نزهة الأمم في العجائب والحكم

ابن إياس

نزهة الأمم في العجائب والحكم

المؤلف:

ابن إياس


المحقق: الدكتور محمّد زينهم محمّد عزب
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة مدبولي
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٤٩

وله أيضا فى المعنى :

أمرتنى بركوب البحر مجتهدا

وقد عصيتك فاختر غير ذا الرأي

ولا أنت نوح فتحيينى سفينته

ولا المسيح أنا أمشى على الماء

ذكر ما قيل

في ماء النيل من مدح وذم

على سبيل الاختصار

قال الرئيس أبو على بن سينا (١) رحمه الله أن قوما يفرطون فى مدح النيل أفراطا شديدا ويمعون محامده فى أربعة بعد منبعه وطيب مسلكه وعمورته وأخذه [ق ٨٣ أ] إلى الشمال على الجنوب.

أعلم أن أفضل المياه مياه العيون ولا كل العيون ، ولكن ماء عيون الحرة الأرض ، التى لا يغلب على تربتها شىء من الأحوال والكيفيات الردية ، أو تكون حجرية فيكون أولى بأن لا تعفن عفونة الأرضية ، لكن التى هى من طينة حرة خير من الحجرية ، ولا كل عين حرة ، بل التى هى مع ذلك جارية ولا كل جارية ، بل الجارية المكشوفة للشمس والرياح ، وأن هذا مما تكسب به الجارية فضيلة ، وأما الراكدة فربما اكتسبت بالكشف رداءه ولا تكسبها بالتستر.

وأعلم أن المياه التى تكون طينية السيل خير من التى تجرى على الحجارة ، فإن الطين ينقى الماء ويأخذ منه الممزوجات الردية والحجارة لا يفعل ذلك.

__________________

(١) هو الحسين بن عبد الله بن سينا أبو على شرف الملك الفيلسوف الرئيس صاحب التصانيف فى الطب والمنطق والطبيعيات والإلهيات ، أصله من بلخ ، ومولده فى إحدى قرى بخارى سنة ٣٧٠ ه‍ / ٩٨٠ م ، نشأ وتعلم فى بخارى وطاف البلاد وناظر العلماء ، مات سنة ٤٢٨ ، ومات سنة ١٠٣٧ م ، من تصانيفه المعاد والشفاء وأسرار الحكمة والسياسة وأسرار الحكمة المشرقية وغيرهم.

١٠١

قال الرئيس علاء الدين بن أبى الحزم بن نفيس (١) فى شرح القانون : هذه المحامد التي ذكرها ليست علامات للحمد ، بل ماء النيل أفضل وأرق وألطف من ماء العيون.

فهذه الأربعة بعد منبعه توجب لطاقة الماء بسبب كثرة حركته [ق ٨٣ ب].

أعلم أن منبع النيل من جبل [يقال له] القمر ، وهذا الجبل وراء خط الأستواء باحدى عشرة درجة وثلاثين دقيقة مما به أعظم دائرة فى الأرض ، فإذا دخل النيل مدينة مصر ثم إنتهى إلى بلد يقال لها شطنوف يفترق هناك إلى نهرين يرميان إلى البحر المالح : أحدهما يعرف ببحر رشيد ومنه يكون خليج الإسكندرية. وثانيهما يعرف ببحر دمياط وهذا البحر إذا وصل إلى المنصورة تفرع منه نهر يعرف ببحر أشمون ثم إلي البحيرة هناك وباقية إلى بحر الملح عند دمياط. وزيادة ماد النيل هى من أمطار مثيرة ببلاد الحبشة.

ثم أنه يتوجه إلى الشمال والمتوجه إلى المغرب والجنوب ردي خصوصا عند هبوب ريح الجنوب والذى ينحدر من مواضع عالية فهو أفضل ، أما ما قاله الرئيس ابن سينا من صفات ماء العيون فإذا اعتبرت ما قاله تجد ذلك قد اجتمع فى ماء النيل.

فأوله أن ماء النيل عين تمر على أراضى حرة ، ولا يغلب على تربة شىء من الأحوال والكيفيات الردية [ق ٨٤ أ] [كمعادن] النفط والشب والأملاح والكباريت ونحوها ، بل يمر على الأراضى التى تنبت الذهب بدليل ما يظهر فى الشواط من قراضات الذهب وقد عانى جماعة تصويل الذهب من الرمل المأخوذ من شطوط النيل فربحوا منه مالا وفضيلة كون أن الذهب فى الماء لا ينكر.

الثانى : أن النيل فى جريانه أبدا مكشوف للشمس والرياح.

الثالث : أن طينة من طين مسيل مياه مجتمعة من أمطار تمر على أراضى حرة ، ويظهر ذلك (٢) من عطرية روائح الطين إذا نديته بماء.

الرابع : غمورة ماء النيل وشدة جريه التى تكاد تقصف العمد إذا اعترضها.

__________________

(١) هو على بن أبي حزم القرشى علاء الدين الملقب بابن النفيس : أعلم أهل عصره بالطب أصله من بلده قرش «بفتح القاف وسكون الراء فيما وراء النهر ، ومولده فى دمشق ووفاته بمصر سنة ٦٨٧ ه‍ / ١٢٨٨ م ، له عدة مصنفات منها المهذب والشامل فى الطب وشرح الهداية لابن سينا وغيرهم.

(٢) وردت فى الأصل لك.

١٠٢

الخامس : بعد مبدأ خروجه من مصبه إلى البحر الملح وقد تقدم من طول مسافته ما لا نجده فى نهر غيره.

السادس : انحداره من علو ، فإن الجنوب مرتفع على الشمال لا سيما وإذا صار إلى الجنادل انحط من أعلى جبل مرتفع إلى وادى مصر.

وذكر ابن قتيبة فى كتاب غريب الحديث جرير بن عبد الله البجلى (١) حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن منزله ببلنسة فذكره إلى أن قال : وماؤنا [ق ٨٤ ب] يمتنع أن يجرى من علو ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم «خير الماء السنم» (٢) أى ما كان ظاهرا على الأرض.

