نزهة الأمم في العجائب والحكم

ابن إياس

نزهة الأمم في العجائب والحكم

المؤلف:

ابن إياس


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

ثم ساروا إلى مدينة سمنود وعدوا إلى مدينة الأشمونين ، وكان على بابها فرس من نحاس إذا قدم إليها غريب صهل ذلك الفرس ، فعندما وصلت مريم بالمسيح عليه السلام إلى باب المدينة سقط ذلك الفرس المذكور وتكسر فدخلت به أمه إلي أشمونين فرأي جمالا محملة زاحمتهم في مرورهم ، فصرخ فيها المسيح ، فصارت حجارة ثم أنهم ساروا من الأشمونين إلي قرية تسمي فيكس ثم مضوا إلي مدينة تسمي فش وهي التي يقال لها اليوم القوصية فنطق الشيطان من أجواف الأصنام التي كانت بها.

وقال : أن امرأة أتت معها ولدها يريدون أن يخربوا معابدكم ، فخرجوا إليهم مائة رجل وطردوهم [ق ٢٠١ ب] عن المدينة فمضوا إلى غربى القوصية فى موضع يعرف اليوم بدير المحرق وأقاموا به ستة أشهر ، ثم مضوا إلي مدينة مصر فى الموضع الذى يعرف بقصر الشمع وأقاموا به وهو مكان يعرف بكنيسة أبو سرجة ثم خرجوا منها قاصدين بيت المقدس فنزلوا بمدينة عين شمس وهى المطرية فأقاموا هناك علي بير ، وكان ثياب المسيح في تلك الأرض فأتيت الله تعالى من ذلك الماء هذا البلسم ، وهؤلاء يوجد إلا بهذه الأرض فقط ، وقيل إن المسيح اغتسل من ماء تلك البئر وهى البئر الموجودة هناك الآن.

وقيل أن فى البئر عينا جارية من أسفلها ، وهذا سبب تعظيم النصاري لها والبلسم لا يسقي إلا من ماء تلك البئر ، وأقام المسيح هو وأمه ويوسف النجار فى هذا الموضع ، ثم مضوا إلي بيت المقدس بعد أن هلك هيردوس ملك اليهود ، والله أعلم

ذكر مدينة المنصورة

هذه البلد على بحر أشموم تجاه ناحية طلخا ، بناها الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب في سنة عشرين وستمائة عندما ملكوا الفرنج مدينة دمياط فنزل فى موضع هذه البلد وبنا بها عدة دور ، ودار عليها سور مما يلى البحر وبنائها الأسواق والحمامات والفنادق وسماها المنصورة لكونه انتصر هناك على الفرنج ، ولما انتصر على الفرنج جلس فى قصره الذى أنشأ بها وبين يديه أخويه هما الملك المعظم عيسى صاحب دمشق والملك الأشرف موسي صاحب بلاد الشرق وعدة من خواصه فعند ذلك أحضر الملك الأشرف موسى جارية تغنى على عود فغنت شعر :

٢٢١

ولما طغا فرعون على بسحره

وجاء إلى مصر ليفسد فى الأرض

أتى نحوهم موسى وفى يده العصا

فأغرقهم فى اليم بعضا على بعض

فطرب الأشرف موسى لذلك فشق على أخيه الملك الكامل محمد [ق ٢٠٢ ب] وأتا بجارية من عنده فأخذت العود وغنت شعر فى المعنى :

يا أهل دين الكفر قوموا لينظروا

لما قد جرى فى وقتا وتجددا

إلا أن موسي قد أتانا وقومه

وعيسى جميعا ينصرون محمدا

فطرب الملك الكامل لذلك وأمر لكل بخمسمائة دينار. وكانت هذه الليلة بالمنصورة من أحسن ليالى الدهر ، وقيل أن الذى نظم هذه الأبيات إنما هو راجح الحلى الشاعر المشهور.

ذكر العباسة

هذه القرية فيما بين بلبيس الصالحية ولم تزل متنزها لملوك مصر ، وقيل أن ولد بها العباس بن أحمد بن طولون فسماه وذلك أبوه العباس وولد بها أيضا الملك الأمجد تقى عباس ابن الملك العادل أبى بكر بن أيوب ، وكان الملك الكامل محمد يقيم بها كثيرا ويقول هذه أحسن من مصر إذا قمت بها اصطاد الطير من السماء والسمك من الماء والوحش من الفضا ويصل إلينا الخبر من القلعة فى يومه وبنى بها مناظر وبساتين ولم تزل العباسة على ذلك حتى إنشاء الملك الصالح مدينة الصالحية فحينئذ تلاشى فخربت تلك المناظر.

فلما كانت دولة الملك الظاهر بيبرس مر عليها فأعجبته فبنى على فم الوادى قرية وسماها الظاهرية وأنشأها جامعا وذلك فى سنة ست وستين وستمائة وقيل إنما سميت العباسة باسم عباسة الست قطر النداء بنت خماروية بن أحمد بن طولون ، ولما أمر المعتضد بالله بحملها ليتزوج بها فعند ذلك ضربت خيامها العباسة بتلك الأرض فسميت بها وبنيت قرية على أسمها والله أعلم.

٢٢٢

ذكر مدينة قفط

أعلم أن هذه المدينة عرفت بقفطريم بن قنطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام ، وكانت فى الدهر الأول من أجل المدائن الكبار.

وقد خربت من الأربعمائة من سنين الهجرة وآخر ما كان بها قباب بأعالى دورها تكون إشارة لمن يملك من أهلها عشرة آلاف دينار فيجعل على داره فى أعلاها قبة وكلن بها معدن الزمرد فى مكان يقال له الخربة على مسيرة ثمانية أيام منها ، وهذا المعدن فى مغايرة [ق ٢٠٣] طويلة فى جبل عالي يسمي قرشندة وهو علي ثلاثة أنواع طلق كافورى وطلق فضي والثالث يقال له حجر جزوي ويضرب فى هذه الحجارة حتى يخرج الزمرد وأعلاها الذبانى وهو لا يخرج إلا فى النادر وإذا استخرج القى فى الزيت الحار ثم يحط فى قطن ويلف فى خرق خام ، وهذا المعدن إذا نظرت إليه الأفعى تسيل عينها وكانوا يفتشوا الفعلة عند خروجهم من المغارة حتى في دبرهم خوفا على هذا المعدن ولم يزل على ذلك حتى بطل فى سنة سبع وستين وسبعمائة.

ذكر مدينة دندرة

وهى من مدن الصعيد الأعلى ، وكان بها بربا عظيمة فيها مائة وثمانون كوة تدخل الشمس فى كل يوم من كوة منها حتى تأتى على آخرها ، ثم تكرر راجعة إلى حيث بدأت وكان بها شجرة تعرف بشجرة العباس قدر السنطة مستديرة الأوراق إذا قال لها الإنسان يا شجرة العباس جاءك الفأس فتجمع أوراقها وتذبل لوقتها فإذا قالوا لها قد عفينا عنكى [ق ٢٠٤ أ] تراجعت كما كانت فى الأول.

