الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

وقد تقدم قبل فى فتح فسا ودرابجرد خبر لرسول سارية بن زنيم شبيه بهذا الخبر ، فالله تعالى أعلم.

وذكر الطبرى غزوة سلمة بن قيس هذه فى سنة ثلاث وعشرين ، وهى السنة التي قتل عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فى آخرها ، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.

ذكر الخبر عن إحرام عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه

إلى حين مقتله

لم يزل عمر ، رضي‌الله‌عنه ، قائما على أمر الله ، مجتهدا فيه ، مجاهدا لأعدائه متعرفا منه سبحانه ، من المعونة والتأييد وجميل الكفاية والعناية والصنع ما وطأ له البلاد ودوخ الممالك ، وألقى إليه مقاليد الأمم من الفرس والروم والترك والأكراد وغيرهم من الأمم والأجيال الذين تقدم ذكرهم ، وأنجز الله فى مدة خلافته معظم ما وعد به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الفتوح ، وجمع إليه أكثر ما زواه له من الأرض ، وتغلغلت جنوده فى الآفاق عند ما أذن لها فى الانسياح ، حتى أمرهم آخر إمارته بالإقصار ، والكف احتياطا على المسلمين ونظرا للإسلام ، وأقبل عند ما أذن لهم فى ذلك على الدعاء ، وتتبع آثار العمال بالعيون والنصحاء فى السر والعلانية ، وتفقد الناس فى الشرق والغرب ، إلى أن أتته منيته المحتومة ، بالشهادة المقدرة له فى مصلاه ، على ما يأتى الذكر له إن شاء الله تعالى.

وقد ورد فى غير موضع من الآثار ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاستشهاده مخبرا وداعيا ، وهو الداعى المجاب ، والصادق المصدوق ، صلوات الله وبركاته عليه.

وروى عن عوف بن مالك الأشجعى أنه رأى فى المنام على عهد أبى بكر ، رحمه‌الله تعالى ، كأن الناس جمعوا ، فإذا فيهم رجل قد علاهم ، فهو فوقهم بثلاثة أذرع ، قال : فقلت : من هذا؟ قالوا : عمر ، قلت : ولم؟ قالوا : لأن فيه ثلاث خصال : لا يخاف فى الله لومة لائم ، وإنه خليفة مستخلف ، وشهيد مستشهد ، قال : فأتى أبا بكر فقصها عليه ، فأرسل أبو بكر إلى عمر ليبشره ، قال : فجاء ، فقال لى أبو بكر : اقصص رؤياك ، فلما بلغت : خليفة مستخلف ، زبرنى عمر وانتهرنى ، وقال : اسكت ، تقول هذا وأبو بكر حى.

قال : فلما كان بعد وولى عمر ، مررت بالشام وهو على المنبر ، فدعانى فقال : اقصص

٦٠١

رؤياك ، فقصصتها ، فلما قلت : إنه لا يخاف فى الله لومة لائم ، قال : إنى لأرجو أن يجعلنى الله منهم ، فلما قلت : خليفة مستخلف ، قال : قد استخلفنى ، فأسأله أن يعيننى على ما ولاني ، فلما ذكرت : شهيد مستشهد ، قال : أنّى لى الشهادة وأنا بين أظهركم تغزون ولا أغزو؟ ثم قال : بلى ، يأتى الله بها أنّى شاء ، يأتى الله بها أنّى شاء.

وكان عمر ، رحمه‌الله ، ملازما للحج فى سنى خلافته كلها ، وكان من سيرته أن يأخذ عماله بموافاته كل سنة فى موسم الحج ليحجزهم بذلك عن الرعية ، ويحجر عليهم الظلم ، ويتعرف أحوالهم فى قرب ، وليكون للرعية وقت معلوم ينهون إليه شكاويهم فيه. فلما كانت السنة التي قتل منسلخها ، رضي‌الله‌عنه ، خرج إلى الحج على عادته ، وأذن لأزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرجن معه ، فلما وقف عمر ، رحمه‌الله ، يرمى الجمرة أتاه حجر فوقع على صلعته فأدماه ، وثم رجل من بنى لهب ، قبيلة من الأزد ، تعرف فيها العيافة والزجر ، وإياها عنى القائل :

تيممت لهبا أبتغى العلم عندهم

وقد رد علم العالمين إلى لهب

فقال اللهبى عند ما أدمى عمر ، رحمه‌الله : أشعر أمير المؤمنين لا يحج بعدها.

ويروى عن عائشة ، رضي‌الله‌عنها ، وحجت مع عمر تلك الحجة : أنه لما ارتحل من الحصبة أقبل رجل متلثم ، قالت : فقال وأنا أسمع : أين كان منزل أمير المؤمنين؟ فقال قائل : هذا كان منزله ، فأناخ فى منزل عمر ، ثم رفع عقيرته يتغنى :

عليك السلام من أمير وباركت

يد الله فى ذلك الأديم الممزق

فمن يسع أو يركب جناحى نعامة

ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق

قضيت أمورا ثم غادرت بعدها

بوائق فى أكمامها لم تفتق

قالت عائشة : فقلت لبعض أهلى : اعلموا لى من هذا الرجل ، فذهبوا ، فلم يجدوا فى مناخه أحدا ، قالت عائشة : فو الله إنى لأحسبه من الجن ، فلما قتل عمر نحل الناس هذه الأبيات للشماخ بن ضرار أو لأخيه مزرد.

وقال سعيد بن المسيب : لما صدر عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، من منى أناخ بالأبطح ، ثم كوم كومة بطحاء ، ثم طرح عليها رداءه واستلقى ، ثم مد يديه إلى السماء ، فقال : اللهم كبرت سنى ، وضعفت قوتى ، وانتشرت رعيتى ، فاقبضنى إليك غير مضيع ولا مفرط ، ثم قدم المدينة ، فخطب الناس فقال : أيها الناس ، قد سنت لكم السنن ، وفرضت لكم الفرائض ، وتركتم على الواضحة ، إلا أن تضلوا بالناس يمينا وشمالا ، وضرب بإحدى يديه على الأخرى.

٦٠٢

قال سعيد : فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل ، رحمه‌الله.

وروى عن عمر ، رحمه‌الله ، أنه لما انصرف من حجته هذه التي لم يحج بعدها وانتهى إلى ضجنان ، وقف فقال : الحمد لله ولا إله إلا الله ، يعطى من يشاء ما يشاء ، لقد كنت بهذا الوادى أرعى إبلا للخطاب ، وكان فظا غليظا يتعبنى إذا عملت ، ويضربنى إذا قصرت ، وقد أصبحت وأمسيت وليس بينى وبين الله أحد أخشاه ، ثم تمثل :

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته

يبقى الإله ويودى المال والولد

لم تغن عن هرمز يوما خزائنه

والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا

ولا سليمان إذ تجرى الرياح له

والإنس والجن فيما بينها برد

أين الملوك التي كانت نوافلها

من كل أوب إليها وافد يفد

حوض هنالك مورود بلا كذب

لا بد من ورده يوما كما وردوا

ثم إن عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، بعد أن قدم المدينة من حجه خرج يوما يطوف بالسوق ، فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة ، وكان نصرانيا ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أعدنى على المغيرة ، فإن علىّ خراجا كثيرا ، قال : وكم خراجك؟ قال : درهمان فى كل يوم ، قال : وأيش صناعتك؟ قال : نجار ، نقاش ، حداد ، قال : فما أرى خراجك كثيرا على ما تصنع من الأعمال ، قال : وبلغنى أنك تقول : لو أردت أن أعمل رحا تطحن بالريح لفعلت ، قال : نعم ، قال : فاعمل لى رحا ، قال : لئن سلمت لأعملن لك رحا يتحدث بها من بالمشرق والمغرب ، ثم انصرف عنه ، فقال عمر : لقد توعدنى العلج آنفا ، ثم انصرف عمر إلى منزله.

