نزهة الأمم في العجائب والحكم

ابن إياس

نزهة الأمم في العجائب والحكم

المؤلف:

ابن إياس


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

للتماسيح فكانت لا تظهر فيما يلى البلدة من النيل على مقدار ثلاثة أميال علو أو سفلا ، وكان بها سجن يوسف عليه السلام.

قال القضاعى : سجن يوسف عليه السلام فى بوصير من عمل الجيزة أجمع أهل المعرفة من أهل مصر على صحة هذا المكان ، وأنه سجن يوسف [عليه السلام] وكان الوحى ينزل عليه فيه وسطح هذا السجن معروف بإجابة الدعاء فيه ، وقيل أن كافور الأخشيدى سأل أين أبا بكر الحداد عن موضع معروف بإجابة الدعاء ليدعو فيه ، فأشار عليه السلام [١٧٩ ب] بنى على أثر هذا السجن مسجدا ، وهو هناك يعرف بمسجد موسى ، وكان فى قديم الزمان إلى أيام الحاكم بأمر الله لهذا السجن وقت معلوم فى يوم من السنة يخرج إلى زيارة هذا السجن غالب أهل مصر من الرؤساء وعامة أهل مصر ويقيمون هناك نحو ثلاثة أيام وينفق فى هذه الثلاثة أيام أموال جزيلة فى المأكل والمشرب وغير ذلك ويجعلون هذا على سبيل الفرجة.

وفى ذلك يقول ظافر الحداد :

تأمل حكمة الأهرام وأعجب

وعندهما أبو الهول العجيب

كفاويتين قاما فى نحيب

بمحبوبين بينهما رقيب

وماء النيل تحتهما دموع

وصوت الريح عندهما نجيب

وظاهر سجن يوسف مثل صب

تخلف فهو محزون كئيب

ذكر منية عقبة

هذه القرية بالجيزة عرفت بعقبة بن عامر الجهنى رضى الله عنه ، قال ابن عبد الحكم كتب عقبة بن عامر إلى معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه يسأله أرضا يبنى له فيها منازل ومساكن فأمر له [ق ١٨٠ أ] معاوية بألف ذراع فى ألف ذراع فى أى أرض يختارها عقبة فما أختار عقبة غير هذه الأرض وابتنى بها دارا ، وتوفى عقبة بن عامر الجهنى في خلافة معاوية

٢٠١

وذلك فى سنة ثمان وخمسين من الهجرة ومات شهيدا فى يوم النهروان ، وأقام فى ولاية مصر سنتين وثلاثة أشهر ومات فى السنة المذكورة ودفن بالقرب من المقطم رحمة الله عليه.

ذكر حلوان

قال ابن عبد الحكم : إنما نسبت هذه القرية إلى حلوان بن مابليون بن عمرو بن أمرىء القيس بن سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان ، وكان حلوان هذا بالشام وأتا إلى مصر ونزل بهذه الأرض فسميت به.

قال : ولما وقع الطاعون بأرض مصر خرج عبد العزيز بن مروان من الفسطاط فنزل بحلوان وكان ابن خديج يرسل إلي عبد العزيز بن مروان فى كل يوم ويخبره بما يحدث فى البلد من الموت وغيره فما عن قليل حتى مات عبد العزيز بن مروان هناك ونقل إلى الفسطاط وقد تغيرت رائحته فكان حول نعشه مجامر النار فيها العود لتخفا تلك الرائحة الكريهة منه [ق ١٨٠ ب] وكان ذلك فى سنة سبعين ومائة من الهجرة. وكان عبد العزيز بن مروان قد جدد بحلوان العمائر الحسنة وغرس بها الكروم والأشجار والنخل وغير ذلك من الزروع وإنشاء هناك جامعا وعدة مساجد.

قال ابن عفير : كان لعبد العزيز بن مروان ألف جفته تنصب في كل يوم حول داره ، وكانت له مائة جفنة يطاف بها على القبائل تحمل على العجل من كبر تلك الجفن وذلك فى كل يوم مستمر دائما إلى حين مات رحمه الله تعالى عليه وعلى المسلمين.

٢٠٢

ذكر مدينة الفرما

قال الكندى : أعلم أن مدينة الفرما هى أكثر عجائب وأقدم آثار ، ويقال أن كان منها طريق سالكه إلى جزيرة قبرس فى البر فغلب عليها البحر ، وكان بها مقطع الرخام الأبلق المسما بالغرابى ، والرخام الأبيض فغلب عليها الماء.

وقال ابن قديد وجهنى بن المدبر وكان بتنيس إلى مدينة الفرما فى هدم أبواب من حجارة شرقى هذه المدينة ، وكان قد احتاج أن يعمل منها جبرا فلما قلعت [ق ١٨١ أ] منها حجرا والثانى إلى أهل الفرما فى السلاح ومنعوا فى من ذلك ، وقالوا هذه الأبواب التي قال الله تعالى فيها على لسان يعقوب عليه السلام : (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ)(١) وأدخلوا من أبواب متفرقة وكان بها النخل العجيب التى يثمر حين ينقطع البسر والرطب من سائر الدنيا ، وكان وزن كل بسرة منها فوق العشرين درهما ، وفيه ما طول منها نحو الشبر والفتر.

وقال ابن المأمون البطائحى فى حوادث سنة تسع وخمسمائة : وقد وصلت النجانون من والى الشرقية تخبر بأن بلدوين ابن ملك الفرنج وصل إلى أعمال الفرما ومن معه من الجيوش فأمر الأفضل بن أمير الجيوش ابن أحمد بن طولون إلى والى الشرقية بأن يسير هو ومن معه من العربان والرجال من أهل النواحى بأسرهم وأن يهجموا على الفرنج بالليل قبل وصول العساكر إليهم ، فاعتمد ذلك ، وأمر باخراج العربان وغيرهم من الناس ، فلما وصلوا إلى ابن ملك الفرنج وتحاربوا معه فعند ذلك تحقق ابن ملك الفرنج أن [ق ١٨١ ب] الإقامة لا تمكنه فأمر عساكره أن ينهبوا البلد ويحرقوها ويهدموا مساجدها ويسبوا أهلها فعند ذلك أذن الله سبحانه وتعالى بقضى روح بلدوين ابن ملك الفرنج وتعجيله إلى النار فكتموا أصحابه موته وشقوا بطنه وملؤه ملحا حتى لا ينتن وساروا به إلى بلاده ، وكفا الله المؤمنين القتال.

__________________

(١) سقطت من الناسخ.

٢٠٣

ذكر مدينة القلزم

قال ابن الطوير (١) : أن مدينة القلزم أثرها باق إلى اليوم يراها الراكب السائر من مصر إلى الحجاز ، وكانت في الزمن القديم ساحلا من سواحل الدولة المصرية ، وكانت ذات مساجد وجوامع محكمة البناء ، وكان بها قاضى وشهود وخطباء وتجار كثيرة ، وفي سنة سبع وثمانين وثلاثمائة أمر الحاكم بأمر الله أن يسامح أهل القلزم بما كان يؤخذ منه من المكوس على المراكب.

