نزهة الأمم في العجائب والحكم

ابن إياس

نزهة الأمم في العجائب والحكم

المؤلف:

ابن إياس


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

ذكر بحيرة الإسكندرية

قال ابن عبد الحكم كانت بحيرة الإسكندرية تزرع كروما كلها لامرأة المقوقس فكانت تأخذ بخراجها منهم خمرا فكثر الخمر عليها حتى ضاقت به ذرعا فقالت لا حاجة لى بالخمر فاعطونى دنانير. فقالوا لها ليس عندنا دنانير ، فأرسلت عليهم الماء فغرقتها ، فصارت بحيرة يصاد منها الحيتان حتى استخرجها الخلفاء من بنى العباس فسدوا جسورها وزرعوها فكان طولها أقلاع يوم فى عرض يوم [ق ١٥٩ ب] فى يوم ريح طيب ويصير إليها الماء من اشتوم فى البحر الرومى ، ويخرج منها إلى بحيرة دونها فى خليج عليه مدينتين ، أحدهما تسمى مدينة الحدبة والأخرى تسمى ابكود وهى كثيرة الأمقته والنخل فى الرمل. وفى هذه البحيرة خليج من النيل يسمى الحافر طوله نصف يوم أقلاعا ، وهو كثير الطير والسمك والعشب ، وكان السمك يوجد بهذه البحيرة غاية فى الكثرة يباع بأقل الأثمان ثم انقطع الماء عن هذه البحيرة منذ أيام.

ذكر خليخ الإسكندرية

يقال أن الملكة كلوبطرة هى التى ساقته إلى الإسكندرية حتى أدخلته إليها ولم يكن يدخلها الماء قبل ذلك ويلطت قاعة بالرخام من أوله إلى آخره ولم يزل يوجد ذلك فيه إلى يومنا هذا.

وقال جامع السيرة الطولونية (١) وفى ربيع الأول سنة تسع وخمسين ومائتين أمر أحمد بن طولون بحفر خليخ الإسكندرية.

قال المسعودى : وقد كان النيل انقطع عن خليج الإسكندرية قبل سنة أثنين وثلاثين وثلاثمائة وكان فوهته قد استندت بالطين.

وذكر المسبحى : أن الحاكم بأمر الله [ق ١٦٠ أ] أبا على منصور بن العزيز كان قد

__________________

(١) طبع هذا الكتاب أكثر من مرة بتحقيق كرد محمد على.

١٨١

اهتم بحفر خليج الإسكندرية وذلك في سنة أربع وأربعمائة فحفره كله حفرا محكما فكان مصروف حفره خمسة عشر ألف دينار. وفى سنة اثنين وستين وستمائة أمر الملك الظاهر بيبرس بحفر خليج الإسكندرية ، وسافر بعامة الأمراء والأجناد وباشر حفر هذا الخليج بنفسه ، واستعمل فى حفره سائر الأمراء وسائر الناس بالقفف والمساحى إلى أن زالت تلك الرمال التى كانت على الساحل بين النقيديين ، وفم الخليج وغرق هناك مراكب وبنى عليها بالحجارة وبنى هناك مسجدا ، فلما تم له الغرض عاد إلى قلعة الجبل ثم تعطل استمرار جريان الماء فيه فى سنة عشر وسبعمائة وذلك فى دولة الملك الناصر محمد بن قلاوون فأمر بحفره وندب لذلك الأمير بدر الدين محمد بن كند غرى الوزيرى والأمير بكتون وتقدمه المراسيم الشريفة إلى سائر أمراء الدولة باخراج مباشرتهم لاحضار رجال من النواحى الجارية فى أقطاعاتهم للعمل فى الحفر وكتب أيضا لولاة الأعمال بإجماع الرجال للعمل [ق ١٦٠ ب] فى الحفر من سائر النواحى. فاجتمع من ذلك نحو الأربعين ألف إنسان وذلك فى عشرين يوما ووقع العمل فى شهر رجب من السنة المذكورة أعلاه وتم حتى كمل العمل فكان قياس الحفر من فم بحر النيل إلى ناحية شبار ثمانية آلاف قصبة حاكمته ، ومن شبار إلى الإسكندرية مثلها وعمقه ست قصبات وعرضه ثمان قصبات. فلما إنتهى العمل ولكن بعد مشقة زائدة من يحفر هذا الخليج لما فرغ العمل من الخليج شرع الأمير بكتون فى عمل جسر من ماله دون مال السلطان فإن الناس كانوا فى وقت هيجان البحر يقاسوا مشقة عظيمة لغلبة الماء على أراضى السباخ فأقام ثلاثة أشهر حتى بني ضيعا ، ودك أساسه بالحجر والرصاص وإنشاء أيضا خانا تترك فيه المسافرين ووقف علي مصالحه رزقه ولم يزل هذا الخليج فيه الماء بطول السنة جاريا إلي أن دخلت سنة سبعين وسبعمائة فانقطع الماء فيه ، وصار الماء لا يدخل إليه إلا فى أيام زيادة ماء النيل فقذ ، وكان ذلك سببا لخراب بساتين الإسكندرية التى كانت على هذا الخليج ولم تزل [ق ١٦١ أ] كذلك إلى إن كانت دولة الملك الأشرف برسباى فندب بحفره الأمير جرباش الكريمى المعروف بقاشق فتوجه إلى الإسكندرية وجمع ما قدر عليه من الرجال ، فكان عدتهم ثمانمائة وسبعين رجل ، وابتدأ فى حفره من حادى عشر جمادى الأول سنة ست وعشرين وثمانمائة إلى حادى عشر شعبان وذلك تسعين يوما فانتهى عملهم ومشى فيه الماء حتى إنتهى إلى حده من الإسكندرية ، فسر الناس بذلك فلم يقيم إلا قليلا حتى انظم بالرمل وتعذر سلوك المراكب فيه ونزول الماء عنه بسرعة.

١٨٢

ذكر خليج مدينة أتريب

هذه المدينة بناها أتريب بن قبطيم بن مصريم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام وهي المدينة التى بناها أبوه قبطيم وكان طولها أثنى عشر ميلا ولها أثنان عشر بابا وحولها المنازل تدور بالخليج من ماء النيل وحولها البساتين ، وجعل فيها من الأصنام والحكم والعجائب شىء كثير وعاش أتريب وستون سنة.

