

ياقوتنا تساويان ملك الدنيا وجناحاه مضرحان بالياقوت والزمرد ، ورأسه على صفائح من الذهب على ذلك العمود فأمر له عبد العزيز بنفقة لأجل من تحفر معه من الرجال ، وكان هناك تل عظيم فاحتقروت حفيرة عظيمة فى الأرض والدلايل المقدم ذكرها من الرخام والمرمر تظهر وعبد العزيز حرصا على ذلك وأوسع فى النفقة وأكثر من الرجال ثم إنتهوا في حفرهم إلى ظهور رأس الديك ، فبرق عند ظهوره لمعان عظيم لما فيه عينيه من الياقوت ثم بان جناحاه ثم بانت قوائمه وظهر حول العمود عمود من البنيان بأنواع الحجارة والرخام وقناطر مقنطرة وطاقات علي أبوابه معقودة ولاحت منها تماثيل وصور وأشخاص من أنواع صور الذهب [ق ٤٧ ب] واجران من الأحجار قد أطبق عليها أغطيتها وسبكت.

فركب عبد العزيز بن مروان حتي أشرف علي المواضع فنظر إلي ما ظهر من ذلك فتسرع بعضهم ووضع قدمه علي درجة من نحاس فينتهي إلي ما هنالك.

فلما استقرت قدمه علي المرقاة ظهر سيفان عاديات عن يمين الدرجة وشمالها ، فالتقيا علي الرجل فلم يدر حتي جرته قطعا قطعا وهوي جسمه سفلا.

فلما استقر جسمه علي بعض الدرج اهتز العمود وصفر الديك صفيرا عجيبا أسمع من كان بالبعد من هناك وحرك جناحيه وظهرت من تحته أصوات عجيبة قد عملت بالكواكب والحركات وكان إذا ما وقع علي تلك الدرج شيء أو مسها شىء انقلبت ، فتهاوي كل من هناك إلى أسفل في تلك الحفر وكان فيهما من يحفر ويعمل وينقل التراب وينظر ويحول ويأمر وينهى نحو ألف رجل فهلكوا جميعا ، فخرج عبد العزيز وقال : هذا ردم عجيب الأمر ممنوع النيل ، نعوذ [ق ٤٨ أ] [بالله] منه ، وأمر جماعة من الناس فطرحوا ما خرجوا منها من التراب على من هلك من الناس فكان المواضع قبرا لهم.

قال المسعودى : وقد كان جماعة من أهل الدفائن والمطالب ومن قد اعتني وأغري بحفر الحفائر وطلب الكنوز وذخائر الملوك والأمم السالفة المستودعة بطن الأرض ببلاد مصر قد وقع إليهم كتابا ببعض الأقلام السالفة فيه ووصف موضع ببلاد مصر على أذرع يسيرة من بعض الأهرام بأن فيه مطليا عجيبا فأخبروا الأخشيد محمد بن طغج بذلك فأمرهم بحفره واستعمل الحيلة في إخراجه فحفروا حفرا عظيما إلى أن انتهوا إلى أزج وأقباء وحجارة مجوفة في صخر منقور فيه تماثيل قائمة على أرجلها من الخشب وهى صور مختلفة منها صور شيوخ وشبان ونساء وأطفال أعينهم من أنواع الجوهر كالياقوت والزمرد والفيروز ، ومنها ماء وجوهها ذهب وفضة فكسر بعض تلك التماثيل فوجدوا في أجوافها [ق ٤٨ ب] دمما بالية وأجساما

٦٢

فانية ، وإلي جانب كل التماثيل منها نوع من الأبنية كالبرابي وغيرها من المرمر والرخام وفيه من الطلاء الذى قد طلي منه ذلك الميت الموضوع في التماثيل الخشب ، والطلاء دواء مسحوق وأخلاط معمولة لا رائحة لها. فجعل منها شيئا علي النار ففاح منه ريح طيبة مختلفة لا يعرف في نوع من الأنواع الطب ، وقد جعل كل تمثال من الخشب علي صورة ما فيه من الناس علي أختلاف أشياء لهم ومقادير أعمالهم وتباين صورهم وبازاء كل تمثال تمثال من الحجر المرمر أو من الرخام الأخضر علي هيئة الصنم علي خشب عبادتهم للتماثيل والصور وعليها أنواع من الكتابات لم يقف أحد علي استخراجها من أهل المملكة ، ورغم قوم من نوي الدراية أن لذلك القلم منذ فقد من أهل مصر نحو أربعة آلاف سنة.

وفيما ذكرناه دلالة أن هؤلاء ليسوا يهود ولا نصاري وكان في ذلك في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة [ق ٤٩ أ].

وقد كان من سلف وخلف ممن ولاة مصر أحمد بن طولون وغيره ، إلي هذا الوقت وهو سنة اثنين وثلاثين وثلاثمائة ، لهم أخبار عجيبة فيما استخرج فى أيامهم من الدفائن والأموال والجواهر ، وما أطيب في هذه المطالب من القبور وقد أثبتنا علي ذكرها فيما تقدم من هذا الكتاب. وركب أحمد بن طولون يوما إلى أهرام ، فأتاه الحجاب يقوم عليها ثياب صوف ومعهم المساحي والمعاول فسألهم عما يعملون. فقالوا : نحن قوم نطلب المطالب. فقال لهم : لا تخرجوا إلا بمرسوم ورجل من قبلي فأخبروه أن في سميت الأهرام مطلبا قد عجزوا عنه فضم إليهم الراقفي ، وتقدم إلى عامل الجيزة فى أعانتهم بالرجال والنفقات وانصرف ، فأقاموا مدة يعملون فيه حتى ظهر لهم فركب أحمد ين طولون إليهم وهم يحفرون فكشفوا عن حوض مملوء دنانير ، وعليه غطاء مكتوب عليه [بالبيزنطية] بقلمهم فأحضر [ق ٤٩ ب] فرأه فإذا فيه أيا فلان بن فلان الملك الذى ميز الذهب من غشه ودنسه ، فمن أراد أن يعلم فضل ملكي علي ملكه ، فلينظر إلي فضل عيار ديناري علي عيار ديناره ، فإن تخلص الذهب من الغش كمخلصه في حياته وبعد وفاته.

فقال أحمد بن طولون : الحمد لله إن ما ينتهى عليه هذه الكتابة أحب إلي من المال ، ثم أمر لكل من القوم المطالبية بمائتين دينار منه ، ولكل من الصناع بخمسة دنانير بعد توفية أجرته وللرافض بثلاثمائة دينار منه ولنسيم الخادم بألف دينار ، وحمل باقى الدنانير فوجدها أجود من كل عيار وتشدد من حينئذ في العيار بمصر حتي صار ديناره الذي عرف بالأحمدي أجود عيار وكان لا يطلي إلا به ..

٦٣

ذكر هلاك أموال مصر

قال الله عز وجل (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(١) هذا دعاء [ق ٥٠ أ] من موسي عليه السلام على فرعون وقومه من أهل مصر لكفرهم أن يهلك الله أموالهم.