ويقال أن فرعون غرق هناك ، وكان إلي جانبها مدينة يقال فاران وقيل تاران.

ذكر التيه

أعلم أن التية على مقدار أربعين فرسخا فى مثلها ، والفرسخ أثنى عشر ألف ذراع ، والذراع أربعة وعشرون قيراطا [ق ١٨٢ أ] وفيه تاه بنو إسرائيل أربعين سنة ، ولم يدخلوا مدينة ولا أووا إلى بيت ، ولا بدلوا ثوبا وفيه مات موسى عليه السلام.

ويقال أطول التية نحو من ستة أيام.

واتفق أن المماليك البحرية لما خرجوا من القاهرة هاربين وفى سنة اثنتين وخمسين وستمائة ، مر بطائفة منهم بالتية فتاهوا فيه خمسة أيام ، ثم تراءى لهم فى اليوم السادس سواد على بعد ، فقصدوه فإذا مدينة عظيمة لها سور وأبواب كلها من رخام أخضر ، فدخلوا بها وطافوا بها فإذا هى قد غلب عليها الرمل حتى طم أسواقها ودورها ، ووجدوا بها أواني وملابس ، وكانوا إذا تناولوا منها شيئا تناثر من طول البلى ، ووجدوا فى صينية بعض البزازين تسعة دنانير ذهبا ، عليها صورة غزال وكتابة عبرانية ، وحفروا موضعا ، فإذا حجر على صهريج ماء فشربوا منه ماء أبرد من الثلج.

__________________

(١) له ذكر عند المقريزى.

٢٠٤

وقيل لهم أن هذه المدينة الخضراء من مدن بني إسرائيل ، ولها طوفان رمل يزيد تارة وينقص أخرى ، لا يراها إلا تائه والله أعلم.

ذكر مدينة دمياط

[ق ١٨٢ ب]

أعلم أن دمياط كورة من كور أرض مصر بينها وبين تنيس أثنا عشر فرسخا. ويقال سميت بدمياط من ولد أشمن بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام.

وقال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه : دمياط بلد قديم بنى فى زمن قليمون بن أتريب بن قبطيم بن مصرايم على اسم غلام كانت أمه ساحرة لقليمون. ولما قدم المسلمون إلى أرض مصر ، كان على دمياط رجل من أخوال المقوقس يقال له الهماموك أصحابه واستشارهم فى هذا الأمر وكان فيهم حكيما حاضرا معهم فقال أيها الملك أعلم أن جوهر العقل لا قيمة له وما استغنى به أحدا ليهديه إلى سبيل النجاة وأنت تعلم أن هؤلاء من بد وأمرهم ، لم تكسر لهم راية وقد فتحوا البلاد وزذلوا العباد وما لأحد عليهم قدرة ولسنا أشد من جيوش الشام ولا غيرهم أن القوم قد أيدوا بالنصر والظفر والرأى أن يعقد مع القوم صلحا تنال به الأمن وحقن الدماء وصيانة الحرم ، فلم يعبأ الهاموك بقوله وغضب منه وأمر بقتله / [ق ١٨٣ أ] وكان له ابن عارف عاقل ، وله دار ملاصقة لسور البلد فخرج إلى المسلمين فى الليل ودلهم على مسالك البلد ، فاستولى عليها المسلمون وتمكنوا منها فلم يشعر الهاموك إلا والمسلمون فى وسط المدينة وقد ملكوها ، فعند ما رأى شطا بن الهاموك ذلك الحق بالمسلمين ومن معه من أصحابه وطلب الأمان من المقداد بن الأسود (١) وتسلموا المسلمون دمياط واستخلف عليها المقداد ابن الأسود وسير [ق ١٨٣ ب] بخبر الفتح إلى عمرو بن العاص ، وخرج شطا بن الهاموك إلى ناحية البرلس والدميرة وأشموم طناح أهل تلك النواحى وقدم بهم عونا للمسلمين ، وكان شطا بن الهاموك لما فتح المقداد بن الأسود دمياط ونزل إليه أسلم على يد المقداد بن الأسود وحسن إسلامه.

__________________

(١) إضافة من تهذيب التهذيب.

٢٠٥

فلما أتى بأهل تلك النواحى عونا للمسلمين فساروا حتى فتحوا مدينة تنيس فعند ذلك برز شطا بن الهاموك على أهل تنيس وقاتلهم قتالا شديدا حتى قتل رحمة الله عليه فى تلك المعركة ودفن فى مكانه المعروف به الآن خارج عن دمياط ، وكان قتله فى ليلة الجمعة في النصف من شعبان فلذلك صارت هذه الليلة له فيها كل سنة موسما يجتمع إليه الناس من سائر النواحى يقصدون ديارة شطاوهم علي ذلك إلى يومنا هذا. وما زالت دمياط بيد المسلمين إلى أن نزل عليها الروم في سنة تسعين من الهجرة وأسروا خالد بن كيسان (١) وكان على البحر هناك ولما كانت خلافة هشام بن عبد الملك نزلوا الروم أيضا على دمياط في ثلاثمائة وستين مركبا ، فقتلوا وسبوا ، وذلك فى سنة إحدى وعشرين ومائة.

[ق ١٨٤ أ] ثم لما كانت خلافة أمير المؤمنين المتوكل على الله ، وأمير مصر يومئذ عنبسة بن إسحاق ، نزل الروم دمياط يوم عرفة من سنة ثمان وثلاثين ومائتين ، فملكوها وما فيها ، وقتلوا بها جمعا كثيرا من المسلمين ، وسبوا النساء والأطفال وأهل الذمة ، فنفر إليهم عنبسة بن إسحاق يوم النحر فى جيشه ، وونفر كثير من الناس إليهم فلم يدركوهم ، ومضى الروم الى تنيس فأقاموا بأشتومها ، فلم يتبعهم عنبسة.

فأمر المتوكل ببناء حصن دمياط ، فابتدىء فى بنائه يوم الأثنين لثلاث خلون من شهر رمضان سنة تسع وثلاثين ، وأنشأ من حينئذ الأسطول بمصر.

فلما كان فى سنة سبع طرق الروم دمياط فى نحو مائتى مركب ، فأقاموا يعيشون فى السواحل شهرا ، وهم يقتلون ويأسرون ، وكانت للمسلمين معهم معارك ثم لما كانت الفتن بعد موت كافور الأخشيدى ، طرق الروم دمياط لعشر خلون من رجب سنة سبع وخمسين وثلاثمائة فى بضع وعشرين مركبا ، فقتلوا [ق ١٨٤ ب] وأسروا مائة وخمسين من المسلمين.