٢٢٣

ذكر الواحات الداخلة

قال ابن وصيف شاه : وهى أيضا من عمارة قفطريم بناها وعمل فيها عجائب كثيرة منها بركة إذا مر عليها الطير سقط فيها لا يبرح منها حتى يؤخذ ، وعمل أيضا على أربعة أبواب هذه المدينة أربعة أصنام من نحاس إذا دخل من إحدى أبوابها غريب ألقى عليه النوم والسبات فينام عندها ولا يبرح حتى يأتيه أهل المدينة وينفخون فى وجهه فيقوم وإن لم يفعلوا ذلك لا يزال نائما عند الأصنام حتى يهلك.

ولما قدم موسى بن نصير فى زمن بنى أمية إلى مصر كان عنده علم من هذه المدينة فسار إليها مدة سبعة أيام فى رمال ما بين الغرب والجنوب ، فظهرت له مدينة عليها حصن وأبواب من جديد فلم يمكنه فتح تلك الأبواب وأمر الرجال أن تعلوا علي سورها ، فلما علوا عليه وأشرفوا على المدينة ألقوا أنفسهم فيها ، وصار كل من علا على سور المدينة وألقوا أنفسهم فيها ، وصار كل من على سور المدينة يفعل ذلك [ق ٢٠٤ ب] فلما أعياه أمرها مضى وقد هلك من أصحابه عدة كثيرة فعند ذلك تركها عن عجز.

ذكر الواحات الخارجة

هذه المدينة بناها إحدى ملوك القبط الأول ويقال البردسير من أولاد قفطيم قال المسعودى : وأما بلاد الواحات هى بين بلاد مصر وبلاد الصعيد وهى أراضى بلاد الأحابش من النوبة وهو بلد قائم بنفسه غير متصل بغيره ولا مفتقر إليه ويحمل منه الثمر والزبيب والعناب وغيره.

قال الشيخ حسام الدين بن زنكى الشهرورى أنه سمع ببلاد الواحات أن فيها شجرة نارنج يقطف منها فى سنة واحدة أربعة عشر ألف حبة نارنج ما سوى ما يتناثر من الريح وسوى ما هو أخضر.

قال الشيخ شهاب الدين المقريزى : فلما سمعت بهذا القول لم أصدقه لغرابته وسافرت إلي هذا المكان حتى شاهدت هذه الشجر المذكور ، فإذا هى كاعظم ما يكون من شجر الجمنز بمصر وسألت مستوي البلد عنها فأحضر إلى جرايد حسابا عنها فتصفحها فإذا فيها قطف

٢٢٤

فى [ق ٢٠٥ أ] سنة كذا من شجرة النارنجة الفلاينة أربع عشرة ألف حبة نارنج مستوية صفراء سوى ما بقى علي ها من الأخضر ، وهذا من العجائب الذى لم يسمع بمثلها الشب الأبيض بوادى هناك وكان فى زمن الملك الكامل وغيره من الملوك مقرر على أهل الواحات ، وحمل ألف قنطار من الشب الأبيض فى كل سنة إلي القاهرة ويطلق لهم فى نظير ذلك جوالى الواحات ، ثم أهل هذا الأمر وبطل.

ذكر مدينة قوص

أعلم أن قوص من أعظم مدائن الصعيد وهى على شاطىء النيل بنيت فى أيام شدات بن عديم. قال ابن وصيف شاه : وهو الذى بنى الأهرام الدهشورية وغيرها من البرابى.

وقيل أن فى شهر رمضان سنة أثنين وستين وستمائة أحضر إلى الملك الظاهر بيبرس فلوس وجدت مدفونة فى مكان بقوص فأخذ منها فلسا فإذا على إحدى وجهيه صورة ملك واقف وفى يده اليمنى ميزان ، وفى يده اليسرى سيف ، وعلى الوجه الأخر [ق ٢٠٥ ب] رأس فيه أذن كبيرة مفتوحة وعين مفتوحة وبداير كل فلس كتابه فقرأها راهب يونانى فكان تاريخه إلى وقت قرائته ألفين وثلاثمائة سنة وفيه : أنا الملك غلياث ميزان العدل يمينى لمن أطاع والسيف بيسارى لمن عصى وعلى الوجه الآخر : أنا غلياث الملك أذنى مفتوحة لسماع شكوا المظلوم وعينى مفتوحة أنظر بها مصالح رعيتى ومصالح ملكى ومدينة قوص مشهورة بكثرت العقارب والورغ حتى أن أهلها إذا مشوا فى الصيف يأخذوا فى أيديهم مشكاك من حديد يشكوا به العقارب ولم تزل محكمة العمارة كثيرة إلينا إلى سنة ست وسبعين وسبعمائة.

٢٢٥

ذكر مدينة البهنسا

هذه المدينة بناها ملك من ملوك القبط يقال له مناوش بن منقاوش.

قال ابن وصيف شاه : وهو أول من عبد البقر من أهل مصر وكان السبب فى ذلك أنه اعتل علة حتى أيس منه فيها رأى فى منامه صورة روحانى عظيم يقول [ق ٢٠٠٦ أ] له أنه لا يخرجك من علتك إلا عبادتك للبقر ففعل ذلك ، وأمر باحضار ثورا بلق حسن الصورة وعمل له مجلسا فى قصره وسقفه بقية مذهبه وكان يبخره ويطيب موضعه ووكل به من يخدمه وينكس تحته ويعبده سرا فبرىء من علته ولا زال الشيطان يعونه حتى أنطلق له الثور فسر بذلك وأمر أهل مملكته بعبادته فأقاموا يعبدونه مدة من الزمان وصار ذلك الثور لا يبول ولا يروث ولا أكل أولا أطراف ورق القصب الأخضر فى كل شهر مرة فافثين الناس به وكل ذلك من الشيطان فكان ذلك سببا بعبادة البقر وفى زمانه بنيت البهنسا ويقال إنه عاش ثمانمائة سنة ، وكان بالبهنسا من العجائب والحكم ما ليس فى غيرها من البلاد.

ذكر مدينة الأشمونين

يقال أنها بناء أشمون بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام قال ابن وصيف شاه : وهو الذى بنى المجالس المصفحة بالزجاج [ق ٢٠٦ ب] الملون فى وسط النيل ، ويقال إنه بنى من الأشمونين إلى انصنا سرب تحت النيل ، وكان هذا السرب مبلط الأرض والحيطان والسقف بالزجاج الملون النحيت ، وقيل أنه عمله لبناته إذا حين من انصنا إلى الأشمونين لزيارة هيكل الشمس ، وكان بها الطلسمات والعجائب والبناء والمحكم وكان يجلب منها الخيل والبغال والحمير وكان ينزل بها عدة من بنى جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه وعدة من أولاد بنى أمية وأقاموا بها زمانا طويلا.