ذكر مدينة تنيس

[ق ١٦١ ب]

وهى تنيس بكسر التاء وكسر النون المشددة وباء وسين مهملة ، قال المسعودى : فى كتاب مروج الذهب بحيرة تنيس كانت أرضا لم يكن بمصر مثلها وكان بها النخيل والكرم وسائر أصناف الشجر ، ولم يرى الناس بلدا أحسن منها ، وكان الماء من النيل لا ينقطع عنها صيفا ولا شتاء ، وكان فيما بين العريش وجزيرة قبرس طريق مسلوكه يابسه تمشى فيها الدواب حتى غلب عليها الماء ، وغرق تلك الأرض وهى اليوم تسمى بحيرة تنيس وكان استحكام عرق هذه الأرض بأجمعها قبل أن تفتح مصر بمائة سنة.

وذكر أبو عبد الله محمد بن أحمد بن بسام (١) فى كتابه فى أخبار تنيس أنها من الأقليم الرابع وأنها صحيحة الهواء قليلة الوباء طيبة المياه وأن الميت بها لا يفسد جسده سريعا ولا يتساقطه شعره وأن السمك والطير بها كثير وأن أهلها يدخرون ماء النيل عند صفائه فى أجباب لهم مستغدة للمياه ، وكان طول هذه المدينة من الجنوب إلى الشمال ثلاثة آلاف ذراع وسبعة وعشرين [ق ١٦٢ أ] ذراع بالذراع الكبير وعرضها من المشرق إلى المغرب ثلاثة آلاف ذراع ومائتى ذراع وخمسة وثمانون أذرع بالكبير ، وذراع رأس سورها ستة آلاف ذراع ومائتا وسبعين ذراع ، وكان عدد أبواب سورها بسبعة عشر بابا وواحد منها مصفح بالنحاس وما

__________________

(١) له ترجمة فى «الضوء اللامع» للسخاوى.

١٨٣

سواها فمصفح بالحديد وجدد بها المسلمون جامع لصلاة الجمعة فكاد طوله مائة ذراع وأثنا عشر ذراع وعرضه أحد وسبعين ذراع ، وكان يوقد فيه كل ليلة ألف وثمانمائة قنديل. وفى شهر رمضان يوقد ثلاثة آلاف قنديل ومائة وخمسون شمعة ، وبها غير هذا الجامع مائة وسبعة وستون مسجدا ، وبكل مسجد منها منارة ، وكان بها من الكنائس أثنان وسبعون كنيسة إلى أن أمر بهدمها الحاكم بأمر الله فى سنة ثلاث وأربعمائة ، وبنى مكانها مسجدا وكان بها سنة ثلاثون حماما بها مائة معصرة للزيت ومن الطواحين مائة وستون طاحونا.

ومن الحوانيت ألفين وخمسمائة حانوت للبضائع ومن المناسج للقماش خمسة آلاف منسج وكان بها [ق ١٦٢ ب] من العجائب ما يطول شرحه.

وقيل أن الذى بنى هذه المدينة كانت امرأة تسمى تنيس بنت صا الأصغر ابن تدارس أحد ملوك القبط بمصر ، وكان قد إبتدأ الفرق لأرضها ومزارعها قبل الإسلام بمائة سنة.

وقال أبو السرى الطبيب : أن أخلاق أهلها كانت سهلة منقادة إلى الغناء والطرب وإكثار اللذة ما يلين إلى الرطوبة ، وكان أكثر أهلها بهم الأبوبة والأنوثة ، وأكثر أهلها كانوا حاكه يصنعوا الثياب الشروب التى لا يصنع مثلها فى الدنيا ، وكان يصنع فيها للخليفة ثوب يقال له البدنة لا يدخل فيه من الكتان فى السدى واللحمة غير أوقتين وينسج باقية بالذهب صناعة محكمة لا يحوج إلى تفصيل ولا خياطة يبلغ قيمة الثوب من ذلك ألف دينار وهو بغير ذهب.

ومما ظهر فيها من العجائب. وقيل أن فى سنة سبع وسبعين وثلاثمائة ولدت امرأة جارية برأسين أحدهما بوجه أبيض مترك والآخر بوجه أسمر فيه سهولة وكل وجه منهما [ق ١٦٣ أ] كامل الخلقة مركب على عنق واحد فى جسد واحد بيدين ورجلين وفرج ودبر فكانوا يرضعوا كل وجه منهما وحده فحملت إلى المعز حتى رأها ووهب لأمهما شيئا من المال ، وعادت إلى تنيس وماتت بعد شهور فى سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وصل إلى تنيس من شوانى صقلية نحو أربعين مركبا فحاصروا أهل تنيس حتى ملكوها وقاتلوا من بها من المسلمين فقتل بها من المسلمين نحو سبعين إنسانا وهرب من بقى إلى ثغر دمياط فألقوا فيها الفرنج النار وأحرقوها وساروا من المسلمين فعند ذلك تحولوا أهلها إلى دمياط فاخليت فى صفر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة وفي سنة أربع وعشرين وستمائة أمر الملك الكامل محمد بن العادل بن أبى بكر بن أيوب بهدم مدينة تنيس ، وكانت مدينة جليلة كبيرة فاستمرت خرابا ولم يبق منها إلا رسومها.

١٨٤

ذكر بورا

كانت بورا فيما بين تنيس ودمياط وإليها ينسب السمك الذى يقال له البورى ، وإليها [ق ١٦٣ ب] ينسب جماعة من الناس يلقبوا بالبورى. وفى سنة عشر وستمائة وصل إليها العدو وسبى أهلها وخربها.

ذكر مدينة القيس

هى بلد ينسب إليها الثياب القيسيسة آثارها إلى اليوم باقية على بحر المالح فيما بين السوادة وبين العدادة ، ومنها إلى الفرما قريب ستة برد فى البر ، وهناك تل عظيم من رمل خارج في البحر الشامى تقطع الفرنج عنده الطريق ، وبالقرب من ذلك التل سباح ينبت فيه ملح تحمله العربان إلى مدينة غزة والرملة.

ذكر رمل الغرابى

أعلم أن رمل الغرابى وما يتصل به من حد العريش إلى أرض العباسة حادث ، وسبب ذلك أن شداد بن عاد أحد الملوك العادية لما قدم إلى أرض مصر وغلب بكثرة من معه من الجيوش على من كان بأرض مصر من الملوك ، فنزل فى هذه الأرض وهى من الدثنة إلى العريش ، والجفار فى أرض سهلة ذات عيون تجرى وأشجار مثمرة وزروع كثيرة فأقاموا بهذه الأرض دهرا طويلا ، حتى عتوا وتجبروا وطغوا وقالوا : [ق ١٦٤ أ] نحن الأكثرون قوة الأشدون الأغلبون.

