الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

عتبة على ما افتتح منه ، ودفع إليه اسفندياذ ، فأمر عتبة سماكا على ما استخلفه عليه بكير ، وجمع عمر ، رحمه‌الله ، أذربيجان كلها لعتبة بن فرقد ، وكان بهرام بن الفرخزاد قد أخذ بطريق عتبة ، وأقام له فى عسكره حتى لحق عتبة فاقتتلوا ، فهزمهم عتبة ، وهرب بهرام ، فلما بلغ الخبر اسفندياذ وهو بعد فى إسار بكير قال : الآن تم الصلح ، وطفئت الحرب ، فصالح بكير ، وأجاب إلى ذلك جميعهم ، وعادت أذربيجان سلما ، وكتب عتبة بينه وبين أهلها كتابا إذ جمع له عمل بكير إلى عمله :

بسم الله الرحمن الرحيم : هذا ما أعطى عتبة بن فرقد ، عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين ، أهل أذربيجان ، سهلها وجبلها ، وحواشيها وشعاريها ، وأهل ملكها كلهم من الأمان على أنفسهم وأموالهم وملتهم وشرائعهم ، على أن يؤدوا الجزية على قدر طاقتهم ، ليس ذلك على صبى ولا على امرأة ولا زمن ليس فى يده من الدنيا شيء ، ولا متعبد متخل ليس فى يديه من الدنيا شيء ، لهم ذلك ولمن سكن معهم ، وعليهم قرى المسلم من جنود المسلمين يوما وليلة ودلالته ، ومن حشر منهم فى سنة رفع عنه جزاء تلك السنة ، ومن أقام فله مثل ما لمن أقام من ذلك ، ومن خرج فله الأمان حتى يلجأ إلى حرزه.

حديث فتح الباب (١)

وبعث عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، سراقة بن عمرو إلى الباب بعد أن رد أبا موسى مكانه إلى البصرة ، وكان سراقة يدعى ذا النور ، وجعل عمر على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة ، وكان أيضا يدعى ذا النور ، وجعل على إحدى مجنبتيه حذيفة بن أسيد الغفارى ، وسمى للأخرى بكير بن عبد الله الليثى ، وكان بإزاء الباب قبل قدوم سراقة عليه ، وكتب إليه : أن يلحق به ، وجعل على المقاسم سلمان بن ربيعة ، فقدم سراقة عبد الرحمن ، وخرج فى الأثر ، حتى إذا خرج من أذربيجان نحو الباب ، قدم عليه بكير فى أدنى الباب ، فاستدفأ ببكير ، ودخل بلاد الباب على ما عباه عمر ، رحمه‌الله ، وكان ملك الباب يومئذ شهربراز ، رجل من آل شهربراز الملك الذي أفسد بنى إسرائيل وأعرى منهم الشام.

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٥٥ ـ ١٦٠) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٣ / ١٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٢٢ ، ١٢٣).

٥٨١

فلما أطل عليه عبد الرحمن بن ربيعة بالباب كاتبه شهربراز واستأمنه على أن يأتيه ، فأمنه عبد الرحمن على ذلك ، فأتاه فقال : إنى بإزاء عدو كلب وأمم مختلفة ، لا ينسبون إلى أحساب ، وليس ينبغى لذى العقل والحسب أن يعين أمثال هؤلاء ولا يستعين بهم على ذوى الأحساب والأصول ، وذو الحسب قريب ذى الحسب حيث كان ، ولست من الفتح فى شيء ولا من الأرض ، وإنكم قد غلبتم على بلادى وأمتى ، فأنا اليوم منكم يدى مع أيديكم ، وصبرى معكم ، فمرحبا بكم ، وبارك الله لنا ولكم ، وجزيتنا إليكم ، ولكم النصر والقيام بما تحبون ، ولا تذلونا بالجزية فتوهنونا لعدوكم.

فقال عبد الرحمن : فوقى رجل قد أظلك فسر إليه ، فجوزه ، فسار إلى سراقة ، فلقيه بمثل ذلك ، فقال له سراقة : قد قبلت ذلك فيمن كان معك على هذا ما دام عليه ، ولا بد من الجزاء على من يقيم ولا ينهض ، فقبل ذلك شهربراز ، وصارت سنة فيمن كان يحارب العدو من المشركين ، وفيمن يستنفر من أهل الجزية ، فتوضع عنه جزية تلك السنة التي استنفر فيها.

وكتب سراقة إلى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، بذلك ، فأجازه وحسنه ، وليس فى تلك البلاد التي فى ساحة الجبال نبك لم يقم الأرمن بها إلا على أوفاز ، وإنما بها سكان ممن حولها ومن الطراء استأصلت الغارات نبكها من أهل القرار ، وأرز أهل الجبال منهم إلى جبالهم ، وجلوا عن قرار أرضهم ، فكان لا يقيم بها إلا الجنود ومن أعانهم أو تجر إليهم.

واكتتبوا من سراقة بن عمرو كتابا بالأمان لشهربراز وسكان أرمينية والأرمن ، على أنفسهم وأموالهم وملتهم ، لا يضارون ولا ينتقضون ، وعلى أهل أرمينية والأبواب ، الطراء منهم والتناء ومن حولهم ، فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة ، وينفروا لكل أمر رآه الوالى صلاحا ، ناب أو لم ينب ، على أن توضع على من أجاب إلى ذلك الجزاء ، ومن استغنى منهم فقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء والدلالة والنزول يوما كاملا ، فإن حشروا وضع ذلك عنهم ، وإن تركوا أخذوا به.

ثم إن سراقة بن عمرو وجه بعد ذلك بكير بن عبد الله وحبيب بن مسلمة ، وكان عمر أمد به سراقة ، وحذيفة بن أسيد وسلمان بن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بإرمينية ، فوجه بكيرا إلى موقان ، وحبيبا إلى تفليس ، وحذيفة إلى من بجبال اللان ، وسلمان إلى وجه آخر.

٥٨٢

وكتب سراقة بالفتح وبالذى وجه فيه هؤلاء إلى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، فأتى عمر أمر لم يكن يرى أنه يستتم له على ما خرج عليه سريعا بغير مئونة ، وكان فرجا عظيما به جند عظيم ، إنما ينتظر أهل فارس صنيعهم ، ثم يضعون الحرب أو يبعثونها.

فلما استوثقوا واستحلوا عدل الإسلام مات سراقة ، رحمه‌الله ، واستخلف عبد الرحمن بن ربعة ، وقد مضى أولئك القواد الذين بعثهم سراقة ، فلم يفتح أحد منهم ما وجه له إلا بكيرا فإنه فض موقان ، ثم تراجع أهلها على الجزية ، فقبل منهم وكتب لهم بها وبأمانهم عليها.