٢٢٦

ذكر مدينة أخميم

قال بن وصيف شاه هذه المدينة كانت من أجل مدن الصعيد ، وكان بها العجائب الكثيرة والبرابى المحكم ، وكان بها السحرة الذى استعان بهم فرعون يوم ألقى موسى العصا.

وحكى أن رجلا دخل إلى البربا التى بأخميم فوجد صورة عقرب فى الحائط فالصق عليه شمعا وأخذه فكان إذا تركها فى موضع انحاشت العقارب إليها ولا تبرح عنها ويقال إنه كان في [ق ٢٠٧ أ] بربا أخميم صنم قائم وله احليل كبير ، وكان يذكر أن من ذلك أحليلة بذلك الأحليل فإنه لا يزال أحليلة قائما ولو جامع ما أحب دائما فإذا أراد إبطال ذلك أحليلة فى ظهر تلك الصنم. ويقال أن الذى بنى بربا أخميم كان اسمه ذو مريا وأنه جعل هذه البربا مثلا للأمم الأتية بعده وأودعها من الحكم والفوائد ما لا فعله أحد من الملوك قبله ، وفيها أشخاص من يملك مصر على هباتهم إلى آخر الدهر.

وذكر عبد الله محمد بن عبد الرحيم القيسى : أن هذه البربا مربعة من حجارة منحوتة ولها أربعة أبواب يقضى كل باب إلي بيت منها وله أربعة أبواب كلها مظلمة ويصعد منها إلى بيوت كثيرة ، ولم تزل على ذلك حتي سد بعض الولاة بابها خوفا على الناس وكانت تجلب الأنطاع إلى مصر من أخميم وإليها ينسب سيدى ذى النون المصرى الأخميمى ، ولم تزل عامرة محكمة إلى سنة ثمانين وسبعمائة.

ذكر مدينة العقاب

[ق ٢٠٧ ب] قال المسعودى : مدينة العقاب غربى أهرام بوصير الجيزة على مسيرة خمسة أيام بلياليها للراكب المجد ، والآن قد نسى طريقها وعمى المسلك إليها ، وفيها من عجائب البنيان ما ليس فى مدينة غيرها وبها من الكنوز والجواهر والأموال شىء كثيرة.

وهذه المدينة بناها الوليد بن دومع العمليقى وجعل أساسها من حجر أسود فوقه حجر أصفر وفوقه حجر أخضر ، وفوق الجميع حجر أبيض يشف وكلها مبنية بالرصاص المضبوب

٢٢٧

بين الحجارة وجعل طول حصنها مائة وستين ذراعا فى عرض مائة وعشرين ذراع بالذراع الملكى ، وساق إليها ماء النيل من بابها الشرقى ينحدر إلى الباب الغربى ويصب في صهاريج هناك ، وجعل فى وسط هذه المدينة عقاب كبير من ذهب مكلل بالجواهر واللؤلؤ منشور الجناحين قائم على عامود من الرخام ، يدور بتلك العقاب إلى الجهات الأربع [ق ٢٠٨ أ] فيقيم فى كل جهة من السنة ست أشهر ، وكان لهذا العقاب أربعة أعياد فى السنة فى الأوقات التى يتحول فيها العقاب فى كل سنة أشهر من السنة ، ونصب حوله التماثيل والعجائب وكان قد حسن له الشيطان عبادة هذه العقاب فبنا تلك المدينة وجعل فيها ذخائر وأمواله وسميت بمدينة العقاب لذلك.

ذكر مدينة الفيوم

أعلم أن مدينة الفيوم بناها يوسف نبى الله عليه السلام. قال ابن وصيف شاه : ولما كانت أيام فرعون يوسف عليه السلام وهو الذى تسميه أهل التواريخ العزيز ، وكان جميل الخلق حسن الهياته عاقلا منصفا للرعية عادلا فيهم وكان اسمه عند القبط نهراوش ، ويقال أنه كان أمن وكتم إيمانه خوفا من فساد أمره ، ويقال أنه أقام ملكا على مصر مائة وعشرين سنة.

وفى أيامه بنى يوسف مدينة الفيوم وكلن سبب ذلك إن يوسف عليه السلام لما ملك أرض مصر وعظمت [ق ٢٠٨ ب] منزلته من العزيز وكلن يوسف قد جاوز من العمر مائة سنة فوشا به بعض وزراء الملك وقالوا للملك أن يوسف قد قل علمه وتغير عقله فعفهم الملك عن ذلك ورد عليهم مقالتهم وأسالهم فكفوا عند ذلك ثم عاودوه بذلك القول مرة أخرى. فقال لهم الملك هلموا إلى شىء تختبروه به فيظهر لكم ما قلتوه عنه.

وكانت أرض الفيوم يومئذ تدعى بالجوبة وكانت لمغايض الماء الفاصلة عن المزارع والقرى فاجتمع رأيهم على أن يكون هذه هى المحفة التى تمحنون بها يوسف عليه السلام ، فقالوا للملك : سل أن يصرف ماء الجوبة ويخرجه منها فتزرع ويتزايد خراج بلدك ، فأحضر الملك يوسف وقال له أنت تعلم مكان ابنتى فلانة منى رأيت أن أصنع لها بلدا وأقطعها لها ، ولما رأه يصلح لذلك إلا هذه الجوبة وذلك أنه بلد قريب بعيد عن الشر والفتن وهى وسط أرض مصر فدبر لى أمرها. فقال يوسف. [ق ٢٠٩ أ] نعم أنها الملك أفعل ذلك إن شاء الله تعالى فأوحى الله إلى نبيه يوسف أن يحفر ثلاثة خلجان خليجا من أعلى الصعيد وخليجا شرقيا وخليجا غربيا ، فعند