قال الزجاج (٢) : طمس الشىء اذهابه عن صورته. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه عن محمد بن كعب القرظى (٣) أنهما قالا : صارت أموال أهل مصر ودراهمهم حجارة منقوشة كهيئتها ، صحاحا وأثلاثا وانصافا فلم يبق لهم معدن إلا طمس الله عليه ، فلم ينتفع به أحد بعدهم.

وقال قتادة : بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة. وقال مجاهد (٤) وعطية (٥) :

أهلكها الله تعالى حتى لا يرى عين مطوسة أى ذاهبة وطمس الموضوع إذا عفى ودرس.

وقال ابن زيد : صارت دنانير ودراهمهم وفرشهم وكل شىء لهم حجارة.

__________________

(١) ٨٨ ك يونس : ١٠.

(٢) هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد السرى بن سهل الزجاج النحوى ، كان من أهل العلم رالأدب والدين المتين ، وصنف كتابا «في معانى القرآن» وله كتاب «الأمالى» وكتاب ما فسر من «جامع المنطق» وكتاب «الاشتقاق» و «العروض. وكتاب «القوافي» وكتاب «الفرق» وكتاب «خلق الإنسان» وكتاب «خلق الفرس» وكتاب «مختصر النحو» وكتاب «فعلت وأفعلت» وكتاب «ما ينصرف وما لا ينصرف» وغيرهم. أخذ الأدب عن المبرد وثعلب ، مات سنة ٣١٠ ه‍ وقيل سنة ٣١٦ ه‍ ببغداد.

(٣) هو محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظى أبو حمزة وقيل أبو عبد الله المدنى من حلفاء الأوس ، وكان أبوه من سبى قريظة سكن الكوفة ثم المدينة ، روى عن العباس بن عبد المطلب وعلى بن أبي طالب وابن مسعود وعمر وبن العاص وأبى ذر وأبي الدرداء وفضالة بن عبيد والمغيرة بن شعبة ومعاوية وكعب بن عجرة وأبي هريرة وغيرهم ، ثقة صالح عالم بالقرآن ، ولد سمة ٤٠ ه‍ ومات سنة ١٠٨ ه‍ وقيل ١١٧ ه‍.

(٤) هو مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكى المخزومى مولى السائب أبي السائب ، عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة ، ولد سنة ٢١ ه‍ ومات سنة : ١٠٠ ه‍ وقيل سنة ١٠٢ ه‍.

(٥) وهو عطية بن سعد وابن عباس وابن عمر وزيد بن أرقم وعكرمة وعدى بن ثابت وعبد الرحمن بن جندب ثقة مات سنة ١١١ ه‍.

٦٤

وقال محمد بن كعب : وكان الرجل منهم يكون مع أهله في فراشه وقد صارا حجرين. قال وسألني عمر بن عبد العزيز فذكرت ذلك فدعا بخريطة أصيبت بمصر فأخرج منها الفواكه والدراهم والدنانير وأنها حجارة.

وقال محمد بن شهاب [ق ٥٠ ب] الزهرى (١) : دخلت على بن عبد العزيز (٢) فقال : يا غلام أئتني بالخريطة ، فجاء بخريطة نثر ما فيها فإذا فيها دراهم ودنانير وتمر وجوز وعدس وفول. فقال كل يا ابن شهاب ، فأهويت إليه فإذا هو حجارة. فقلت ما هذا يا أمير المؤمنين ، قال هذا ما أصاب عبد العزيز بن مروان من مصر ، إذ كان عليها واليا وهو مما طمس الله عليه من أموالهم.

وقال المضارب بن عبد الله الشامى (٣) أخبرنى من رأى النخلة بمصر مصروعة وأنها لحجر ، ولقد رأيت ناسا كثيرا قياما وقعودا فى أعمالهم ، ولو رأيتهم ما شككت فيهم قبل أن تدنوا منهم أنهم اناس وأنهم الحجارة ، ولقد رأيت الرجل ورفيقه وأنه ليحرث على ثورين ، وأنه وثوريه لحجارة. ونقل وسمه بن موسي في قصص الأنبياء أن فرعون لما هلك وقومه وآمنت بنو إسرائيل فاعليته ، ندب موسى عليه السلام من نقبائه الأثني عشر نقيب أحداهما كالب بن موما والآخر يوشع بن نون مع كل واحد من سبطه أثنا عشر ألفا ، وأرسلها إلي مصر وقد خلت من حامية [ق ٥١ أ] لغرق أهلها مع فرعون ـ فأخذوا ذخائر فرعون وكنوزه وعادوا إلى موسي.

فذلك توريثهم أرض مصر يعنى قول الله تعالى عن قوم فرعون (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ، وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ)(٤) وكذلك (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها)(٥) يعني أرض مصر أورثها لبنى إسرائيل أنهم هم المستضعفون فى الأرض وجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم فى الأرض.

__________________

(١) هو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب المدنى أحد الأعلام نزل الشام ، وروى عن سهل بن يعد وابن عمر وجابر وأنس وغيرهم من الصحابة وخلق من التابعين. وعنه أبو حنيفة ومالك وعطاء ابن أبى رباح وعمر بن عبد العزيز وابن عيينة والليث والأوزاعى وابن جريح وخلق. مات سنة ١٢٤ ه‍.

(٢) هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموى المدنى ثم الدمشقى ، روى عن أنس والربيع بن سبرة والسائب بن زيد وسعيد بن المسيب ، ثقة مأمون له فقه وعلم وورع ، مات سنة ١٠١ ه‍.

(٣) هو المضارب بن عبد الله الشامى ، ثقة روى عنه قتادة وخالد بن سمير وسعيد الجريرى قليل الحديث.

(٤) ٥٨ ك الشعراء : ٢٦.

(٥) ١٣٧ ك الأعراف : ٧.

٦٥

قال داود بن رزق الله بن عبد الله الأسلمى (١) : وكانت له سياحات كثيرة بأرض مصر أنه عبر إلى واد بالقرب من القلمون بالوجه القبلى ، فرأي فيه مقانات كثيرة ما بين بطيخ وقثاء وتفاح وكلها حجارة.

وكان قد أخبرنى قديما بعض أعيان الناس أنه شاهد فى سفره إلى بعض البلاد من أرض مصر بطيخا كثيرا كله حجارة وذلك البطيخ من الصنف الذى يقال له العبدلى.

ذكر ما ورد فى فضائل النيل

قال خرج مسلم من حديث أنس رضى الله عنه [ق ٥١ ب] في حديث المعراج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ثم رفعت إلي سدرة المنتهى ، فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة» (٢).

قال هذه سدرة المنتهى؟ وإذا أربعة أنها نهر باطنان ونهران ظاهران.

فقلت : ما هذا يا جبريل؟ قال أما الباطنان فنهران في الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات.

وفى التوراة وأخرج منها نهرا ينقسم أربعة أقسام : جيحون المحيط بأرض حويلا ، وسيحون المحيط بأرض كوش وهو نيل مصر ، ودجلة الأخذ إلى العراق والفرات. وروى ابن عبد الحكم عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما إنه قال نيل مصر سيد الأنهار سخر الله له كل نهر من المشرق والمغرب فإذا أراد الله أن يجرى نيل مصر ، وأوحي لكل نهر أن يمده فامدت الأنهار بمائها وفجر الله له الأرض عيونا» فإذا إنتهت فأجرته إلى ما أراد الله عز وجل أوحى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره.