ولما بلغ عمر ، رحمه‌الله ، موت سراقة واستخلافه عبد الرحمن أقره عمر وأمره بغزو الترك ، فخرج بالناس حتى قطع الباب ، فقال له شهربراز : ما تريد أن تصنع؟ قال : أريد بلنجر ، فقال شهربراز : إنا لنرضى منهم أن يدعونا من وراء الباب ، فقال عبد الرحمن : لكنا لا نرضى منهم بذلك حتى نأتيهم فى ديارهم ، وبالله إن معنا لأقواما لو يأذن لنا أميرنا فى الإمعان لبلغت بهم الردم ، قال : وما هم؟ قال : أقوام صحبوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخلوا فى هذا الأمر بنية ، وكانوا أصحاب حياء وتكرم فى الجاهلية ، فازداد حياؤهم وتكرمهم ولا يزال هذا الأمر دائما لهم ، والنصر معهم حتى يغيرهم من يغلبهم ، وحتى ينقلوا عن حالهم.

فغزا عبد الرحمن بلنجر غزاة فى زمان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، لم تئم فيها امرأة ولم ييتم صبى ، وبلغت خيله فى غزاته البيضاء على رأس مائتى فرسخ من بلنجر ، ثم غزا فسلم ، ثم غزا غزوات فى زمان عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، ثم أصيب عبد الرحمن حين تبدل أهل الكوفة فى إمارة عثمان لاستعماله من كان ارتد استصلاحا لهم ، فلم يصلحهم ذلك وزادهم فسادا ، أن سادهم من طلب الدنيا ، وعضلوا بعثمان ، رضي‌الله‌عنه ورحمه ، حتى جعل يتمثل :

وكنت وعمرا كالمسمن كلبه

فخدشه أنيابه وأظافره

وقال سلمان بن ربيعة (١) : لما دخل عبد الرحمن بن ربيعة عليهم ، يعنى على الترك ، حال الله بينهم وبين الخروج عليه ، وقالوا : ما اجترأ علينا هذا الرجل إلا ومعهم الملائكة تمنعهم من الموت ، فتحصنوا منه ، فرجع بالغنم والظفر ، وذلك فى إمارة عمر ، ثم لما

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٥٨ ، ١٥٩).

٥٨٣

غزاهم غزوات فى زمان عثمان ظفر بهم كما كان يظفر ، حتى إذا تبدل أهل الكوفة ، وذكر بعض ما تقدم من استعمال من ارتد ، وغزاهم بعد ذلك تذمرت الترك وقالوا : انظروا ، وكانوا يقولون إنهم لا يموتون. قال : فاختفوا لهم فى الغياض ، فرمى رجل منهم رجلا من المسلمين على غرة فقتله ، وهرب عنه أصحابه ، فخرجوا عليه عند ذلك ، فاقتتلوا فاشتد قتالهم ، ونادى مناد من الجو : صبرا آل عبد الرحمن موعدكم الجنة فقاتل حتى قتل عبد الرحمن وانكشف المسلمون ، وأخذ سلمان بن ربيعة الراية ، فقاتل بها ، ونادى مناد من الجو : صبرا آل سلمان ، فقال سلمان : أو ترى جزعا؟ ثم خرج بالناس وخرج سلمان الفارسى وأبو هريرة الدوسى على جيلان ، فقطعوها إلى جرجان ، واجترأ الترك بعدها ولم يمنعهم ذلك من اتخاذ جسد عبد الرحمن ، فما زالوا بعد يستسقون به.

وجعل عثمان ، رحمه‌الله ، يغزيها مع حبيب بن مسلمة.

وحدث مطر بن ثلج التيمى قال : دخلت على عبد الرحمن بن ربيعة بالباب وشهربراز عنده ، فأقبل رجل عليه شحوب حتى جلس إلى شهربراز ، فتساءلا ، ثم إن شهربراز قال لعبد الرحمن : أيها الأمير ، أتدري من أين جاء هذا الرجل؟ إنى بعثته منذ سنتين نحو السند لينظر لى ما حاله ومن دونه ، وزودته مالا عظيما ، وكتبت له إلى من يلينى ، وأهديت له ، وسألته أن يكتب إلى من وراءه ، وزودته لكل ملك هدية ، ففعل ذلك بكل ملك بينى وبينه ، حين انتهى إليه ، حتى انتهى إلى الملك الذي السد فى ظهر أرضه ، فكتب له إلى عامله على ذلك البلد ، فأتاه فبعث معه بازياره ومعه عقابه. فذكر أنه أحسن إلى البازيار وقال : فتكشر لى البازيار.

فلما انتهينا إذا جبلان بينهما سد مسدود ، حتى ارتفع على الجبلين بعد ما استوى بهما ، وإذا دون السد خندق أشد سوادا من الليل لبعده ، فنظرت إلى ذلك وتفرست فيه ، ثم ذهبت لأنصرف ، فقال لى البازيار : على رسلك ، أكافئك ، إنه لا يلى ملك بعد ملك إلا تقرب إلى الله بأفضل ما عنده من الدنيا ، فيرمى به فى هذا اللهب ، فشرح بضعة لحم معه ، فألقاها فى ذلك الهوى ، وانقضت عليها العقاب ، وقال : إن أدركتها قبل أن تقع فلا شيء ، وإن لم تدركها حتى تقع فذلك شيء ، فخرجت علينا العقبان باللحم فى مخالبها ، وإذا فيها ياقوتة ، فأعطانيها ، وهى هذه. فتناولها منه شهربراز وهى حمراء فناولها عبد الرحمن ، فنظر إليها ثم ردها إليه ، فقال شهربراز : لهذه خير من هذه البلد ، يعنى الباب ، وايم الله لأنتم أحب إلىّ ملكة من آل كسرى ، ولو كنت فى سلطانهم ثم بلغهم خبرها لانتزعوها منى ، وايم الله لا يقوم لكم شيء ما وفيتم أو وفى ملككم الأكبر.

٥٨٤

فأقبل عبد الرحمن على الرسول وقال : ما حال الردم وما شبهه؟ فقال : هذا الثوب الذي على هذا الرجل ، وأشار إلى مطر بن ثلج ، وكان عليه قباء برود يمنية أرضة حمراء ووشيه أسود أو وشيه أحمر وأرضه سوداء ، فقال مطر : صدق والله الرجل ، لقد نفذ ورأى ، قال عبد الرحمن : أجل ، ووصف صفة الحديد والصفر وقرأ : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) إلى آخر الآية [الكهف : ٩٦] ، وقال عبد الرحمن لشهربراز : كم كانت هديتك؟ قال : قيمة مائة ألف فى بلادى هذه ، وثلاثة آلاف ألف وأكثر فى تلك البلدان.