٢٢٨

ذلك شرع يوسف فى حفر هذه الثلاثة خلجان ، فلما فعل ذلك خرج حميع ما كلن بها من الأهواء الذى كانت تصب فيها ولم يبق فى الجوبة قطرة ماء وانصب جميعه فى بحر النيل وقطع ما كان فيها من القصب والطرفاء ونظفها من جميع الحلفاء ، وقد صارت الجوبة أرضا نقية برية ، ولما أرتفع النيل دخل من رأس خليج المنهى وجرى فيها الماء فصارت لجة من النيل فعند ذلك خرج إليها الملك وقال لوزرائه أمضوا لتنظروا ما يصنع يوسف وكان عمل ذلك كله فى سبعين يوما فتعجب الملك ووزراؤه من ذلك وقالوا هذا كان يعمل فى ألف يوم فسميت من حينئذ الفيوم ، وصارت تزرع كما تزرع أراضى مصر ، ثم بلغ يوسف قول وزراء الملك إنما كان ذلك منهم علي سبيل المثال [ق ٢٠٩ ب] الأمتحان له. فقال للملك عندى من الحكمة والتدبير غير ما رأيت فقال له الملك وما هو قال أنزل فى الفيوم أهل كورة من كور مصر وأمرهم أن يبنوا لأنفسهم كل أحد قرية وكانت قرى الفيوم على عدد كور مصر فإذا فرغوا من بناء قراهم صيرت لكل قرية من الماء بقدر ما أصير لها من الأرض لا يكون فى ذلك زيادة ولا ينقص وأصير لكل قرية من الماء قرية من الماء الذى يشربوه في زمان لا ينالهم فيه الماء بقدر ما يكفيهم من السنة فقال له الملك : هذا من ملكوت السماء فقال يوسف نعم وأمر ببنيان القرى وحد لها حدودا وكانت أول قرية عمرت بالفيوم قرية يقال لها سانة وهى القرية التى كانت تنزل إليها بنت الملك ، ثم حفر بها الخلجان وبنى القناطر فلما فرغ من ذلك استقبل وزن الأرض ووزن الماء وهو أول من أظهر الهندسة ولم يكن الناس يعرفونها قبل ذلك وكان هو أول من قاس النيل [ق ٢١٠ أ] بمصر ووضع له مقياسا بمنف وذلك هو يوسف بن إسحاق بن إبراهيم الخليل صلوات الله عليهم أجمعين أحد الأسباط الأثنا عشر وولد بأرض كنعان من بلاد الشام وكان قد رأى في المنام أن إحدى عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين وعمره إذ ذاك سبع عشرة سنة وكادوه أخوته وباعوه لقايد فرعون فأقام فى منزله أثنى عشر شهرا ، ثم راودته امرأة الملك المسمى بالعزيز وهو فرعون يوسف عن نفسه فاعتصم من ذلك وكذبت عليه وشهد شاهد من أهلها ودخل السجن ومكث به سبعة سنين ، ولم يزل فى السجن إلى أن رأى الساقى والخباز تلك المنامين وفسرها لهما يوسف فأخرجا من السجن ، ثم رأى الملك تلك الرؤيا فأخرجه من السجن وقص عليه الرؤيا فعبرها له فعند ذلك استوزره الملك وجعله على خزائن الأرض ، ثم اجتمع بيعقوب أبيه وأخوته ولم يزل حاكما على مصر إلى : مات [ق ٢١٠ ب] وعمره مائة وسبع وأربعين سنة ، وكان بينه وبين موسى عليه السلام مائة وثلاثون سنة والله أعلم.

٢٢٩

ذكر ما قيل فى الفيوم

وخلجانه وضياعه

قال ابن رضوان : الفيوم يخزن فيها ماء النيل وتزرع عليه مرات فى السنة وأكثر ما يحبس فى البحيرة التى بين سفط ونهيا وصاعدا إلى ما يلى الفيوم.

قال القاضى أبى عمر وعثمان بن يوسف القرشى فى كتاب المنهاج فى علم الخراج : وهذه المدينة من أحسن الأشياء تدبيرا وأوسعها أرضا وأجودها زرعا وإنما غلب على بعضها الخراب لخلوها من أهلها ولاستيلاء الرمل على كثير من أرضها ، وقد أوردت من حال الخلجان الأمهات الذى بمدينة الفيوم وما لها من الضياع ورسمها من كل مكان وتحريرها ونبتدى بذكر البحر الذى منه هذا الخليج الأعظم وهو البحر الصغير المعروف بالمنهى وفوهة هذا البحر من عند الجبل المعروف بكرسى الساحر من أعمال الأشمونين [ق ٢١١] ومنه شرب بعض الضياع الأشمونية والقيسية والأهناسية وعلى جانبيه ضياع كثيرة شربها منه.

ذكر الحجر اليوسفى

وهذا الحجر اليوسفى جدار مبنى بالطوب والجير والزيت بناه يوسف عليه السلام من جهة الشمال إلى جهة الجنوب ويتصل من نهايته من الجنوب بجدار بناؤه مثل بنائه على استقامة من الغرب إلي الشرق وطوله مائتا ذراع بذراع العمل ويتصل بهذا الجدار على طوله ثمانين ذراعا منه من جهة الغرب نهاية الجدار الأعظم من الجنوب ، وفائدة بناء هذا الجدار الأعظم رد الماء إذا انتهى إلى حدود أثنى عشر ذراعا إلى مدينة الفيوم ، وكان بها قديما عشرة قناطر وعليها أبواب من حديد.

وأما خليج الأواسى فإنه ينتهى إلى الضيعة المعروفة ببياض فيملأ بركتها وينتهى إلى الضيعة المعروفة بالأوسية الكبرى فمنه شربها وشرب بساتينها ، وكان على هذا الحد طاحون تدور بالماء [ق ٢٢١ ب] وعلى هذا الخليج عدة ضياع تسرب منه.

٢٣٠

وأما خليج سمسطوس فإنه ينتهى إلى سمسطوس وغيرها من الضياع ، ثم ينتهى إلى الخليج الأعظم وإلى خليج دهالة ومنه تشرب عدة ضياع وكان بها عدة خلجان ، وهم خليج دهالة وخليج دله وخليج بنتطاوة وخليج المجنونة ، وسمى بذلك لدوى مائه وخليج بنلاله وخليج بنيموه وخليج تبدود.

وهذا الخليج لما حفروه ظهر به عين حلوة فهو يجرى فيه صيفا وشتاء. وهذه الخلجان تفتح بتقدير وتدبير فى أيام معلومة من السنة فى الأشهر القبطية.