وقال بعض المفسرين فى قوله تعالى (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ])(٣) أى يمزج بما ينزل من علو لمصر.

السابع : أنه يمر من الجنوب إلى الشمال فتستقبله ريح الشمال الطيبة دائما.

الثامن : خفته فى الوزن ، وقد اعتبر ذلك غير مرة مع غيره من المياه فخف عنها فى الوزن.

التاسع : عذوبة طعمه وحسن أثره فى هضم الغذاء ، واحداره عن المعدة بحيث أنه يحدث بعد شربه جشاء.

وهذه صفات ممن قد مارس العلم الطبيعى وعرف الطب ، فإنه يعظم عنده قدر ماء النيل وتبين لك غزارة نفعه وكثرة محاسنه.

ويقال أن ذا القرنين كتب كتابا فيه ذكر ما شاهده من عجائب الدنيا ، فضمنه كل عجيبة ، ثم قال فى آخره : وليس ذلك يعجب ولكن [٨٥ أ] العجب نيل مصر.

وقال بعض الحكماء : لو لا ما جعل الله فى نيل مصر من حكمه الزيادة فى زمن الصيف

__________________

(١) سبق التحدث عنه.

(٢) ورد فى صحيح البخارى وسنن ابن ماجه والترمذى.

(٣) ٢٧ ك المطففين ٨٣.

١٠٣

على التدريج ، حتى يتكامل رى البلاد وهبوط الماء عنها عند بدء الزراعة ، لفسد أقليم مصر وتعذر سكناه ، لأنه ليس فيه أمطار كافية ولا عيون جارية نعم أرضه إلا فى بعض أقليم الفيوم.

ولله در القائل :

(١) واها لهذا النيل أى عجيبة

بكر بمثل حديثها لا يسمع

يلقى الثرى فى العام وهو مسلم

حتى إذا ما مل عاد مودع

مستقبل مثل الهلال فدهره

أبدا يزيد كما يزيد ويرجع

وفيما قيل

في تعكير النيل عند الزيادة

قال بدر الدين ابن الصاحب :

النيل البس حلة

حمراء فى تخليقه

وله أصابع زبيب

تخمت بعقيقه

[ق ٨٥ ب] وقال آخر :

كان النيل فى تكدير عيشى

وشرعه جريه عند انصراف

ولكن لونه كسحيق مسك

وبماء الورد مضروب مدافى

وقال آخر :

أما ترى الرعد بكى واشتكى

والبرق وقد أمضى واستضحكا

__________________

(١) وردت هذه الأبيات فى الخطط ج ١ ـ ١١٥

١٠٤

فاشرب علي غيم كصنع الدجى

يضحك وجه الأرض لما بكى

وانظر لماء النيل فى مده

كأنما صندل أو مصطكا

ومما قيل

في هجان البحر عند هبوب الرياح

قال الشيخ علاء الدين الوادعى :

إنظر إلى البحر الذى

بيد النسيم تجعدا

قد صيرته مبردا

فلاجل ذا تجلو الصدا

وقال الشيخ شهاب الدين المنصورى من أبيات :

[ق ٨٦ أ]

كأنه والصبا مسبحا تجعده

من نسيج داود فى الهيجا إسرائيل

كأن أمواجه والريح تنشرها

صوارم بطباها المحل مقتول

كأنما الشط والأمواج تلطمه

دف لها وحرير الماء موصول

وله أيضا :

قالت لنا والبحر من تحتنا

والموج فى أرجايه يلعب

ما أطيب النيل لو راده

قلت لها تصخيفة أطيب

١٠٥

وقال آخر أيضا :

مررت بشط النيل والماء مولع

بلثم ثناياه يبوس ويصدر

فخلت فضول الموج فى الشط بردة

بحاشيية يضاء تطوى وتنشر

وقال بعضهم :

شربنا على النيل لما بد

ا يزيد بموج ولا ينقص

كأن تكاثف أمواجه

معاطف جارية ترقص

[ق ٨٦ ب] وقال آخر :

وزاجر ليس له صوله

إلا إذا ما هبت الريح

هو إذا ما سكنت ساكن

كأنما الريح له روح

قال ابن قلاقس (١) :

انظر إلى الشمس فوق النيل غاربة

وانظر لما بعدها من حمرة الشفق

غابت وألقت شعاعا منه يخلفها

كأنما احترقت بالماء فى الغرق

وللهلال فها وافى لينقدها

فى أثرها زورق قد صنع من ورق

وقال بعضهم :(٢)

لله يومى بنهر قد مررت

فأبصرت منه عينى منظرا عجبا

كأنه شقة من فضة نسجت

وراحت الشمس فيها ترقم الذهبا

__________________

(١) هو نصر بن عبد الله بن عبد القوى اللخمى أبو الفتوح الأعز المعروف بابن قلاقس الإسكندرى الأزهرى شاعر نيل ، من كبار الكتاب ولد سنة ٥٣٢ ه‍ / ١١٣٨ م ، ومات سنة ٥٦٧ ه‍ ١١٧٢.

* وردت هذه الأبيات على هامش المخطوطة.

١٠٦

(١) وفي معناه نثرا :

انظر إلى البحر ترى فيه قبيل المغرب ، صغا من فضة قد موهت بالذهب.

وقال القاضى الفاضل عبد الرحيم (١) :

وأما النيل فقد ملأ البقاع

وانتقل من الأصبع إلى الذراع

فكأنما غار على الأرض فغطاها

وأغار عليها فاستعدها وما تخطاها

[ق ٨٧ أ]

ولم يوجد بمصر قاطع سواه

ولا مرغوب مرهوب إلا إياه

ونيل مصر مخالف فى جريه لغالب الأنهار ، فإنه يجرى من الجنوب إلى الشمال وغيره ليس كذلك» إلا نهران فإنهما يجريان كما يجرى النيل وهما نهر مهران بالسند ونهر الأريط وهو الذى يعرف اليوم نهر العاصى فى حماة إحدى مدائن الشام.