فلما كان من الغد جاءه كعب الأحبار ، فقال : يا أمير المؤمنين ، اعهد ، فإنك ميت فى ثلاثة أيام ، قال : وما يدريك؟ قال : أجده فى كتاب الله ، التوراة ، فقال عمر : آلله إنك لتجد عمر بن الخطاب فى التوراة؟ قال : اللهم لا ، ولكن أجد صفتك وحليتك ، بأنه قد فنى أجلك ، وعمر لا يحس وجعا ولا ألما ، فلما كان من الغد جاءه كعب فقال : يا أمير المؤمنين ، ذهب يوم وبقى يومان ، ثم جاء من بعد الغد فقال : ذهب يومان وبقى يوم وليلة ، وهى لك إلى صبحها ، فلما كان الصبح خرج عمر إلى الصلاة ، وكان يوكل بالصفوف رجالا ، فإذا استوت أخبروه فكبر ، ودخل أبو لؤلؤة فى الناس فى يده خنجر له رأسان نصابه فى وسطه ، فضرب به عمر ست ضربات ، إحداهن تحت سرته ، هى التي قتلته ، فلما وجد عمر حر السلاح سقط ، وقال : دونكم الكلب فإنه قتلنى ، وماج الناس وأسرعوا إليه ، فجرح منهم ثلاثة عشر رجلا ، حتى جاء رجل منهم فاحتضنه من خلفه ،

٦٠٣

وقيل : ألقى عليه برنسا ، فقيل : إنه لما أخذ قتل نفسه. وقال عمر ، رضي‌الله‌عنه ، عند ما سقط : أفي الناس عبد الرحمن بن عوف؟ قالوا : نعم يا أمير المؤمنين ، هو ذا ، قال : تقدم فصل بالناس. قال : فصلى عبد الرحمن بن عوف ، وحمل عمر إلى منزله ، فدعا عبد الرحمن بن عوف ، فقال : إنى أريد أن أعهد إليك ، قال : أنشدك الله يا أمير المؤمنين ، أتشير علىّ بذلك؟ قال : اللهم لا ، قال : والله لا أدخل فيه أبدا ، قال : فهبنى صمتا حتى أعهد إلى النفر الذين توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عنهم راض ، ادع لى عليا وعثمان والزبير وسعدا ، قال : وانتظروا أخاكم طلحة ثلاثا ، فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم ، أنشدك الله يا على إن وليت من أمر الناس شيئا أن تحمل بنى هاشم على رقاب الناس ، وأنشدك يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل بنى أبى معيط على رقاب الناس ، وأنشدك يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئا أن تحمل أقاربك على رقاب الناس ، قوموا فتشاوروا ، ثم اقضوا أمركم ، وليصل بالناس صهيب ، وأمرهم أن يحضر معهم عبد الله بن عمر على أن لا يكون له فى الأمر شيء.

ثم دعا أبا طلحة الأنصاري ، فقال : قم على بابهم لا تدع أحدا يدخل إليهم ، وأوصى الخليفة من بعدى بالأنصار الذين تبوؤا الدار والإيمان ، أن يحسن إلى محسنهم ، وأن يتجاوز عن مسيئهم ، وأوصى الخليفة من بعدى بالعرب ، فإنها مادة الإسلام ، أن تؤخذ صدقات أغنيائهم فتوضع فى فقرائهم ، وأوصى الخليفة من بعدى بذمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يوفى لهم بعهدهم ، اللهم هل بلغت ، تركت الخليفة من بعدى على أنقى من الراحة ، يا عبد الله بن عمر ، اخرج فانظر من قتلنى ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة ، قال : الحمد لله الذي لم يجعل منيتى بيد رجل سجد لله سجدة واحدة ، يحاجنى بلا إله إلا الله ، يا عبد الله ، إن اختلف القوم فكن مع الأكثر ، وإن كانوا ثلاثة وثلاثة فاتبع الحرب الذي فيه عبد الرحمن بن عوف ، يا عبد الله ، ائذن للناس ، فجعل يدخل عليه المهاجرون والأنصار فيسلمون عليه ، ويقول لهم : أعن ملأ منكم كان هذا؟

فيقولون : معاذ الله ، ودخل فى الناس كعب ، فلما نظر إليه عمر أنشأ يقول :

وأوعدنى كعب ثلاثا أعدها

ولا شك أن القول ما قاله كعب

وما بى حذار الموت إنى لميت

ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب

فقيل له : لو دعوت الطبيب ، فدعى له طبيب من بنى الحارث بن كعب ، فسقاه نبيذا فخرج مشكلا ، فقال : اسقوه لبنا ، فخرج اللبن أبيض ، فقال له الطبيب : لا أرى أن تمسى ، فما كنت فاعلا فافعل. وفى رواية أنه قيل له عند ذلك : يا أمير المؤمنين ، اعهد ،

٦٠٤

قال : قد فرغت ، وقال لعبد الله ابنه : يا عبد الله ، اذهب إلى عائشة ، فاسألها أن تأذن لى أن أدفع مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبى بكر. وفى رواية أنه قال له : اذهب إلى عائشة فقل لها : إن عمر يستأذن أن يدفن مع صاحبيه ، ولا تقل أمير المؤمنين ، فإنى لست اليوم بأمير المؤمنين ، فذهب إليها عبد الله فوجدها تبكى ، فذكر لها ذلك ، فقالت : نعم ، قد كنت أردته لنفسى ولأوثرنه اليوم على نفسى ، فرجع إليه عبد الله وهو متطلع إليه ، فقال : ما قالت لك؟ قال : أذنت ، قال : الحمد لله ، ما كان علىّ أمر أهم من هذا ، فإذا أنا مت فاغسلنى ، ثم احملنى ، وأعد عليها الاستئذان ، فإذا أذنت وإلا فاصرفنى إلى مقابر المسلمين.

فلما توفى ، رحمه‌الله ورضى عنه ، خرجوا به ، فصلى عليه صهيب ، ودفن فى بيت عائشة ، رضي‌الله‌عنه وعنها.

ويروى أنه لما احتضر قال ورأسه فى حجر ابنه عبد الله ، رضي‌الله‌عنهما :

ظلوم لنفسى غير أنى مسلم

أصلى الصلاة كلها وأصوم

وكان مقتله لأربع بقين من ذى الحجة من سنة ثلاث وعشرين ، وقيل : لثلاث بقين منه ، وقيل : إن وفاته كانت غرة المحرم من سنة أربع وعشرين.