ذكر مسير يزدجرد إلى خراسان

ودخول الأحنف إليها غازيا (١)

ذكروا أن يزدجرد لما انهزم أهل جلولاء خرج يريد الرى ، وقد جعل له محمل يطيق ظهر بعيره ، وكان إذا سار نام ولم يعرس بالقوم ، فانتهى به إلى مخاضة وهو نائم فى محمله ، فأنبهوه ليعلم ، ولئلا يفزع إن هو استيقظ إذا خاض البعير به ، فعنفهم على إنباهه وقال : بئس ما صنعتم ، والله لو تركتمونى لعلمت ما مدة هذه الأمة ، إنى رأيت أنى ومحمدا ، يعنى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تناجينا عند الله تعالى فقال له : أملككم مائة سنة ، فقال : زدنى ، فقال : عشرا ومائة ، فقال : زدنى ، فقال : عشرين ومائة سنة ، فقال : زدنى ، فقال : لك. وأنبهتمونى ، ولو تركتمونى لعلمت.

فلما انتهى إلى الرى ، وثب عليه آبان جاذويه ، وكان على الرى ، حينئذ ، فأخذه ، فقال له يزدجرد : يا آبان جاذويه ، تغدر بى! فقال : لا ولكن قد تركت ملكك وصار فى يدى غيرك ، فأحببت أن أكتتب على ما كان لى من شيء ، وما أردته من غير ذلك ، وأخذ خاتم يزدجرد ووصل الأدم ، واكتتب الصكاك وسجل السجلات بكل ما أعجبه ، ثم ختم عليها ورد الخاتم ، ثم أتى بعد سعدا فرد عليه كل شيء فى كتابه.

ولما صنع آبان جاذويه بيزدجرد ما صنع خرج يزدجرد من الرى إلى أصبهان وكره جوار آبان ولم يأمنه ، ثم عزم على كرمان ، فأتاها ومعه النار ، فأراد أن يضعها فى كرمان ، ثم عزم على خراسان ، فأتى مرو فنزلها وقد نقل النار ، فبنى لها بيتا واتخذ بستانا ، وبنى أزجا فرسخين من مرو إلى البستان ، فاطمأن فى نفسه وأمن أن يؤتى ، وكاتب من مرو من بقى من الأعاجم حيث لم يفتتحه المسلمون ، فدانوا له ، حتى إذا ثار

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٦٦ ـ ١٧٣) ، تاريخ ابن خلدون (٢ / ١٢٠ ـ ١٢٢).

٥٨٥

أهل فارس والفيرزان فنكثوا ، وثار أهل الجبال والفيزران فنكثوا ، وصار ذلك داعية إلى إذن عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فى الانسياح ، فانساح أهل البصرة وأهل الكوفة حتى أثخنوا فى الأرض ، فخرج الأحنف إلى خراسان ، فأخذ على مهرجان نقذف ، ثم خرج على أصبهان ، وأهل الكوفة محاصرو جيّ ، فدخل خراسان من الطبسين ، فافتتح هراة عنوة ، واستخلف عليها صحار بن فلان العبدى ، ثم سار نحو مرو الشاهجان ، وأرسل إلى نيسابور ، وليس دونها قتال ، مطرف بن عبد الله بن الشخير ، وإلى سرخس الحارث بن حسان.

فلما دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد نحو مروالروذ حتى نزولها ، ونزل الأحنف مرو الشاهجان ، وكتب يزدجرد إلى خاقان وملك الصغد وصاحب الصين يستمدهم ويستعين بهم ، وخرج الأحنف من مرو الشاهجان ، واستخلف عليها حارثة ابن النعمان الباهلى بعد ما لحقت به أمداد الكوفة ، على أربعة أمراء : علقمة بن النضر النضرى ، وربعى بن عامر التميمى ، وعبد الله بن أبى عقيل الثقفى ، وابن أم غزال الهمدانيّ ، وبلغ يزدجرد خروج الأحنف سائرا نحوه فخرج إلى بلخ ، ونزل الأحنف مروالروذ ، وقدم أهل الكوفة فساروا إلى بلخ ، واتبعهم الأحنف ، والتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ ، فهزمه الله بهم ، وتوجه فى أهل فارس إلى النهر فعبروا ، ولحق الأحنف بأهل الكوفة وقد فتح الله عليهم ، وتتابع أهل خراسان ممن شذ وتحصن على الصلح فيما بين نيسابور إلى طخارستان ، وعاد الأحنف إلى مروالروذ فنزلها ، واستخلف على طخارستان ربعى بن عامر ، وهو الذي يقول له النجاشى ونسبه إلى أمه ، وكان من أشراف العرب :

ألا رب من تدعو فتى ليس بالفتى

ألا إن ربعى بن كأس هو الفتى

طويل قعود القوم فى قعر بيته

إذا شبعوا من ثقل جفنته سقى

وكتب الأحنف بفتح خراسان إلى عمر ، رحمه‌الله ، فقال : لوددت أنى لم أكن بعثت إليها جندا ، ولوددت أنه كان بيننا وبينها بحر من نار ، فقال على ، رضي‌الله‌عنه : ولم يا أمير المؤمنين؟ قال : لأن أهلها سينقضون ثلاث مرات ، فيجتاحون فى الثالثة ، فكان أن يكون ذلك بأهلها أحب إلىّ من أن يكون بالمسلمين.

وكتب عمر إلى الأحنف : أما بعد ، فلا تجوزن النهر واقتصر على ما دونه ، وقد عرفتم بأى شيء دخلتم خراسان ، فدوموا على الذي دخلتم به يدم لكم النصر ، وإياكم وإياكم أن تغيروا فتنقضوا.

٥٨٦

ولما بلغ رسول يزدجرد إلى خاقان لم يستتب له إنجاده حتى عبر إليه النهر مهزوما ، وقد استتب له ذلك ، والملوك ترى على أنفسها إنجاد الملوك ، فأقبل فى الترك ، وحشر أهل فرغانة والصغد ، ثم خرج بهم ، وخرج يزدجرد راجعا إلى خراسان حتى عبر النهر إلى بلخ ، وعبر معه خاقان ، فأرز أهل فارس إلى الأحنف بمروالروذ ، وجاء المشركون حتى نزلوا بها عليه ، وكان حين بلغه عبورهم قاصدين له ، خرج ليلا فى عسكره يتسمع فى ليلة مظلمة هل يسمع برأى ينتفع به؟ فمر برجلين ينقبان علفا ، إما تبنا وإما شعيرا ، وأحدهما يقول لصاحبه : لو أن الأمير أسندنا إلى هذا الجبل فكان النهر بيننا وبين عدونا خندقا ، والجبل فى ظهورنا لئلا يأتونا من خلفنا ، وكان قتالنا من وجه واحد رجوت أن ينصرنا الله عزوجل. فرجع الأحنف واجتزأ بها.

فلما أصبح جمع الناس وقال : إنكم قليل وإن عدوكم كثير ، فلا يهولنكم ، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين ، ارتحلوا من مكانكم هذا فأسندوا إلى هذا الجبل ، فاجعلوه فى ظهوركم ، واجعلوا النهر بينكم وبين عدوكم ، وقاتلوهم من وجه واحد ، ففعلوا ، وقد أعدوا ما يصلحهم ، والأحنف فى عشرة آلاف من أهل البصرة ، وأهل الكوفة نحو منهم ، وأقبلت الترك ومن اجتلبت حتى نزلوا بهم ، فكانوا يغادونهم ويراوحونهم ، ويتنحون عنهم بالليل ما شاء الله.