وقد عاب ماء النيل قوم قال ابن وحشية (٢) فى كتاب «الفلاحة النبطية» : وأما ماء النيل من جبال وراء بلاد السودان من جبل القمر. وحلاوته وزيادته يدلان على موقعه من الشمس وأنها قد أحترقته لأكل الاحراق ، بل استغنته إسخافا طويلا. لينا ، لا يزعجه الحرارة ولا تقوى عليه بحيث تبدد أجزاءه الرطبة وتبقى أجزاءه الراسخة ، بل يعتدل عليه ، فصار ماؤه لذلك حلوا جدا ، وصار كثرة شربه يعفن البدن ويكثر من الدماميل والقروح ، وصار أهل مصر الشاربون منه دمويين محتاجين إلى استفراغ [ق ٨٧ ب] الدم عن أبدانهم فى كل مدة قصيرة.

فمن كان عالما منهم بالطبيعة فهو يحسن مداواة نفسه حتى يدفع عن جسمه ضرر ماء النيل وإلا فهو يقع فيما ذكرنا من العفونات وإنتشار البثر والدماميل وذلك أن هذا الماء ناقص البرد عن سائر المياه فصار إذا خالط الطعام فى الأبدان كثر فيها الفضول الردية فيحدث من

__________________

** وردت هذه العبارات على هامش المخطوطة.

(١) وردت هذه العبارات [الأبيات] على هامش المخطوطة.

(٢) له ذكر عند المقريزى فى الخطط.

١٠٧

ذلك ما ذكرناه ، ودواء أهل مصر الذى يدفع عنهم ضرر ماء النيل إدمان شرب ماء الليمون والنارنج ، وكثرت الخل وأخذ الأدوية المعتدلة ولو زادت حرارة الشمس على ماء النيل وطال طبخها له لصار مالحا بمنزلة ماد البخار الراكدة التى لا حركة لها إلا وقت جزر البحر ، عند هبوب الرياح ، وهو أوفق للزرع والمنابت من الحيوان.

ذكر عجائب النيل

على سبيل الاختصار

قال المسعودى : فى نيل مصر وأرضها عجائب [ق ٨٨ أ] كثيرة من الحيوانات ، فمن ذلك السمك المعروف بالرعاد وهو نحو الذراع ، إذا وقعت فى شبكة الصياد ارتعدت يده وعضده فيعلم بوقوعها فيبادر إلى أخذها من الشبكة ، ولو أمسكها بخشبة أو قصب فعلت ذلك.

وقد ذكرها جالينوس وأنها إذا جعلت على رأس من به صداع شديد أو شقيقه وهى بالحياة هذا من ساعته.

وقال بعضهم : إذا علقت المرأة شيئا من الرعاد عليها ، لم يطق زوجها البعد عنها ساعة ، وكذلك أن علق الرجل عليه لم تكد المرأة أن تفارقه ساعة واحدة ، ومنها السقنقور وهو قزيب الشبه من الورل ، وقيل إنه فرخ التمساح فإذا خرج من البيضة فما قصد الماء صار تمساحا ، وما قصد الرمل صار سنقورا ، ولا يكون هذا فى النيل أو بنهر مهران من أرض الهند ويسمى بالورل المائى ، وأكثر ما يوجد فى الرمال التى تلى النيل من نواحى الصعيد أو الفيوم.

وهذا السقنقور يتولد من ذكر وأنثى ، ويوجد للذكر خصيتان كخصيتى الديك ، وله ذكران وللأنثى منه فرجان ، وتبيض فوق العشرين بيضة وتدفنها فى الرمل. وقيل أن قوما شؤومنه وأكلوا فماتوا كلهم فى ساعة واحدة ، وقيل شحمه ينفع للجماع وقوة الباء.

ومن عجائب النيل فرس البحر : قال عبد الله بن أحمد بن سليم الأسوانى فى كتاب

١٠٨

أخبار النوبة : ومسافة ما بين دنقلة إلى بلاد علوة أكثر مما بين دنقلة وأسوان ، وفى ذلك من القرى والضياع والجزائر والمواشى والنخل والشجر والمقل والزرع والكرم أضعاف ما فى الجانب الذى يلى أرض الإسلام.

وفى هذه الأماكن جزائر عظيمة مسيرة أيام ، وفيها الحيات (١) والوحوش ، ومفاوز يخاف فيها العطش ، وماء النيل ينعطف من هذه النواحى إلى مطلع الشمس وإلى مغربها مسافة أيام ، وهذا مكان يعرف بشنقير ، ومنه يخرج القمرى وفيه يكون فرس البحر.

قال [ق ٣٨٩] سيمون : صاحب عهد علوة ، أنه آحصى فى جزيرة سبعين دابة منها وهى فى خلقة الفرس غلظ الجاموس ، قصيرة القوائم ، لها خف ، وهى فى ألوان الخيل بأعراف وآذان صغار كأذان الخيل وأعناقها وأذنابها مثل أذناب الجواميس ، ولها صهيل كالخيل وأنياب لا يقوم حذاءها تمساح ، وتعترض لبعض المراكب فتغرقها ، ورعيها فى البر العشب ، وحافرها مشقوق كحافر البقر وهو يأكل التمساح أكلا ذريعا.

وأتفق أن بعض الناس نزل على شاطىء النيل ومعه حجرة ، فخرج من الماء فرس أدهم عليه نقط بيض ، فتراما على الحجرة فحملت منه وولدت مهرا عجيب الحلقة ، فطمع فى مهر آخر فجاء بالحجرة والمهر إلى ذلك الموضع ، فخرج الفرس من الماء وشم المهر ساعة ، ثم وثب فى الماء وتبعه المهر إلى الماء ، فصار الرجل يتعاهد ذلك المكلن كثيرا ، فلم يعد الفرس ولا المهر إليه.

قال المسعودى : والفرس يكون فى نيل مصر إذا خرج من الماء وإنتهى وطئه إلى بعض المواضع من الأرض ، علم أهل مصر [ق ٨٩] أن النيل يزيد إلى أن يبلغ ذلك الموضع بعينه وذلك عندهم لا يختلف لطول العادات والتجارب.