وقد حكم يوسف بناء الفيوم على ثلاثمائة وستين قرية على عدد أيام السنة ، فكانت تعل على أهل مصر جميعهم كل يوم قرية من قرى الفيوم بعدد أيام السنة لما كان فيها من العمارة والحكمة والتدبير والبركة من سيدنا يوسف عليه السلام مستمرة فيها إلى اليوم. ولما مات يوسف عليه السلام مستمرة فيها إلى اليوم. ولما مات يوسف عليه السلام جعلوه فى تابوت ودفنوه في إحدى جانب النيل [ق ٢١٢ أ] فأخصب تلك الجانب دون الآخر فحملوا إلى الجانب الآخر فاختصب الذى حولوه إليه أجدب الجانب الآخر فلما رأوا ذلك جمعوا عظامه وجعلوها فى صندوق من حديد وجعلوه فى سلسلة وأقاموا عمودا من الصوان على شاطىء النيل وجعلوا فى أصله سكة من الحديد وجعلوا السلسلة فى السكة والقوا الصندوق فى وسط بحر النيل فأخصب الجانبان جميعا ، وكان سبب جمل عظام يوسف عليه السلام من مصر إلى الشام وهو أم موسى عليه السلام لما سرى ببنى إسرائيل من أرض مصر إلى التيه ، فحيل بينهم وبين الطرق فأوحى الله إلى موسى أن يهتدى إلى الطريق حتى تحمل معك عظام يوسف قال : ومن يدرى أين موضعها ، فقيل له أن عجوزا كبيرا ذاهبة البصر تركناها فى أرض مصر وهى تعرف موضع عظام يوسف ، فرجع موسى إلى تلك العجوز فلا سمعت حسه قالت : له ما ردك؟. قال موسى : أمرت أن أحمل عظام يوسف معى ، قالت : ما أدلك على عظام يوسف [ق ٢١٢ ب] حتى تحملنى معك؟ قال أفعل ذلك إن شاء الله فدلته على عظام يوسف فأخذها وحملها معه إلى التيه وحمل تلك العجوز معه ، وسار بها وكان اسم تلك العجوز سارح بنت أشر بن يعقوب عليه السلام.

٢٣١

ذكر فتح مدينة الفيوم

على يد المسلمين

قال ابن عبد الحكم : ولما فتح عمرو بن العاص مدينة مصر بعث على جرائد الخيل إلى الفيوم ، فأقاموا نحو سنة لا يعلموا بمكانها حتى أتاهم رجل ودلهم على طريقها بعد ما أعيا صبرهم وهموا بالأنصراف فلم يسيروا إلا قليلا حتى طلع لهم سور مدينة الفيوم فهجموا على أهلها فلم يكن عندهم قتال وألقوا بأيديهم ويقال بل خرج إليهم من كان بها ويقتلوا معهم.

قال الكندى (١) فى كتاب فضائل مصر وأما كورة الفيوم وهى ثلاثمائة وستون قرية دبرت على عدد أيام السنة لا ينقصن الرى فإن قصر النيل فى سنة من السنين كانت تغل على أهل مصر (٢) كل يوم قرية بعدد أيام السنة وليس فى الدنيا بلدا أخصب منهما ولو عد من أهل العقل والمعرفة / [ق ٢١٣ أ] ما فى الفيوم من الخير والبركة والنفع فإذا هى لا تحصى.

وقال ابن زولاق : وقد عقدت الفيوم فى زمان كافور الأخشيدى فى سنة ست وخمسين وثلاثمائة على ستمائة ألف دينار ونيف وعشرين ألف دينار.

وقال القاضى الفاضل فى متجددات حوادث سنة خمس وثمانين وخمسمائة أن الفيوم بلغت فى تلك السنة من الخراج مائة ألف دينار وأثنين وخمسين ألف دينار وذلك قد نقل من خطة وقد اعتبر فى قديم الزملن فإذا هى تغل فى كل يوم بقدر ألفى مثقال من الذهب.

__________________

(١) وردت فى الأصل ابن الكندى.

(٢) وردت على هامش المخطوطة عبارة «فى الدنيا مدينة بنت بالوحى غير مدينة الفيوم وليس فى الدنيا».

٢٣٢

ذكر مدينة النحريرية

أعلم أن النحريرية كانت أرضا مقطعة لعشرة من أجناد الحلقة ومن جملتهم شمس الدين سنقر السعدى نقيب الجيوش المنصورة فأخذ قطعة من أرض هذه القرية وجعلها اصطبلا لدوابه وخيله فشكاه بعض شركائه إلى السلطان الملك المنصور قلاوون فسأله عن ذلك فقال أريد أن أجعل موضع ذلك جامعا فى القرية تقام فيه الخطبة [ق ٢١٣ ب] فإذن له السلطان فى ذلك فابتدأ فى عمارته فى سنة ثلاث وثمانين وستمائة حتى كمل وعمل له منبر وخطب به واستمر إلى يومنا هذا ولم تزل هذه قرية بيده حتى مات وورتها ابناه خليل وعمر فأقامت معهم مدة ، ثم باعوها للأمير شيخو العمرى وقفا على الخانقاه والجامع الذين أنشأهما بخط الصليبة الطولونية.

ذكر دقلديانوس

الذى يعرف تاريخ القبط به

أعلم أن دقلديانوس هذا أحد ملوك الروم المعروفين بالقياصرة ، وكان من غير بيت المملكة. فلما ملك واشتد ملكه ولى مدائن الأكاسرة ومدينة انطاكية ومدينة بابل فاستخلف ابنه على مملكة رومه وأتخذ هو تخت ملكه بمدينة انطاكية وجعل لنفسه بلاد الشام ومصر إلى أقصى المغرب ، فلما كان فى السنة التاسعة عشر من ملكه خامرت عليه أهل مصر والإسكندرية ، فسار إليهم وقتل منهم خلقا كثيرا وأوقع بالنصارى واستباح دماءهم وغلق [ق ٢١٤ أ] كنائسهم ومنع من دين النصارى وحمل الناس على عبادة الأصنام وبالغ فى الإسراف من قتل النصارى وأقام ملكا إحدى وعشرين سنة وهو آخر من عبد الأصنام من ملوك الروم. فلما ملك بعده قسطنطين الأكبر أظهر دين النصرانية بعد ما كان قد دثر من أيام دقلديانوس ، وكانت أيامه أيام شنعة من كثرت القتل والسبى وهدم بيوت العبادات وكانت واقعة بالنصارى أشنع وأشد لأنها دامت عليهم نحو عشرين سنة لا يغتر فيها يوما واحدا عن قتل أحد من النصارى وابطال دين النصرانية من الأرض فلهذا أتخذوا القبط من ابتداء ملك دقلديانوس تاريخا.