__________________

(١) له ذكر في ميزان الأعتدال للذهي.

(٢) ورد في صحيح مسلم والبخارى وسنن ابن ماجة.

٦٦

وعن يزيد بن أبي حبيب أن معاوية بن أبي سفيان رضى الله عنه سأل عنه كعب الأحبار [ق ٥٢ أ] هل تجد لهذا النيل فى كتاب الله خبرا.

قال : أى والذى فلق البحر لموسي إني لأجده في كتاب الله ، أن الله يوحي إليه في كل عام مرتين ، يوحي إليه عند جرينه أن الله يأمرك أن تجرى فيجرى ما كتب الله له ثم يوحى إليه بعد ذلك يانيل عن حميدا.

وعن كعب الأحبار أنه قال : أربعة أنهار من الجنة وضعها الله تعالي في الدنيا ، فالنيل نهر العسل في الجنة ، والفرات نهر الخمر في الجنة وسيحان نهر الماء في الجنة وحيحان نهر اللبن في الجنة.

وقال المسعودى : نهر النيل من سادات الأنهار وأشراف البحار لأنه يخرج من الجنة على ما ورد به خبر الشريعة ، وقد قالت الحكماء : أن النيل إذا زاد غاصت له الأنهار الدنيا والأعين والأبار وإذا زاد فزيادته من غيضها وغيضة من زيادتها ، وليس في أنهار نهرا يسمي بحرا غير نيل مصر لكبر واستبحاره.

وقال ابن قتيبة (١) في كتاب غريب الحديث وفي حديثه عليه السلام نهران مؤمنان ونهران كافران. أما المؤمنات فالنيل والفرات. وأما الكافران [ق ٥٢ ب] فدجلة ونهر بلخ. إنما جعل النيل والفرات مؤمنين أنهما يفيضان علي الأرض ويسقيان الحرث والشجر بلا تعب في ذلك ولا مؤنة. وجعل دجلة ونهر بلخ كافرين لأنهما لا يفيضان علي الأرض ولا يسقيان شيئا إلا قليلا. وذلك القليل لا يأتى إلا بموته وكلفه ، فلما اتصفا هذان بالخير والنفع كانا كالمؤمنين في الانقياد لأوامر اللع تعالى والتصديق بها ، ولما اتصفا هذان بقلة الخير والنفع كانا كالكافرين في العناد وعدم الانقياد تشبيها مجازيا.

__________________

(١) هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينورى ، وقيل المروزى النحوي اللغوى ، صاحب كتاب المعارف وأدب الكاتب ، كان فاضلا ثقة ، سكن بغداد وحدث بها عن إسحاق بن راهوية وأبى حاتم السجستاني ، ولد سنة ٢١٣ ه‍ مات سنة ٢٧١ ه‍ وقيل سمة ٢٧٧ ه‍.

٦٧

ذكر النيل وانبعاثه

أعلم أن البحر المحيط بالمعمور إذا خرج منه بحر الهند ، افترق قطعا كما تقدم ، وكان منه قطعة تسمى بحر الزنج وهي مما يلي بلاد اليمن وبحر بربر.

وفى هذه القطعة عدة جزائر منها جزيرة القمر بضم القاف وإسكان الميم ثم راء مهملة ويقال لهذه الجزيرة أيضا جزيرة ملاى وطولها أربعة أشهر في عرض عشرين يوما إلي أقل من ذلك. وهذه الجزيرة تحاذى جزيرة سرنديب وفيها عدة بلاد كثيرة منها قمرية ، وإليها نسب الطائر القمرى ، ويقال أن بهذه الجزيرة [ق ٥٣ أ] خشب منحت من الخشب ساق طوله ستون ذراعا بحذف علي ظهر مائة وستون رجلا ، وأن هذه الجزيرة ضاقت بأهلها فبنوا علي الساحل محلات يسكنونها في سطح جبل يعرف بهم ويقال جبل القمر.

وأعلم أن ذلك الجبال كلها متسعة من الجبل المستدير بغالب معمور الأرض وهو المسمي بجبل قاف وهو أم الجبال كلها متشعبة منه فتتصل فى موضع وتنقطع فى آخر ، وهو كالدائرة لا يعرف لها أول إذا كانت الحلقة مستديرة لا يعرف طرفاها ، وإن لم تكن استدارته كرية ، ولكنها استدارة أحاطة.

وزعم قوم أن أمهات الجبال جبلان : خرج أحدهما من البحر المحيط بالغرب وأخذ جنوبا ، وخرج الآخر من البحر الرومى وأخذ شمالا حتى تلاقيا عند السد ، وسموا الجنوبي قاف ، فيعرف بذلك في الجنوب ويعرف في الشمال بجبل قاقونا. ومبدأ هذا الجبل المحيط من كتف السد أخذ من وراء صنم الخط المسجوج إليه إلي شعبته الخارجة منه المعمول بها باب الصين أخذ على غزبي صين الصين ثم ينعطف علي جنوبه مستقيما [ق ٥٣ ب] في نهاية المشرق على جانب البحر المحيط مع الفرجة المنفرجة بينه وبين البحر الهندي الداخلة ، ثم ينقطع عند مخرج البحر الهندي المحيط مع خط الاستواء حيث الطول مائة وسبعون درجة ثم يتصل من شعبة البحر الهندى الماقى لشعبة المحيط الخارجة على بحر الظلمات من المشرق بجنوب كثيرة من وراء مخرج البحر الهندى في الجنوب ، ويبقى الظلمات بين هاتين الشعبتين شعبة المحيط الجائية على جنوب الظلمات شرقا ويخرج البحر الهندى الجائية علي الظلمات حتي تتلاقا الشعبتان عند مخرج هذا الجبل كتفصيل السراويل ثم ينفرج برأس البحرين المتلاقيان شعبتان علي مبدأ هذا الجبل ، ويبقى هذا الجبل بينهما كأنه خارج من نفس الماء.

٦٨

ومبدأ هذا الجبل هنا وراء قبة عن شرقها وبعده منها خمس عشر درجة يقال لهذا الجبل فى أوله المجرد ثم يمتد حتى ينتهى في القسم الغربي إلي طول خمس وستون درجة من أول المغرب ، وهناك يتشعب من الجبل المذكور جبل القمر ، وينصب منه النيل وبه أحجار براقة كالفضة [ق ٥٤ أ] تتلألأ تسمى ضحكة الباهت ، كل من نظرها ضحك والتصق بها حتى يموت ، ويسمى حجر مغناطيس الناس ، ويتشعب منه شعب يسمى أسيفى ، أهله كالوحوش ثم ينفرج منه فرجة ويمر منه شعب إلي نهاية المغرب في البحر المحيط يسمى جبل وحشية به سباع لها قرون طوال الأنفاق وينعطف دون ذلك تلك الفرجة من جبل قاف شعب منها شعبتان إلى خط الاستواء يلتقيان مجرى النيل من المشرق والمغرب ، فالشرقى يعرف بجبل فاقول ، وينقطع عند خط الاستواء والغربي يعرف بادمرية يجرى عليه نيل السودان المسمى ببحر الدمادم وينقطع بتلقاء مجالات الحبشة ما بين مدينتى سمغرة وحيمى وراء هذه الشعبة ، ويمتد شعبة منه هي الأم من الموضع المعروف فيه الجبل بأسيفى المذكور إلى خط الاستواء حيث الطول هناك عشرون درجة ويعرف هناك كرسقانة وبه وحوش ضاربة.