ونزل فى قبره عثمان وعلى وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبى وقاص ، وقيل : صهيب وابنه عبد الله بن عمر عوضا من الزبير وسعد.

واختلف فى مبلغ سنه يوم توفى ، وأشهر ما فى ذلك أنه توفى ابن ثلاث وستين سنة ، وأنه استوفى عدة خلافته سن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي توفى لها ، وسن أبى بكر الصديق ، رضي‌الله‌عنهما.

ويروى عن عامر الشعبى أنه لما طعن عمر ، رضي‌الله‌عنه ، دخل عليه عبد الله بن عباس ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أبشر بالجنة ، فقال : ما تقول؟ قال : اللهم نعم ، أسلمت حين كفر الناس ، وقاتلت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين خذله الناس ، ومات نبى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عنك راض ، ولم يختلف فى خلافتك رجلان ، ثم قتلت شهيدا ، فقال عمر : والله إن من تغرونه لمغرور ، والله لو أن لى ما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع.

وعن ابن عباس أيضا قال : لما وضع عمر فى أكفانه ، اكتنفه الناس يصلون عليه

٦٠٥

ويدعون ، فإذا أنا برجل قد زحمنى من خلفى ، فنظرت ، فإذا على بن أبى طالب ، رضي‌الله‌عنه ، فقام فدعا له وترحم عليه ، ثم قال : والله ما أصبح أحد أحب إلىّ من أن ألقى الله بمثل صحيفته منك ، وإنى لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك ؛ لأنى كثيرا ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «خرجت أنا وأبو بكر وعمر» ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ، وفعلت أنا وأبو بكر وعمر» (١) ، فإنى أرجوا أن يجعلك الله مع صاحبيك.

وذكر عبد الله بن مسعود يوما عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فهملت عيناه وهو قائم حتى بل الحصى ، ثم قال : إن عمر كان حائطا كثيفا يدخله المسلمون ولا يخرجون منه ، فلما مات عمر انثلم الحائط فهم يخرجون ولا يدخلون ، وما من أهل بيت من المسلمين لم تدخل عليهم مصيبة من موت عمر إلا أهل بيت سوء ، فإذا ذكر الصالحون فحىّ هلا بعمر.

وروى أنس ، عن أبى طلحة أنه قال : والله ما أهل بيت من المسلمين إلا وقد دخل عليهم لموت عمر ، رضي‌الله‌عنه ، نقص فى دينهم وفى دنياهم.

وعن أبى وائل قال : خرج حذيفة إلى المدائن وهم يذكرون الدجال ، فأخبرنا مسروق أنه سأله عن ذلك ، فقال : نجب تجيء من هاهنا تنعى عمر.

وعن حذيفة أيضا قال : كان الإسلام كالرجل المقبل لا يزداد إلا قربا ، فلما قتل عمر ، رضي‌الله‌عنه ، كان كالرجل المدبر ، لا يزداد إلا بعدا.

وقالت عاتكة ابنة زيد بن عمرو بن نفيل ، امرأة عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، ترثيه :

وفجعنى فيروز لا در دره

بأبيض تال للكتاب منيب

رءوف على الأدنى غليظ على العدا

أخى ثقة فى النائبات نجيب

متى ما يقل لا يكذب القول فعله

سريع إلى الخيرات غير قطوب

ومما ينسب إلى الشماخ بن ضرار ، وإلى أخيه مزرد بن ضرار أنه قال فى عرم بن الخطاب ، ويروى عن عائشة أن الجن بكت به على عمر ، رحمه‌الله ، قبل أن يقتل بثلاث ، وقد تقدم ذكر بعض هذا الشعر :

أبعد قتيل بالمدينة أظلمت

له الأرض تهتز العضاة بأسوق

جزى الله خيرا من إمام وباركت

يد الله فى ذاك الأديم الممزق

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٥ / ١٤).

٦٠٦

وما كنت أخشى أن تكون وفاته

بكفى سبنتى أزرق العين مطرق

وقبل هذا البيت بيتان قد تقدما قبل ، فلذلك حذفناهما الآن هنا اختصارا.

٦٠٧

ذكر خلافة ذى النورين أبى عمرو

عثمان بن عفان أمير المؤمنين ، رضي‌الله‌عنه

ومبايعة أهل الشورى له بعد وفاة عمر ، رضي‌الله‌عنه

ولما مضى عمر ، رحمه‌الله ، لسبيله ، تفاوض أهل الشورى فيما بينهم ثلاثا بعد وفاته ، وانصرف أمر جميعهم إلى عبد الرحمن بن عوف ، رضي‌الله‌عنه ، فبائع لعثمان ، رحمه‌الله ، فبايعه بقية أهل الشورى ، وكافة الصحابة ، رضى الله عن جميعهم ، وذلك يوم السبت غرة المحرم من سنة أربع وعشرين.

وذكر سيف (١) بإسناد له ، أنه لما بايع أهل الشورى عثمان ، رحمه‌الله ، خرج وهو أشدهم كآبة ، فأتى منبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخطب الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : إنكم فى دار قلعة ، وفى بقية أعمار ، فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه ، فلقد أتيتم صبحتم أو مسيتم ، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور ، (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) [لقمان : ٣٣] ، اعتبروا بمن مضى ، ثم جدوا ولا تغفلوا ، فإنه لا يغفل عنكم ، أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين آثروها وعمروها ومتعوا بها طويلا ، ألم تلفظهم؟ ارموا بالدنيا حيث رمى الله بها ، واطلبوا الآخرة ، فإن الله ضرب لها مثلها ، والذي هو خير ، فقال : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)[الكهف : ٤٤ ، ٤٥].

وذكر سيف (٢) أن أول كتاب كتبه عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، إلى عماله :

أما بعد ، فإن الله عزوجل أمر الأئمة أن يكونوا رعاة ، ولم يتقدم إليهم فى أن يكونوا جباة ، وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة ، ولم يخلقوا جباة ، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة ، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء ، ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا فى أمور الناس وفيما عليهم ، فتعطوهم ما لهم ، وتأخذوهم بما عليهم ،

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٢٤٣).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٢٤٤ ، ٢٤٥).

٦٠٨

ثم تثنوا بالذمة ، فتعطوهم الذي لهم ، وتأخذوهم بالذى عليهم ، ثم العدو الذي تنتابون ، فاستفتحوا عليهم بالوفاء.

قال (١) : وأول كتاب كتبه إلى أمراء الجنود فى الفروج :

أما بعد ، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم ، وقد وضع لكم عمر ، رحمه‌الله ، ما لم يغب عنا ، بل كان عن ملأ منا ، فلا يبلغنى عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله بكم ويستبدل بكم غيركم ، فانظروا كيف تكونون؟ فإنى أنظر فيما ألزمنى الله النظر فيه والقيام عليه.