وفى سنة ثمان وأربعمائة ، ظهر بدمياط سمكة عظيمة طولها مائتان وستون ذراعا ، وعرضها مائة ذراع ، وأقام أهل تلك النواحى مدة طويلة يأكلون من لحمها وفى أيام الخليفة الفائز بنصر الله عيسى والوزير حينئذ الصالح طلائع بن رزبك ، نزل على دمياط نحو ستين مركبا فى جمادى الآخرة سنة خمسين وخمسمائة بعث بها لوجيز بن رجا وصاحب صقلية ، فعاثوا وقتلوا ونزلوا تنيس ورشيد والإسكندرية فأكثروا فيها الفساد.

[ق ١٨٥ أ] ثم كانت خلافة العاضد لدين الله فى وزارة شاور بن مجير السعدى الوزارة

__________________

(١) هو خالد بن كيسان حجازى روى ابن عنر وابن الزبير ، وعنه أيوب بن ثابت المكي ، ثقة.

٢٠٦

الثانية ـ عند ما حضر ملك الفرنج مرى إلى القاهرة وحصرها ، وقرر على أهلها المال ، واحترقت مدينة الفسطاط ، ونزل على تنيس وأشموم ومنية غمر ، وصاحب أسطول الفرنج فى عشرين شونة ، فقتل وأسر وسبى.

وفي وزارة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب العاضد ، وصل الفرنج إلى دمياط فى شهر ربيع الأول سنة خمس وستين وخمسمائة ، وهم فيما يزيد على ألف ومائتى مركب. فخرجت العساكر من القاهرة ، وقد بلغت النفقة عليهم زيادة على خمسمائة ألف دينار. قأقامت الحرب مدة خمسة وخمسين يوما ، وكانت صعبة شديدة. واتهم فى هذه النوبة عدة من أعيان المصريين بممالأة الفرنج ومكاتبتهم ، وقبض عليهم الملك الناصر وقتلهم. فسير صلاح الدين إلي نور الدين محمود بن زنكى صاحب الشام يستنجده ، ويعلمه بأنه لا يمكنه الخروج [ق ١٨٥ ب] من القاهرة إلى لقاء الفرنج خوفا من قيام المصريين عليه.

فجهزوا إليه العساكر شيئا بعد شىء ، وخرج نور الدين من دمشق بنفسه إلى بلاد الفرنج التى بالساحل وأغار عليها واستباحها.

وفى سنة سبع وسبعين وخمسمائة ، رتبت المقاتلة على البرجين وشدت مراكب إلى السلسلة ليقتل عليها ويدافع عن الدخول من بين البرجين ، ورم شعث سور المدينة وسدت ثلمة ، وأتقنت التى بين البرجين فبلغت النفقة على ذلك ألف ألف دينار. واعتبر السور ، فكان قياسه أربعة آلاف وستمائة وثلاثين ذراعا.

وفي سنة خمس عشرة وستمائة ، كانت واقعة دمياط العظمى. وكان سبب هذه الواقعة أن الفرنج فى سنة أربع عشرة وستمائة تتابعت أمدادهم من رومية الكبرى مقر البابا ومن غيرها من بلاد الفرنج ، وساروا إلي مدينة عكا فاجتمع بها عدة من ملوك الفرنج ، وتعاقدوا على قصد القدس وأخذه من أيدى المسلمين ، فصاروا بعكا فى جمع عظيم.

وبلغ ذلك الملك أبا بكر بن أيوب [ق ١٨٦ أ] فخرج من مصر فى العساكر إلى الرملة فبرز الفرنج من عكا فى جموع عظيمة ، فسار العادل إلى بيسان ، فقصده الفرنج فخافهم لكثرتهم وقلة عسكره ، فأخذ على عقبة فيق يريد دمشق.

وكان أهل بيسان وما حولها قد اطمأنوا لنزول السلطان هناك ، فأقاموا في أماكنهم وما هو إلا أن سار السلطان وإذا بالفرنج قد وضعوا السيف فى الناس ، ونبهوا البلاد ، فحازوا من أموال المسلمين ما لا يحصى كثرة ، وأخذوا بيسان وبايناس وسائر القرى التى هناك ، وأقاموا

٢٠٧

ثلاثة أيام ، ثم عادوا إلى مرج عكا بالغنائم والسبى ، وهلك من المسلمين خلق كثير فاستراح الفرنج بالمرج أياما ، ثم عادوا ثانيا ونهبوا صيدا والشقيف ، وعادوا إلى مرح عكا فأقاموا به.

وكان ذلك كله فيما بين النصف من شهر رمضان وعيد الفطر ، والملك العادل مقيم بمرج الصفر ، وسير ابنه المعظم عيسى بعسكر إلى نابلس لمنع الفرنج من طروقها والوصول إلى بيت المقدس.

فنازل الفرنج قلعة الطور سبعة عشر يوما [ق ١٨٦ ب] ثم عادوا إلى عكا وعزموا على قصد الديار المصرية فركبوا بجموعهم البحر ، وساروا إلي دمياط فى صفر فنزلوا عليها يوم الثلاثاء رابع ربيع الأول سنة خمس عشرة وستمائة الموافق لثامن حزيران ـ وهم نحو السبعين ألف فارس وأربعمائة ألف راجل ، فخيموا تجاه دمياط فى البر الغربى ، وحفروا على عسكرهم خندقا ، وأقاموا عليه سورا وشرعوا فى قتال برج دمياط ، فإنه كان برجا منيعا فيه سلاسل من حديد غلاظ تمد على النيل لتمنع المراكب الواصلة فى البحر الملح من الدخول إلي ديار مصر فى النيل.

وكان هذا البرج مشحونا بالمقاتلة ، فتحيل الفرنج عليه ، وعملوا برجا من الصوارى على بسطة كبيرة ، وأقلعوا بها حتى أسندوها إليه وقاتلوا من به حتى أخدوه فبلغ نزول الفرنج على دمياط الملك الكامل ـ وكان يخلف أباه الملك العادل [ق ١٨٧ أ] فعند ذلك توجه الملك الكامل لمحاربة الفرنج ، وكان معه جيش عظيم ، وكان فيهم شخص يسمى شمايل وهو من الجندارية وكان يمشى فى ركاب الملك الكامل إلى أن دخل دمياط ، فكان يسبح فى الماء ويأتى للسلطان بأخبار الفرنج ، فحظى بذلك عند الملك الكامل ، وقرب منه إلى أن عمله وإلى القاهرة ، وإليه تنسب خزانة شمايل الذى كانت بالقاهرة ، ولم يزل الحال على ذلك مع الفرنج إلى أن دخلت سنة ست عشر وستمائة ، فجهز الملك المنصور صاحب حماه أبنه المظفر محمود إلي مصر نجدة للملك الكامل على قتال الفرنج فى جيش كثيف ، فوصل إلى العسكر وتلقاه الملك الكامل وأنزله ميمنته العسكر ، وكان بثغر دمياط من العساكر نحو العشرين ألف مقاتل غير أهل النواحى فعند ذلك غلت عندهم أسعار حتى بلغت بيضة الدجاجة دينارا وامتلأت الطرقات بالموتى من الجوع وعدمت الأقوات وصارت [ق ١٨٧ ب] السكر كعزة الياقوت. وكان مدة المحاصرة مع الفرنج ست عشر شهرا وأثنين وعشرون يوما ، فعند ذلك استولى الفرنج على دمياط وملوكها

٢٠٨

وأسرفوا فى القتل والنهب والسبى ، فرحل السلطان بعد أخذ دمياط (١) بيومين ونزل قباله طلخا على رأس بحر أشموم وبحر دمياط وهى التى يقال لها المنصور.