وفى ظهوره من البحر ضرر للغلات والزرع ، وذلك أنه يظهر فى الليل ينتهى إلى موضع من الزرع ، ثم يولى عائدا إلى الماء فيرى فى حال رجوعه من الموضع الذى إنتهى إليه مسيرة ، ولا يرعى من ذلك الذى قد رعاه فى ممره شيئا ، وإذا رعى وورد الماء وشرب منه ، ثم قذف ما فى جوفه فى مواضع شتى ، فينبت ذلك مرة ثانية.

وإذا كثر ذلك من فعله ، واتصل ضرره بأرباب الضياع طرحوا له شيئا من الترمس فيأكله

__________________

(١) وردت فى الأصل الجبال.

١٠٩

ثم يعود إلى الماء ، فإذا شرب منه ربا الترمس فى جوفه فينتفخ ويموت ، ويطفوا على الماء والموضع الذى يرى به لا يرى به تمساح.

وقال المسبحى : أن السمك المعروف بالبلطى أول ما عرف بنيل مصر فى أيام الخليفة لعزيز بالله نزار بن المعز لدين الله ، ولم يكن يعرف قبله فى النيل ، وظهر [ق ٩٠ أ] فى أيامه أيضا سمك يعرف باللبيس ، وإنما سمى باللبيس أنه يشبه البورى الذى بالبحر المالح ، فاللبيس به ، وغالب الظن أنها من أسماك البحر المالح دخلت فى الحلو.

ومن عجائب النيل التمساح : قال ابن البيطار (١) : التمساح حيوان معروف يكون فى الأنهار الكبار ، وفي النيل منه شىء كبير ويوجد فى نهر مهران بأرض الهند.

قال ابن زهران (٢) : كل حيوان يحرك فكه الأسفل إذا أكل ما خلا التمساح ، فأنه يحرك فكه الأعلى دون الأسفل. وشحم التمساح إذا عجن بالسمن ، وجعل منه فتيلة وأسرحت فى نهر أو بركة لم تنطق ضفادعها مادامت تقد ، وإذا طيف بجلد التمساح حول قرية ، ثم علق فيها لم يقع البرد فى تلك القرية مادام بها ، وإذا عض التمساح إنسانا ووضع على العضة شيئا من شحمه برأ من ساعته ، وإن لطخت بشحمه جبهته كبش نطاح ، نفر منه كل كبش يناطحه ويهرب منه. وإذا تبحر بكبده المجنون [ق ٩٠ ب] برىء وإذا أقلعت عينه وهو حى ، وعلقت على من به جذام أوقفه ، ولم يرد عليه وشحمه إذا جعلت معه دهن ورد نفع من به وجع الصلب والكليتين ، وزاد فى الباه. وإذا دهن به من صمم برىء ، وإذا أدهن به صاحب حمى الربع سكنت عنه وله منافع كثيرة لا تحصى نفعها.

قال المسعودى : وللتمساح آفة تسمى دويبة تكون فى سواحل النيل وجزائره ، وهو أن التمساح مثل الجراب لا دبر له ، وما يأكله يتكون فى بطنه ، فيربى فى بطنه دودا فإذا آذاه ذلك خرج إلى البر فاستلقى على قفاه فاغرا فاه فينقض إليه طائر من الماء ، وقد اعتاد منه بذلك فيأكل ما يظهر من جوفه من ذلك الدود العظيم ، وكذلك الطائر ابرتين من العظم فى ظهره ، فإذا

__________________

(١) هو عبد الله بن أحمد المالقى أبو محمد ضياء الدين المعروف بابن البيطار إمام البنايتين وعلماء الأعشاب ، ولد فى مالقة وتعلم الطب ، ورحل إلى بلاد الأغارقة وأقصى بلاد الروم ، صاحب كتاب الأدوية المفردة والمغنى فى الأدوية المفردة ، ولد سنة ٦٤٦ ه‍ ، ومات سنة ١٢٤٨ ه‍.

(٢) له ذكر فى الخطط للمقريزى.

١١٠

أحس التمساح بذلك الطائر قبض فاه على ذلك الطائر ، فيضربه الطائر بتلك الأبرتين في سقف حلقه فيفتح ، فيطير ذلك الطائر من جوفه ، وتكون تلك الدويبة المقدم ذكرها قد كمنت له فى الرمل ، فتدخل فى جوفه فيخبط التمساح [ق ٩١ أ] بنفسه على الأرض ويطلب البحر فلا تزال عليه حتى تحزق جوفه ، وتخرج منه وربما قتل نفسه قبل أن تخرج من جوفه ، وتخرج بعد موته ، وهذه الدويبة نحو الذراع على صورة ابن عرس ، ذات قوائم شتى ومخالب.

ويقال أنه كان بجبال فسطاط مصر طلسم معمول برسم التمساح لا يستطيع الحركة عنده ، بل كان إذا قرب منه انقلب واستلقى على ظهره ، فيبعثون الصبيان به إلى أن يجاوز ذلك الطلسم ثم يعود إلى حاله أو يموت ، وهذا الطلسم كسر فبطل فعله. ويقال أن التمساح يبيض كبيض الأوز ، وربما تولد منه جرادين صغار ، ثم تكبر حتى تبلغ طولها عشرج أشبا ، والتمساح بجامع انتاتيه ستين مرة فى حركة واحدة ومحل واحد ، والله أعلم.