فسلط الله عليهم الريح فأهلكهم ، ونسفت مصانعهم وديارهم حتى صارت رملا. فجميع ما تراه من هذه الرمال التى بأرض الجفار ـ إلى ما بين العباسية وهي تعرف اليوم بالصالحية

١٨٥

إلى العريش من رمال آثار ديار العادية واستحالة صخورهم لما أهلكهم الله تعالى بالزنج ودمرهم تدميرا كما قال الله تعالى فى القرآن العظيم (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (١) أى كالشىء الهالك البالى ، وقيل الرميم نبات الأرض إذا يبس وديس.

ذكر مدينة بلبيس

وسميت فى التوراة أرض حاشان ، وفيها نزل يعقوب عليه السلام ، وذكر ابن خرداذبة أن بين بلبيس ومدينة فسطاط مصر أربعة وعشرون ميلا ، وكانت مدينة كبيرة من أجل مدائن مصر إلى أن خربت فى سنة ست وثمانمائة.

ذكر مدينة الصالحية

هذا البلد عمرها الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك [ق ١٦٤ ب] الكامل محمد بن العادل أبى بكر بن أيوب وهى أول الرمل الذى بين مصر والشام ، وأنشأ بها قصورا وجامعا وسوقا ليكون منزله للعساكر إذا خرجوا من الرمل وذلك فى سنة أربع وأربعين وستمائة.

__________________

(١) ٤١ ك الذاريات : ٥١.

١٨٦

ذكر وادى هبيب

هذا الوادى بالجانب الغربى من أرض مصر فيما بين مريوط والفيوم يجلب منه الملح والنطرون ، وكان به مائة دير للنصارى ، وقيل أنه خرج منه سبعمائة راهب بيد كل واحد عكاز فتلقوا عمرو بن العاص بالطرانة يطلبون منه الأمان على أنفسهم وديارهم فكتب لهم بذلك أمانا وبقى عندهم يتوارثونه وكان بهذا الوادى الملح الأندرانى والملح السلطانى وهو على هيئة ألواح الرخام وفيه حجر الزجاج وفيه يوجد حجر الكحل الأسود ويوجد فيه حجر الزجاج. وفيه أيضا الماسكة وهو طين أصغر فى داخل حجر أسود تحل فى الماء ويشرب منه لوجع المعدة وفيه تسمى عين الغراب وهو ماء فى بركة طولها نحو خمسين ذراعا في عرض خمسة أذرع فى مغارة بالجبل لا يعلم من أين يأتى ولا أين يذهب [ق ١٦٥ أ] وقد استأجرها الملك المؤيد شيخ فى سنة إحدى وعشرين وثمانمائة وجدد عمارة بساتينها ، وكانت قد خربت فاستمرت في ديوان السلطان من ذلك الحين.

ذكر صعيد مصر

وما قيل به ذلك

وكان فى أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون يمر المسافر من القاهرة إلى أسوان فلا يحتج إلى نفقة ولا زاد ، بل يجد بكل ناحية عدة دور للضيافة إذا دخل المسافر دارا منها أحضروا له ما يحتاج إليه من الأكل والشرب والعلف ونحوه ، والآن أمره إلى أن صار المسافر لا يجد فى طريقه من القاهرة إلى أسوان أحدا من الناس لتلاشى أمر بلاد الصعيد منذ كانت سنة الشراقى فى أيام الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون وذلك سنة ست وسبعين وسبعمائة وتزايد تلاشية فى أيام الظاهر برقوق لجور الولاة علي أهله ، ولم يزل فى أدبار إلى أن كانت سنة ست وثمانمائة وشرقت أرض مصر بقصور مد النيل عنها ، وهى أهل الصعيد من ذلك ما لا يوصف شرحه تحيى أنه مات [١٦٦ ب] من مدينة قوص سبعة عشر ألف إنسان ،

١٨٧

ومات من مدينة أسيوط أحد عشر ألف إنسان. ومن مدينة هو خمسة عشر ألف إنسان وذلك غير الطرحان على الطرقات ، ومن لا يعرف من القربا ثم تلاشى أمره بعد ذلك إلى أيام المؤيد شيخ فلم يبق منه إلا الرسوم وكان الصعيد كثير المواشى من الضأن وغيره بحيث أن الرأس الواحدة وعشرون رأسا وذلك بتقدير السلامة وقد شوهد من أغنام الصعيد ما يلد فى السنة ثلاث مرات وتلد فى البطن الواحدة ثلاثة روءس ، وكانت الكثرة والغلبة ببلاد الصعيد ست قبائل ، وهى بنو هلال وبلى وجهينة وقريش ولواته وبنو كلاب وثعلبة ، وجذام ، ولذلك كان المسافر إذا مر بناحية الصعيد فلا يحتاج إلى نفقة كما تقدم.

ذكر الجنادل

وشىء من أخبار النوبة

قال عبد الله بن أحمد سليم الأسوانى فى كتاب أخبار النوبة أعلم أن أول بلد النوبة قرية تعرف بالأقصر من أسوان إليها خمسة [ق ١٦٧ أ] أميال وآخر حصين المسلمين جزيرة تعرف ببلاق بينها وبين قرية النوبة ميل ، وهو ساحل بلد النوبة ، ومن أسوان إلى هذا الموضع جنادل فى البحر لا تسلكها المراكب إلا بالحيلة ، لأن هناك جبال منقطعة وشعاب معترضة فى النيل ، ولا صباب فيها جزير عظيم وذوى نسمع من بعد ، وبهذه القرية مسلحة وباب إلى بلد النوبة ، ومنها إلى الجنادل الأول من بلد النوبة عشر مراحل وهى الناحية التى ينصرف فيها المسلمون ولهم فيما قرب منها أملاك ، وفيها جماعة من المسلمين لا يفصحون بالعربية وهى ناحية ضيقة شطفة كثير الجبال وشجرها النخيل والمقل وأعلاها أوسع من أدناها ، وفى أعلاها الكروم والنيل لا يروى مزارعها لأرتفاع أرضها فيرونها بالدواليب على أعناق البقر والقمح عندهم قليل والشعير عندهم أكثر ، ويزرعون فى الصيف السمسم واللوبيا والذرة وغير ذلك من الزرع ، ولها منيا تعرف يادوا ، وإليها ينسب إليها لقمان الحكيم وذو النون ، وبها عجائب كثيرة ، وفيها قلعتين وبها ملك يعرف بصاحب [ق ١٦٧ ب] الجبل وفيه العدل ، ومن يخرج إلى بلد النوبة من المسلمين ويهدى إليه شىء فيقبل هديته ويكافىء عليه بالرفيق وغيره.