ولما ملكوا الفرنج دمياط وجعلوا الجامع كنيسة وحصنوا سورا المدينة ، فسير السلطان الكتب إلى الأفاق يستحث الناس على الحضور لدفع الفرنج عن ملك مصر. وبنى بالمنصورة الأسواق والفنادق والحمامات وغير ذلك ، ثم حضرت العربان من الصعيد وأعملها وأسوان وسائر النواحى ، ونودى بالنفير العام ، فاجتمع عالم لا يعلم عدده إلا الله.

وسار السلطان إلي الفرنج وقد تكامل معه من العساكر نحو أربعين ألف فارس فتحاربوا مع الفرنج ، وجرى بينهم من القتال ما يطول شرحه ، فعند ذلك اينوا الفرنج بالهلاك ، وأرسلوا يطلبوا من السلطان الأمان على أن يتركوا [ق ١٨٨ أ] دمياط للمسلمين ويرحلوا عنها ، فعند ذلك اتفق الحال على أن يعطى كل من الفريقين المسلمون ، والفرنج رهائن منهم ، فسير ملك الفرنج عشرين ملكا الصالح نجم الدين أيوب مع جماعة من الأمراء إلى ملك الفرنج رهنا ، كما اتفقوا فعند ذلك سلموا الفرنج دمياط إلى المسلمين وكان يوم تسليمها يوما عظيما ولما تسلموا المسلمين دمياط قدمت نجدة من البحر إلي الفرنج ، فكان من جميل صنع الله تأخرها إلى حين تسلموا المسلمين دمياط ، فإنها لو قدمت قبل ذلك تقوى بها الفرنج ، وكان مما وقع عليه الصلح أن كلا من المسلمين والفرنج يطلق من عنده من الأسرى ، وحلف السلطان والفرنج على ذلك ، ورحلوا الفرنج من علي دمياط وبعثوا ولد السلطان ومن معه من الأمراء ، وأرسل السلطان من عنده من ملوك الفرنج ، وأطلقوا الفرنج الأسرى الذى كانوا عندهم من أيام السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ، ودخل الملك الكامل إلى دمياط وكان يوم دخوله إليها من الأيام المعدودة وعمت [ق ١٨٨ ب] البشاير فى سائر الآفاق بأخذ مدينة دمياط من يد الفرنج بعد ما كانوا قد أشرفوا علي أخذ ديار مصر من أيدى المسلمين ، وكانت مدة نزول الفرنج علي دمياط إلى أن رحلوا عنها إلى بلادهم ثلاثة سنين وأربعة أشهر وتسعة عشر يوما ، منها مدة استيلائهم على مدينة دمياط سنة وعشرة أشهر وأربعة وعشرون يوما ، ثم طرقت الفرنج دمياط أيضا فى أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل ابن الملك العادل وذلك فى دولة الأكراد فوصل إلي دمياط ملك من ملوك الفرنج يقال له ريدافرنسيس فأتا فى مراكب كثيرة مشحونة بالعساكر العظيمة ، قلما وصلوا إلى ثغر دمياط أرسل ريدافرنسيس كتابا يهدده فيه وينذر بكثرت عساكره وأخذه لبلاد الأندلس ، وما جرى على أهلها منه ، وحذر فيه من ذلك غاية الحذر.

__________________

(١) وردت على هامش المخطوطة.

٢٠٩

فلما سمعوا أهل دمياط بذلك هربوا تحت الليل هم والعساكر المصرية ، فلما أصبحوا الفرنج يوم الأحد سابع شهر صفر قصدوا دمياط فإذا أبواب المدينة مفتوحة ولا فيها أحد ، فظنوا الفرنج [ق ١٨٩ أ] أن ذلك مكيدة من المسلمسن ، وتمهلوا حتى ظهر لهم خلوها ، فدخلوا إليها غير مانع ولا مدافع ، واستولوا علي ما فيها من الأسلحة وغيرها ، فارتجت مصر بأهلها وعظمة المصيبة ، لأن السلطان كان على غير استواء من مرض نزل به. فعند ذلك حنق السلطان على أهل دمياط بسبب خروجهم من دمياط بغير إذن وأمر بشنق من كان بها من الأمراء الكنانية ، فكان عدة من شنق منهم ما يتبيق عن خمسين أميرا فى ساعة واحدة ، وكان فيهم أمير له ولد جميل ، فسأل أن يشنق هو قبل أبيه فأمر السلطان أن يشنق أبنه قبله فشنق الأبن قبل الأب. فلما رأوا ذلك بقية العسكر نفرت قلوبهم عن السلطان ، وهموا بالقيام عليه فأشار بعض الأمراء بعدم ذلك. وقال السلطان علي خطه فإن مات فقد كفيتم أمره وإن عاش فهو بين أيديكم ، وأمر السلطان بتحصين سور المنصورة وسار إليها فى محفة ، وأمر بجمع العساكر وأهل النواحي من العربان وغيرهم ، فاجتمع من ذلك خلق لا تحصى عددهم ، وأخذوا [ق ١٨٩ ب] الفرنج فى تحصين أسوار مدينة دمياط بالمقاتلين والآلات ودام بين الفريقين الحرب والقتال ، وصاروا دول ياسروا من دول ودول ياسروا من دول هذا ، ومرض السلطان يتزايد وقوته تتناقص حتى ايس منه الأطباء. فلما كانت ليلة الأحد الرابع عشر من شعبان مات الملك الصالح بالمنصورة فلم يظهروا موته وحمل فى الليل إلى القاهرة ، ودفن ولم يعلم أحدا بموته وأقام بأمر العساكر الأمراء والمماليك البحرية وكتم موت السلطان الملك الصالح وهو توارن شاه وكان على حصين كيفا وكان في ذلك المدة يخرج مراسيم السلطان بالعلامة فلا يشك من رأها أنها خط السلطان الملك الصالح ، وكان المدبر للمملكة يومئذ الأمير حسام الدين لاجين ، ولم يعلم أحد من القاهرة بموت السلطان إلى حين قدم ولده توران شاه من حصن كيفا ، وولى الملك بعد أبيه الملك الصالح ولقب بالملك المعظم توران شاه فعند ذلك أشيع موت الملك الصالح رنادى المنادى بالدعاء للسلطان الملك المعظم توران شاه. وصارت [ق ١٩٠ أ] له الخطبة ونقش باسمه على السكة ، فلما علموا الفرنج بموت السلطان طمعوا فى أخذ مصر ، ووصلوا إلي المنصورة وجرى بينهم وبين المسلمين وقعة عظيمة يطول شرحها ، واستشهد بها من الأمراء والمماليك والناس خلق كثير وأسر من الفرنج سبعة وستين أسيرا ، ومن ملوكهم ثلاثة وقتل من الفرنج خلق كثير. وكاد أن يمحوا الفرنج كلمة الإسلام ولم يبق من دخولهم إلى ديار مصر إلا شىء يسير فإذن الله سبحانه وتعالى بالنصر على يد الأمير بيبرس البندقدارى ومن معه من المماليك البحرية والجمدارية الذى استجدهم الملك الصالح فحملوا على الفرنج حملة واحدة بالسيوف والدبابيس