ثم ينتهى إلى البحر المحيط وينقطع دونه بفرجه وذلك وراء التكرور عند مدينة قلمتبورا ووراء هذا [الجبل] سودان ناس يقال لهم تمتم يأكلون الناس [ق ٥٤ ب] يتصل الأم من ساحل البحر الشامى في شماله شرقي رومية كبرى مسامتا للشعبة المسماة أدمدمة المنقطعة بين سمغرة وجيمي لا يكاد يخطها حيث الطول خمس وثلاثون درجة عند أخذها ما بين سردانية وبلنسية وتتناهي وصلة هذه الأم إلي البحر المحيط علي نهاية الشمال قبالة جزيرة بركانية ، وتبقي منه بقية داخل الجبل ثم تمتد هذه الأم بعد انقطاع لطيف وينعطف مع انعطاف خرجه البحر المحيط في الغرب بشماله على الصقلب المسماة ببحر الأنفلشين ممتدا إلى غاية المشرق ويسمى هناك جبل فاقونا ويبقي وراءه البحور ويبقي وراه البحور الجامدة لشدة البرد ، ثم ينعطف من الشمال المشرق جنوبا بتغريب إلى كتف السد الشمالي ، فيتلاقي هناك الطوفان وبينهما في الفرجة المنفرجة سوى ذوي القرنين بين الصدفين.

وفي جزيرة القمر ثلاثة أنهار أحدهما في شرقيها أخذ من قنطورا ومعلا ، ويأتيها من غربيها ، وينصب من جبل فيه قدم آدم عليه السلام. وفي مدينة سبأ ويأخذ مارا علي مدينة [ق ٥٥ أ] فردا تجري هناك بحيرة وفى جنوبها مدينة كيما ما حيث محل السودان الذين يأكلون الناس ويأتيها في غربيها أيضا ، ويخرج من الجيل المسم محذوفة الذيل يطوف بمدينة

٦٩

دهما بينه وبين البحر الهندى في جزيرة بينهما يكون هو محيطا بها شرقا وغربا وجنوبا ويصير لذلك الجزيرة ويتصل شمالها بالبحر الهندى ، وينتفع مدينة قواره فى غربية حيث يصب فى [البحر] الهندى.

ومن جبل القمر يخرج نهر النيل وقد كان تتبدد على وجه الأرض ، فلما قدم نقراوش الجبار بن مصريم الأول بن مركابيل بن دوابيل بن عرباب بن آدم عليه السلام إلى أرض مصر ومعه عدة بنى غرباب واستوطنوا بها ، وبنوا بها مدينة أمسوس وغيرها من المدائن ، حفروا النيل حتى أجروا ماءه إليهم.

ولم يكن قبل ذلك معتدل الجري بل ينبطح ويتفرق في الأرض حتي وجه إلي النوبة الملك نقراوش فهندسوه وساقوا منه أنهار إلي مواضع كثيرة من مدنهم التي بنوها وساقوا منه نهرا إلي مدينة امسوس ثم لما خربت ، ثم خربت أرض مصر بالطوفان وكانت [ق ٥٥] أيام البودشير بن قفط بن مصر بن ببصر بن حام بن نوح عليه السلام ، [عدل جانبي النيل تعديلا ثانيا بعد ما أتلفه الطوفان](١).

قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه فملك البودشير وتجبر وهو أول من تكهن وعمل بالسحر واحتجب عن العيون وقد كان أعمامه أشمن وأتريب وصا ملوك علي أحيازهم ، إلا أنه قهرهم بجبروته وقوته فكان الذكر له كما تجبر عليهم أبوه من قبله لأنه كان أكبرهم ولذلك أغضوا عنه.

فيقال أنه أرسل هرمس الكاهن المصرى إلى جبل القمرى الذى يخرج النيل من تحته حتى عمل هناك هيكل التماثيل النحاس وعدل البطيحة التي ينصب فيها ماء النيل.

ويقال أنه الذى عدل جانبي النيل وقد كان يفيض وربما انقطع فى مواضع.

وهذا القصر الذى فيه التماثيل النحاس يشتمل علي خمس وثمانين صورة ، جعلها هرمس جامعه لما يخرج من ماء النيل بمعاقد مدبرة وقنوات تجرى الماء فيها ، وينصب إليها إذا خرج من تحت جبل القمر حتي يدخل من تحت الصورة ويخرج من حلوقها ، وجعل لها قياسا معلوما بمقاطع وأذرع مقدرة وجعل ما يخرج من هذه الصور من الماء ينصب إلى الأنهار ثم [ق ٥٦ أ] يصير منها إلي بطيحتين ويخرج منها حتى ينتهى إلى البطيحة الجامعة للماء الذى يخرج من

__________________

(١) وردت هذه العبارة على هامش المخطوطة.

٧٠

تحت الجبل وعمل لتلك الصورة مقادير بين الماء يكون معه الصلاح بأرض مصر ، وينتفع به أهلها دون الفساد وذلك الإنتهاء المصلح ثمانية عشر ذراعا بالذراع الذى مقداره أثنان وثلاثون أصبعا ، وما فضل عن ذلك عدل بمني تلك الصورة وشمالها إلى مسارب تخرج وتصب فى رمال وغياض لا ينتفع بها من خلف خط الأستواء ، ولولا ذلك لغرق ماء النيل البلدان التي يمر عليها.