وكتب ، رحمه‌الله ، إلى عمال الخراج :

أما بعد ، فإن الله تعالى خلق الخلق بالحق ، ولا يقبل إلا الحق ، خذوا الحق وأعطوا الحق به ، والأمانة الأمانة ، قوموا عليها ، ولا تكونوا أول من سلبها ، فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم ، والوفاء الوفاء ، لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد ، فإن الله ورسوله خصم لمن ظلمهم.

وكان كتابه إلى العامة :

أما بعد ، فإنكم إنما بلغتم ما بلغتم بالاقتداء والإتباع ، فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم ، فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم : تكامل النعم ، وبلوغ أولادكم من السبايا ، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الكفر فى العجمة ، فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا».

وزاد عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، الناس فى أعطياتهم مائة مائة ، وهو أول خليفة زاد الناس فى العطاء ، وكان عمر ، رحمه‌الله ، يجعل لكل نفس منفوسة من أهل الفيء فى رمضان درهما فى كل يوم ، وفرض لأزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم درهمين درهمين ، فقيل له : لو وضعت لهم طعاما فجمعتهم عليه ، فقال : أشبع الناس فى بيوتهم ، فأقر عثمان الذي صنع عمر ، وزاد فوضع طعام رمضان للمتعبد الذي يبيت فى المسجد ولابن السبيل وللمثوبين بالناس فى رمضان.

وكان فى مدة خلافته ، رحمه‌الله ، فتوح عظام فى البر والبحر ، وهو أول من أغزى فيه ، وقد تقدم ذكر كثير من ذلك كإفريقية وغزوة ذات الصوارى فى البحر على يدى

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٢٤٥).

٦٠٩

عبد الله بن سعد ، وغزوة قبرس على يدى معاوية بن أبى سفيان ، وغير ذلك مما سلف فى هذا الكتاب.

ونذكر الآن من ذلك ما تيسر ذكره إن شاء الله تعالى مما لم نذكر قبل ، وأكثر من ذلك مما كان قد افتتح على عهد عمر ، رحمه‌الله ، وانتقض بعد وفاته ، فوجه إليه عثمان ، رحمه‌الله ، فاستردده ، حتى استوثق الأمر ، وانتظمت الفتوح.

ذكر غزوة الوليد بن عقبة أذربيجان وأرمينية لمنع أهلها

ما صالحوا عليه أهل الإسلام أيام عمر بن الخطاب (١)

ويقال : إنها كانت فى السنة التي بويع فيها عثمان ، وقيل : فى سنة خمس وعشرين بعدها ، وقيل : فى سنة ست ، ذكر ذلك كله الطبرى.

وحكى (٢) أيضا عن أبى مخنف ، عن قرة بن لقيط الأزدى ثم العامرى : أن مغازى أهل الكوفة كانت الرى وأذربيجان ، وكان بالبحرين عشرة آلاف مقاتل من أهل الكوفة ، ستة آلاف بأذربيجان ، وأربعة آلاف بالرى ، وكان بالكوفة إذ ذاك أربعون ألف مقاتل ، وكان يغزو هذين المصرين منهم عشرة آلاف كل سنة ، فكان الرجل تصيبه فى كل أربع سنين غزوة ، فغزا الوليد بن عقبة فى أزمانه على الكوفة فى سلطانه عثمان أذربيجان وأرمينية ، فدعا سلمان بن ربيعة الباهلى ، فبعثه أمامه مقدمة له ، وخرج الوليد فى جماعة الناس يريد أن يمعن فى أرض أرمينية ، فمضى حتى دخل أذربيجان ، فبعث عبد الله بن شبل بن عوف الأحمسى فى أربعة آلاف ، فأغار على أهل موقان والببر والطيلسان ، فأصاب من أموالهم وغنم ، وسبى سبيا يسيرا ، وتحرز القوم منه ، فأقبل بذلك إلى الوليد.

ثم إن الوليد صالح أهل أذربيجان على ثمانمائة ألف درهم ، وذلك هو الصلح الذي كانوا صالحوا عليه حذيفة بن اليمان أيام عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، ثم حبسوها بعد وفاته ، فلما وطئهم الوليد بالجيش ، انقادوا وطلبوا إليه أن يتم لهم على ذلك صلح ففعل ، وقبض منهم المال ، وبث الغارات فيمن حولهم من أعداء الإسلام ، فبعث سلمان ابن ربيعة إلى أرمينية فى اثني عشر ألفا ، فسار فى أرضها ، فقتل وسبى ، وغنم وانصرف

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٢٤٦ ، ٢٤٧) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٤٩ ، ١٥٠) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٤٣ ، ٤٤).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٢٤٦).

٦١٠

مملوء اليدين إلى الوليد ، فانصرف الوليد وقد ظفر وأصاب حاجته. فلما دخل الموصل راجعا أتاه كتاب من عثمان ، رحمه‌الله :

أما بعد ، فإن معاوية بن أبى سفيان كتب إلىّ يخبرنى أن الروم قد أجلبت على المسلمين بجموع كثيرة عظيمة ، وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهل الكوفة ، فإذا أتاك كتابى هذا فابعث رجلا ممن ترضى نجدته وبأسه وشجاعته وسخاءه وإسلامه فى ثمانية آلاف أو تسعة آلاف أو عشرة آلاف إليهم من المكان الذي يأتيك فيه رسولى ، والسلام.

فقام الوليد فى الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، أيها الناس ، فإن الله قد أبلى المسلمين فى هذا الوجه بلاء حسنا ، فرد عليهم بلادهم التي كفرت ، وفتح بلادا لم تكن افتتحت ، وردهم سالمين غانمين مأجورين ، والحمد لله رب العالمين. وقد كتب إلىّ أمير المؤمنين أن أندب منكم ما بين العشرة الآلاف إلى ثمانية آلاف ، تمدون إخوانكم من أهل الشام ، فإنهم قد جاشت عليهم الروم ، وفى ذلك الأجر العظيم ، والفضل المبين ، فانتدبوا رحمكم الله مع سلمان بن ربيعة ، فانتدب الناس ، فلم يمض ثلاثة أيام حتى خرج فى ثمانية آلاف من أهل الكوفة ، فمضوا حتى دخلوا مع أهل الشام إلى أرض الروم ، فشنوا عليهم الغارات ، وأصابوا ما شاءوا من سبى ، وملأوا أيديهم من المغانم ، وافتتحوا بها حصونا كثيرة.

وكان على أهل الشام حبيب بن مسلمة ، وسلمان على أهل الكوفة ، وزعم الواقدى أن سعيد بن العاص هو الذي أمد حبيبا بسلمان ، وأن سبب ذلك أن عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، أمر معاوية بإغزاء حبيب فى أهل الشام وأرمينية ، فوجهه إليها معاوية ، فبلغ حبيبا أن الموريان الرومى قد توجه نحوه فى ثمانين ألفا من الروم والترك ، فأعلم بذلك معاوية فكتب معاوية إلى عثمان ، فكتب عثمان إلى سعيد بإمداد حبيب ، فأمده بسلمان فى ستة آلاف ، وكان حبيب صاحب كيد ، فأجمع على أن يبيت الموريان ، فسمعته امرأته ، أم عبد الله بنت يزيد الكلبية ، يذكر ذلك ، فقالت له : فأين موعدك؟ قال : سرادق الموريان أو الجنة ، ثم بيتهم ، فقتل من اشرأب له ، وأتى السرادق فوجد امرأته قد سبقت ، فكانت أول امرأة من العرب ضرب عليها سرادق ، ثم مات عنها حبيب ، فخلف عليها الضحاك ابن قيس الفهرى ، فهى أم ولد.