٢١٠

فانهزموا الفرنج بإذن الله وبلغت عدة من قتل من فرسان الفرنج فى هذه الواقعة ألفين وخمسمائة فارس وانهزموا الباقى ، ووردت البشائر بذلك إلى المصرية ودقت الكوسات وزينت القاهرة وذلك فى سنة ثمان وأربعين وستمائة ، وقد أحاط المسلمون بالفرنج وقتلوا منهم وأسروا خلقا كثيرا حتى قيل أن [ق ١٩٠ ب] عدد من قتل من الفرنج على فارسكور ما يزيد على عشرة آلاف ، ونهبوا المسلمين من الفرنج من المال والقماش والخيول والسلاح شىء كثير لا يحصى وأن حاش ملك الفرنج وأكابر الفرنج إلى تل هناك ، وأرسلوا يسألوا فى الأمان وسبب هذه النضرة لما أنكسروا الفرنج من المنصورة كانوا دبروا المسلمين هذه الجبلة وهو أنهم عمدوا إلي مراكب وحملوها على جمال وألقوها إلى بحر المحلة وأشحنوها بالمقاتلين ، وخرج معهم السواد الأعظم من الأعوام وغيرهم ، فلما انسكروا الفرنج من على المنصورة لاقاهم هذا الكمين بالنشاب والمقاليع والحجارة حتى هزموهم وأسروهم ونهبوهم فعند ذلك طلبوا الأمان فنزل ملكهم المسمى ريدا ـ فرنسيس إلى المسلمين فقيدوه واعتقل فى الدار التى كان ينزل فيها القاضى فخر الدين ابن لقمان كاتب الإنشاء ووكل به الطواسى صبيح العظمى واعتقل معه أخوه وأقاربه ورتب له كل يوم ما تكيفيه وأمر الملك المعظم توران شاه [ق ١٩١ أ] بقتل جميع الأسراء الفرنج ورميهم فى البحر فقتل منهم خلق كثير ، ثم أن السلطان الملك المعظم رحل من المنصورة ، ونزل بالدرب السلطانى من على فارسكور وعمل له برجا من الخشب على البحر ، وسير بالبشاير إلي القاهرة وأعمالها وإلى الشام وإلي حلب سائر النواحى يعلمهم بالنصر على الفرنج ، وما كان من أمرهم وما كان من نصرة المسلمين عليهم ، وما من الله به من فتح دمياط وطرد العدو عنها ، وذلك في سنة ثمتن وأربعين وستمائة ، وكانت هذه البشاير على يد الأمير جمال الدين يوسف بن يغمور فدخل إلي القاهرة وهو لابس ليس ملك الفرنج وهو اشكرلاط أحمر بفرو سنجاب ، وكان يوم دخوله إلى القاهرة يوما شهودا وأما ما كلن من أمر السلطان الملك المعظم توران شاه فإنه لما كسر الفرنج ظن أن الوقت قد صفا له فأخذوا فى أسباب تقريب من قدم معه من بلاد الشمال واعطالهم الوظايف السنة ، وأمر روءوس النواب أن تكون عصيهم ملبسة بالذهب [ق ١٩١ ب] إذا وقفوا قدامه فى الموكب ، وكان إذا سكر رص الشموع وضرب روءوسها بالسيف ويقول هكذا أفعل بالمماليك البحرية ، وكان فى طبعه الرهج والخفة فعند ذلك نفرت عنه قلوب الرعية والأمراء ومماليك أبيه لكونه قرب جماعته وأبعد حاشية أبيه ، وكان قد أرسل إلى شجرة الدر زوجة أبيه يهددها ويستوعدها بكل سوء ، فأرسلت شجرة الدر إلى الأمراء والمماليك فى الدس. وقالت لهم أقتلوه وعلى رضاكم.

٢١١

فلما كان يوم الأثنين تاسع عشرين المحرم من السنة المذكورة جلس الملك المعظم توران شاة على السماط ، فتقدم إليه أحد المماليك البحرية وضربه بسيف قطع أصابعه ففر إلى البرج الخشب الذى تقدم ذكره فصعدوا إلى أعلاه وأطلقوا فيه النار ، فألقى توران شاه نفسه فى البحر وهو يقول ما أريد ملككم دعونى أرجع إلى حصن كيفا ، وصار يسبح فى البحر والنشاب يأخذه من كل ناحية وهو يقول : يا مسلمين ما فيكم من يغيثنى [ق ١٩٢ أ] وسائر العساكر واقفه فلم يجبه أحد ، وأدركوه فى البحر وقتلوه فمات حريقا غريقا قتيلا وذلك فى يوم الأثنين المذكورة وترك ثلاثة أيام على شاطىء البحر لم يدفن ، والسماط ممدود ، فلما وقع ذلك اتفق أهل الدولة من الأمراء والمماليك على أن يولوا شجرة الدر والدة حليل زوجة الملك الصالح ، وأن يكون مقدم العساكر الأمير عز الدين أيبك التركمانى الصالحى وحلف كل على ذلك وسيروا إليها عز الدين الرومى إلى قلعة الجبل وأعملها بما أتفق من الحال ، وصارت ملكة على مصر والقاهرة وكانت تكتب علامتها على المراسيم والدة خليل ، وخطب لها على المنابر فى سائر النواحى وأقيمت دون السنة وكان سبب خلعها عن الملك أن الخليفة أرسل يقول لعسكر مصر أعلمونا إن كان ما بقى عندكم أحدا من الرجال يصلح للملك نرسل لكم من يصلح وأنكر عليهم لكونهم ، ولو امرأة ، فعند ذلك ولوا عز الدين أيبك التركمانى الصالحى ، وكان لا يتصرف إلا بأمرها حتى غدرته وقتلته [ق ١٩٢ ب] فى الحمام ، ثم بعد ذلك أمر بقتلها ولده على ، وأقامت ثلاثة أيام مرمية فى خندق قلعة الجبل ، والناس تنظر إليها ودفنت بعد ذلك والمجازاة من جنس العمل ، وقد قال بعضهم فى هذا المعنى ارتحالا.