ذكر طرف يسيرة من تقدمه المعرفة

بحال النيل فى كل سنة

قال ابن رضوان (١) فى شرح الأربع وقد يحتاج أمر النيل إلى شروط [ق ٩١ ب] منها : أن تكون الأمطار متوالية فى نواحى الجنوب قبل مدة وفى وقت مدة ، ولذلك وجب أن يكون النيل متى كانت الزهرة وعطارد مقرنين فى مدخل الصيف ، كثرة الزيادة لرطوبة الهواء ومتى كان المريخ أو بعض المنازل فى ناحية الجنوب فى مدخل الربيع أو الصيف ، كانت الأمطار قليلة فى تلك الناحية ، ومنها أن تكون الريح شمالية لتوقف جريه ، فأما الجنوبية فأنها تسرع إنحداره ولا تدعه يلبث ، فإذا علمت ما يكون فى ناحية الجنوب من كثرة الأمطار أو قلتها ، وفى ناحية مصر من هبوب الرياح فى فصلى الربيع والصيف فقد علمت بحال النيل كيف تكون فى تلك السنة بمصر من الخصب والجدب.

__________________

(١) هو محمد بن رضوان بن محمد بن أحمد أبو يحيى النميرى الوادى ، صاحب شجرة فى أنساب العرب مات سنة ٦٥٧ ه‍ / ١٢٥٩ م.

١١١

وقال بطليموس : إذا أردت أن تعلم مقدار مد النيل فى الزيادة والنقصان ، فانظر حين تحل الشمس برج السرطان إلى الزهرة وعطارد والقمر ، فإن كانت أحوالها جيدة وهي برية من النحوس ، فالنيل بمد ويبلغ الحاجة به ، وإن كانت أحوالها بخلاف ذلك وهى ضعيفة فانكسر القول ، فإن ضعف بعضها وصلح البعض توسط الحال فى النيل ، والضابط [ق ٩٢ أ] أن قوة الثلاثة تدل على تمام النيل ، وضعفها علي توسطه وإنتخاسها أو احتراقها أو وقوعها فى بعدها إلا بعد من الأرض ، دل على النقص وأنه قليل جدا ، إلا أن احتراق الزهرة فى برج الأسد يستنزل الماء من الجنوب.

وقالت القبط : ينظر أول يوم من شهر برمودة ، ما الذى يوافقه من أيام الشهر العربى ، فما كان من الأيام فزد عليه خمسة وثمانين يوما ، فما بلغ حد سدسه فإنه يكون عدد مبلغ النيل فى تلك السنة من الأذرع.

قالوا : ومن المعتبر أيضا فى أمر النيل أن ينظر فى اليوم الذى يفطر فيه النصارى اليعاقبة بمصر ما بقى من الشهر العربى ، فرد عليه أربعا وثلاثين فما بلغ أسقطه أثنى عشر فهو زيادة النيل من الأذرع فى تلك السنة مع الأثنى عشر وأن بقى أثنا عشر فهى سنة ديئة وقالوا : إذا كان العاشر من الشهر العربى موافقا لشهر أبيب والقمر فى برج العقرب فإنه كان مقارنا لقلب العقرب كان النيل مقصرا وإلا فهو جيد.

ذكر عيد الشهيد

وما كان يعمل بمصر

يوم عيد الشهيد

ومن المعتبر فى ذلك الذى جريته الناس وضح أن ينظر [ق ٩٢ ب] أول يوم من مسرى كم مبلغ النيل فزد عليه ثمانية أذرع ، فما بلغ فهو زيادة النيل فى تلك السنة. وما يزعم نصارى الوجه القبلى إنه مجرب فى أمر النيل ، أن يؤخذ قبل عيد ميكائيل بيوم فى وقت الظهر من الطين ، الذى مر عليه ماء النيل قطعة زنتها ستة عشر درهما ، سواء وترفع فى إناء مغطى إلى بكرة يوم عيد ميكائيل ، وتوزن فما زاد عليه وإنها من الخراريب ، لكل خروبة ذراع ، ومع ذلك

١١٢

فلابد من أخذ شىء من دقيق القمح ، واعجنه بماء النيل فى إناء فخار قد عمل من طين مر عليه النيل ، واتركه مغطى طول ليلة عيد ميكائيل ، فإذا وجدته يوم العيد قد اختمر بنفسه ، كان النيل فى تلك السنة ويعتبر مع ذلك بكرة يوم عيد ميكائيل إلى الهواء ، فإن مر طيابا فهو نيل جيد وأن هب غير طياب فهو نيل مقصر لا سيما أن هب مر يسبا فإنه يكون غير كاف ، ويعتبر [ق ٩٣ أ] أيضا إذا مطر مطر فى شهر بابه ولو مطر قليل ، فإنه ينظر أى يوم من أيام الشهر القبطى فى العدد فإنه يبلغ الويبة (١) القمح تلك السنة من الدراهم بعدد ما مضى من أيام شهر بابه. وقد جرب ذلك فى بعض السنين عند وقوع المطر فى بابه يوم الخمس عشر منها ، فابيعت الويبة القمح فى تلك السنة بخمسة عشر درهما.

وكان من انزه فرج مصر وهو اليوم الثامن من شهر بشنس أحد شهور القبط ، ويزعمون أن النيل بمصر لا يزيد فى كل سنة حتى يلقى النصارى فيه تابوتا من خشب فيه أصبع من أصابع من قد هلك من أسلافهم الموتى ، ويكون كذلك اليوم عيدا ترحل إليه النصارى من جميع القرى ، ويركبون فيه الخيل ويلعبون عليها ، وتخرج عامة أهل القاهرة ومصر على إختلاف طبقاتهم وينصبون الخيم على شطوط النيل ، فى الجزائر ، ولا يبقى مغن ولا مغنية ولا صاحب لهو ولا رب ملعوب ولا بغى ولا مخنث ولا ماجن ولا [ق ٩٣ ب] خليع ولا متفرج ولا فاسق ، إلا يخرج لهذا العيد. فيجتمع عالم عظيم لا يحصيهم إلا خالقهم ، وتصرف أموال لا تنحصر ويتجاهروا هناك ، بما لا يبتغى شرحه من المعاصى والفسوق ، وتثور فتن وتقتل اناس ، ويباع من الخمر خاصة فى ذلك اليوم بما ينيف على مائة ألف درهم فضة عنها خمسة آلاف دينار ذهبا ، وباع نصرانى فى يوم واحد بمائتى ألف درهم فضة من الخمر خاصة.