٦١١

ذكر انتقاض فارس ، ومسير عبد الله بن عامر إليها

وفتحه إياها (١)

ولما ولى عثمان ، رحمه‌الله ، أقر أبا موسى الأشعرى على البصرة ثلاث سنين ، وعزله فى الرابعة ، وأمر على خراسان عمير بن عثمان بن سعد ، وعلى سجستان عبيد الله بن عمير الليثى من بنى ثعلبة ، فأثخن فيها إلى كابل ، وأثخن عمير فى خراسان حتى بلغ فرغانة ، فلم يدع دونها كورة إلا أصلحها ، وبعث إلى مكران عبيد الله بن معمر التيمى ، فأثخن فيها حتى بلغ النهر ، وبعث على كرمان عبيد الله بن عنبس ، وبعث إلى فارس والأهواز نفرا ، وأبو موسى فى كل ذلك على البصرة.

فلما كان فى السنة الثالثة كفر أهل ايذج والأكراد ، فنادى أبو موسى فى الناس ، وحضهم ، وذكر من فضل الجهاد فى الرجلة ، حتى حمل نفر على دوابهم ، وأجمعوا على ألا يخرجوا إلا رجالة ، ثم نشأ بينه وبين أهل البصرة فى هذا الاستنفار ما نفرهم عنه ، وطلبوا إلى عثمان أن يديلهم عنه ، فدعا عثمان عند ذلك عبد الله بن عامر ، فأمره على البصرة وصرف عبيد الله بن معمر إلى فارس ، واستعمل مكانه عمير بن عثمان بن سعد ، واستعمل على خراسان أمين بن أحمر اليشكرى ، وعلى سجستان عمران بن الفضل البرجمى ، وعلى كرمان عاصم بن عمرو ، فمات بها.

فجاشت فارس فانتفضت بعبيد الله بن معمر ، واجتمعوا له باصطخر ، فالتقوا على بابها ، فقتل عبيد الله ، وبلغ الخبر عبد الله بن عامر ، فاستنفر أهل البصرة إليهم ، وخرج فى الناس وعلى مقدمته عثمان بن أبى العاص ، فالتقى هو وأهل فارس باصطخر ، فقتل منهم مقتلة عظيمة لم يزالوا منها فى ذل ، وكتب بذلك إلى عثمان بن عفان ، فكتب إليه يأمره أن يولى على كور فارس نفرا سماهم له ، وفرق خراسان بين ستة نفر ، منهم الأحنف بن قيس على المروين.

ذكر انتقاض خراسان ، وخروج سعيد بن العاص وعبد الله بن عامر إليها

وذكر طبرستان واستيلاء سعيد عليها

ذكر الطبرى أن أدانى أهل خراسان وأقاصيهم اعترضوا زمان عثمان ، رضي‌الله‌عنه ،

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٢٦٤ ـ ٢٦٦).

٦١٢

لسنتين خلتا من إمارته ، فبدأ بنو كنارى وهم أخوال كسرى ، فأنثروا وألجئوا عبد الرحمن ابن سمرة وعماله إلى مروالروذ ، وثنى أهل مرو الشاهجان ، وثلث بنيزل فاستولى على بلخ ، وأرز من بها إلى مروالروذ وعليها ابن سمرة ، فكتب إلى عثمان بخلع أهل خراسان ، فأرسل إلى ابن عامر أن يسير فى جند البصرة ، فخرج ابن عامر فى الجنود حتى يدخل خراسان على الطبسين من قبل يزدجرد ، وبث الجنود فى كورها وأمرهم أن يطئوا فيهم ، ووطأ هو فى أهل هراة بعد ما وهنهم الجزاء ، وصالحوه ، ثم ثنى بنيسابور ففعلت فعل هراة ، ولقيت الكور من الجنود مثل ذلك ، فذلوا لهم ، واكتتب منهم أهل مرو الشاهجان وسائر خراسان ، وسار ابن عامر إلى نيزل فقتل تركه قتل الكلاب ، ولحق هو بترك بلاد الشام ، وسيأتى بعد هذه المجملات مفصلة بعد.

وذكر الطبرى (١) بإسناد له قال : غزا سعيد بن العاص ، وهو على الكوفة سنة ثلاثين يريد خراسان ، ومعه حذيفة بن اليمان وناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه الحسن والحسين وعبد الله بن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمرو وابن الزبير ، وخرج عبد الله ابن عامر من البصرة يريد خراسان ، فسبق سعيدا ونزل ابرشهر ، وبلغ ذلك سعيدا ، فنزل قرمس ، وهى صلح ، صالحهم حذيفة بعد نهاوند ، فأتى جرجان ، فصالحوه على مائتى ألف ، ثم أتى طميسة ، وهى كلها من طبرستان متاخمة لجرجان ، وهى مدينة على ساحل البحر ، فقاتله أهلها حتى صلى يومئذ صلاة الخوف ، وهم يقتتلون ، بعد أن سأل حذيفة فأخبره كيف صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضرب يومئذ سعيد رجلا من المشركين على حيل عاتقه ، فخرج السيف من مرفقه ، وحاصرهم ، فطلبوا الأمان ، فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلا واحدا ، ففتحوا الحصن ، فقتلهم جميعا إلا رجلا واحدا ، وحوى ما كان فى الحصن.

وذكر الطبرى (٢) من طريق آخر أن سعيد بن العاص صالح أهل جرجان ، ثم امتنعوا وكفروا ، فلم يأت جرجان بعد سعيد أحد ، ومنعوا ذلك الطريق ، فلم يكن يسلك طريق خراسان من ناحية قومس إلا على وجل وخوف من أهل جرجان ، وكان الطريق إلى خراسان من فارس إلى كرمان ، فأول من صير الطريق من قومس قتيبة بن مسلم حين ولى خراسان.

وعن بشر بن حنظلة العمى أن سعيد بن العاص صالح أهل جرجان ، فكانوا يجبون

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٢٦٩ ، ٢٧٠).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٢٧١).

٦١٣

أحيانا مائة ألف ، ويقولون : صلحنا ، وأحيانا مائتى ألف ، وأحيانا ثلاثمائة ألف ، وكانوا ربما أعطوا ذلك ، وربما منعوه ، ثم امتنعوا وكثروا ، فلم يعطوا خراجا حتى أتاهم يزيد بن المهلب ، فلما صالح صولا وفتح البحيرة ودهستان صالح أهل جرجان على صلح سعيد ابن العاص.