جرع كاسا كان يسقى بها

والمرء مجرى بأعماله

وأما ما كان من أمر ريدا فرنسيس ملك الفرنج فإنه اشترى نفسه من المسلمين بمال جزيل وزفرجوا عنه وعن أقاربه ، ورحل إلى بلاده وحلفوه أنه لا يغدروا لا يعتدى على بلاد المسلمين ثم بعدد ذلك.

لما كانت دولة الملك المنصور على بن أبيك التركمانى حشد ريدا فرنسيس عساكر عظيمة وجاء إلى ساحل دمياط فكتب إليه الوزير جمال الدين ابن مطروح :

قل للفرنسيس إذا جئته

مقال نصح من مقول فصيح

أجرك الله على ما جرى

من قتل عباد لدين المسيح

اتيت مصرا تبتغى ما جرى

تحسب أن الزمر يا طيل ريحة

٢١٢

فساقك الحين إلى عسكر

ضاق به عن ناظرك الفسيح

وكل أصحابك أودعتهم

بسوء تدبيرك بطن الضريح

[ق ١٩٣ أ]

خمسون ألفا لا يرى منهم

إلا قتيلا أو أسيرا أو جريح

وفقك الله لأمثالها

لعل عيسى منكم يستريح

إن كنت عولت على عودة

لأخذ ثارا ولنقد صحيح

دار ابن لقمان على حالها

والقيد باق والطواشى صبيح

وقال آخر :

يا فرنسيس هذه أخت مصر

فتأهب لما إليه تصير

لك فيها دار ابن لقمان قبر

وطواشيك منكر ونكير

وقد دخل فى قلب فرنسيس من ضرب هذا الطواشى صبيح ما لا ينسا حصرته ، فعند ذلك رد إلى بلاده ، وقد أشار بعض أرباب الدولة المصرية بخرب مدينة دمياط خوفا من مسير الفرنج إليها مرة أخرى ، فسيروا إليها الحجارين والفعلة ، فوقع الهدم فى أسوارها يوم الأثنين ثامن عشر شهر شعبان سنة ثمان وأربعين وستمائة حتى خربت كلها ، ومحوا آثارها ولم يبق منها سوى الجامع وصار مكان البيوت أخصاص على شاطىء النيل ، وصارت تسكن فيها الصيادين وسموها المنشية ، ثم حين تجدد [بعد] بناء سورها أمير المؤمنين المتوكل علي الله ثم لما كانت [ق ١٩٣ ب] دولة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى الصالحى بعد قتل الملك المظفر قظز فأمر بتجديد عمارة مدينة دمياط. وأرسل إليها عدة من الحجارين والبنائين وذلك فى سنة تسع وأربعين وستمائة ، وأمر بردم فم بحر دمياط ، فأخذوا من القرابيص بتاع الهد القديم ، وألقوها فى البحر الذى يصب من شمال دمياط فى البحر المالح حتى ضاق ،

٢١٣

وامتنع من دخول المراكب إليه وهو إلى اليوم على ذلك لا يقدر المراكب الكبار أن تدخل فيه ، وإنما ينقل ما فيها من البضائع في مراكب صغار ، وتصير المراكب واقعة في البحر المالح عند فم بحر النيل ، قريبا ملتقى البحرين. وكان فى قديم الزمان على فم بحر النيل من ثغر دمياط سلسلة من حديد من البر إلى البر ، وذلك فى زمان القبط الذى كانوا على مصر فى زمان المقوقس ، وكان على دمياط ملك يقال له الهاموك وقد تقدم ذكره فى أول فتح دمياط ، وقد صارت دمياط تتزايد بالعمارة من دولة الملك الظاهر بيبرس إلى يومنا [ق ١٩٤ أ] هذا ، وقد صار فيها الأسواق والحمامات والجوامع والمدارس ودورها تشرف على بحر النيل ، ومن ورائها البساتين وقد صارت من أحسن بلاد الله منظرا. وقد قال فيها الشيخ شهاب الدين المنصورى الشهير بالهايم شعر :

لعمرك ما دمياط إلا جندنة

تهيم الورى منها بأحسن منظر

وذات جمال أن تبسم ثغرها

تبسم من مغناه عن عقد جوهر

لها ناظر منه تصول بأبيض

وتطعن من فتح القوام باسمر

وقد قال من طاف بلد الشمال إلى سمرقند ما رأى أحسن من دمياط ولا أحسن من بساتينها ولا من حسن منظرها. وقد قال الشيخ شهاب الدين المقريزى : قد كنت أقول أن دمياط ليس بها هذا الوصف العظيم إلى أن شاهدتها فإذا هى جنة على وجه الأرض ، ليس فى ملك مصر أعظم رؤيا منها وفيها قلت عند رؤيتها بشعر.

[ق ١٩٤ ب]

سقى عهد دمياط وحياة من عهد

فقد زادني ذكره وجداه على وجد

ولا زالت الأنواء سقى سحابها

ديارا حكمت من حسنها جنة الخلد

فيأحسن هاتيك الديار وطيبها

فكم قد حوت حسنا نجل عن الحد

ولا سيما تلك النواعير أنها

تجدد حزن الواله المدنف الفرد

أطارحها شنجوى وصارت كأنما

تطارح شكواها بمثل الذى ابدى

ونوفرها الريان يحكى ميتما

تبدل من وصل الأحبة بالصد

٢١٤

فقام على رجليه فى الدمع غارقا

يراعى نجوم الليل من وحشة الفقد

وظل على الأقدام تحسب أنه

لطول انتظار من حبيب على وعد

وفي مرح البحرين جم عجائب

تلوح وتبدوا من قريب ومن بعد

كان التقاء النيل بالبحر إذ غدا

مليكان سارا فى الحجر أقل من جند

[ق ١٩٥ أ]

فكلاكما باتا وما برحا كذا

مد الدهر فى حرب عظيم وفى جهد

وفي البرزخ الماءنوس كم لى خلوة

وعند شطا عن أيمن العلم الفرد

وكم قد نعمنا بالبساتين نزهة

يعيش هنى فى أمان وفى سعد

هناك ترى ما يطرد الهم والغناء

من الروض والأنهار والغصن المد

فيارب هييء لى بفضلك عودة

ومن بها فى غير بلوى ولا جهد

وبدمياط مسجد الفتح الذى أسسه المسلمون عند فتح مدينة دمياط ، أول ما فتح الله أرض مصر على يد عمرو بن العاص وعلى بابه مكتوب بالقلم الكوفى أنه عمر بعد سنة تسعين من الهجرة ، وفيه عدة عواميد رخام كثيرة ، والآن يعرف بمزار سيدى فتح الأسمر رحمة الله عليه وذلك لنزوله فيه ، فمشى على لسان الأعوام بمسجد سيدى فتح ، وهو فاتح بن عثمان الأسمر التكرورى ، قدم من مراكش إلى دمياط على سبيل التجريد وكان يسقى بدمياط الماء فى الأسواق احتسابا من غير أن يتناول من أحد شيئا ، وكان يلازم الصلاة مع الجماعة ، وأقام بحيرة تنيس وهى خراب نحو سبع سنين ثم عاد إلي دمياط فكان لا يرى وقت [ق ١٩٥ ب] الصلاة ، وإذا سلم الإمام عاد إلى انعكافه فلا يخالط الناس فيما هم فيه من أمر الدنيا ، فلما نزل بمسجد الفتح وكان قد خرب منذ سنين وهو مقفول فرممه وبناه علي سبيل التجريد ، فتح الله بعمارته على يد سيدى فتح ، وكان يقول : لو علمت بدمياط مكانا أفضل من هذا المسجد لأقمت به ، ولو علمت بلدا يكون الفقير فيه أجمل من دمياط لرحلت إليه وأقمت به. وكان إذا ورد عليه من الفقراء ولا يجد ما يطعمه باع ثوبه ولا يقبل من الناس شيئا ، وكان سلوكه على طريقة