وكان اجتماع الناس لعيد الشهيد دائما بناحية شبرا من ضواحى القاهرة ، وكان اعتماد فلاحى شبرا دائما فى وفاء الخراج على ما يبيعونه من الخمر فى عيد الشهيد.

ولم يزل ذلك الحال على ما ذكر من الاجتماع إلى أن كانت سنة أثنين وسبعمائة ـ والسلطان يومئذ بديار مصر الملك الناصر محمد بن قلاوون والقائم بتدبير الدولة الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير ، وهو يومئذ أستا دار العالية (٢) بمصر ، والأمير سيف الدين سلار نائب السلطنة بديار مصر فقام الأمير بيبرس المذكور [ق ٩٤ أ] فى أبطال ذلك قياما عظيما ،

__________________

(١) هو المكيال المعروف.

(٢) كلمة تركية وهى وظيفة قائد الحرس أو الكتيبة.

١١٣

وكان إليه أمور ديار مصر مفوضة هو والأمير سلار ، والناصر تحت حجرهما لا يقدر شبع بطنه إلا من تحت أيديهما.

فتقدم أمر الأمير بيبرس ألا يرمى الأصبع فى النيل ولا يعمل له عيد ، وندب الحجاب ووالى القاهرة لمنع الناس من الاجتماع بشيرا على عاداتهم ، وخرج البريديونى إلى سائر أعمال مصر وأعمال مصر ومعهم الكتب إلى الولاة باجهار النداء وإعلانه فى الأقاليم بأن لا يخرج أحد من النصارى ولا يحضر لعمل عيدا الشهيد.

فشق ذلك على أقباط مصر كلهم ، ممن أظهر منهم الإيمان ومن هو باق على نصرانيته ، ومشى بعضهم إلى بعض.

وكان منهم رجل يعرف بالتاج بن سعيد الدولة يعانى الكتابة ، وهو يومئذ فى خدمة الأمير بيبرس ، وقد احتوى على عقله ، واستولى على جميع أموره ، فما زال الأقباط بالتاج إلى أن تحدث مع مخدومه الأمير بيبرس فى ذلك ، وخيله من اتلاف مال الخراج إذا أبطل هذا العيد ، فإن أكثر خراج شبرا إنما يحصل من ذلك ، وقال له : متى لم يعمل العيد لا يطلع النيل [ق ٩٤ ب] فى تلك السنة ويخرب أقليم مصر لعدم طلوع النيل ، وهذه قاعدة مصر على ذلك.

فثبت الله الأمير بيبرس وقواه حتى اعترض عن جميع ما ذكره من زخرف القول ، واستمر على منع عمل العيد وقال للتاج : إن كان النيل لا يطلع إلا بهذا الأصبع فلا يطلع ، وإن كان الله تعالى هو الذى يطلعه ، فنكذب النصارى.

فبطل العيد من تلك السنة ، ولم يزل منقطعا إلى سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة. وعمر الملك الناصر محمد بن قلاوون الجسر فى بحر النيل ليرى قوة التيار عن القاهرة ، فطلب الأمير يبلغا اليحياوى والأمير الطنبغا الماردينى من السلطان أن يخرجا إلى الصيد ويغيبا مدة فلم يرضى السلطان بذلك وأراد صرفهما عن السفر. فقال لهما : نحن نعيد عمل عيد الشهيد حتى تفرجكما عليه خير من خروجكما إلى الصيد ، وكان قد قرب أوان وقت عيد الشهيد ـ فرضيا بذلك وأشيع فى الأقليم إعادة عيد الشهيد.

فلما كان [ق ٩٥ أ] اليوم الذى يعمل فيه ركب الأمراء فى النيل فى الشخانير ، واجتمع الناس من كل جهة على عادتهم كما كانوا يفعلون من المحرمات وأنواع المنكرات ، واتسع الأمر توسعا خرجوا فيه عن الحد فى كثرة المبالغة من التجاهر والتهتكات فوق ما كان يعمل واستمروا علي ذلك ثلاثة أيام.

١١٤

وكان مدة انقطاع عمل عيد الشهيد منذ أبطله الأمير بيبرس إلى أن أعاده الملك الناصر ست وثلاثين ، واستمر بعمله فى كل سنة بعد ذلك إلى أن كانت سنة خمس وخمسين وسبعمائة ترك المسلمون على النصارى ، وعملت أوراق بما قد وقف من أراضى مصر على كنائس النصارى ودورهم ، وحملت الأوراق إلى ديوان الأحباس ، فلما تحررت تلك الأوراق اشتملت على خمسة وعشرين ألف فدان كلها على الكنائس والديارات ، وعرضت على أمراء الدولة فى أيام الملك الصالح بن محمد قلاوون وهم الأمير شيخو العمرى والأمير [ق ٩٥ ب] صرغتمش والأمير طاز ـ فتقرر الحال على أن ينعم بذلك على الأمراء زيادة على أقطاعهم ، والزم النصارى بما يلزمهم من الصغار ، وهدمت لهم عدة كنائس.

فلما كان العشر الأخير من شهر رجب من السنة المذكورة خرج الحاجب والأمير علاء الدين بن الكورانى وإلى القاهرة إلى ناحية شبرا ومنع من نصيب الخيام على العادة ، وهدمت كنيسة النصارى التى كان فيها أصبع الشهيد فى صندوق ، وأحضروه إلى عند الملك الصالح ، فأحرقه بين يديه فى الميدان وذر رماده فى البحر ، وبطل عيد الشهيد من يومه إلى هذا العهد ، ولله الحمد ..

ذكر الخلجان

الذى شقت بأرض مصر

من مجرى النيل

أعلم أن النيل إذا انتهت زيادته فتحت منه خلجان وترع يتحرق الماء فيها يمينا وشمالا إلى البلاد البعيدة عن مجرى النيل ، وأكثر الخلجان والترع والجسور والأخوار بالوجه البحرى. وأما الوجه القبلى ـ وهى بلاد الصعيد فإن ذلك [ق ٩٦ أ] قليل فيه ، وقد ذهبت معالمه ودرست رسومه من هناك.