وأول الجنادل من بلد النوبة قرية تعرف بتقوى هى الساحل وإليها ينتهى مراكب النوبة

١٨٨

المصعدة من الأقصر وهى أول بلدهم ولا يتجاوزها أحد من المسلمين ولا من غيرهم إلا بإذن من صاحب الجبل ومعاملتهم إلى دون الجنادل مع المسلمين بالدراهم والدنانير وما فوق ذلك فلا بيع بينهم ولا شرا ، وإنما هى معارضة بالرقيق والمواشى والجمال والحديد والحبوب ولا يطلقوا لأحد أن يتجاوز أرضهم إلا بإذن الملك صاحب الجبل ومن خالف ذلك كان جزاؤه القتل كاينا من كان من الناس وبهذا الأحتياط نيلته أخبارهم عن سائر الناس من الملوك وغيرهم.

وقيل أن حجر السنبادج الذى يحرط به الجوهر والبلخفش وغيره يوجد عندهم فى مواضع بأعلى النيل يغطسون عليه وأنه يشتبه عليهم مع الحجارة فيعرفونه بخسه باردا مخالفا للحجارة. ومن هذه القرية قرية تعرف بساى وهى جنادل انصنا وهى كرسى مملكتهم [ق ١٦٨ أ] ولهم فيها أسقف وبرابى وهى سبع ولايات وفيها النحل والكروم والزيتون والقطن وغير ذلك من الزروع ، وفيها قلعة تعرف باصطون وهى أول الجنادل الثالثة وهى أشد الجنادل صعوبة لأن فيها جبلا معترضا من الشرق إلى الغرب فى وسط النيل والماء ينصب منه من ثلاثة أبواب وما أخسر هناك الماء فيسمع له جزير عظيم عجيب المنظر لينحدر الماء من علو الجبل ، فبالت ذلك حجارة مفروشة فى وسط النيل على نحو ثلاثة ابراد وآخر ذلك قرية تعرف يستو وهى آخر قرى مريسى وهو آخر عمل النوبة صاحب الجبل وتليها قرية تعرف بقون وما يرى أوسع من النيل هناك فإنه مسيرة خمس مراحل وفيه الجزائر والأنهار تجرى بينها ، وفى تلك الجزاير عمائر حسنة وفيها المواشى والأنعام وهى كثيرة الطير والسمك وأكثر نزهة ملك النوبة صاحب الجبل فى هذه الجزاير.

وقال من رأى ذلك المكان أنه كثير الأشجار من الجانبين فيه خليجان ضيقة أكثرها بخاص وأن التمساح لا يضر [ق ١٦٨ ب] هناك وأن بيوتهم يسقفونها بخشب الساج الذى يأتى به النيل فى وقت الزيادة اسقالات لا يدرى من أين يأتى به ، وبين دنقلة إلى أول بلاد علوه أكثر مما بينها وبين أسوان وفيها القرى والضياع والجزاير والمواشى والنحل والشجر والزروع والكروم أضعاف ما فى الجانب الذى يلى أرض الإسلام.

ومن هذه المواضع طرق إلى سواكن وغيرها من البلاد وقد عبر فى ذلك الأماكن من نجا من بنى أمية عند هروبهم من القتل خوفا على أنفسهم وأقاموا هناك وصاروا من حملة أهلها.

١٨٩

ذكر تشعب النيل

من بلاد علوة

ومن يسكن عليه من الأمم

أعلم أن النوبة والمقره جنسان بلسانين كلاهما على النيل والنوبة وهم المريسى المجاورون لأرض الإسلام ، وبين أول بلدهم وبين أسوان خمسة أميال ويقال : النوبة ومقره من حمير وأكثر الأخبار على أنهم من ولد حام بن نوح عليه السلام وكان بين النوبة والمقرة حروب قبل النصرانية. وفى أول المقره قرية تعرف بناقة [ق ١٦٩ أ] على مرحلة من أسوان ومدينة ملكهم يقال لها بخراش على أقل من عشرة مراحل من أسوان.

ويقال أن موسى صلوات الله عليه غزاهم فى أيام فرعون فاخرب ناقة وكانوا صابية يعبدون الكواكب وينصبون التماثيل لها ثم تنصروا جميعا النوبة والمقرة ودنقلة ، وفى أول بلاد علوة قرى فى الشرق على شاطىء النيل تعرف بالأبواب ولهذه الناحية وال من قبل صاحب علوه بعرف باكو جراج والنيل يتشعب من هذه الناحية على سبعة أنهار فمنها يأتى من ناحية المشرق وكدر الكون يتشف فى الصيف حتى يسلك بطنه فإذا كان وقت زيادة النيل ينبع فيه الماء وزادت البرك التى فيه وكثر المطر والسيول هناك وقيل أن آخر هذا النهر عين عظيمة تأتى من جبل فهناك.

قال مؤرخ النوبة حدثنى سميون صاحب عهد بلد علوة أنه يوجد فى بطن هذا النهر فى الطين حوت لافشر له ليس هو من جنس ما فى النيل من الحيتان يحفرون قدر قامه حتى يخرج وهو كبير جدا ، ويقال أن بين علوة وبحة جنس يقال [ق ١٦٩ ب] لهم نازة يأتى من عندهم طير يعرف بحمام نازين ، ويعد هؤلاء أول بلاد الحبشة وعندهم النيل يسمونه النهر الأبيض وهو نهر يأتى من ناحية الغرب شديد البياض مثل اللبن الحليب.