وطلب الأحنف علم مكانهم بالليل حتى علم علمهم ، ثم خرج ليلة طليعة لأصحابه حتى كان قريبا من عسكر خاقان فوقف ، فلما كان فى وجه الصبح خرج فارس الترك بطوقه وضرب طبله ، ثم وقف من العسكر موقفا مثله ، فحمل عليه الأحنف ، فاختلفا طعنتين ، فطعنه الأحنف فقتله ، وهو يرتجز :

إن على كل رئيس حقا

أن يخضب الصعدة أو تندقا

إن لها شيخا بها ملقا

سيف أبى حفص الذي تبقى

ثم وقف موقف التركى وأخذ طوقه ، ثم خرج آخر من الترك ، ففعل فعل صاحبه ، ثم وقف دونه ، فحمل عليه الأحنف ، فاختلفا طعنتين فطعنه الأحنف فقتله وهو يرتجز :

إن الرئيس يرتبى ويطلع

ويمنع الخلاء إذا ما أرتعوا

ثم وقف موقف التركى الثانى ، وأخذ طوقه ، ثم خرج ثالث من الترك ، ففعل فعل صاحبه ، ووقف دون الثانى منهما ، فحمل عليه الأحنف فاختلفا طعنتين ، فطعنه الأحنف فقتله وهو يرتجز :

٥٨٧

جرى الشموس ناجزا بناجز

محتفلا فى جريه مشارز

ثم انصرف الأحنف إلى عسكره ، ولا يعلم بذلك أحد منهم حتى دخله واستعد. وكان من شيمة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم كهؤلاء ، كلهم يضرب بطلبه ثم يخرجوا بعد خروج الثالث ، فخرجت الترك ليلتئذ بعد الثالث ، فأتوا على فرسانهم مقتلين ، فتشاءم خاقان وتطير ، وقال : قد طال مقامنا ، وقد أصيب هؤلاء بمكان لم يصب بمثله قط أحد منا ، فما لنا فى قتال هؤلاء القوم من خير ، فانصرفوا بنا ، فكان وجههم راجعين ، وارتفع النهار للمسلمين ولا يرون شيئا ، فأتاهم الخبر بانصراف خاقان إلى بلخ ، فقال المسلمون للأحنف : ما ترى فى اتباعهم؟ فقال : أقيموا بمكانكم ودعوهم.

وكان يزدجرد لما نزل بمروالروذ خرج إلى مرو الشاهجان فتحصن منه حارثة بن النعمان ومن معه ، فحاصرهم واستخرج خزائنه من مواضعها ، وخاقان ببلخ مقيم له ، فلما جمع يزدجرد ما كان فى يديه مما وضع بمرو ، فأعجل عنه وأراد أن يستقل منها ، إذا أمر عظيم من خزائن أهل فارس ، فقال له أهل فارس : أى شيء تريد أن تصنع؟ فقال : أريد اللحاق بخاقان ، فأكون معه أو بالصين ، فقالوا له : مهلا ، فإن هذا رأى سوء ، إنك إنما تأتى قوما فى مملكتهم وتدع أرضك وقومك ، ولكن ارجع إلى هؤلاء القوم ، يعنون المسلمين ، فنصالحهم ، فإنهم أوفياء وأهل دين ، وهم يلون بلادنا ، وإن عدوا يلينا فى بلادنا أحب إلينا ملكه من عدو يلينا فى بلاده لا دين لهم ولا ندرى ما وفاؤهم ، فأبى عليهم وأبوا عليه ، فقالوا : فدع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يليها ، ولا تخرجها من بلادنا إلى غيرها ، فأبى ، فقالوا : إنا لا ندعك.

فاعتزلوه وتركوه فى حاشيته ، فاقتتلوا ، فهزموه وأخذوا الخزائن واستولوا عليها ، وكتبوا إلى الأحنف بالخبر ، فاعترضهم المسلمون والمشركون يثفنونه ، فقاتلوه ، وأصابوا فى آخر القوم ، وأعجلوه عن الأثقال ، ومضى مزايلا حتى يقطع النهر إلى فرغانة والترك ، فلم يزل مقيما بقية زمان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، يكاتبهم ويكاتبونه ، أو من شاء الله منهم ، إلى أن كان زمن عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، فكفر أهل خراسان ، فأقبل حتى نزل مرو ، فكان من أمره إلى حين مقتله ما نذكره بعد فى موضعه إن شاء الله.

وأقبل أهل فارس على الأحنف فصالحوه ، ودفعوا إليه تلك الخزائن والأموال ، وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم على أفضل ما كانوا فى زمان الأكاسرة ، فكانوا كأنهم فى ملكهم ، إلا أن المسلمين أوفى لهم وأعدل عليهم ، فاغتبطوا ، وأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهم الفارس يوم القادسية.

٥٨٨

ولما سمع خاقان وهو والترك ببلخ ما لقى يزدجرد ، وأن الأحنف خرج مع المسلمين من مروالروذ نحوه ، ترك بلخ وعبر النهر ، وأقبل الأحنف حتى نزل بلخ ، ونزل أهل الكوفة فى كورها الأربع ، ثم رجع إلى مروالروذ فنزل بها ، وكتب بالفتح الذي صنع الله فى خاقان ويزدجرد إلى عمر ، رحمه‌الله ، وبعث إليه بالأخماس ، ووفد الوفود.

ولما عبر خاقان النهر ، وعبرت معه حاشية آل كسرى ، أو من أخذ نحو بلخ منهم مع يزدجرد ، لقوا رسول يزدجرد الذي كان بعثه إلى ملك الصين ، وأهدى إليه معه ، ومعه جواب كتاب يزدجرد من ملك الصين ، فسألوه عما وراءه ، فقال : لما قدمت عليه بالكتاب والهدايا كافأنا بما ترون ، وأراهم هديته ، وأجاب يزدجرد بهذا الكتاب بعد أن كان قال لى : قد عرفت أن حقا على الملوك إنجاد الملوك على من غلبهم ، فصف لى صفة هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم ، فإنى أراك تذكر منهم قلة وكثرة منكم ، ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل الذي تصف منكم فيما أسمع من كثرتكم إلا لخير عندهم وشر فيكم ، فقلت : اسألنى عما أحببت ، فقال : أيوفون بالعهد؟ قلت : نعم ، قال : وما يقولون لكم قبل أن يقاتلوكم؟ قلت : يدعوننا إلى واحدة من ثلاث : إما دينهم فإن أجبناهم أجرونا مجراهم ، أو الجزية والمنعة ، أو المنابذة.