ذكر مقتل يزدجرد (١)

قال الطبرى (٢) : اختلف فى سبب قتله ، كيف كان؟ فذكر عن ابن إسحاق أن يزدجرد هرب من كرمان فى جماعة ليسير إلى مرو ، فسأل مرزبانها مالا فمنعه ، فخافوا على أنفسهم ، فأرسلوا إلى الترك يستنصرون بهم عليه ، فأتوه فبيتوه ، وقتلوا أصحابه ، وقيل : بل أهل مرو هم الذين بيتوه لما خافوه ، ولم يستجيشوا عليه الترك ، فقتلوا أصحابه ، وخرج هاربا على رجليه ، معه منطقته وسيفه وتاجه ، حتى أتى إلى منزل نقار على شط المرغاب ، فلما غفل يزدجرد ، وقيل : لما نام ، قتله النقار وأخذ متاعه ، وألقى جسده فى المرغاب ، فأصبح أهل مرو فاتبعوا أثره ، حتى خفى عليهم عند منزل النقار ، فأخذوه لهم بقتله ، وأخرج متاعه ، فقتلوا النقار وأهل بيته ، وأخذ متاعه ومتاع يزدجرد وأخرجوه من المرغاب فجعلوه فى تابوت خشب ، فزعم بعضهم أنه حمل إلى اصطخر فدفن بها فى أول سنة إحدى وثلاثين.

وكان يزدجرد قد وطئ امرأة بمرو ، فولدت منه بعد مقتله غلاما ذاهب الشق ، فسمى المخدج ، وعاش حتى ولد له أولاد بخراسان ، فوجد قتيبة حين افتتح الصغد أو غيرها جاريتين فقيل له : إنهما من ولد المخدج ، فبعث بهما أو بإحداهما إلى الحجاج بن يوسف فبعث بها إلى الوليد بن عبد الملك ، فولدت له يزيد بن الوليد بن عبد الملك الناقص.

وذكر عن المدائنى أن يزدجرد أتى خراسان ، ومعه خرزادمهر أخو رستم ، فقال لمرزبان مرو واسمه ماهويه : إنى قد أسلمت إليك الملك ، ثم أقام بمرو وهم بعزل ماهويه ، فكتب ماهويه إلى الترك يخبرهم بمكانه وعاهدهم على المؤازرة عليه وخلى لهم الطريق ،

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٢٩٣ ـ ٣٠٠) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٥٨ ، ١٥٩) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٣ / ٥٩ ـ ٦١).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٢٩٣ ، ٢٩٤).

٦١٤

فأقبلوا إلى مرو وخرج إليهم يزدجرد فى أصحابه ، فقاتلهم ومعه ماهويه فى أساورة مرو ، فأثخن فى الترك حتى خشى ماهويه أن ينهزموا ، فتحول إليهم فى أساورة مرو ، فانهزم جند يزدجرد وقتلوا ، وعقر عند المساء فرس يزدجرد ، فمضى ماشيا هاربا حتى انتهى إلى بيت فيه رحى على شط المرغاب ، فمكث فيه ليلتين ، فطلبه ماهويه فلم يقدر عليه إلى أن دخل صاحب الرحى بيته فى اليوم الثانى ، فرأى يزدجرد ، فقال : ما أنت؟ إنسى أم جنى؟ قال : إنسى ، فهل عندك طعام؟ قال : نعم ، فأتاه به ، فقال : إنى مزموم ، فأتنى بما أزمزم به.

فذهب الطحان إلى بعض الأساورة ، فطلب منه ما يزمزم به ، قال : وما تصنع به؟ فقال : عندى رجل لم أر مثله قط ، وقد طلب هذا منى ، فجاء الأسوار بالطحان إلى ماهويه ، فأخبره فقال : هذا يزدجرد ، اذهبوا فجيئونى برأسه ، فقال له الموبذ : ليس ذلك إليك ، قد علمت أن الدين والملك مقترنان ، لا يستقيم أحدهما إلا بالآخر ، ومتى فعلت انتهكت الحرمة العظيمة ، وتكلم الناس فأعظموا ذلك ، فشتمهم ماهويه وقال للأساورة : من تكلم فاقتلوه ، وأمر عدة فذهبوا مع الطحان ليقتلوا يزدجرد ، فانطلقوا ، فلما رأوه كرهوا قتله ، وتدافعوا ذلك ، وقالوا للطحان : ادخل فاقتله ، فدخل عليه وهو نائم ومعه حجر فشدخ به رأسه ، ثم اجتزه فدفعه إليهم ، وألقى جسده فى المرغاب ، فخرج قوم من أهل مرو فقتلوا الطحان وهدموا أرحاءه.

وذكر الطبرى (١) حديثين مختلفين مطولين ، وأحدهما أطول من الآخر يتضمن ضروبا من الاضطرابات تقلب فيها ، وأنواعا من الدوائر دارت عليه ، حتى كانت منيته آخرها ، وفيه أن رجال ماهويه الذين وجههم لطلب يزدجرد وأمرهم بقتله لما انتهوا إلى الطحان ، فسألوه عنه ، فأنكره ، فضربوه ليدل عليه فلم يفعل ، فلما أرادوا الانصراف قال أحدهم : إنى أجد ريح المسك ، ونظر إلى طرف ثوب من ديباج فى الماء ، فاجتذبه ، فإذا هو يزدجرد ، فسأله ألا يقتله ولا يدل عليه ، وجعل له سواره وخاتمه ومنطقته ، فأبى عليه إلا أن يعطيه دراهم ويخلى عنه ، ولم يكن ذلك عند يزدجرد ، فقال : قد كنت أخبر أنى سأحتاج إلى أربعة دراهم ، وقال للرجل : ويحك ، خاتمى لك ، وثمنه لا يحصى ، فأبى وأنذر أصحابه ، فأتوه ، فطلب إليهم يزدجرد ألا يقتلوه ، وقال : ويحكم ، إنا نجد فى كتبنا أن من اجترأ على قتل الملوك عاقبه الله بالحريق فى الدنيا ، مع ما هو قادم عليه ، فلا تقتلونى وائتوا بى إلى الدهقان ، أو سرحونى إلى العرب ، فإنهم يستحيون مثلى من

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٢٩٨) ، الأخبار الطوال (ص ١٣٩ ، ١٤٠).

٦١٥

الملوك ، فأخذوا ما كان عليه من الحلى ، فجعلوه فى جراب وختموا عليه ، ثم خنقوه بوتر ، وطرحوه فى نهر مرو.

وفى آخر الحديث (١) : أنه لما بلغ مقتله رجلا من أهل الأهواز كان مطرانا على مرو ، جمع من كان قبله من النصارى ، وقال لهم : إن ملك الفرس قد قتل ، وهو ابن شهريار بن كسرى ، ولهذا الملك عنصر فى النصرانية ، وإنما شهريار ولد شيرين التي قد عرفتم حقها وإحسانها إلى أهل ملتها فى غير وجه ، مع ما نال النصارى فى مملكة جده كسرى من الشرف ، وقبل ذلك فى مملكة ملوك من أسلافه ، حتى بنى لهم بعضهم البيع ، وسدد لهم بعضهم ، يعنى للنصارى ، ملتهم فينبغى لنا أن نحزن لقتل هذا الملك ونظهر من كرامته بقدر ما كان من إحسان سلفه وجدته إلى النصارى ، وقد رأيت أن أبنى له ناووسا ، وأحمل جثته فى كرامة حتى أواريها.