قال : وكان الوليد بن دومع العمليقي قد خرج في جيش كثيف يتنقل فى البلدان ويقهر ملوكها ليسكن ما يوافقه منها ، فلما صار إلي الشام إنتهى إليه خبر مصر وعظم قدرها ، وأن أمرها قد صار إلى النساء وباد ملوكها ، فوجه غلاما له يقال له عون إلى مصر وسار إليها بعده واستباح أهلها وأخذ الأموال وقتل جماعة من كهنتها. ثم بدا له أن يخرج ليقف علي مصب النيل ويعرف ما بناحيته من الأمم فأقام ثلاث سنين يستعد لخروجه [ق ٥٦ ب] وخرج في جيش كثيف ، فلم يمر بأمة إلا أبادها ومر على أمم السودان وجاورهم ومر علي أرض الذهب فرأي قصبانا نابتة من الذهب ولم يزل يسير حتي بلغ البطيحة التي ينصب النيل فيها من الأنهار التي يخرج من تحت جبل القمر ، وسار حتي بلغ هيكل الشمس وتجاوزه حتي بلغ جبل القمر وهو جبل عال إنما سمى بجبل القمر ، لأن القمر لا يطلع إلا عليه لأنه خارج من تحت خط الأستواء ونظر إلي النيل يخرجه من تحته حتى ينتهى إلى خطرتين ثم يخرج منهما إلى نهرين حتى ينتهى إلى خطيرة أخرى ، فإذا خط الاستواء مدته يمكن تجرى بناحية نهر مكران بالهند وتلك العين أيضا تخرج من تحت جبل القمر إلى ذلك الوجه ، ويقال أن نهر مكران قبل النيل يزيد وينقص وفيه التماسيح والأسماك التى مثل أسماك النيل ووجد الوليد بن ذومع العمليقي القصر الذي فيه التماثيل النحاس التي عملها هرمس الأول في وقت البودشير بن قفطريم بن مصرايم ، وقد ذكر قوم من أهل الأثر أن الأنهار [ق ٥٧ أ] الأربعة تخرج من أصل واحد من قبله فى أرض الذهب التي من وراء البحر المظلم وهي سيحون وجيحون والفرات والنيل ، وأن تلك الأرض من أرض الجنة ، وأن تلك القبة من أبرجد ، وأن الماء قبل أن يسلك البحر المظلم أحلى من العسل وأطيب رائحة من الكافور وممن وصل إلى هذا المكان رجل من ولد العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام ووصل إلي تلك القبة وقطع البحر المظلم وكان يقال له حايد.

وقال آخرون : هذه الأنهار تنقسم هذه الأنهار على أثنين وسبعين قسما خذاء أثنين وسبعين لسانا للأمم.

٧١

وقال آخرون هذه الأنهار من ثلوج تتكاثف ويذيبها الحر فتسيل إلى هذه الأنهار ويشقى من عليها لما يريد الله عز وجل من تدبير خلقه قالوا : ولما بلغ الوليد جبل القمر راق جبلا عظيما عاليا إلى الحيلة إلي أن صعد إليه ليرى ما خلفه فاشرف على البحر الأسود الزفتي المنتن ، ونظر إلي النيل يجري عليه [ق ٥٧ ب] كالخيوط الرقاق فأتته من ذلك البحر روائح منتنه ، هلك كثيرا من أصحابه من أجلها فأسرع النزول بعد أن كاد يهلك.

وذكر قوم أنهم لم يروا هناك شمسا ولا قمرا إلا نورا أحمر كنور الشمس عند غيابها.

وأما ما ذكروه عن حايد وقطعة البحر المظلم ماشيا عليه لا يلصق بقدميه منه شىء ، وأنه سأل الله تعالى أن يريه منتهي النيل فأعطاه قوة علي ذلك فيقال أنه أقام يمشى عليه ثلاثين سنة فى عمران ، وعشرين سنة في خراب ، قالوا : وأقام الوليد في غيبته أربعين سنة وعاد ودخل منف وأقام بمصر وأستعبد أهلها واستباح حرمهم وأموالهم وملكهم مائة وعشرة سنين فابغضوه وسيموه إلي أن ركب في أيامه متصيدا فألقاه فرسه في وهذه فقتله واستراح الناس منه.

وقال قدامة بن جعفر (١) في كتاب الخراج : انبعاث النيل من جبل القمر وراء خط الأستواء من عين تجري منها عشرة أنهار ، كل خمسة منها تصب إلي بطيحة ثم يخرج من كل نهران ، وتجرى الأنهار [ق ٥٨ أ] الأربعة إلي بطيحة كبيرة في الأقليم الأول ، ومن هذه البطيحة يخرج نهر النيل.

وقال في كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الأوفاق» أن هذه البحيرة تسمي بحيرة كوري منسوبة لطائفة من السودان يسكنون حولهما متوحشين يأكلون من وقع إليهم من الناس ، ومن هذه البحيرة يخرج نهر غانة وبحر الحبشة ، فإذا خرج النيل منها يشق بلاد كورى ولهم طائفة من السودان بين كاتم والنوبة ، فإذا بلغ دنقلة بمدينة النوبة ـ عطف من غريبها وأنحدر إلي الأقليم الثانى ، فيكون على شيطه عمارة النوبة ، وفيه هناك جزائر متسعة عامرة بالمدن والقرى ، ثم تشرق إلى الجنادل.

وقال المسعودى : رأيت في كتاب جغرافيا : أن النيل مصورا ظاهرا من تحت القمر

__________________

(١) هو أبو القاسم من كبار الكتاب من أهل بغداد له شعر رقيق ومصنفات فى صنعة الكتابة وغيرها روى عنه أبو الفرج الأصبهانى ، مات سنة ٣١٩ ه‍ / ٩٣١ م.

٧٢

ومنبعه ومبدأ ظهوره أثنى عشر عينا ، فتصب تلك المياه إلي بحيرتين هنالك كالبطائح ، ثم يجتمع الماء منهما جاريا فيمر برمال هنا لك وجبال ، ويخرق أرض السودان فيما يلي بلاد الزنج فيتشعب منه خليج يصب في بحر الزنج ، ويجري علي وجه الأرض تسعمائة فرسخ [ق ٥٨ ب] في عامر وغامر من عمران وخراب ، حتي يأتى أسوان من صعيد مصر.

وقال في كتاب هروشيش : أن نهر النيل مخرجه من ريف بحر القلزم ثم يميل إلي ناحية الغرب ، فيصير في وسطه جزيرة ، وآخر ذلك يميل إلي ناحية الشمال فيسقى أرض مصر. وقيل أن مخرجه من عين فيما يجاور الجبل ثم يغيب في الرمال ، ثم يخرج غير بعيد فيصير له محبس عظيم ، ثم يساير على قفار الحبشة ، ثم يميل علي اليسار إلي أرض. قال : ونهر النيل وهو الذي يسمي بأون مخرجه خفي ولكن ظاهر إقباله من أرض الحبشة ويصير له هناك محبس عظيم مجراه إليه مائتا ميل. وذكر مخرجه حتى ينتهي إلي البحر.

وقال : وكثيرا ما يوجد في نهر النيل التماسيح. وأقبال النيل من أرض الحبشة ليس يختلف فيه أحد ، وعدة أميال من مخرجه المعروف إلي موقعه مائة ألف وتسعون ألفا وتسعمائة وثلاثون ميلا وماء النيل يجري علي مر كل وهو عذب دفىء ، والنيل إذا وصل إلي الجنادل كان عند إنتهاء مراكب النوبة إنحدارا ، ومركب الصعيد أقلاعا وهناك حجارة مضرسة [ق ٥٩ أ] لمرور المراكب عليها إلا فى آوان زيادة النيل ثم يأخذ على الشمال فيكون على شرقية أسوان من الصعيد الأعلى ، ويمر بين الجبلين يكتفيان أعمال مصر. أحدهما شرقى ، والآخر غربي ، حتي يأتي مدينة فسطاط مصر فيكون في بره الشرقي ، فإذا تجاوز فسطاط مصر بمسافة يوم ، صار فرقتين تمر حتى تصب في بحر الروم عند دمياط وتسمى هذه الفرقة بحر الشرق ، والفرقة الأخرى هي عمود النيل ومعظمة يقال لها بحر العرب تمر حتي تصب في بحر الروم أيضا عند رشيد ، وكانت مدينة كبيرة قديم الزمان.