٢١٥

السلف من التمسك بالكتاب والسنة وترك الدعاوى ، وله كرامات خارقة وكان يبذل جهده فى كتم لحاله والله تعالى يظهر خبره وبركته من غير قصد منه لذلك ، وكان لا يعرف صومه من فطره فلا يرى أكلا قط.

ومن كلامه : الفقير بحال البكر إذا سأل زالت بكارثة. ولم يصحب قط أميرا ولا وزيرا ، وكان دعائه «اللهم بعدنا عن الدنيا وعن أهلها» وكان قد أشار عليه بعض العلماء بأن يتزوج ، فتزوج قرب موته ورزق ولدين ومات آخر [ق ١٩٦ أ] ليلة تسفر عن ثامن شهر ربيع الاخر سنة خمس وتسعين وستمائة ، ولم يملك درهما ولا دينارا ، بل وجد عليه ألف درهم دينا فأوفى عنه ، ودفن بجوار مسجد الفتح وقبره يزار إلى يومنا هذا ، أعاد الله علينا من بركاته ونفعنا به فى الدنيا والآخرة.

ذكر شطا

أعلم أن شطا من أعمال دمياط ، وهي بين تنيس ودمياط وإليها تنسب الثياب لشطارية ويقال أنها عرفت بشا ابن الهاموك ، وكان أبوه خال المقوقس ، وكان علي دمياط ، فلما فتح عمرو بن العاص مدينة دمياط فخرج إليه شطا وأسلم علي يد عمرو وحسن إسلامه ، وكان قبل الإسلام فيه الخير ويميل إلي ما يسمعه من سيرة أهل الإسلام ، ومات شهيدا في ليلة النصف من شعبان سنة إحدي وعشرين من الهجرة ، وكانت ليلة الجمعة ودفن خارج دمياط وهو مكانه الآن. وصاروا الناس يجتمعون هناك في ليلة النصف من شعبان في كل عام إلي يومنا هذا.

٢١٦

ذكر البرزخ

وهو مسجد بجزيرة قبالة [ق ١٩٦ ب] دمياط والناس تسميه البرزخ ، وبه من العجائب منارة كبيرة مبنية بالطوب إذا هزها أحدا اهتزت وإذا صعد أحد أعلاها وحركها تحركت بحيث يرى ظلها يتحرك لتحريكها ، ويوجد حول هذا المسجد رمم وعظام يقال إنها بعض من استشهد هناك فى وقعة الفرنج ولا يعرف مستند الناس فى تسمية هذا المكان بالبرزخ وهو مكان مبارك يزار والله أعلم.

ذكر دبيق

وهى قرية من قرى دمياط ينسب إليها الثياب الدبيقى وكانت العمائم الشرب المذهب يعمل بها ، فيكون طول كل عمامة منها مائة ذراع ، وفيها رقمات منسوجة بالذهب تبلغ العمامة منها ما ينيف عن مائة دينار ، وكانت الخلفاء يتغالون فيها إلي أيام العزيز ابن المعز وذلك فى سنة خمس وستين وثلاثمائة.

ذكر النحريرية

هذه القرية من أعمال الغربية أسسها الأمير شمس الدين سنقر السعدى نقيب الجيوش بالمنصورة فى أيام [ق ١٩٧ أ] الملك الناصر محمد بن قلاوون وبالغ فى عمارتها ، فبلغ الملك الناصر ذلك فأخذها منه ، وصارت بلدا كبيرة عامرة من جملة بلاد السلطان وصار خراجها فى كل سنة خمسة عشر ألف دينار ، ومات سنقر السعدى هدا فى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة ، ودفن فى مدرسته السعدية بالقرب من حدرة البقر.

٢١٧

ذكر الطريق

فيما بين مدينة مصر ودمشق

أعلم أن هذا الدرب الذى تسلكه العساكر والتجار وغيرهم من القاهرة إلى مدينة غزة ، ليس هو الدرب الذى كان يسلك فى قديم الزمان من مصر إلي الشام ، وإنما ظهر هذا الدرب أو لا قبل إستيلاء الفرنج على سواحل البلاد الشامية غير هذا الدرب.

قال ابن خرداذبة فى كتاب المسالك والممالك : إنما كان الدرب المسلوك من مصر إلى دمشق على غير ما هو الآن ، فكان المسافر يسلك من بلبيس إلى [ق ١٩٧ ب] الفرما فى البلاد الذى تعرف اليوم ببلاد السباخ من أرض الحوف ، ويسلك من الفرما وهى أقرب من قطيا إلى أم العرب ، وهى بلد خراب على شاطىء بحر المالح فيما قطيا والورادة.

ويقال أن بعض الناس إلى يومنا هذا يحفرون فى كيانها فيجدون دراهم من الفضة الخالصة. فلما خرج الفرنج من بحر القسطنطينية فى سنة تسعين وأربعمائة لأخذ البلاد من أيدى المسلمين ، وصار الدرب مخوف واستولوا على بيت المقدس إلى أن كانت دولة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب واستخلص بيت المقدس من أيدى الفرنج وذلك فى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ، وافتتح منهم عدة بلاد بالساحل فصار من ذلك الوقت يسلك هذا الدرب الآن من حينئذ إلى أن كانت دولة الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل ابن الملك العادل فأنشأ بأرض السالح على طرف الرمل بلدة الذى عرفت به وهى الصالحية وذلك فى سنة أربع وأربعين [ق ١٩٨ أ] وستمائة ، وصار ينزل فيها ويقيم بها ، فلما كانت دولة الظاهر بيبرس البندقدارى رتب البريد في سائر الطرقات حتى كان الخبر يصل من قلعة الجبل إلى دمشق فى أربعة أيام ويعود فى مثلها فصارت أخبار بلاد الشمال ترد إليه فى كل جمعة مرتين ، وانفق على ذلك مالا عظيما حتى تم ترتيبه وكان ذلك فى سنة تسع وخمسين وستمائة وما زال أمر البريد مستمرا فيما بين القاهرة ودمشق وهو كان بكل مركز من المراكز عدة من الخيول المعدة للركوب تعرف بخيل البريد وعندها رجال يعرفون بالسواقين ولا يقدر أحد يركب من خيل البريد إلا بمرسوم سلطانى ، وكانت طريق الشام عامرة يوجد بها عند كل بريد ما يحتاج إليه المسافر من زاد وعلف وغيره.