قال : بعض من سلك بلاد السودان عن النيل الذى عندهم وعن لونه ، فذكر أنه يخرج من جبال وأنه تجتمع فى برك عظام هناك ، ثم ينصب إلى ما لا يعرف وأنه ليس بأبيض ، وإنما يكتسب ذلك اللون مما يمر عليه أو من نهر آخر ينصب إليه وعليه أجناس من

١٩٠

الناس شتى ثم ذكر النيل الأخضر فقال هو نهر يأتى من نحو القبلة مما يلى الشرق وأنه شديد الخضرة صافى اللون جدا ، يرى ما فى قعره من السمك وطعمه مخالف لطعم ماء النيل يعطش الشارب منه بسرعة وحيتانه خلقة واحدة غير أن طعمهم مختلف ويأتى فيه وقت زيادة النيل اسقالات من خشب الساج والبقم والقنا وخشب له رائحة كرائحة اللبن. وقيل إنه وجد فيه عود كالبخور المسمى بالقاقلى وتجتمع هذان النهران الأبيض الأخضر عند مدينة كرسى [ق ١٧٠ أ] علوة ويبقيان على ألوانهما قريبا من مرحلة ثم يختلطان بعد ذلك وبينهما أمواج كبار يتلاطما. وقال : من رأى النيل الأبيض حين ينصب فى النيل الأخضر وأنه بقى فيه مثل اللبن ساعة قبل أن يختلطا وبين هذين النهرين جزيرة لا يعرف لها غاية وكذلك لا يعرف لهذين نهاية ، فأولهما يعرف عرضه ثم يتسع فيصير مسافة شهر ثم لا يدرك سعتهما وعليهما خلائق كثيرة يسكنونهما من أجناس شتى.

ويقال أن بعض ملوك علوه سار فيها يريد أن يعرف أقصاها. فسار فيها سنين فرأى فى طرقها جنسا يسكنونهم ودوابهم فى بيوت تحت الأرض مثل السراديب من شدة حر الشمس ويسرحون بالليل لمعايشهم.

وقال بعض من طرق بلاد الزنج أنه سار فى بحر الصين إلى بلد الزنج بالزنج الشمال فى مركب من الجانب الشرقى حتى إنتهاء إلى بلد تعرف برأس حفرى ، وهى مدينة كبيرة وتصير قبلتهم للصلاة نحو جدة وفيها رباط فيه جماعة من المسلمين وأكثرهم جنوبهم الذرة التى مثل الأرز وعندهم المواشى كثير والخيل والحمار [ق ١٧٠ ب] والجمال ودينهم دين النصرانية وكتبهم بالقلم الرومى يفسرونها بلسانهم ومما فى بلدهم من العجائب أن فى الجزيرة الكبرى التى بين البحرين جنسا يعرف بالكرسا لهم أرض واسعة تزرع على النيل والمطر وإذا كان وقت الزرع خرج كل واحد منهم ما عنده من البدار قد زرع وآوان المزار فارغة ، وإذا كان وقت الحصاد خطوا شيئا من المزار وانصرفوا عنه فإذا أصبحوا وجدو الزرع قد حصد باشره وجرن ، فإذا أرادوا دراسة وتدربته فعلوا بذلك ، وربما أراد أحدهم أن يبقى زرعة من الحشيش فيغلظ بقلع شىء من الزرع فيضح.

وقد رأى جميع الزرع قد قلع وفى هذه الناحية بلدان واسعة مسيرة شهرين فى شهرين ، وأكبر بلدهم علوة ، وهذه الحكاية عنهم صحيحة معروفة مشهورة عند جميع أهل النوبة وأهل علوة وكل من يطرق تلك النواحى من تجار المسلمين وأن أهل تلك الناحية يزعمون أن لجان تفعل معهم ذلك. ومن عجائب تلك الناحية ما حدث به أهل الناحية أن المطر إذا مطر عندهم يلتقطون

١٩١

منه سمكا من أعلى الجبال. وذكروا أنه صغير القدر بادناب حمر ويقال [ق ١٧١ أ] أن فيهم جماعة يعترفون بالبارى سبحانه وتعالى ويتقربون إليه بعبادة الشمس والقمر والكواكب ، ومنهم من لا يعترف بالبارى ويعبد النار ومنهم يعبد كلما يستحسنه من شجرة أو بهيمة ومن هم من يعبد الله تعالى خالصا مخلصا وإذا أبطأ عنهم المطر أو أصابهم الوباء أو وقع فى بلادهم آفة صعدوا إلى الجبال ودعوا إلى الله فيجابوا من وقتهم وتقضى حاجتهم قبل أن ينزلوا وهم لا يعرفون أحدا من الأنبياء ولا الرسل ولا ما نزل الله تعالى من الكتب ، ولكن تعبدون الله تعالى بإخلاص النية وملكهم مسلم لا يكلمه أحدا من وراء حجاب وغالب أكلهم الأرز وهو ينبت عندهم من غبر بذر وعندهم يوجد القمح والذرة والتين والليمون والبادنجان واللفت والرطب ويجلب من عندهم قماش يقال له الدندى طول كل ثوب عشرة أذرع ويتعاملون بالودع والخرز والنحاس المكسر والورق ، وفي جوانب تلك النواحى أشخاص متوحشة تسمى الغول قريب من الشكل الأدمى نودى الناس ويكسرهم ولا يظهر إلا بالليل ويظهر منها شبه شرار النار فإذا مشى [ق ١٧١ ب] أحد ليلحقها بعدت عنه ولو جرى خلفها لا يصل إليها بل لا تزال إمامه فإذا رماها بحجر فأصابها فيطير منها شرار مثل شرار الحداد فلا يلحقها الفارس الراكب المجد ويختفى فى مغاير هناك فى الجبال.

ومن العجائب عندهم أن اليقظة تصير عندهم قدر المركب الصغير حتى أنهم يصنعوا من نصفها مركب ويضعوه فى النيل ويعدوا فيه. وهذه البلاد بين إفريقية وبرقة ممتدة فى الجنوب إلى سميت الغرب الأوسط وهى بلد شر مزاج بأهلها.

ذكر مدينة بلاد البجة

أعلم أن أول بلد البجة من قرية تعرف باحزبة وبينها وبين قوص نحو من ثلاث مراحل وبها معدن الزمرد.