فقال له النصارى : أمرنا لأمرك تبع ، ونحن لك على رأيك هذا مواطئون ، فأمر المطران ببناء ناووس فى جرف بستان المطارنة بمرو ، ومضى بنفسه ومعه نصارى مرو حتى استخرج جثة يزدجرد من النهر وكفنها وجعلها فى تابوت وحملها هو وأولئك النصارى على عواتقهم حتى أتوا به الناووس الذي بنى له وواروه فيه ، وردموا بابه ، فكان ملك يزدجرد عشرين سنة ، منها أربع سنين فى دعة وست عشرة فى تعب من محاربة العرب إياه.

وكان آخر ملك من آل أردشير بن بابك ، وصفا الملك بعده للعرب ، فسبحان ذى العظمة والملكوت ، الملك الحق الدائم الذي لا يموت ، لا إله إلا هو ، كل شيء هالك إلا وجهه ، له الحكم وإليه ترجعون.

ذكر فتح أبرشهر ، وطوس ، وبيورد ، ونسا ، وسرخس ، وصلح مرو

ذكر الطبرى (٢) أن ابن عامر لما فتح فارس قام إليه أوس بن حبيب التميمى ، فقال : أصلح الله الأمير إن الأرض بين يديك ، ولم تفتح من ذلك إلا القليل ، فسر فإن الله ناصرك ، قال : أو لم نأمرك بالمسير؟ وكره أن يظهر له أنه قبل رأيه.

وذكر فى بعض ما ذكره عن المدائنى أن ابن عامر لما فتح فارس رجع إلى البصرة

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٣٠٠).

(٢) انظر : تاريخ الملوك والرسل للطبرى (٣ / ٣٠٠ ـ ٣٠٣).

٦١٦

واستعمل على اصطخر شريك بن الأعور الحارثى ، فدخل على ابن عامر رجل من بنى تميم يقال له : الأحنف ، وقيل غيره ، فقال له : إن عدوك منك هارب ، ولك هائب ، والبلاد واسعة ، فسر فإن الله ناصرك ومعز دينه.

فتجهز ابن عامر وأمر الناس بالتجهيز للمسير ، واستخلف على البصرة زيادا ، وسار إلى كرمان ، ثم أخذ إلى خراسان.

قال : وأشياخ كرمان يذكرون أنه نزل العسكر بالسيرجان ، وسار إلى خراسان ، واستعمل على كرمان مجاشع بن مسعود ، وأخذ ابن عامر على مفازة رابر ، وهى ثمانون فرسخا ، ثم سار إلى الطبسين يريد أبرشهر ، وهى مدينة نيسابور ، وعلى مقدمته الأحنف ابن قيس ، فأخذ إلى قهستان ، وخرج إلى أبرشهر فلقيته الهياطلة فقاتلهم الأحنف فهزمهم ، ثم أتى ابن عامر نيسابور ، وافتتح ابن عامر مدينة أبرشهر ، قيل : صالحا ، وقيل : عنوة ، وفتح ما حولها : طوس وبيورد ونسا وحمران وسرخس.

ويقال : إنه بعث إلى سرخس عبد الله بن خازم ففتحها ، وأصاب جاريتين من آل كسرى.

ويروى أن أهل أبرشهر لما فتحها ابن عامر صالحا فى قول من قال ذلك ، أعطوه جاريتين من آل كسرى.

وعن أشياخ من أهل خراسان : أن ابن عامر سرح الأسود بن كلثوم ، من عدى الرباب ، إلى بيهق ، وهى من أبرشهر ، بينهما ستة عشر فرسخا ، ففتحها ، وقتل الأسود ، وكان فاضلا فى دينه ومن أصحاب عامر بن عبد قيس ، وكان عامر يقول بعد ما خرج من البصرة : ما آسى من العراق على شيء إلا على ظماء الهواجر وتجاوب المؤمنين ، وإخوان مثل الأسود بن كلثوم.

ويروى أن ابن عامر لما غلب على من بنيسابور أرسل إله أهل مرو يطلبون الصلح ، فبعث إليهم حاتم بن النعمان ، فصالح مرزبان مرو على ألفى ألف ومائتى ألف.

وقال مقاتل بن حيان : على ستة آلاف ألف ومائتى ألف.

قال الطبرى (١) : وفى سنة اثنتين وثلاثين كانت غزوة معاوية بن أبى سفيان مضيق القسطنطينية ، ومعه زوجته عاتكة بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف ،

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٣٠٤ ، ٣٠٥).

٦١٧

وقيل : فاختة. واستعمل سعيد بن العاص ، سلمان بن ربيعة على فرج بلنجر ، وأمد الجيش الذي كان به مقيما مع حذيفة بأهل الشام ، عليهم حبيب بن مسلمة.

وكان عثمان ، رحمه‌الله ، قد أمر سعيدا بإغزاء سلمان ، فيما ذكره سيف عن بعض رجاله ، وكتب إلى عبد الرحمن بن ربيعة ، الذي يقال له : ذو النور ، وهو على الباب : أن الرعية قد أبطر كثيرا منها البطنة ، فقصر ولا تقتحم بالمسلمين ، فإنى خاش أن يبتلوا ، فلم يزجر ذلك عبد الرحمن عن غايته ، فغزا فى السنة التاسعة من إمارة عثمان حتى إذا بلغ بلنجر حصرها ونصب عليها المجانيق والعرادات ، فجعل لا يدنو منها أحد إلا أعنتوه أو قتلوه ، وأسرعوا فى الناس.

ثم إن الترك اتعدوا يوما ، فخرج أهل بلنجر ، وتوافى إليهم الترك فاقتتلوا فأصيب عبد الرحمن ، ذو النور ، فانهزم المسلمون وتفرقوا.

وقد تقدم ذكر مقتله قبل ، وأن المشركين احتازوه إليهم فجعلوه فى سفط ، فكانوا يستسقون به بعد ويستنصرون به.

وذكر سيف من بعض طرقه (١) : أنه لما تتابعت الغزوات على الخزر تذامروا وتعايروا وقالوا : كنا أمة لا يقوم لها أحد حتى جاءت هذه الأمة القليلة فصرنا لا نقوم لها ، فقال بعضهم : إنهم لا يموتون ، ولو كانوا يموتون لما افتتحوا علينا. ثم كمنوا فى الغياض ليجربوا ، فرموا بعض من مر بهم فى ذلك الكمين من جند المسلمين فقتلوهم ، فعند ذلك تداعوا إلى الحرب وتواعدوا يوما ، فاقتتلوا فقتل عبد الرحمن وتفرق الناس فرقتين ، فرقة نحو الباب فحماهم سلمان الفارسى حتى أخرجهم ، وفرقة نحو الخزر ، فطلعوا على جيلان وجرجان ، فيهم سلمان الفارسى وأبو هريرة.

وقال بعضهم : غزا أهل الكوفة ثمان سنين من إمارة عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، لم تئم فيهن امرأة ، ولم ييتم فيهن صبى من قتل حتى كان ، يعنى فى السنة التاسعة ، فكان ما ذكر من قتل عبد الرحمن بن ربيعة ومن أصيب معه.