٢١٨

وكانت الأمراء تسافر من القاهرة إلى الشام بمفردها راكبة أو ماشية لا تحمل زادا ولا ماء إلى أن أخذ تيمور لنك دمشق وسبىء أهلها وحرقها فى سنة ثلاث وثمانمائة ، فخربت من حينئذ مراكز خيل البريد واشتغل أهل الدولة بما جرى من أمر تيمور لنك فعند ذلك أختل طريق الشام اختلالا فاحشا.

ذكر مدينة عين شمس

قال ابن وصيف شاه : وقد كان الملك منقاوش إذا ركب حملوا بين يديه التماثيل العجيبة ، فتجمع الناس ويتعجبون منهم فعند ذلك أمر أن يبنى له هيكل للعبادة يكون له خصوصا ، ويجعل فيه قبة فيها صورة الشمس والكواكب وحولها أصناما وعجائبا ، فبنى عين شمس وجعل فيه عمودين ، وكتب عليها تاريخ الوقت الذى عملوا فيه باقيان إلى اليوم ، وهو الموضع الذى يقال له عين شمس ، ونقل إليه كنوز كثيرة وجواهر وأصنام ومن جملتهم صنم على صورة امرأته وكان يحبها حبا شديدا فلما ماتت أمر أن يعمل لها مثلا فعمل مثل صورتها من ذهب بدوابتين سوداء وعليها حلة من الجوهر المنظوم وهى جالسة على كرسى من ذهب وكان يجعلها بين يديه فى كل موضع يجلس فيه فيتسلى بها عن امرأته التى [ق ١٩٩ أ] ماتت ، ولما مات أمر أن تدفن تلك الصورة معه فجعلت تحت رجليه كأنها تخاطبه وجعل معه شىء من الجواهر والذهب ويقال إنه عاش إحدى ومائة سنة ، ومات بالطاعون.

وقال شافع بن على فى كتاب عجائب البلدان عين شمس مدينة صغيرة تشاهد سورها محدقا بها ويظهر من أمرها أنها كانت بيت عبادة كما تقدم ، وفيها من الأصنام ما يكون طول الصنم بقدر ثلاثين ذراعا من مقحت وأعضاؤه علي تلك النسبة من العظم ، وكل هذه الأصنام قائمة على قواعد عجيبة باتقانات محكمة وباب هذه المدينة موجود إلى الآن ، وفى هذه المدينة العمودان المربعان الذى يقال لهما المسلتان المشهورتان وهى اليوم ويقال لها مسلة فرعون وهى علي صفة المسلة علي قاعدة مربعة طولها عشرة أذرع في مثلها ، وقد وضعت علي أساس ثابت في الأرض ثم أقيمت عليه وهي عمود [ق ١٩٩ ب] مربع مخروط طوله نحو ماذة دراع يبتدأ علي نحو خمسة أذرع وينتهى إلى رأسها وهي كالقلنسوة وقد لبست بالنحاس إلى نحو ثلاثة أذرع منها كالقمح وقد ترتجر من كثرت الأمطار وطول المدة ، وأخضر وعليها كتابات

٢١٩

بالقلم القديم ، وو كانت فى القديم مسلتان قائمتان ثم خربت أحدهما وانصدعت من نصفها لعظم ثقلها.

قال محمد بن إبراهيم الجزرى فى تاريخه : ولما كان رابع شهر رمضان من سنة ست وخمسين وستمائة وقعت إحدى المساتان التى بأرض المطرية فوجدوا داخلها ما يقارب مائتي قنطار من نحاس ووجدوا فى رأسها عشرة آلاف دينار ، كل دينارا أوقية.

ويقال أن مدينة عين شمس بناها الوليد بن دومع من ملوك العماليق وقيل بناها فرعون موسى عليه السلام.

ويقال : أن بختنصر هو الذي خرب مدينة عين شمس لما دخل إلى مصر. وقال القضاعي : مدينة [٢٠٠ أ] عين شمس كانت من جملة عجائب مصر ، وكان بها العمودان اللذان لم يرى أعجب بينهما وطولهما نحو خمسين ذراعا وهما محمولان علي قاعدة مربعة في جوف الأرض وعلي رأسها شبه الصومعتين من نحاس ، فإذا جاء آوان النيل يقطر من رأسهما ماء وليستتين ذلك منهما واضحا ينبع حتي يجري من أسافلهما فبنيت في أصلهما العواسج وغيره ، وإذا أدخلت الشمس دقيقية من السرطان وهو أول يوم في السنة إنتهت إلي الشمال منهما فتطلع علي قمة رأسهما ويقال أنهما منتهى الجبلين وخط الأستواء في الواسطة منهما والشمس يخطر بينهما ذاهبة وأيبة كذلك سائر السنة علي الدوام.

وقال جامع السيرة الطولونية وكان بمدينة عين شمس صنم بمقدار الرجل المعتدل الخلقة وهو من كدان أبيض محكم الصنعة تخيل أنه ناطق فوصف لأحمد بن طولون فأراد أن ينظره فيناه عن ذلك شخص يقال له ندوسه وقال ما راموا وآل قطر إلا عزل [ق ٢٠٠ ب] ينتهى أحمد بن طولون عن ذلك وركب إليه وشاهده ، ثم أمر القطاعين يهدمه فكسر ولم يبق منه شىء.

قال : وسار ابن طولون ولم يقم بعد ذلك إلا عشرة أشهر ومات ، قيل أن ذلك الصنم هو المسمى بعين شمس وبناحية المطرية مكان ينبت في قصبان يسمى البلسان ، وقيل البلسم ليس يجد بأرض سواها وهناك ببر يعظمها النصارى ويغتسل بما بها للتبرك ، وهذا البلسم لا يسقى إلا من ماء هذا البير وعند إدراك البلسم يأتى من قبل السلطان من يتولى أحضاره وحفظه ويحمل إلي خزئن السلطان ويضاف منه إلي المارستان لمعالجة الأمراض الباردة والظهر ولا يوجد منه شىء إلا بمرسوم سلطانى وله عند ملوك النصارى من الحبشة والفرنج مقام عظيم ويتغالون فى ثمنه ويقولون أنه لا يصح عندهم التنصر إلا إذا كان في ماء العمودية شيئا من دهن البلسم ثم ينغمس [ق ٢٠١ أ] فيه ، وسبب ذلك أن المسيح خرجت به أمه ومعهما يوسف النجار من بيت المقدس يقبلهم أهلها ، فنزلوا بظاهرها.

٢٢٠