وذكر الجاحظ : أن ليس فى الدنيا معدن للزمرد غير هذا الموضوع ، وهو يوجد فى مغاير بعيدة مظلمة يدخل إليها الإنسان بالمصابيح ويحفر عليه بالمعاول ، فيوجد فى وسط حجارة عشم خضر الألوان وآخر بلادا لبجة أول بلاد الحبشة مما يلى جزاير سواكن وهم صغر الألوان

١٩٢

ولهم سرعة فى الجرى ويصنعون عندهم السم ، وهذا السم يعمل من عروق [ق ١٧٢ أ] شجر الفلقة يطبخ على النار حتى يصير مثل الغرا فإذا أرادوا تجربته شرط أحدهم جسده حتى يسيل الدم ثم يشممه من ذلك السم ، فإذا ترجع الدم علموا أنه حيد فيمسحوا الدم بسرعة ليلا يسرى في جسده فيقتله وأن يسرى في جسده قنله في وقته وليس له تجربة غير ذلك ، وبلادهم كثيرة المعادن من الذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد وحجر المغنايسط والزمرد وحجارة إذا بليتها بريت تقد مثل الفتيلة وفى أوديتهم شجر الأهليلج والأدخر والشيح والسنا وشجر اللبان وغير ذلك من الأشجار. وبها سائر الوحوش من السباع والفيلة والنمور والفهود والقرود ودابة الزباد وبها دابة تشبه الغزال حسنة المنظر لها قرنان مثل لون الذهب قليلة البقاء إذا صيدت وبها من الطيور الدرة والقمارى ودجاج الحبش والحمام النازينى وغير ذلك من أصناف متعددة ، وليس منهم رجل إلا وهو منزوع البيضة اليمين. وأما النساء فمقطوع أشفار فروجهن وأنه يلتحم حتى تشق عنه للمتزوج بمقدار ذكر الرجل والسبب في ذلك أن ملكا من الملوك حاربهم قديما [ق ١٧٢ ب] ثم صالحهم وشرط عليهم قطع ثدى ممن يولد لهم من النساء وقطع ذكور ممن يولد ممن لهم من الرجال أراد بذلك قطع نسلهم فوفوا له بالشرط وقبلوا المعنى فصاروا يقطعوا بيضة للرجل والفروج للنساء ، وفيهم جنس يقلعون ثناياهم ويقولون لا نتشبه بالحمير ، وفيهم جنس فى آخر بلاد البجة يقال لهم البازة يسمون نسائهم باسم واحد ، وكذلك ، رجالهم.

ويقال أن طرفهم فى بعض الأوقات رجل من المسلمين حسن المنظر فدعا بعضهم بعضا وقالوا ربنا قد نزل من السماء وهو جالس تحت هذه الشجرة فجعلوا ينطوون إليه من بعد ويعظمونه.

ومن العجائب عندهم أن الحياة تخرج من الغدير وتلف ذنبها على البقرة فتقتلها وعندهم حياة ليس لها رأس ولا ذنب وهي سواء إذا مشى الإنسان على أثرها مات ، وإذا قتلت وأمسك لقاتل ما قتلها به من عوذ أوحر به فى يده ولم يلقيها من يده بسرعة مات من وقته.

١٩٣

ذكر مدينة أسوان

أعلم أن أسوان فى آخر بلاد الصعيد وهى ثغر من ثغور الأقليم القبلية تفصل بين النوبة وبين أرض [ق ١٧٣ أ] مصر وكانت كثيرة الحنطة وغيرها من الحبوب والفواكه والخضروات والبقول ، وكانت كثيرة الحيوانات من الإبل والبقر والغنم وبها بضائع تحمل منها إلى بلاد النوبة وعلى خمسة عشر يوما من أسوان معدن الذهب وهو البتر.

قال المسعودى : ومدينة أسوان يسكنها خلق من العرب وهم قبائل من قحطان ونزار من ربيعة ومن مضر ومن قريش وأكثرهم من الحجاز وهى بلد كثيرة النخل تودع فى أرضها النوبة من التمر فتنبت نخلة وتوكل من تمرها بعد سنتين. وكان بأسوان رجال من عساكرهم يستعدون بالأسلحة لحفظ الثغر من هجوم عساكر النوبة والسودان على الثغر فلما زالت الدولة الفاطمية أهل أمرهم.

ومما بها العجائب أن بها قرية تسمى أشاشى هى من أسوان على مرحلتين ونصف ذكروا أن فى شرقيها من جانب النيل قرية بسور وعلى باب من أبوابها جميزة وناس يدخلون ويخرجون فيها من ذلك الباب الذى فيه الجميزة ، وتلك القرية التى بالسور خارب لا ساكن بها فإذا عبروا إلى تلك القرية لم تجدوا بها أحدا من الناس [ق ١٧٣ ب] فإذا جاء الشتاء رأوا ذلك الناس الذى يدخلون فيها ويخرجون ، وذلك فى الشتاء دون الصيف قبل طلوع الشمس والناس مجتمعون قبل صحة هذا الخبر ، وكان بأسوان أنواع من التمر والرطب منها نوع من الرطب فى أشد ما يكون من الخضرة مثل السلق فأمر هارون الرشيد أن يجمع له ألوان التمر الذى بأسوان من كل صيف ، فجمع له من ذلك وبية فما أعجبه منها سوى الرطب الأخضر ولا يعرف فى الدنيا بسر بثمر قبل أن يصير رطبا إلا بأسوان.

١٩٤

ذكر مدينة بلاق

أعلم أن بلاق آخر حصين المسلمين وهى جزيرة بقرب من الجنادل يحيط بها النيل فيها خلق كثيرة من الناس ، وبها منبر وجامع وإليها ينتهى سفن التوبة وسفن المسلمين من أسوان ، ومن أسوان إلى هذا الموضع جنادل فى البحر لا تسلكها المراكب إلا بالحيلة لصعوبة ذلك الموضع.

ذكر حائط العجوز

كان حصنا لأرض مصر وكان فيه محارس ومجارس ، ومن ورائه خليج يجرى فيه الماء معقود عليه القناطر عملته دلوكة بنت زباء [ق ١٧٤ أ] وقد تهدم ولم يبق منه إلا يسير.

قال ابن عبد الحكم فى كتاب فتوح مصر : وبقيت مصر بعد غرق فرعون وجنوده ليس من إشراف أهلها أحد ولم يبق بها إلا العبيد والأجراء والنساء وهن أعظم أشراف مصر فاجمعن رأيهن على أن تولين امرأة منهن وهى دلوكة المذكورة.