ذكر فتح مروالروذ والطالقان والفارياب والجوزجان وطخارستان

ذكر الطبرى (٢) بإسناده عن ابن سيرين قال : بعث ابن عامر ، الأحنف بن قيس إلى

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٣٠٥ ، ٣٠٦).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٣١٠ ـ ٣١٣).

٦١٨

مروالروذ ، فحصر أهلها ، فخرجوا إليهم فقاتلوهم ، فهزمهم المسلمون حتى اضطروهم إلى حصونهم ، فأشرفوا عليهم ، فقالوا : يا معشر العرب ، ما كنتم عندنا كما نرى ، لو علمنا أنكم كما نرى لكاتب لنا ولكم حال غير هذه ، فأمهلونا ننظر فى يومنا ، وارجعوا إلى عسكركم ، فرجع الأحنف.

فلما أصبح غاداهم وقد أعدوا له ، فخرج من المدينة رجل من العجم معه كتاب ، فقال : إنى رسول فأمنونى ، فأمنوه ، فإذا هو ابن أخى مرزبان مرو ومعه كتابه إلى الأحنف ، وإذا فيه : إلى أمير الجيش ، إنا نحمد الله الذي بيده الدول ، يغير ما شاء من الملك ، ويرفع من شاء بعد الذلة ، ويضع من شاء بعد الرفعة ، إنى دعانى إلى مصالحتك وموادعتك ما كان من إسلام جدى ، وما كان رأى من صاحبكم من الكرامة والمنزلة ، فمرحبا بكم فأبشروا ، وأنا أدعوكم إلى الصلح على أن أؤدى إليكم خراجنا ستين ألف درهم ، وأن تقروا بيدى ما كان ملك الملوك كسرى أقطع جد أبى حيث قتل الحية التي أكلت الناس وقطعت السبيل من الأرض والقرى بما فيها من الرجال ، ولا تأخذوا من أحد من أهل بيتى شيئا من الخراج ، ولا تخرجوا المرزبة من أهل بيتى إلى غيرهم ، فإن جعلت ذلك لى خرجت إليك ، وقد بعثت إليك ابن أخى ماهك ليستوثق منك بما سألت.

فكتب إليه الأحنف :

بسم الله الرحمن الرحيم ، من صخر بن قيس أمير الجيش إلى باذان مرزبان مروالروذ ومن معه من الأساورة والأعاجم ، سلام على من اتبع الهدى وآمن واتقى ، أما بعد ، فإن ابن أخيك ماهك قدم علىّ ، فنصح لك جهده ، وأبلغ عنك ، وقد عرضت ذلك على من معى من المسلمين ، وأنا وهم فيما عليك سواء ، وقد أجبناك إلى ما سألت ، وعرضت علىّ أن تؤدى عن كورتك وفلاحيك والأرضين ستين ألف درهم إلىّ وإلى الوالى بعدى من أمراء المسلمين ، إلا ما كان من الأرضين التي ذكرت أن كسرى الظالم لنفسه أقطعها جد أبيك ، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، وإن عليك نصرة المسلمين وقتال عدوهم بمن معك من الأساورة إن أحب المسلمون ذلك ، وإن لك على ذلك نصر المسلمين على من يقاتل من ورائك من أهل ملتك ، جار لك بذلك منى كتاب يكون لك بعدى ، ولا خراج عليك ولا على أحد من أهل بيتك من ذوى الأرحام ، وإن أنت أسلمت واتبعت الرسول كان لك ما للمسلمين من العطاء والمنزلة والرزق وأنت أخوهم ، ولك بذلك ذمتى وذمة أبى وذمة المسلمين وذمم آبائهم.

٦١٩

وعن مقاتل بن حيان : أن ابن عامر صالح أهل مرو ، وبعث الأحنف فى أربعة آلاف إلى طخارستان ، فأقبل حتى نزل موضع قصر الأحنف من مروالروذ ، وجمع له أهل طخارستان ، وأهل الجوزجان ، والطالقان ، والفارياب ، وكانوا ثلاثة زحوف ، ثلاثين ألفا ، وأتى الأحنف خبرهم ، فاستشار الناس فاختلفوا ، فمن قائل : نرجع إلى مرو ، وقائل : نرجع إلى أبرشهر ، وقائل : نقيم ونستمد ، وقائل : نلقاهم فنناجزهم.

قال : فلما أمسى الأحنف خرج يمشى فى العسكر ، ويسمع حديث الناس ، فمر بأهل خباء ورجل يوقد تحت خزيرة أو يعجن ، وهم يتحدثون ويذكرون العدو ، فقال بعضهم:الرأى للأمير إذا أصبح أن يسير حتى يلقى القوم حيث لقيناهم ، فإنه أرعب لهم ، فنناجزهم ، فقال صاحب الخزيرة أو العجين : إن فعل ذلك فقد أخطأ ، أتأمرونه أن يلقى حد العدو مصحرا فى بلاده ، فيلقى جميعا كثيرا بعدد قليل ، فإن جالوا جولة اصطلموا؟ ولكن الرأى له أن ينزل بين المرغاب والجبل ، فيجعل المرغاب عن يمينه والجبل عن يساره فلا يلقاه من عدوه وإن كثروا إلا عدد أصحابه ، فرجع الأحنف وقد اعتقد ما قال ، فضرب عسكره ، وأقام فأرسل إليه أهل مرو يعرضون عليه أن يقاتلوا معه ، فقال : إنى أكره أن أستنصر بالمشركين ، فأقيموا على ما أعطيناكم ، فإن ظفرنا فنحن على ما جعلنا لكم ، وإن ظفروا بنا وقاتلوكم فقاتلوا عن أنفسكم.

قال : فوافوا المسلمين صلاة العصر ، فعاجلهم المشركون ، فناهضوهم وقاتلوهم فصبر الفريقان حتى أمسوا ، والأحنف يتمثل :

أحق من لم يكره المنية

حزور ليست له ذرية

وفى غير حديث مقاتل أن الأحنف لقيهم فى المسلمين ليلا فقاتلوهم حتى ذهب عامة الليل ، ثم هزمهم الله ، فقتلهم المسلمون حتى انتهوا إلى رسكن ، وهى على أثنى عشر فرسخا من قصر الأحنف ، وكان مرزبان مروالروذ قد تربص بحمل ما كان صالح عليه ، لينظر ما يكون من أمرهم ، فلما ظفر الأحنف سرح رجلين إلى المرزبان ، وأمرهما أن لا يكلماه حتى يقبضاه ففعلا ، فعلم أنهما لم يصنعا ذلك به إلا وقد ظفروا ، فحمل ما كان عليه.

وبعث الأحنف إلى الجوزجان الأقرع بن حابس فى جريدة خيل إلى بقية كانت بقيت من الزحوف التي هزمهم الأحنف ، فقاتلهم الأقرع بخيله ، فجال المسلمون جولة ، فقتل بعض فرسانهم ، ثم أظفر الله المسلمين بهم فهزموهم وقتلوهم ، وأولئك القتلى من فرسان

٦٢٠