ويقال أن مسافة النيل من منبعه إلى أن يصب في البحر عند رشيد سبعمائة وثمانية وأربعون فرسخا ، وأنه يجرى في الخراب أربعة أشهر ، وفي بلاد السودان شهرين وفي بلاد الإسلام مسافة شهر.

وذهب بعضهم إلي أن زيادة ماء النيل إنما تكون بسبب المد الذي يكون في البحر ، فإذا فاض ماؤه تراجع النيل وفاض علي الأراضى ، ووضع في ذلك كتابا حاصله أن حركة البحر التى يقال لها المد والجزر ـ توجد في كل يوم وليلة مرتين ، وفي كل شهر [ق ٥٩ ب] مرتين ،

٧٣

وفي كل سنة مرتين كالمد والجزر اليومي تابع لقرص القمر ، ويخرج الشعاع عنه من جنبتى جرم الماء ... [فإذا كان القمر وسط السماء كان البحر في غاية المد](١) فإذا كان القمر في وتد الأرض ، فإذا بزغ القمر طالعا من الشرق أو غرب كان الجزر والمد الشهرى يكون عند استقبال القمر للشمس في نصف الشهر ، ويقال له الامتلاء أيضا عند الاجتماع ، ويقال له السرار.

والجزر يكون أيضا في وقتين : عند تربيع القمر للشمس فى سابع الشهر ، وفى ثانى عشرية. والمد السنوي يكون أيضا في وقتين أحدهما عند حلول الشمس بآخر برج السنبلة والأخرى عند حلول الشمس بآخر برج الحوت.

فإن اتفق أن يكون ذلك في وقت الامتلاء أو الاجتماع فإنه حينئذ يجتمع الامتلاء الشهرى والسنوى ، ويكون عند ذلك البحر في غاية الفيض ، لا سيما أن وقع الاجتماع والامتلاء فى وسط السماء ، ووقع مع النيرين أو مع أحدهما أحد الكواكب السيارة فإنه يعظم الفيض.

فإن وقع كوكبان فصاعدا مع أحد النيرين تزايد عظم الفيض ، وكانت زيادة النيل تلك السنة عظيمة جدا ، وزاد أيضا نهر مهران لا يبلغان غاية زيادتهما لعدم الأنوار التى تثير المياه ، ويكون بمصر تلك السنة [ق ٣٦٠] الغلاء والجزر السنوى يكون عند حلول الشمس برأسي الجدى والسرطان.

فأما المد اليومى الدافع من البحر المحيط فإنه لا ينتهى في البحر الخارج من المحيط أكثر من درجة واحدة فلكية ، ومساحتها من الأرض نحو من ستين ميلا ، ثم ينصرف وانصرافه هو الجزر. وكذلك في الأودية إذا كانت الأرض.

وهذه المد الشهرى ينتهى إلى أقاصى البحار وهو يمسكها حتى لا تنصب في البحر المحيط ، وحيث المد الشهرى فهناك منتهى ذلك البحر وطرفه.

وأما المد السنوي فإنه يزيد في البحار الخارجة عن البحر المحيط زيادة بينة ، وعن هذه لزيادة تكون زيادة النيل وامتلاؤه وامتلاء نهر مهران والديتلو الذي ببلاد السند.

__________________

(١) وردت هذه العبارة على هامش المخطوطة.

٧٤

قال : ولما جاء أرسطو (١) إلى مصر مع الأسكندر ورأى مصب النيل ، وعلم أنه من المحال أن يكون النيل في أسوان واديا من الأودية ، وما انتحل اتسع حتي أن عرضه في أسفل ديار مصر لينتهى إلي مائة ميل عند غاية الفيض ، وله أفواه كثيرة شارعة في البحر تسع كل ما يهبط من الميزان في ذلك الصقع .. فرأى محالا أن يكون [ق ٦٠ ب] الوادى بحيث يضيق أسفله عن حمل ما يأتى به أعلاه مع ضيق أعلاه وسعة أسفله.

فلما رأي ذلك قال : أن ريا ما تستقبل جرية الماء وتردعه فيفيض لذلك قال الأسكندر الأفردوسي : أن من المحال أن يكون الريح يردع الماء السائل في الوادي حتي يفيض أكثر من مائة ميل ، ولو كانت الريح تفعل ذلك لكان الماء ينفلت من أسفل الوادى ، ويسيل إلي البحر لأن الريح لا تمسك إلا أعلاه ولكن الرياح تقذف الرمل في أفواه تلك الشوارع التي تفضي إلي البحر ، فيعتريها شبه الردم ، فيفيض.

قال : وأغفل أن الرمل متخلخل ، فالماء يتخلله وينفده سائلا إلى البحر مع أن الرمل لم يعتل اعتلاء يظهر للحسن ، والماء في كل حين سائل على حلق تنيس ودمياط ، وحلق رشيد وخلق أسكندرية ، ففطنوا لاستحالة كونه سائلا عن سيل حامل ونسبوا توقفه إلى الريح والرمل وهما استقص الهواء واستقص الأرض وأغفلوا الاستقصاء الثالث الذى هو الماء لأنهم لم يعرفوا حركة البحر السنوية لأنها لا تبلغ الغاية [ق ٦١ أ] إلا في ثلاثة أشهر ، فلا يظهر مقدار صعودها في يوم للحس وكذلك وضع المقياس بديار مصر.

قال : والمد كله واحد ، وهو أن القمر يقابل الماء ، كما يقابل الشمس الأرض فنور القمر إذا قابل كرة الأرض سخنتها كما تسخن الشمس الهواء المحيط بالأرض فيعترى الهواد المحيط بالماء بعض تسخين يذيب الماء ، ويتنفس وينمى بخاصته كالمرأة المحرقة الملهبة للجو حتي تحرق القطنة الموضوعة بين المرأة والشمس الملهوبة ، ما تلقى الشعاع إلى حلقها فتخترق القطنة أيضا ، فالقمر جسم نورى باكتسابه ذلك من الشمس فإذا حال بين الشمس والأرض فيسخن ما قابله فينمى والماء جسم شفاف تخرج عن جانبيه الشعاع كما يخرج عن جانبي الزجاجة فيحدث لها نور يسخن الهواء الذى يحيط بالزجاجة أو الأرض فيعتري الماء شبه تسخين ينمي به ويزيد وذلك قباله القرص وقبالة مخرج الشعالة من قبالة وتد القمر فهذا هو المد دائما ويستدير [ق ٦١ ب] باستدارة الفلك ، وتدويره لفلك القمر وتدوير فلك القمر للقمر.

__________________

(١) ورد في كتاب «صورة الأرض» لابن حوقل «وأخبار الزمان» للمسعودى.

٧٥

والمد الشهرى هو أن يقابل القمر الشمس أو يستتر تحتها ، ليس إلا كون القمر قباله الشمس لكونه في تربيع الشمس أضعف ، وفي المقابلة أقوي وكذلك إذا قابلها علي وسط كرة الأرض ، بحيث الحركة أشد والأكتناف للماء والأرض أعم فذلك هو المد السنوى.