قال : فكيف طاعتهم أمراءهم؟ قلت : أطوع قوم لمرشدهم ، قال : فما يحلون وما يحرمون؟ فأخبرته ، فقال : أيحرمون ما حلل لهم ، أو يحلون ما حرم عليهم؟ قلت : لا ، قال : فإن هؤلاء القوم لا يهلكون أبدا حتى يحلوا حرامهم ويحرموا حلالهم ، ثم قال : أخبرنى عن لباسهم ، فأخبرته ، وعن مطاياهم ، فقلت : الخيل العراب ، ووصفتها ، فقال : نعمت الحصون هذه ، ووصفت له الإبل ، بركها وانبعاثها بحملها ، فقال : هذه صفة دواب طوال الأعناق.

وكتب معه إلى يزدجرد : إنه لم يمنعنى أن أبعث إليك بجيش أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علىّ ، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لى رسولك لو يحاولون الجبال لهدوها ، ولو خلى سربهم أزالونى ما داموا على ما وصف ، فسالمهم وأرض منهم بالسلامة ، ولا تهيجهم ما لم يهيجوك.

فأقام يزدجرد وآل كسرى بفرغانة على عهد من خاقان ، ولما وقع الرسول بالفتح والوفد بالخبر ومعهم الغنائم لعمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، من قبل الأحنف ، جمع الناس وخطبهم ، وأمر بكتاب الفتح فقرئ عليهم ، وقال فى خطبته : إن الله تبارك وتعالى

٥٨٩

ذكر رسوله وما بعثه به من الهدى ، ووعد على اتباعه من عاجل الثواب وآجله خير الدنيا والآخرة ، فقال عزوجل : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة : ٣٣] ، فالحمد لله الذي أنجز وعده ، ونصر جنده ، ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم ، لينظر كيف تعملون ، ألا وإن المصرين اليوم من مسالحها كأنتم والمصرين فيما مضى من البعد وقد وغلوا فى البلاد ، والله بالغ أمره ، ومنجز وعده ، ومتبع آخر ذلك وأوله ، فقوموا فى أمره على رجل يوف لكم بعهده ويؤتكم وعده ، ولا تغيروا فيستبدل الله بكم قوما غيركم ، فإنى لا أخاف على هذه الأمة أن يؤتوا إلا من قبلكم.

وسيأتى بعد إن شاء الله ما كان من انتقاض خراسان وغيرها فى خلافة عثمان ، رضي‌الله‌عنه.

ونذكر الآن بقية فتوح أهل البصرة الذين عقد لهم عمر ، رضي‌الله‌عنه ، عند الإذن لهم فى الانسياح على ما تقدم.

فتح توج

قالوا (١) : وخرج أهل البصرة الذين وجهوا أمراء على فارس ، ومعهم سارية بن زنيم ومن بعث معهم إلى ما وراء ذلك ، وأهل فارس مجتمعون بتوج ، فلم يصمدوا بجمعهم ، ولكن قصد كل أمير منهم قصد إمارته وكورته التي أمر بها ، وبلغ ذلك أهل فارس ، فتفرقوا إلى بلدانهم ليمنعوها كما تفرق المسلمون فى القصد إليها ، فكانت تلك هزيمة أهل فارس ، تشتت أمورهم وتفرقت جموعهم ، فتطيروا من ذلك كأنما ينظرون إلى ما صاروا إليه ، فقصد مجاشع بن مسعود فيمن معه من المسلمين لسابور وأردشير خره ، فالتقوا بتوج مع أهل فارس ، فاقتتلوا ما شاء الله عزوجل ، ثم إن الله عزوجل سلط المسلمين على أهل توج فهزموهم وقتلوهم كل قتلة ، وبلغوا منهم ما شاءوا ، وغنمهم ما فى عسكرهم فحووه.

وهذه توج الآخرة ، لم يكن لها بعدها شوكة ، والأولى التي تنقذ فيها جنود العلاء بن الحضرمى أيام طاوس ، والوقعتان متساجلتان.

ثم دعوا بعد هزيمتهم هذه الآخرة إلى الجزية والذمة ، فتراجعوا وأقروا وخمس مجاشع

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٧٤ ، ١٧٥).

٥٩٠

الغنائم ، وبعث بخمسها ، ووفد وفدا ، وقد كانت البشرى والوفود يجازون وتقضى لهم حوائجهم ، لسنة جرت بذلك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وحدث عاصم بن كليب ، عن أبيه قال : خرجنا مع مجاشع غازين توج ، فحاصرناها وقاتلناهم ما شاء الله ، فلما افتتحناها حوينا نهبا كثيرا ، وقتلنا قتلى عظيمة ، فكان علىّ قميص قد تخرق ، فأخذت إبرة وسلكا ، فجعلت أخيط قميصى بها ، ثم إنى نظرت إلى رجل من القتلى عليه قميص فنزعته ، فأتيت به الماء ، فجعلت أضربه بين حجرين حتى ذهب ما فيه ، فلبسته ، فلما جمعت الرثة ، قام مجاشع خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس لا تغلوا ، فإنه من غل جاء بما غل يوم القيامة ، ردوا ولو المخيط ، فلما سمعت ذلك نزعت القميص فألقيته فى الأخماس.

وفى ذلك يقول مجاشع (١) :

ونحن ولينا مرة بعد مرة

بتوج أبناء الملوك الأكابر

لقينا جنود الماهيان بسحرة

على ساعة تلوى بأيدى الخطائر

فما فتئت خيلى تكر عليهم

ويلحق منها لاحق غير جائر

لدن غدوة حتى أتى الليل دونهم

وقد عولجوا بالمرهفات البواتر

وكان كذاك الدأب فى كل كورة

أجابت لإحدى المنكرات الكبائر

حديث اصطخر

قالوا (٢) : وقصد عثمان بن أبى العاص لاصطخر ، فالتقى هو وأهلها بجور فاقتتلوا ما شاء الله ، ثم فتح الله على المسلمين جور واصطخر ، فقتلوا ما شاء الله ، وتفرق من تفرق ، ثم إن عثمان دعا الناس إلى الجزاء والذمة ، فراسلوه وراسلهم ، فأجابه الهربذ وكل من هرب أو تنحى ، فتراجعوا وباحوا بالجزاء ، وجمع عثمان حين هزمهم ما أفاء الله عليهم فخمسه وبعث بالخمس إلى عمر ، رحمه‌الله ، وقسم الباقى فى الناس ، وعف الجند عن النهاب ، وأدوا الأمانة ، واستدقوا الدنيا ، فجمعهم عثمان ثم قام فيهم ، وقال : إن هذا الأمر لا يزال مقبلا وأهله معافون مما يكرهون ما لم يغلوا ، فإذا غلوا رأوا ما ينكرون ولم يسد الكثير مسد القليل اليوم.

__________________

(١) انظر الأبيات فى : الروض المعطار (ص ١٤٣).

(٢) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٧٥ ـ ١٧٧) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٣ / ٢٠ ، ٢١) ، تاريخ ابن خلدون (٢ / ١٢٢ ، ١٢٣).