وكانت ذات عقل ومعرفة وهى يومئذ بنت مائة وستين سنة فملكوها عليهم فخافت أن تتهاون بها الملوك الذين كانوا حولها فجمعت نساء الأشراف الذى كانوا بمصر وقالت لهن أن بلادنا لم تكن تطمع فيها الملوك والآن قد هلك أكابرنا وأشرافنا وقد رأيت أن ابنى حصنا يحيطه بجميع بلادنا وأصنع عليه المحارس من كل ناحية من أن يطمع فينا من حولنا من الملوك ، فقالوا لها أفعلى ما بدا لك فبنت عند ذلك هذه الحائط وقد أحاطت على جميع أرض مصر كلها من المدائن والقرى وجعلت خلفها خليجا فيه الماء ، وأقامت عليه القناطر وجعلت عليه مجارس على كل ثلاثة أميال ورجال وأجرت عليهم الأرزاق [ق ١٧٤ ب] وأمرتهم أن تحركوا الأجراس إذا أتاهم آت يخافونه فيأتيهم الخبر من أى وجه كان فى ساعة واحدة فيستعدون لذلك فمنعت بذلك مصر من أرادها وفرغت من بناها في ستة أشهر وهو الجدار الذى يقال له حائط العجوز وقد بقيت منه بالصعيد بقايا كثيرة وقد تقدمت هذه الحكاية فى أول الكتاب.

١٩٥

ذكر صحراء عيذاب

أعلم أن الحجاج المصرى والمغرب أقاموا نحو من مائتى سنة لا يتوجهون إلى مكة إلا من صحراء عيذاب يركبون النيل من ساحل مدينة مصر إلي قوص ثم يركبون الإبل من قوص إلى صحراء هيذاب ، ثم ينزلون فى جلباب إلى ساحل جدة ، ومن جدة إلى مكة إن كانت أحمال البهار تودع بها والقفول صاعدة وهابطه لا يعترض لها أحد من العربان ولا من غيرهم ، ولم تزل مسلكا للحجاج ذهابا وإيابا من سنة خمسين وأربعمائة إلى سنة ستين وستمائة وذلك منذ كانت الشدة العظمة [١٧٥ أ] فى أيام الخليفة المستنصر بالله أبى تميم معد بن الظاهر الفاطمى ، وانقطع الحج من البر إلي أن كانت دولة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقدارى وقد كسا الكعبة وعمل بها بابا جديدا مصفحا بالفضة ومفتاحا حديدا وأخرجت قافلة الحاج فى البر وذلك فى سنة ستين وستمائة فتلاشى أمر قوص من حينئذ ، وهذه الصحراء مسافتها من قوص إلي عيذاب سبعة عشر يوما ويفقد فيها الماء ثلاثة أيام متوالية وقيل أربعة أيام ، وكانت عيذاب مدينة على ساحل بحر جدة وأكثر بيوتها أخصاص وكانت من أعظم مراسى الدنيا بسبب أن مراكب الهند واليمن لا ترسى إلا فيها بالبضائع وتقلع منها وكذلك مراكب الحجاج فلما تتلاشى أمرها صارت جدة هى الميناء إلى يومنا هذا ويقال أن فى بحر عيذاب مغاصى اللؤلؤ في جزاير قريبة منها ، يخرج إليه الغواصون فى وقت معين من السنة ويعودون بما قسم لهم من الؤلؤ ، والمغاص فى ذلك المكان قريب القاع ، وكان عيذاب جرد إلا نبات بها وكل ما يوكل بها مجلوب إليها حتى الماء وكان [ق ١٧٥ ب] فيها من البيع والشرى فوائد لا تحصى على الحجاج والتجار وغير ذلك.

وكان الحجاج يجدون فى ركوبهم من عيذاب وإلى جدة فى الجلباب أهوال عظيمة من كثرة الرياح فى البحر فتلقيهم فى صحارى بعيدة مما يلى الجنوب فيقيمون هناك حتى يهلكوا عطشا وجوعا وجلباتهم الذى يحملون فيها الحجاج فى البحر لا يستعمل فيها مسامير ، إنما يحيطوا خشبها بالقنبار وقلاع هذه الجلبات من حوض شجر المقل وأنهم يبايعون فى أشحان الجلبات بالناس حتى يبقى بعضهم فوق بعض حرصا على الأجرة ولا يبالون بما يصيب الناس فى البحر من الغرق ، بل يقولون دائما علينا بالألواح وعلى الحجاج بالأرواح وأهل عيذاب قوم لا دين لهم ولا عقل ورجالهم ونسائهم دائما عوراتهم مكشوفة ، وفيهم من يتستر بالخرق وذلك من شدة.

١٩٦

ذكر مدينة ارجنوس

هذه المدينة من جملة عمل البهنسا وبها كنيسة بظاهرها ، فيها بئر يقال لها بئر شوش وهى صغيرة لها عيد يعمل فى الخامس والعشرين من شهر بشنس أحد شهور [ق ١٧٦ أ] القبط فينور بها الماء عند مضى ست ساعات من النهار حتى يطفو ثم يعود إلى ما كان عليه ويستدلون النصارى بذلك على زيادة النيل فى كل سنة بقدر ما يعلى من الماء ، ويزعمون أن الأمر فى زيادة النيل يكون موافقا لذلك.

ذكر أبو بط

هذه المدينة من جملة البهنساوية أيضا ، وكان بها منارة محكمة البناء إذا هزها الرجل تحركت يمينا وشمالا ويرى ميلها رؤية ظاهرة.

ذكر مدينة ملوى

هذه المدينة على الجانب الغربى من النيل وأرضها معروفة بزارعة قصب السكر فيها ، وكان بها عدة الأعيان أولاد فضيل وقد بلغت زراعتهم فى أيام الملك الناصر محمد بن قلاوون من القصب ألف وخمسمائة فدان فى كل سنة فاوقع النشو ناظر الخواص الشريف الحواحة على موجودهم فى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة فوجد من جملة مالهم أربعة عشر ألف قنطار من القند غير القطن والعسل والغلال والعبيد وغير ذلك فحمل ذلك [ق ١٧٦ ب] جميعه إلى الديار المصرية وأفرج عن أولاد فضيل بعد ذلك.

١٩٧

ذكر مدينة انصنا

أعلم أن هذه المدينة من أجمل مدائن الصعيد القديمة ، وكان بها عدة عجائب منها المقياس الذى بنته دلوكة أحد من ملك مصر ، وكان فى دائرة عمد على عدة أيام السنة الشمسية وكلها من الصوان الأحمر المانع ومسافة ما بين كل عمودين مقدار خطوة إنسان ، وكان ماء النيل يدخل إلى هذا المقياس من فوهة عند الزيادة ، فإذا بلغ ماء النيل الحد الذى كان إذ ذاك يحصل منه رى أرض مصر وكفايتها جلس الملك عند ذلك فى مشرف له على ذلك المقياس ، وتصعد قوم من خواصه إلى روءس تلك الأعمدة المذكورة فيتعاون عليها ما بين ذاهب وآت ويتساقطون من الأعمدة إلى الملعب وهو ممتلىء بماء النيل ويكون ذلك اليوم عندهم عيد وفاء النيل.