والمشهور من الخلجان : خليج سخا ومنف والمنهى وأشموم طناح وسردوس والأسكندرية ودمياط والقاهرة وأبى المنجا والناصرى.

١١٥

قال ابن عبد الحكم عن أبى رهم السماعى قال : كانت مصر ذات قناطر وجسور بتقدير حتى أن الماء البحرى يجرى تحت منازلها وأفيتها فيحسبونه كيف شاءوا وذلك قول الله تعالى عما حكي عن قول فرعون (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ، أَفَلا تُبْصِرُونَ)(١).

قيل لم يكن فى الأرض يومئذ ملك أعظم من ملك مصر ، وكانت الجنات بحافتى النيل من أوله إلى آخره فى الجانبين جميعا ـ ما بين أسوان إلى رشيد وسبع خلجان متصلة لا ينقطع منها شىء عن شىء ، والزرع ما بين الجبلين من أول مصر إلى آخرها مما يبلغه الماء.

وكان جميع [ق ٩٦ ب] أرض مصر كلها تروى من ستة عشر ذراعا ، لما قدروا وديروا من قناطرها وخلجانها وجسورها فذلك قوله عز وجل (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ)(٢) قيل المقام الكريم إن كان بها ألف منبر ، وقيل المقام الكريم هو االقيوم.

خليج سخا

فأما خليج سخا فقد حفر تدارس بن صابن قبطيم بن مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام ، وهو آخر ملوك القبط القدماء الذين ملكوا مصر فى الدهر الأول.

قال ابن وصيف شاه : تدارس الملك أول من ملك الأحياز كلها بعد أبيه صار ، وصفا له ملك مصر وكان تدارس محكما فجربا زايدا وقوة ومعرفة بالأمور فاظهر العدل ، وأقام الهياكل قياما حسنا ودبر جميع الأحياز ، ويقال أنه الذى حفر خليج سخا ، وقرر الأموال على البلاد وهابته الملوك ، وسار إلى بلاد السودان من الزنج والنوبة في ثلاثة ألف ووجه فى النيل ثلاثمائة سفينة ، فى كل سنة [ق ٩٧ أ] كاهن يعمل أعجوبة من العجائب فهزم الزنج والنوبة وقتل أكثرهم وأسر منهم خلقا كثيرة ، ثم اتبعهم بجيوشه حتى وصلوا إلى أرض الفيلة من أعلى بلاد الزنج ، فأخذوا منها عدة من النمور والوحوش والفيلة وساقوها إلي أرض مصر ، ثم مات بمصر ودفن في ناووس ونقل إليه شيئا كثيرا من الذهب والجوهر والصنعة والتماثيل ، وكتب على ناوسه باسمه وتاريخ هلاكه وجعل عليه طلمسان المنيعة وعهد إلى ابنه ماليق بن تدارس.

__________________

(١) ٥١ ك الزخرف : ٤٣

(٢) ٢٦ ك ـ الدخان : ٤٤.

١١٦

خليج سردوس

حفره هامان قال بن وصيف شاه : جلس فرعون على سرسر الملك ، وحاز جميع ما كان في خزائن من كان قبله من الملوك ، وقيل هو الذى يذكر القبط أنه فرعون موسى ، فأما أهل الأثر فيزعمون أن اسمه الوليد بن مصعب ، وأنه من العمالقة وذكروا أن الفراعنة سبعة وقيل عن فرعون موسى أنه كان قصيرا ، طويل اللحية أشهل العين ، ضيق العين اليسرى فى جبينه شامه ، وكان أعرج.

وزعم قوم أنه [ق ٩٧ ب] القبط ونسب أهل بيته مشهور عنه وذكر آخرون أنه دخل منف ليبيع نطرون ، وكانوا قد اضطربوا فى تولية الملك فرضوا أن يملكوا عليهم أول من ينظروا من الناس ، فلما رأوه ملكوه عليهم ولما جلس فى الملك بدل الأموال وارغب من أطاعه وقتل من خالفه ، فاعتدل أمره إلى أن استخلف هامان وكان يقرب منه فى نسبه وأثار له بعض الكنوز وصرفها في بناء المدائن والعمارات وحفر خلجانا كثيرة ، ويقال أنه الذى حفر خليج سردوس وكان عرجه إلى قرية من قرى الجوف ، فحمل إليه أهلها مالا ، فاجتمع له من ذلك شىء كثير ، فأمر برده علي أهله.

وقال ابن عبد الحكم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله عنه أن فرعون استعمل هامان على حفر خليج سردوس فلما ابتدأ حفره أتاه أهل كل قرية يسألونه أن مجرى الخليج تحت قريتهم ويعطونه مالا ، قال وكان يذهب به إلى هذه القرية من نحو المشرق ، ثم يرده إلى أهل قرية من نحو دبر القبلة ثم يرده إلى قرية فى الغرب [ق ٩٨ أ] ويأخذ من أهل كل قرية مالا جزيلا حتى اجتمع له فى ذلك مائة ألف ألف دينار ، فأتى بذلك كله إلى فرعون فسأله عن ذلك فأخبره بما فعل فى حفر الخليج ، فقال له فرعون : ويحك أنه ينبغى للسيد أن يعطف على عبيده ، ويفيض عليهم الرزق ولا يرغب فيما بأيديهم ، فرد كلما أخذت على أهله.

وقيل ولا يعلم بمصر خليج أكثر نفعا منه لما فعل هامان فى حفره.

خليج الإسكندرية

قال ابن عبد الحكيم : يقال أن الذى بنى منارة الإسكندرية الملكة قلبطرة وهى التى ساقت خليجها حتى أدخلته إلى الإسكندرية ، ولم يكن يبلغها الماء قبل ذلك ، فحفرته حتى أدخلنه إسكندرية وهى التى بلطت قاعة الرخام.