٢٣٣

ذكر أسابيع أيام

أعلم أن القدماء من الفرس وقبط مصر الأول لم يكونوا يستعملون الأسابيع من الأيام فى الشهور ، وأول من استعملها أهل الجانب الغربى ولا سيما أهل الشام من أجل ظهور الأنبياء عليهم السلام وهناك وأخبارهم من الأسبوع الأول وبدوا لعالم وأن الله تعالى خلق السموات والأرض [ق ٢١٤ ب] فى ستة أيام من الأسبوع ثم انتشر ذلك منهم فى سائر الأمم حتى استعملوه العرب العاربة بسبب مجاورتهم لديارهم فإنهم كانوا قبل تحويلهم إلى أرض اليمن ببابل وعندهم أخبار من نوح عليه السلام ، ثم بعث فيهم نبى الله هود ، ثم صالح ، ثم نزل فيهم إبراهيم الخليل عليه السلام ثم ولده إسماعيل فتعرف إسماعيل وكانت القبط فى الأول تستعمل أسماء الأيام الثلاثين من كل شهر فيحلوا لكل يوم منها أسماء كما هى فى تاريخ الفرس وما زالت القطب علي هذا إلى أن ملك مصر أغسطس بن يوجس فأراد أن يحملهم على كبس السنين ليوافقوا الروم فيها فوجدوا الباقى حينئذ إلى تمام السنة الكبيسة الكبرى خمس سنين فاشطر حتى مضى من ملكه خمس سنين ، ثم حملهم على كبس الشهور فى كل أربع سنين بيوم ، كما تفعل الروم فترك القبط من حينئذ استعمال أسماء الأيام الثلاثين لاحتياجهم فى يوم الكبس إلى اسم يخصه وانقرض من بعد ذلك [ق ٢١٥ أ] أسماء الأيام الثلاثين من أهل مصر والعارفين بها ولم يبق لها ذكر يعرف فى العالم ، بل دثرت كما دثر غيرها من أسماء شهور القبط في الزمن القديم توت ياونى اثور شواقه طوبى ماكير فامينوت ترمونى ناخون باوبى اقيقى أبيقا وكل شهر منها ثلاثون يوما ولكل يوم اسم يخصه ، ثم أخذت بعض القبط بعد استعمالهم الكبس الأسماء التى هى اليوم متداولة بين الناس بمصر وهو توت بابة هاتور كيهك أمشير برمهات برمودة بشنس ناونه أبيب مسرى ، ومن الناس من يسمى الخمسة أيام الزائدة أيام النسبى ، ومن الناس من تسميها أبو غمنا ومعنى ذلك الشهر الصغير والقبط تزعم أن شهورهم هى شهور سنين نوح وشيث وآدم عليهم السلام ، وهى من مبتدأ العالم وأنها لم تزل على ذلك إلى أن خرج موسى بن عمران ببنى إسرائيل من مصر فعلموا أول سنتهم خامس عشر [ق ٢١٥ ب] نيسان.

٢٣٤

ذكر أعياد النصارى

من القبط بديار مصر

أعلم أن نصارى مصر من القبط الآن التي هى مشهورة بديار مصر أعيادهم أربعة عشر عيدا فى كل سنة من سيهم القبطية منها سبعة أعياد يسمونها أعيادا كبارا وسبعة يسمونها أعيادا صغارا.

فالأعياد الكبار : وهم عيد البشارة وعيد الزيتونة وعيد الفسح وعيد الأربعين وعيد الخميس وعيد الميلاد وعيد الغطاس.

والأعياد الصغار : وهم عيد الختان وعيد الأربعين الصغير وعيد خميس العهد وسبت النور وحد الحدود والبجلى وعيد الصليب ، ولهم موسم آخر ليس هو عندهم من الأعياد الشرعية لكنه من المواسم المعتادة وهو يوم النوروز.

فأما عيد البشارة ، هذا العيد عند النصارى أصله بشارة جبريل عليه السلام لمريم بميلاد المسيح عليه السلام وهم يسمون جبريل غبريال ويقولون على المسيح ياشوع ، وربما قالوا السيد يشوع وهذا [ق ٢١٦ أخ العيد بعمله نصارى مصر فى اليوم التاسع والعشرين من شهر برمهات ، وعيد الزيتونة ويعرف عندهم بعيد السعانين ومعناه التسبيح ويكون فى سابع حد فى صومهم وسنتهم فى عيد السعانين أن يخرجوا بسعف النخيل من الكنيسة ويزعمون أنه يوم ركوب المسيح الحمار فى بيت المقدس ودخوله إلى صهيون وهو راكب والناس بين يديه يسبحون ، وعيد الفسح هذا العيد عندهم هو العيد الكبير ويزعمون أن المسيح عليه السلام لما تمالى اليهود عليه واجتمعوا على تضليله وقتله فقضوا عليه وأحضروه إلى الخشبة ليصلبه عليها فصلب على الخشبة لصان ، وعندنا وهو الحق أن الله رفعه إليه كما قال (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)(١) وكان الذى صلب على الخشبة مع اللصين غير المسيح وقد ألقى الله تعالى شبه المسيح على ذلك الشخص فعند ذلك غشى الأرض ظلمة ، وكانت السادسة من النهار وأقامت إلى [٢١٦ ب] الساعة التاسعة وكان ذلك يوم الجمعة خامس عشر شهر نيسان من أشهر العبرانيين وتاسع عشرين من شهر برمهات ودفن الشبه فى آخر النهار بقبر وأطبق عليه بحجر عظيم وختم عليه وأقاموا عليها الحرس باكر يوم السبت كيلا يسرق ، فزعموا أن المقبورا

__________________

(١) ١٥٧ م النساء : ٤.

٢٣٥

قام من القبر ليلة الأحد سحرا ومضى بطرس ويوحنا التلمذان إلى القبر فإذا الثياب التى كانت على المقبور فقط بغير ميت وعلى القبر مليكة ثياب بيض فأخبروهما أن المقبور قام من القبر وقيل غير ذلك وهو أن فى عشية يوم الأحد هذا دخل المسيح على تلاميذه وسلم عليهم وأكل معهم وكلمهم وأوصاهم وأمرهم بأمور قد تضمنها انجيلهم ، وهذا العيد عندهم بعد عيد الصلبوت بثلاثة أيام. وعيد الأربعين ويعرف عند الشام بالسلاق ويقال له أيضا عيد الصعود وهو الثانى والأربعين من الفطر ، ويزعموا أن [ق ٢١٧ أ] المسيح عليه السلام بعد أربعين يوما من قيامه خرج إلى بيت عينا والتلاميذ معه فرفع يده وبارك عليهم وصعد إلى السماء وذلك عند إكماله ثلاث وثلاثين سنة وثلاثة أشهر ، فرجع التلاميذ إلى بيت المقدس وقد وعدهم باشتهار أمرهم وغير ذلك مما هو معروف عندهم ، فهذا أعتقادهم فى كيفية رفع المسيح ، والله أعلم.

وعيد الخميس وهو العنصرة ويعملونه بعد خمسين يوما من يوم القيامة ، وزعموا أن بعد عشرة أيام من الصعود وخمسين يوما من قيامه المسيح ويزعموا أن التلاميذ اجتمعوا فى صهيون فتجلى لهم روح القدس شبه ألسنة من نار فامتلوا أمن روح القدس وتكلموا بجميع الألسن وظهرت على أيديهم آيات كثيرة فعاداهم اليهود وحبسوهم فنجاهم الله منهم وخرجوا من السجن فساروا فى الأرض متفرقون يدعون الناس إلى دين المسيح عيد الميلاد ، وقد قيل هو اليوم الذى ولد فيه المسيح وهو يوم الأثنين فيجعلون [ق ٢١٧ ب] عشية الأحد ليلة الميلاد وسنتهم فى ذلك الكنائس وتزينها ويعملونه فى التاسع والعشرين من كيهك ، ولم يزل ذلك بديار مصر من المواسم المشهورة وكانوا يفرقوا فيه فى أيام الدولة الفاطمية أرباب الرسوم من المباشرين وسائر الناس من الكتاب وغيرهم الجامات من الحلاوة القاهرية والمتارد التى فيها السميد وقرابات الجلاب وطياقير الزينة والبورى.