وقال أبو عبيد البكرى : أن مارية سرية النبى صلى الله عليه وسلم أم ولده إبراهيم كانت من قرية يقال لها حفن من قرى انصنا [ق ١٧٧ أ] ويقال أن سحرة فرعون الذى آمنوا كانوا منها ويقال أن التمساح لا يضر بساحل انصنا لطلاسم هناك ، وأنه إذا حادى هذا الطلسم ينقلب على ظهره فلا يستطيع الحركة حتى يؤخذ ، ويقال أن الذى بنى مدينة انصنا اشمن بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام وكانت مدينة حسنة كثيرة البساتين والزرع والثمار والفواكة والمتنزهات وهى الان خراب. وكان ينبت بها الخشب للسبح وهو عود ينشر منه ألواح للسفن ، وربما أرعف ناشرها من شدة صلابتها ويباع اللوح منها بخمسين دينار أو نحوها وإذا شد لوح منها على لوح وطرح فى الماء أكتاما صار لوح وكان بها عجائب أيضا لا تحصي.

١٩٨

ذكر القيس

أعلم أن القيس من البلاد التى تجاور مدينة البهنسا وكان يقال لقيس والبهنسا.

قال ابن عبد الحكيم : لما بعث عمرو بن العاص قيس بن الحارث إلي الصعيد ، فسار حتى أتى القيس فنزل بها فسميت به وهو الذى فتح هذه القرية فنسبت إليه قال [ق ١٧٧ ب] ابن الكندى ومنها تجلب الأكسية الصوف والمرغر وذكر بعض أهل مصر أن معاوية بن أبى سفيان لما كبر كان لا يدفا فأجمعوا على أنه لا بد فيه إلا أكسية تعمل بمصر من صوف المرعز العسلى الذى غير مصبوغ وذلك يعمل بالقيس من مصر ، فأرسل إلى عاملها يطلب من ذلك الأكسية ، فأرسلوا له منها عددا كثيرا فما احتاج منها إلا إلى واحدة.

وحكى أنه ظهر بها بالقرب من البهمنسا سرب فى الأرض وذلك فى أيام السلطان الملك الكامل محمد بن أبى بكر بن أيوب فأمر متولى البهنساوية بكشفه فجمع له أهل المعرفة بالعوم والغطس فإن ذلك السرب كان ممتلىء بالماء ولا يعلم له آخر فكانوا ذلك العوامين والغطاسين نحو من مائتى رجل ما فيهم إلا من نزل فى السرب فلم يجد له قرارا ولا جوانب فأمر بعمل مراكب رقاق بحيث أمكن إدخالها من رأس السرب وشحنها بالرجال ومعهم الزاد وركب فيها حيا لأمر بوطة فى خوازيق عند رأس السرب وعمل مع الرجال آلات يعرفون منها أوقات [ق ١٧٨ أ] الليل والنهار وجعل معهم شيئا من الشموع وغيرها مما يستخرج به النار وأمرهم أن يسلكوا بالمراكب في الظلمة وهم يرحون لهم الحبال ولا يجدون لما هم سائرون فيه من الماء جوانب فمازالوا على ذلك حتى قلت تلك الزوادة الذى كانت معهم فابطلوا حركة المراكب بالقماديف من داخل السرب وجروا تلك الحبال الذى فى الخوازيق ليرجعوا إلى حيث دخلوا حتى انتهوا إلى رأس السرب ، وكانت مدة غيبتهم فى داخل هذا السرب ستة أيام أربعة منها دخولا إلى جوفة وتطوفا جوانبه ويومان رجوعا إلى رأس ذلك السرب الألضبعاوي ولم يقفوا فى هذه المدة على نهاية ذلك كتب الأمير علاء الدين الألضبعوى والى البهنسا إلى الملك الكامل بشرح ذلك السرب فعند ذلك فتعجب من ذلك غايت العجب واشتغل عن ذلك بمحاربة الفرنج لما حاصروا ثغر دمياط فلما رحلوا عن ثغر دمياط ، وعاد الملك الكامل إلى القاهرة فخرج بعد ذلك حتى شاهد هذا [ق ١٧٨ ب] السرب المذكور رتعجب منه.

١٩٩

ذكر دروط

أعلم أن دروط قرية من ناحية البهنسا بالصعيد وبها جامع انشائه زياد بن المغيرة العتكى ومات فى المحرم سنة إحدى وتسعين ومائة ودفن به ، وفيه [يقول الشاعر](١).

أحمد مات ماجدا مفقودا

ولقد كان أحمد محمودا

ورت المجد عن أب ثم عم

مثله ليس بعده موجودا

وكان بها من العجائب شكل جمل من حجر كأكبر ما يكون من الجمال وأحسنها هيئة وهو قائم على أربعة مستقبل بوجهه إلى المشرق وعلى فخده الأيمن كتابه بقلمهم القديم وهى أحرف مقطعة فى ثلاثة أسطر لم يحسن أحد يقرءها وعلى خمسين خطوة منه جمل آخر مثله من حجر أيضا. ووجهه إلى وجه الجمل الأول وليس عليه كتابة وفيما بين تلك الجملين المذكورين هيئة أغدال قد ملئت فماشا عدتها أربعون ركبة موضوعة بالأرض وجميعها من حجارة لا يشك من رأها أنها أحمال قماش.

ذكر الجيزة

اعلم أن الجيزة اسم لقرية كبيرة جميلة البنيان على شاطىء النيل [ق ١٧٩ أ] من جانبه الغربى تجاه مدينة فسطاط مصر ولها فى كل يوم أحد سوق عظيم تجلب إليه من النواحى أصناف كثيرة جدا من البضائع وغيرها ، ويجتمع فيه عالم عظيم وبها عدة مساجد ، ويقال أن مسجد التوبة الذى بالجيزة كان فيه تابوت موسى عليه السلام الذى قذفته أمه فيه بالنيل وبها النخلة التى أرضعت مريم تحتها عيسى عليه السلام فلم يثمر غيرها.

ويقال أن بالجيزة قبر كعب الأحبار ، وكان بها أحجار من الرخام قد جعل فيها طلسم

__________________

(١) سقطت من الناسخ.

٢٠٠