فصل

«فى الرد على من أعتقد

أن النيل من سيل يفيض»

أما العامة فليس عندهم ما يجىء علي وجه الأرض إلا سيل. ومن تفطن إلى عظمه واتساعه في أسفله وضيقه في أعلاه ، ولم ينظر إلى ماء ولا أرض ولا هواء ، ينسب ذلك إلى الخيال المحض ، كما فعل صاحب (١) كتاب «المسالك والممالك» الذى زعم أن الماء يسافر من كل أرض وموطن إلى النيل تحت الأرض فيمده لأن النيل إنما يفيض فى الخريف ، والعيون والأبار فى ذلك الوقت يقل ماؤها ، والنيل يكثر فرأوا كثرة وقلة فأضافوا أحدهما إلى الآخر بالخيال.

وقال آخر : إنما ذلك ملك يضع رجليه [ق ٦٢ أ] في الماء فيكثر ويزيلها عن الماء فيقل ومما يدلك أنه ليس على سبيل أن السيل يكون فى غير وقت فيض البحر فلا يفيض النيل لكون البحر في الجزر فيصل السيل وتمر نحو البحر فلا يردعه رادع ، ومنها أن فيض النيل على تدرج مدة ثلاثة أشهر من حلول الشمس برأس السرطان إلى حلولها آخر برج السنبلة والناس يحسنون به قبل فيضة بمدة شهرين ، ولعامل مصر في وسط النيل مقياس موضوع ، وهو سارية فيها خطوط يسمونها أذرعا يعلم بها مقدار صعوده في كل يوم.

__________________

(١) هو أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن خرداذبة مؤرخ جغرافى فارسى الأصل من أهل بغداد ، كان جده خرداذبة مجوسيا أسلم على يد البرامكة ، واتصل عبيد الله بالمعتمد العباسى فولاه البريد والخبر بنواحى الجبل وجعله من ندمائه ، له تصانيف ، منها المسالك والممالك وجمهرة أنساب الفرس واللهو والملاهي والشراب والندماء والجلساء وآدب السماع ، ولد سنة ٢٠٥ ه‍ / ٨٢٠ م ومات سنة ٢٨٠ ه‍ / ٨٩٣ م.

٧٦

ومنها أن فيضه أبدا في وقت واحد فلو كان بالسيل لاختلف بعض الإختلاف. ومنها أنه قد يجيء السيل فى غير هذه الوقت فلا يفيض. ومنها أن الحذاق بمصر إذا رأوا الحر يزيد علموا أن النيل سيزيد ، لأن شدة الحر تذيب الهواء فيذوب الماء ولا يكون إلا عن زيادة كوكب ودنو نور.

ومنها أن موضع مصبه من أسوان إنما هو واد من الأودية وما استحل اتسع حتى يكون عرض اتساعه نحو من مائة ميل ، وأسوان إنما [ق ٦٢ ب] هو منتهى بلوغ الردع فما ظنك بسيل يسيل عرض اتساعه مسيرة نصف شهر لا نسبة بين مصب أعلاه وأسفله كيف كان يكون أعلاه أو كان إمتلاء أسفله عن السيل.

ومنها أن أهل أسوان إنما يرقبون بلوغ الردع إليهم مراقبة ويحافظون عليه بالنهار محافظة فإذا جن الليل أخذوا حقه سحاقة خزف ، فوضعوا فيها مصباحا ثم وضعوه على حجر معد عندهم لذلك ، وجعلوا يرقبونه فإذا أطغى المصباح طفو الماء عليه ، علموا أن الردع قد وصل غاية المعهود عندهم بأخذه فى الجزر ، فكتبوا بذلك إلى أمير مصر يعملون أن الدرع قد وصلت غاية المعهود عندهم وأنهم قد أخذوا بقسطهم من الشرب فحينئذ يأمر بكسر الأسداد التى على أفواه قرص المشارب فيفيض الماء على أرض مصر دفعة واحدة.

ومنها أن جميع تلك المشارب تسد عند ابتداء صعود النيل بالخشب والتراب ليجتمع ما يسيل من المياه العذبة في النيل ويكثر فيهم بجميع أرضهم ويمنع بجملة دخول الماء الملح عليه فلو كان سيلا ما احتاج إلي ذلك ولفتحت [ق ٦٣ أ] له أفواه قرص المشارب عند ابتداء ظهوره.

ومنها أن الخلجان إذا سدت ولم يكن لها وادع من البحر ، كان السيل يمد من جنبه إلي البحر إذا أسفل النيل وانتفع واخفض من أعلاه.

ومنها أن ماء البحر يصعد أكثر من عشرين ميلا فى خلف رشيد وتنيس ودمياط كما يفعل في سائر الأودية التي يدخلها المد والجزر فلو كان النيل خاليا من الماء العذب وصل البحر من أسوان إلى منتهى بلوغ الردع ، لأن الماء يطلب بطبعه ما إنخفض من الأرض وأن يكون صفحته كرة مستوية الخطوط الخارجة من النقطة إلى المحيط خطوطا متساوية. ومنها أنها إذا فتحت تلك الأسداد وكسرت الخلجان وفاض ماء النيل على أرض مصر شعر بذلك أهل أسوان ،

٧٧

وقالوا : في هذه الساعة كسر الخليج بمصر وفاض ماء النيل على أرض مصر لأن ذلك يتبين لهم بجزر الماء دفعة فلو كان سبيلا وهم على أعلا المصب ، لقالوا : قد أرتفع المطر عن الأرض التي تسيل منها السيل ومنها أن القسمة الذى يمر ببلاد الحبشة المنبعث وأياه من جبل القمر لا يفيض كمدة فيض النيل ثلاثة [ق ٦٣ ب] أشهر ولا يقيم على وجه الأرض مدة مقامه لكنه إذا كثر فيه السيل غمر جوانبه على قدر انبساطها فإذا قضيت مادته أردع عليه فلو كان فيض النيل عن السيل وهما من شعب واحد لكان شأنهما واحدا.

ولا نقول أن سبب فيض النيل البحر فقط إذ لو لا كونه سيل ماء لما دخل ردع البحر إليه ولكان شاطيء ديار مصر كسائر السواحل المجاورة ولو لا السيل السائل فيه لردمه البحر إذ عادة البحر ردم السواحل ، وإنما دخل الشك علي أهل مصر أمر النيل لأنهم لم يشاهدوا منشأه ، ولا عاينوا مبدأ من جبل القمر في موضع لا ساكن ولم تحققوا المد السنوى الرادع فلم يتحققوا شيئا من أمره لأنه بعيد من أذهان العامة أن يعلموا أن ماء البحر يعظم فى أيام الصيف لأن المعهود عندهم في البحر أن يعظم فى أيام الشتاء وطموا البحر في الشتاء إنما يكون عن الرياح الهابة عليه من أحد جانبيه ، فقبض ويخرج إلى الجانب الآخر إلا ما كان من البحر المحيط فإنه [ق ٦٤ أ] يتحرك أبدا من دواخل البحر إلى البر ، وهو أن المحيط يطلب بطبعه أن تكون على وجه الأرض لست بسيطة فهى تمانعه بما فيها من التركيب فهو يطلب أبدا أن يعلوها ويركبها ببردها.