ومن عادات النصارى فى الميلاد يلعبوا بالنار ، ومن أحسن ما قيل فى ذلك شعر :

ما اللعب بالنار فى الميلاد من سنن

وإنما فيه للإسلام مقصود

وفيه بكت النصارى أن ربهم

عيسى بن مريم مخلوق ومولود

وقال الشيخ عبد العزيز الدرينى فى ذلك :

عجبا للمسيح بين النصارى

حين قالوا أن لإله أبوه

ثم قالوا ابن الإله إله

ثم قاموا بجهلهم عبدوه

٢٣٦

[ق ٢١٨ أ]

ثم جاءوا بشىء أعجب من ذا

حيث قالوا بأنهم صلبوه

ليت شعرى وليتنى كنت أدرى

ساعة الصلب ابن كان أبوه

حين خلا ابنه رهين الأعادى

أتراهم أرضوه أم أغضبوه

فلين كان راضيا باذاهم

فاحمدوهم لأنهم عذبوه

ولين كان ساخطا فاتركوه

وأعبدوهم لأنهم غلبوه

ذكر ما قاله العلماء

قال بعض العلماء : فلم تستطع علماء النصرانية أن يجيبوا عن ذلك بجواب واحد ، وقد كان فى الميلاد بالقاهرة ومصر وسائر إقليم مصر يعمل موسما جليلا يباع فيه من الشموع المزهرة بالأصابع المليحة والتماثيل البديعة بأموال لا تنحصر فلا يبقى أحد من الناس أعلاهم وأدناهم حتي يشترى من ذلك الشمع ، وكانوا يسمونها الفوانيس وتتباهون فى أثمانها حتى قيل أن شمعة عملت لبعض القبط بمصر فكان مصروفها ما ينوف على سبعين دينارا. فلما أجبلت أمور مصر فكانت من جملة ما بطل عمل الفوانيس فى الميلاد. وعيد الغطاس يعمل فى الحادى عشر من طوبة ، وأصله عند النصارى أن يحيى بن زكريا [ق ٢١٨ ب] عليه السلام المعروف عندهم بيوحنا المعمدان عمد المسيح أى غسله فى بحيرة الأردن وعند ما خرج المسيح من الماء اتصل به روح القدس فصاروا النصارى لذلك ينغمسون هم وأولادهم فى الماء فى هذا اليوم وينزلون فيه بأجمعهم ولا يكون ذلك إلا فى شدة البرد ويسمونه يوم الغطاس وكان له بمصر عيد عظيم إلى الغاية.

قال المسعودى : وكان لليلة الغطاس بمصر شأن عظيم عند القبط وهى ليلة الحادى عشر من طوبة. قال المسعودى : ولقد حضرت سنة ثلاثين وثلاثمائة ليلة الغطاس بمصر فى أيام الأخشيد محمد بن طغج أمير مصر فى داره المعروفة بالمختار فى الجزيرة الراكبة على النيل ، والنيل يطوف بها وقد أمرت أن يسرح جانب الجزيرة جانب الفسطاط فأسرج ألف مشغل

٢٣٧

غيرها أسرجوه أهل مصر من المشاعل والشمع وقد حضر بشاطىء النيل فى تلك الليلة من الناس ما بين مسلمين ونصارى فى الزواريق ما لا يحصى عددهم ولا يحضر [ق ٢١٩ أ] غير الذى فى الدور على النيل والذى على الشطوط لا يتناكرون فى كل ما يمكنهم أظهاره من المآكل والمشارب والملابس من الذهب والجوهر وغير ذلك وأظهار الملاهى والخمور والقصف واللهو وهى أحسن ليلة تكون بمصر وأشملها شرورا وكان لا يقلق فى تلك الليلة ، وكان أكثر الناس يغطسوا فى النيل ويزعمون أن من فعل فى تلك الليلة ذلك يأمن من المرض فى تلك السنة.

وقال المسبحى فى تاريخه : ولما كانت سنة سبع وستين وثلاثمائة منعوا النصارى من اظهار ما كانوا يفعلوا فى ليلة الغطاس من الاجتماع وكثرت الملاهى وإظهار المحرمات ونودى أن من فعل شيئا من ذلك شنق فلم يغطس فى تلك الليلة أحد منهم فى البحر وبطل هذا الأمر إلى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ثم تجدد أمر الغطاس على ما كان فى الأول وضربت الخيام فى عدة مواضع على شاطىء النيل ونصبت أسرة للرؤساء من القبط وحضر فهد بن إبراهيم [ق ٢١٩ ب] النصرانى كاتب برجوان وأوقدت له الشموع والمشاعل وحضر معه جماعة من القبط كلهم وغطسوا.

قال : وفى حوادث سنة خمسة عشر وأربعمائة كان الغطاس بمصر ، ونزل أمير المؤمنين الظاهر لدين الله إلى قصر جده العزيز على شاطىء النيل لينظر ليلة الغطاس ومعه الحريم ونودى ألا تختلط المسلمون مع النصارى عند نزولهم فى البحر وقت الغطاس وضربت الخيام متولى الشطين وجلس فيها أمير المؤمنين وأوقدت فى تلك الليلة من الشموع والمشاعل شىء كثير.