٥٩١

وعن الحسن قال : قال عثمان بن أبى العاص يوم اصطخر : إن الله عزوجل إذا أراد بقوم خيرا كفهم ووفر أمانتهم ، فاحفظوها ، فإن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة ، فإذا فقدتموها جدد لكم فى كل يوم فقدان شيء من أموركم.

ثم إن شهرك خلع فى آخر إمارة عمر أو أول إمارة عثمان ، رحمهما‌الله ، ونشط فارس ودعاهم إلى النقض ، فوجه إليه عثمان بن أبى العاص ثانية ، وبعث معه جنودا أمد بهم عليهم عبيد الله بن معمر ، وشبل بن معبد ، فالتقوا بفارس ، فقال شهرك لابنه وهو فى المعركة ، وبينهم وبين قرية لهم تدعى ري شهر ثلاثة فراسخ ، وكان بينهم وبين قرارهم اثنا عشر فرسخا : يا بنى ، أين ترى أن يكون غداؤنا هنا أو بريشهر؟ فقال : يا أبت ، إن تركونا فلا يكون غداؤنا هنا ولا بريشهر ، ولا يكون إلا فى المنزل ، ولكن والله ما أراهم يتركوننا. فما فرغا من كلامهما حتى أنشب المسلمون القتال ، فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل فيه شهرك وابنه وقتل من المشركين مقتلة عظيمة ، وولى قتل شهرك الحكم بن أبى العاص أخو عثمان بن أبى العاص.

وذكر الطبرى عن أبى معشر : أن اصطخر الآخرة كانت سنة ثمان وعشرين ، وذلك فى وسط إمارة عثمان بن عفان ، رضي‌الله‌عنه.

وذكر أيضا بسنده إلى عبيد الله بن سليمان قال : كان عثمان بن أبى العاص أرسل إلى البحرين ، فأرسل أخاه الحكم فى ألفين إلى توج ، وكان كسرى قد فر عن المدائن ، ولحق بجور من أرض فارس.

قال الحكم : فقصد إلى شهرك ، وكان كسرى أرسله ، فهبطوا من عقبة ، عليهم الحديد ، فخشيت أن تغشى أبصار الناس ، فأمرت مناديا فنادى : أن من كانت له عمامة فليلقها على عينه ، ومن لم يكن له عمامة فليغمض بصره ، وناديت : أن حطوا عن دوابكم. فلما رأى شهرك ذلك حط أيضا ، ثم ناديت : أن اركبوا ، وصففنا لهم ، وركبوا ، فجعلت الجارود العبدى على الميمنة ، وأبا صفرة ، يعنى أبا المهلب ، على الميسرة ، فحملوا على المسلمين فهزموهم حتى ما أسمع لهم صوتا ، فقال لى الجارود : أيها الأمير ، الجند! فقلت : إنك سترى أمرك ، فما لبثنا أن رجعت خيلهم ، ليس عليهم فرسانهم ، والمسلمون يتبعونهم يقتلونهم ، فنثرت الرءوس بين يدى ، وأتيت برأس ضخم ، وكان معى بعض ملوكهم فارق كسرى ولحق بى ، فقال : هذا رأس الازدهاق ، يعنون شهرك ، فحوصروا فى مدينة سابور ، فصالحهم الحكم ، وكان ملكهم آذربيجان ، فاستعان به الحكم على قتال أهل اصطخر.

٥٩٢

وقال يزيد بن الحكم بن أبى العاص يذكر اصطخر الآخرة :

أنا ابن عظيم القريتين كليهما

نمتنى إلى العليا الفروع الفوارع

لنا مجد بطحاوى ثقيف وغالب

إذا عد بطحاواهما والد سائع

لنا الحسب العود الذي لا تناله

عيون العدى والحاسدات الدواسع

أبى سلب الجبار بيضة ملكه

فخر وأطراف الرماح شوارع

بمعترك ضنك به قصد القنى

وهام وأيد تختليها القواطع

بأيدى سراة كلهم باع نفسه

فأوفوا بما باعوا وأوفى المبايع

هم المؤمنون الواردو الموت فى الوغى

كما ترد الماء العطاش النوائع

نجاهد فى نصر لخير شريعة

إذا ذكرت يوم الحساب الشرائع

سمونا لزحف المشركين بوقعة

بها رد مال الجزية المتتابع

تركنا من القتلى نثارا تعودها

نسور تراماها الضباع الجوامع

جثى من عظام المشركين كأنها

تلوح من الرأى البعيد صوامع

تركنا سباع الأرض والطير منهم

شباعا وما فيها إلى الحول جائع

حديث فسا ودارابجرد (١)

قالوا (٢) : وقصد سارية بن زنيم لفسا ودارابجرد حتى أفضى إلى عسكرهم ، فنزل عليهم وحاصرهم ما شاء الله ، ثم إنهم استمدوا ، فتجمعوا وتجمعت إليهم أكراد فارس ، فدهم المسلمين أمر عظيم وجمع كثير ، فرأى عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فى تلك الليلة معركتهم وعددهم فى ساعة من النهار ، فنادى من الغد ، الصلاة جامعة ، حتى إذا كان فى الساعة التي رأى فيها ما رأى خرج إليهم ، وكان أريهم والمسلمين بصحراء ، وإن أقاموا فيها أحيط بهم وإن أرزوا إلى جبل من خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد ، ثم قام فقال : أيها الناس ، إنى رأيت هذين الجمعين ، وأخبر بحالهما ، ثم قال : يا سارية ، الجبل الجبل ، ثم أقبل عليهم ، فقال : إن لله عزوجل جنودا ، ولعل بعضها أن يبلغهم ، ولما كان تلك الساعة من ذلك اليوم أجمع سارية والمسلمون على الإسناد إلى الجبل ، ففعلوا وقاتلوا القوم من وجه واحد ، فهزمهم الله لهم ، وكتبوا بذلك إلى عمر ، رحمه‌الله ، وباستيلائهم على البلد ودعاء أهله وتسكينهم.

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٧٨ ، ١٧٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٣٠ ـ ١٣٢) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٣ / ٢١ ، ٢٢).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ١٧٨ ، ١٧٩).

٥٩٣

وعن رجل من بنى مازن قال : كان عمر ، رحمه‌الله ، قد بعث سارية بن زنيم الدؤلى إلى فسا ودارابجرد فحاصرهم ، ثم إنهم تداعوا فأصحروا له ، وكثروه وأتوه من كل جانب ، فقال عمر ، رضي‌الله‌عنه ، وهو يخطب فى يوم جمعة : يا سارية بن زنيم ، الجبل الجبل.