١١٧

قال الأسعد بن مماتى فى كتاب قوانين الدواوين : خليج الإسكندرية عليه نزاع وطوله من فم الخليج ثلاثون ألف قصبة وستمائة قصبة وعرضه من قصبتين ونصف إلى ثلاث قصبات ونصف ومقام الماء فيه بالنسبة إلى النيل فإن كان مقصرا قصرت مدة إقامته فيه ، وأن [ق ٩٨ ب] كان عاليا أقام فيه ما يزيد على شهرين ، ويقال أنه إذا عملت من قباله سح إلى سح زلاقة استقر الماء فيه صيفا وشتاء ، ورويت البحيرة جميعا وزرع عليه القصب والقلقاس والنيلة وجرى مجرى بحر الشرق والمحلة وغيره من البلاد ، ويقال أنه كان يجرى فيه الماء بطول النسبة وكان السمك فيه غاية الكثرة بحيث تصيده الأطفال بالحرق.

خليج الفيوم والمنهي

مما حفره نبى الله يوسف عليه السلام عندما عمر الفيوم وهو مشتق من النيل لا ينقطع جريه أبدا وهو الآن يعرف ببحر يوسف لا ينقطع جريانه بطول السنة فيسقى الفيوم دائما ثم يتحصل فاضل ماءه فى بحيرة هناك ، ومن العجب أنه ينقطع ماءه من فوهبه ، ثم يكون له نهرا لطيفا فى وسطه لا ينقطع جريانه بطول السنة ، يعم الفيوم وقراه ومزارعه وبساتينه دائما.

خليج القاهرة

هذا الخليج بظاهر القاهرة من جانبها الغربى ، فيما بينها وبين المقسم [ق ٩٩ أ] عرف فى أول الإسلام بخليج أمير المؤمنين ، وتسمية العامة اليوم بالخليج الحاكمى وبخليج اللؤلؤة ، وهو خليج قديم أول من حفره طوطيس بن ماليا أحد ملوك مصر الذين سكنوا مدينة منف ، وهو الذى دخل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ، ووهب لإبراهيم هاجر أم ولده إسماعيل إلى مكة بعثت هاجر إلى طوطيس يقول له أنها بمكان مجدب وتطلب منه حنطة فعند ذلك أمر بحفر هذا الخليج وبعث إليها فيه بالسفن تحمل الحنطة وغيرها من الأغلال إلى جده ، فأحيا أرض الحجاز ثم اندرومانوس الذى يعرف بايليا أحد ملوك الروم بعد الإسكندر بن فلبس المجدوبي جدد حفر هذا الخليج ، وسارت فيه السفن وذلك قبل الهجرة بنيف وأربعمائة سنة ، ثم أن عمرو ابن العاص رضى الله عنه جدد حفره لما فتح مصر وأقام فى حفره ستة أشهر ودخلت السفن فسمى خليج أمير المؤمنين يعنى عمر بن الخطاب [ق ٩٩ ب] فإنه هو الذى أشار بحفره ولم يزل يجرى فيه السفن من فسطاط مصر إلى مدينة القلزم التى كانت على شاطىء البحر الشرقى حيث الموضع الذى يعرف اليوم بالسويس ، وكان يصب ماء النيل فى البحر عند مدينة

١١٨

القلزم إلي أن أمر الخليفة أبو جعفر المنصور بطمه في سنة خمسين ومائة فطم وبقى منه ما هو موجود الآن.

خليج أبي المنجا

هذا الخليج يسميه العامة بحر أبى المنجا والذى حفره الأفضل ابن أمير الجيوش فى سنة ست وخمسمائة ، وكان على حفره أبو المنجا بن شعيا اليهودى فعرف به.

خليج الناصري

هذا الخليج فى ظاهر المقسم حفره الملك الناصر محمد بن قلاوون فى سنة خمس وعشرون وسبعمائة.

ذكر ما قالته الشعراء

فى مقترحات مصر واسمها

فمن ذلك قول أمية بن أبى الصلت ـ أمية الأندلسى :

لله يوم ببركة الحبش

والأفق بين الضياء والغبش

والماء تحت الرياح مضطرب

كصارم فى يمين مرتعش

ونحن فى روضة مفوفة

دبج بالنور عطفها ووشى

[ق ١٠٠ أ] قد نسجتها يد الغمام لنا

فنحن من بسطها على فرش

فأثقل الناس كلهم رجل

دعاه داعى الصبا فلم يطش

فعاطنى الراح أن تاركها

من سورة الهم غير منتعش

واسقنى بالكبار مترعه

فهى الروا من حرارة العطش

١١٩

وقال أيضا فى البريم :

لله يوم بالبريم قطعته

بمسرة دارت به أفلاكه

حرت به أمواهه فتراقصت

طربا لحسن غنلئه أسماكه

وقال بعضهم فى الرصد :

وليلة عاش سرورى بها

ومات من يحسدنا بالكمد

بت مع المحبوب فى روضة

وبات من يرقينا بالرصد

وقال ابن خطيب داريا :

يا عين إن بعد الحبيب وداره

وناءت مرابعه وشط مزاره

فلقد ظفرت من الزمان بطائل

إن لم تريه فهذه آثاره

وقال الشيخ شمس الدين بن الصايغ الحنفى فى الروضة [ق ١٠٠ ب] والمشتهى :

وليلة مرت لنا حلوة

إن رمت تشبيها بها عتبها

لا يبلغ الواصف فى وصفها

جدا ولا يلقى منتهى

بت مع المعشوق فى روضة

ونلت من خرطومه المشتهى

وقال الشيخ القيراطى فى الروضة أيضا :

وروضة أضحى لها المنتهى

وحسنها المعشوق والمشتهى

وهى لمن قد حلها روضة

وجنة فيها الذى يشتهى

وقال الشيخ شهاب الدين المنصورى فيها أيضا :

كأنما الروضة الغناء وغانية

بحسنها قلب هذا النيل مشغول

أعطافها من غضون الروح مائسة

وريقها من زلال الماء معسول

وقال بعضهم فى الكوادى :

مررت بشط النيل يوما فخلته

مراتع غزلان كوين فؤادى

١٢٠