وكانت من أعجب الليالى بمصر وحضر سائر الناس من المسلمين والنصارى والرهبان وغيرهم وغطسوا جميعا وكان يفرق فى تلك اليوم مما جرت به العادة من القبط الأترح والنارنج والليمون المراكبى وأطناب القصب والبورى والحلوى القاهرية والفواكه الشامية وغير ذلك وعيد الختان يعمل فى سادس شهر [ق ٢٢٠ أ] بؤنة ويزعمون أن المسيح تختن فى مثل هذا اليوم فصاروا يختنون فيه أولادهم تبركا ، وعيد الأربعون وهو عندهم دخول المسيح إلى الهيكل وبارك عليهم ويعمل هذا العيد فى ثامن شهر أمشير وخميس العهد وهو يعمل قبل عيد الفسح بثلاثة أيام وسنتهم فيه أن يملؤا أناء من ماء زمرمون عليه ، ثم يغسل للتبرك به أرجل سائر النصارى. ويزعمون أن المسيح فعل هذا بتلامذته في مثل هذا اليوم كى يعلمهم التواضع ، ثم أخذ عليهم العهد أن لا يتفرقوا وأن يتواضع بعضهم لبعض وقد صاروا

٢٣٨

أعوام أهل مصر يسمونه خميس العدس لكون أن النصارى يطبخون فيه العدس المصفى وتسمية أهل الشام خميس البيض ، وكان فى الدولة الفاطمية يضرب فى خميس العدس خمسمائة دينار وتعمل ضراريب ويفرق فى أهل الدولة برسيم التبرك وكان خميس العدس من جملة المراسم العظيمة بمصر يباع فيه فى أسواق القاهرة وأعمالها من البيض المصبوغ [ق ٢٢٠ ب] عدة ألوان فيقامر بها العبيد والصبيان وينتدب لذلك من جهة المحتسب من يرد عنهم عن ذلك فى بعض الأحيان وكانت النصارى يهدون فيه إلى المسلمين أنواع السمك المنوع مع العدس المصفى والبيض المصبوغ بأنواع الألوان الفاخرة وقد قل عمل ذلك فى هذه الأيام.

وسبت النور وهو قبل عيد الفسح بيوم ويزعمون أن النور يظهز على قبر المسيح فى هذا اليوم ولهم فى كنيستهم التي فى بيت المقدس فى ليلة سبت النور حركات يعملونها فى القناديل فتقدمن من غير فاعل لذلك ويزعمون أنه أمر إلى وكان بمصر هذا اليوم من جملة المواسم ويكون ذلك فى ثالث يوم من خميس العدس وحد الحدود وهو بعد الفسح بثمانية أيام فيعمل أول حد بعد الفطر فيه يجددون الآلات والآلات من اللباس وغيره ويأخذون فى المعاملات والأمور الدنيوية وأسباب المعاش وعيد التجلى يعمل فى ثالث عشر مسرى [ق ٢٢١ أ] يزعمون أن المسيح تجلى لتلاميذه بعد ما رفع وتمنوا عليه أن يحضر لهم فحضر بمصلى بيت المقدس ، ثم صعد إلى السماء عيد الصليب يعمل فى اليوم السابع عشر من توت وهو من الأعياد المحدثة وسببه ظهور الصليب على يد هيلانة أم قسطنطين وله خبر طويل عندهم وملخصه ما سنقف عليه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

ذكر قسطنطين

وهو ابن قسطنطين الأكبر وهو أول من ثبت دين النصرانية وأمر بقطع الأوثان وهدم هياكلها وآمن بدين المسيح ، وكان فى أول أمره على دين المجوس ، وسبب رجوعه إلي دين النصرانية أنه ابتلى بجذام وظهر عليه فاغتم لذلك غما شديدا وأجمع الحداق من الأطباء فاتفقوا على أدوية دبروها له وأوجبوا أن ينفع تلك الأدوية فى صهريج مملوء من دم أطفال رضع ساعة يسيل منهم ، فتقدم بجمع جملة من أطفال الناس وأمر بذبحهم فى تلك الصهريج ،

٢٣٩

فجمعت له سائر أطفال [ق ٢٢١ ب] وبرز ليمضى فيهم من أمر الذبح فسمع صحيح النساء على أولادهن فعند ذلك عطف عليهن وأمر بدفع كل طفل إلى أمه وقال احتمال علتى أولي بى من إهلاك هذه الأطفال العظيمة ، فانصرفن النساء بأولادهن وقد سررت بذلك سرورا عظيما فلما كانت تلك الليلة ونام الملك رأى فى منامه شيخا يقول له إنك قد رحمت الأطفال ورأيت احتمال علتك أولى من ذبحهم فرحمك الله بذلك ووهبك العافية فإذا أصبحت أرسل خلف رجل يقال له شلبشتر وقد فر منك خوفا ، فإذا حضر إلى عندك أسمع منه جميع ما يأمرك به وإنتهى جميع ما ينهاك عنه فتتم لك العافية فانتبه عند ذلك مذعورا وبعث فى طلب ذلك الرجل وكان من عباد النصارى فأتى به وهو يظن أنه يريد قتله لما يعهد منه من بغضه للنصارى فعند ما رآه تلقاه وأعلمه بما رآه فى منامه فعند ذلك أمره شلبشتر وهو ذلك الرجل أن يتدين [ق ٢٢٢ أ] بدين النصرانية وجرى بينه وبين ذلك الراهب شلبشتر مباحث عظيمة ، ثم أن قسطنطين تدين بدين النصرانية وشفاه الله من الجذام الذى كان به ورحل من الأرض التى كان بها وترك ملة المجوس وبنى مدينة القسطنطينية بنيانا جليلا فعرفت به وسكنها وصارت من حينئذ تحت الملك من بعده ، ولما سكن قسطنطين فى تلك المدينة جمع أهل دين المسيح من بعد ما كانوا مشتتين فى البلاد على زمان نيرون الملك الذى قتل الحواريين وكان دين النصرانية فحزى فى زمانه فعند ذلك أظهر دين النصرانية واذل عباد الأوثان فشق ذلك علي أهل روما وخلعوا عن طاعته وقدموا عليهم ملكا غيره وجرى بينه وبينهم حروبا كثيرة وظفر بهم وقتل منهم وسبأ خلقا كثيرة فلما مضى ملكه عشرين سنة رأى قسطنطين فى منامه كان بنودا شبه الصليب قد رفعت وقائل يقول له أن [ق ٢٢٢ ب] أردت أن تظفر عن خالفك فاجعل هذه العلامات على جميع أوانيك وفرسك فلما انتبه أمر بتجز أمه هيلانة إلى بيت المقدس فى طلب آثار المسيح ، فسارت أمه إلى بيت المقدس وسألت عن قبر المسيح فدلها عليه مقارنوس فإذا عليه ثلاث خشبات علي شكل الصليب وهى التى صلب عليها المسيح وقص عليها ما عمله به اليهود ، فزعموا أنهم ألقوا الثلاث خشبات على ثلاث أموات ... (١) فقاموا الثلاثة أحياء عندما وضعت عليهم تلك الأخشاب فأتخذوا ذلك اليوم عدا وسموه عيد الصليب وكان فى السابع عشر من توت ، وذلك بعد ولادة المسيح بثلاثمائة وعشرين سنة. وجعلت هيلانة أم الملك قسطنطين لتلك الأخشاب علوفا من الذهب ، وقيل هى التى بنت كنيسة القيامة ببيت المقدسعلى مكان قبر المسيح ، ثم انصرفت إلى ابنها ومعها تلك لأخشاب الذى قيل صلب عليهم المسيح وما زار قسطنطين ملك على الروم حتى مات

__________________

(١) بياض فى الأصل.

٢٤٠