وفى غير هذا الحديث : ثم عاد عمر فى خطبته فعجب الناس لندائه سارية على بعده ، فقضى الله سبحانه أن كان سارية وأصحابه فى ذلك الوقت موافقين للمشركين ، وقد ضايقهم المشركون من كل جانب ، وإلى جانب المسلمين جبل ، إن لجئوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد ، فسمعوا صوتا يقول : يا سارية بن زنيم ، الجبل الجبل ، كما قال عمر ، رضي‌الله‌عنه ، وفى ذلك الوقت بعينه ، فلجئوا إلى الجبل ، فنجوا وهزموا عدوهم وأصابوا مغانم كثيرة.

قال المازنى فى حديثه : إن سارية أصاب فى المغانم سفطا فيه جوهر ، فاستوهبه المسلمون لعمر ، فوهبوه له ، فبعث به وبالفتح رجلا ، وقال له : استقرض ما تبلغ به وما تخلفه فى أهلك على جائزتك ، وكان الرسل والوفد يجازون ، فقدم الرجل البصرة ففعل ، ثم خرج فقدم على عمر ، رحمه‌الله ، فوجده يطعم الناس ، ومعه عصاه التي يزجر بها بعيره ، فقصده ، فأقبل عليه بها ، فقال : اجلس ، فجلس حتى إذا أكل انصرف عمر ، وقام الرجل فاتبعه ، فظن عمر أنه رجل لم يشبع ، فقال حين انتهى إلى باب داره : ادخل ، فلما جلس فى البيت أتى بغذائه ، خبز وزيت وملح وجريش ، فوضع له ، ثم قال للرجل : ادن فكل ، فأكلا.

حتى إذا فرغ قال له الرجل : رسول سارية بن زنيم يا أمير المؤمنين ، فقال : مرحبا وأهلا ، ثم أدناه حتى مست ركبته ركبته ، ثم سأله عن المسلمين ، ثم سأله عن سارية ، فأخبره ، ثم أخبره بقصة الدرج ، فنظر إليه ثم صاح به وقال : لا ولا كرامة حتى تقدم على ذلك الجيش فتقسمه بينهم ، وطرده ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنى قد أنضبت إبلى واستقرضت على جائزتى ، فأعطنى ما أتبلغ به ، فما زال عنه حتى أبدله بعيرا ببعيره من إبل الصدقة ، وأخذ بعيره فأدخله فى إبل الصدقة ، ورجع الرجل مغضوبا عليه محروما حتى قدم البصرة ، فنفذ لما أمره به عمر ، رحمه‌الله ، وقد كان أهل المدينة سألوه عن سارية وعن الفتح ، وهل سمعوا شيئا يوم الوقعة؟ فقال : نعم سمعنا : يا سارية ، الجبل الجبل. وقد كدنا نهلك ، فلجأنا إليه ففتح الله علينا.

٥٩٤

حديث فتح كرمان

قالوا (١) : وقصد سهيل بن عدى إلى كرمان ، ولحقه عبد الله بن عبد الله بن عتبان ، وعلى مقدمته سهيل بن عدى النسير بن عمرو العجلى ، وقد حشد له أهل كرمان ، واستعانوا بالقفس ، فاقتتلوا فى أدنى أرضهم ، ففضهم الله تعالى ، فأخذوا عليهم بالطريق ، وقتل النسير مرزبانها ، ودخل سهيل من قبل طريق القرى إلى جيرفت ، وعبد الله بن عبد الله من مفازة شير ، فأصابوا ما شاءوا من بعير أو شاة ، فقدموا الإبل والغنم فتحاصوها وأخروا البخت لعظم البخت على العرب ، وكرهوا أن يزيدوا. وكتبوا إلى عمر ، فأجابهم : إن البعير العربى إنما قوم ببعير اللحم ، وذلك مثله ، فإذا رأيتم أن للبخت فضلا فزيدوا.

وذكر المدائنى أن الذي فتح كرمان عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعى فى خلافة عمر بن الخطاب ، ثم أتى الطبسين من كرمان ، ثم قدم على عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنى افتتحت الطبسين فاقطعنيهما ، فأراد أن يفعل ، فقيل لعمر : إنهما رستاقان عظيمان ، فلم يقطعه إياهما ، وهما بابا خراسان.

فتح سجستان

قالوا (٢) : وقصد عاصم بن عمرو لسجستان ، ولحقه عبد الله بن عمير ، فالتقوا هم وأهل سجستان فى أدنى أرضهم ، فهزموهم ثم اتبعوهم ، حتى حصروهم بزرنج ومخر المسلمون أرض سجستان ما شاء الله ، ثم إنهم طلبوا الصلح على زرنج وما احتازوا من الأرضين ، فأعطاهم ذلك المسلمون ، وكان فيما اشترطوا من صلحهم أن فدافدها حمى ، فكان المسلمون إذا خرجوا تناذروها خشية أن يصيبوا منها فيخفروا. فتم أهل سجستان على الخراج ، فكانت سجستان أعظم من خراسان شأنا ، وأبعد فروجا ، يقاتلون القندهار والترك وأمما كثيرة ، وكانت فيما بين السند إلى نهر بلخ.

فلم تزل أعظم البلدين وأصعب الفرجين ، وأكثرها عددا وجندا حتى كان زمن معاوية ، فهرب الشاه من أخيه ، رتبيل ، إلى بلد فيها يدعى آمل ، ودانوا لسلم بن زياد وهو يومئذ على سجستان ، ففرح بذلك وعقد لهم ، وأنزلهم تلك البلاد ، وكتب إلى

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٨٠).

(٢) انظر الخبر فى : (٤ / ١٨٠ ، ١٨١) ، الروض المعطار (ص ٣٠٥).

٥٩٥

معاوية بذلك يرى أنه قد فتح عليه ، فقال معاوية : إن ابن أخى ليفرح بأمر إنه ليحزننى وينبغى له أن يحزنه ، قالوا : ولم يا أمير المؤمنين؟ قال : لأن آمل بلدة بينها وبين زرنج صعوبة وتضايق ، وهؤلاء قوم غدر نكر ، فيضطرب الجبل غدا ، فأهون ما يجىء منهم أن يغلبوا على بلاد آمل بأسرها.

وتم لهم على عهد ابن زياد ، فلما وقعت الفتنة بعد معاوية كفر الشاه ، وخلت آمل ، وخافه أخوه فاعتصم منه بمكانه الذي هو به ، ولم يرضه ذلك حين تشاغل الناس عنه حتى طمع فى زرنج فغزاها ، فحصرهم حتى أتتهم الأمداد من البصرة.

قالوا : وسار رتبيل والذين جاءوا معه فنزلوا تلك البلاد شجا لم ينتزع إلى اليوم ، وقد كانت البلاد مذللة إلى أن مات معاوية ، رحمه‌الله.