ومن ناظر النيل علم أن سيلا سأل فيه ولا بد ، فإنه لا يزال أيام الشتاء وأوائل فصل الربيع ماؤه صافيا من الكدرة ، فإذا قربت أيام زياته وكان فى غاية نقصه تغير طعمه ومال لونه إلى الخضرة ، وصار بحيث إذا وضع فى أناء يرسب منه شبه أجزاء صغيرة من طحلب. وسبب ذلك أن البطيحة التى فى أعالى الجنوب تردها الفيلة ونحوها من الوحوش حتي يتغير ماؤها ، فإذا كثرت أمطار (١) الجنوب في فصل الصيف وعظمت السيول الهابطة في هذه البطيحة ، فاض منها ما تغير من الماء ، وجرى إلى أرض مصر ، فيقال عند ذلك وتوحم النيل.

ولا يزال الماء كذلك حتى يعقبه ماء متغير ويزداد عكره بزيادة الماء ، فإذا وضع فيه أيام الزيادة متى في إناء رسب بأسفله طين لم يعهد فيه قبل أيام الزيادة ، وهذا الطين هو الذى

__________________

(١) وردت في الأصل «أمطه» والصواب فى المتن.

٧٨

تحمله السيول التي تنصب في النيل حتى تكون زيادته منها. وفيه يكون الزرع بعد هبوط والإ فأرض مصر سبخة لا تنبت ولا ينبت منها إلا ما مر عليه. قال : والسبب فى عظم المد والجزر كثرة الأشعة فإذا زاحمت الشمس والقمر والكواكب السيارة عظيم فيض البحر ، وإذا عظم فيض البحر فاضت الأنهار ، وكذلك إذا نهض القمر لمقابلة أحد السيارة ارتفع البخار وصعد إلى كورة (١) الزمهرير ، ونزل المطر. فإذا فارق القمر الكواكب ارتفع المطر لكثرة التحليل ، كما يكون فى نصف النهار عند توسط الشمس لرؤوس الخلق ، وكما يكون عند حلول الكواكب الكثيرة على وسط خط أرين ... والله أعلم ..

قال بعضهم : الذى تحصل من هذا القول أن النيل مخرجه من جبل القمر ، وأن زيادته إنما هى من فيض البحر عند المد.

فأما كون مخرجه من جبل القمر فمسلم إذ لا نزاع في ذلك. وأما كون زيادته لا تكون إلا من درع البحر له ، بما حصل فيه من المد ، فليس كذلك. نعم توالى هبوب الرياح الشمالية مغنية على [ق ٦٤] وفور الزيادة وردع البحر له إعانة علي الزيادة [ق ٦٥ أ] ماء النيل وركد منه هذا الطين.

وقوله «أن السيل يكون فى غير وقت فيض البحر ، ولا يفيض النيل لكون البحر في الجزر ، فيصل السيل ويمر نحو البحر فلا يردعه رادع» غير مسلم فإن العادة أن السيول التى عليها زيادة ماء النيل لا يكون إلا عن غزارة مآد الأمطار ببلاد الجنوب ، لا يكون إلا في أيام الصيف ، ولم يعهد قط زيادة النيل فى الشتاء.

وأول دليل على أن كون زيادته عن سيل يسيل فيه إنما يزيد بتدرج على قدر ما يهبط فيه من السيول. واما استدلاله يصب النيل في أسوان واتساعه أسفل الأرض ، فإنما ذلك يصب من علوى فتخرج بين جبلين يقال لهما الجنادل وينبطح في أراضى (٢) حتي يصب في البحر ... فاتساعه حيث لا يجد حاجزا يحجزه عن الأنبساط.

وأما قوله «أن الأسداد إذا كثرت (٣) فاض الماء على الأرض دفعة» فليس كذلك ، بل

__________________

(١) وردت فى الأصل «كرة» والصواب فى المتن.

(٢) وردت عند المقريزى «الأرض» وهى قريبة من الصواب.

(٣) وردت في الأصل «كسر» والصواب في المتن.

٧٩

يصير الماء عند كسر كل سد من الأسداد في كل خليج ، ثم يفتح ترع من الخليج إلى الخليج إلي ما علي جانيبه من الأراضى حتي تروى ، فمن تلك الأرض ما يروي سريعا ، ومنها ما يروى [ق ٦٥ ب] بعد أيام. ومنها ما يروى لعلوه.

وأما قوله «أن جميع تلك المشارب تسند عند إبتداء صعود النيل ، ليجتمع ما يسيل من الماء في النيل ويكثر ، فيعم جميع أرضهم وليمنع بجملته دخول الماء المالح عليه». فغير مسلم أن تكون السداد كما ذكرنا بل أراضى مصر أقسام كثيرة ، منها عال لا يصل إليه الماء إلا من زيادة كثيرة ، ومنها منخفض يروى من يسير الزيادة ، والأراضى متفاوته في الأرتفاع والإنخفاض تفاوتا كثيرا ، ولذلك احتيج في بلاد الصعيد إلى حفر التروع وفي أسفل الأرض إلي عمل الجسور حتى تحبس الماء ليتصرف فيه أهل النواحي على قدر حاجتهم إليه عند الاحتياج وإلا فهو يزيد أولا في غير وقت سقي الأراضى ، حتي إذا اجتمع من زيادته المقدار الذى هو كفاية الأراضى فى وقت خلو الأرض من الغلال ـ وذلك غالبا في أثناء شهر مسرى فتح حينئذ الخليج حتى يجرى فيه الماء إلى حد معلوم ، ووقف حتي يروي ما تحت ذلك الحد الذي وقف عنده الماء من الأراضى ، ثم فتح ذلك الحد في [ق ٦٦ أ] يووم النيروز (١) حتي يجري الماء إلي آخر يقف عنده حتي يروي ما تحت هذا الحد الثانى من الأراضي ، ثم يفتح هذا الحد في يوم عيد الصليب بعد النيروز بسبعة عشر يوما حتى يجرى الماء ، ويقف علي حد ثالث حتي يروي ما تحت هذا الحد من الأراضى ، ويصيب في بحر المالح ... هذا هو الحال في سدود وأراضى مصر.

وقول «أن ماء البحر يصعد أكثر من عشرين ميلا في رشيد وتنيس ودمياط ، فلو كان خاليا من الماء العذب لوصل البحر من أسوان إلى منتهى بلوغ الردع» فيقول : هذا قول من لم يعرف أرض مصر ، فإن النيل عندهم مصبه بأعمال أسوان يكون أعلا منه عند كونه أسفل الأرض بقامات عديدة فإذا فاض ماء البحر حبسه أن يتدافع هو وماء النيل فيما بين دمياط وفارسكور. وأما في أيام زيادة. النيل فإنه شوهد مصب النيل في البحر من دمياط ، وكل منهما يدافع الآخر فلا يطيقه ، حتى صارا متمانعين وفي منظرهما حينئذ عبرة لمن اعتبر.

__________________

(١) أحد أعياد الفرس المشهورة.

٨٠