فتح مكران

قالوا (١) : وقصد الحكم بن عمرو التغلبى لمكران ، حتى انتهى إليها ، ولحق به شهاب بن مخارق بن شهاب ، فانضم إليه ، وأمده سهيل بن عدى ، وعبد الله بن عتبان بأنفسهما ، فانتهوا إلى دوين النهر ، وقد انفض أهل كرمان إليه حتى نزلوا على شاطئه ، فعسكروا ، وعبر إليهم راسل ملكهم ، ملك السند ، فازدلف بهم يستقبل المسلمين ، فالتقوا فاقتتلوا بمكان من مكران من النهر على أيام ، فهزم الله راسلا وسلبه ، وأباح المسلمين عسكره ، وقتلوا فى المعركة من المشركين مقتلة عظيمة ، واتبعوهم يقتلونهم أياما ، حتى انتهوا إلى النهر.

ثم رجعوا فأقاموا بمكران ، وكتب الحكم إلى عمر بالفتح ، وبعث بالأخماس مع صحار العبدى ، واستأمره فى الفيلة ، فقدم صحار على عمر ، رحمه‌الله ، فسأله عن مكران ، وكان لا يأتيه أحد إلا سأله عن الوجه الذي يجىء منه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أرض سهلها جبل ، وماؤها وشل ، وتمرها دقل ، وعدوها بطل ، وخيرها قليل ، وشرها طويل ، والكثير بها قليل ، والقليل بها ضائع ، وما وراءها شر منها ، فقال عمر ، رحمه‌الله : أسجاع أنت أم مخبر؟ فقال : بل مخبر ، فقال : لا والله ، لا يغزوها لى جيش ما أطعت ، وكتب إلى الحكم وإلى سهيل : أن لا يجوزن مكران أحد من جنودكما ، واقتصر على ما دون النهر ، وأمره ببيع الفيلة بأرض الإسلام وقسم أثمانها على من أفاءها الله عليه.

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٨١ ، ١٨٢) ، الروض المعطار (ص ٥٤٣ ، ٥٤٤).

٥٩٦

حديث بيروذ

قالوا (١) : ولما فصلت الجنود إلى الكور اجتمع ببيروذ جمع عظيم من الأكراد وغيرهم ، وكان عمر ، رحمه‌الله ، قد عهد إلى أبى موسى حين سارت الجنود إلى الكور أن يسير حتى ينتهى إلى حد ذمة البصرة ، كى لا يؤتى المسلمون من خلفهم ، وخشى أن يستلحم بعض جنوده أو ينقطع منهم طرف أو يخلف فى أعقابهم ، فكان الذي حذر من اجتماع أهل بيروذ وقد أبطأ أبو موسى حتى تجمعوا ، فخرج أبو موسى حتى ينزل ببيروذ على الجمع الذي تجمع بها ، وذلك فى رمضان ، فنزل على جمع لهم منعة ، فالتقوا بين نهرى تيرى ومناذر ، وقد توافى إليها أهل النجدات من أهل فارس والأكراد ليكيدوا المسلمين ، أو ليصيبوا منهم عورة ، ولم يشكوا فى واحدة من اثنتين.

فقام المهاجر بن زياد وقد تحنط واستقل فقال لأبى موسى : أقسم على كل صائم إلا رجع فأفطر ، فرجع أخوه فيمن رجع لإبراء القسم ، وذلك الذي أراد المهاجر أن يرجع أخوه لئلا يمنعه من الاستقتال ، وتقدم فقاتل حتى قتل ، رحمه‌الله ، وفرق الله عزوجل المشركين حتى تحصنوا فى قلة وذلة ، وأقبل الربيع بن زياد ، أخو المهاجر ، فاشتد حزنه عليه ، ورق له أبو موسى للذى رآه دخله من مصاب أخيه ، فخلفه عليهم ، وخرج أبو موسى حتى بلغ أصبهان ، فلقى بها جنود أهل الكوفة محاصرين جيّ ، ثم انصرف إلى البصرة وقد فتح الله على الربيع بن زياد أهل بيروذ من نهرتيرى ، فهزمهم وجمع السبى والأموال ، فتنقى أبو موسى ستين غلاما من أبناء الدهاقين وعزلهم ، وبعث بالفتح إلى عمر ، رحمه‌الله ، ووفد وفدا ، فجاءه رجل من عنزة يقال له : ضبة بن محصن ، فقال : اكتبنى فى الوفد ، فقال : قد كتبنا من هو أحق منك ، فانطلق مغاضبا مراغما ، وكتب أبو موسى إلى عمر بقصة الرجل.

فلما قدم الكتاب بالفتح والوفد على عمر قدم العنزى فأتى عمر فسلم عليه ، فقال : من أنت؟ فأخبره ، فقال : لا مرحبا ولا أهلا ، فقال : أما المرحب فمن الله ، وأما الأهل فلا أهل ، فاختلف إليه ثلاثا ، يقول هذا ويرد عليه هذا ، حتى إذا كان اليوم الرابع فدخل عليه ، فقال له : ما نقمت على أميرك؟ فقال : تنقى ستين غلاما من أبناء الدهاقين لنفسه ، وله جارية تدعى عقيلة ، تغذى جفنة وتعشى جفنة ، وليس منا رجل يقدر على ذلك ، وله قفيزان ، وله خانان ، وفوض إلى زياد ، وكان زياد هو ابن أبى سفيان ، يلى أمور البصرة ، وأجاز الحطيئة بألف.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٨٣ ـ ١٨٥).

٥٩٧

فكتب عمر ، رحمه‌الله ، كل ما قال ، وبعث إلى أبى موسى ، فلما قدم حجبه أياما ، ثم دعا به ، ودعا ضبة بن محصن ، ودفع إليه الكتاب ، فقال : اقرأ ما كتبت ، فقرأ : أخذ ستين غلاما لنفسه ، فقال أبو موسى : دللت عليهم ، وكان لهم فداء ففديتهم ، فأخذته فقسمته بين المسلمين ، فقال ضبة : والله ما كذب ولا كذبت ، وقرأ : له قفيزان ، فقال أبو موسى : قفيز لأهلى أقوتهم به ، وقفيز فى أيديهم للمسلمين ، يأخذون به أرزاقهم ، فقال ضبة : والله ما كذب ولا كذبت ، فلما ذكر عقيلة سكت أبو موسى ولم يعتذر ، وعلم أن ضبة قد صدقه.

قال : وزياد يلى أمور الناس ولا يعرف هذا ما يلى ، قال أبو موسى : وجدت له نبلا ورأيا ، فأسندت إليه عملى. قال : وأجاز الحطيئة بألف. قال : سددت فمه بمالى أن يشتمنى ، فقال : قد فعلت ما فعلت ، فرده عمر ، رحمه‌الله ، وقال : إذا قدمت فأرسل إلىّ زيادا وعقيلة ، ففعل ، فقدمت عقيلة قبل زياد ، وقدم زياد فأقام بالباب ، فخرج عمر وزياد بالباب قائم وعليه ثياب بيض كتان ، فقال : ما هذه الثياب؟ فأخبره ، فقال : كم أثمانها؟

فأخبره بشيء يسير ، وصدقه ، فقال له : كم عطاؤك؟ قال : ألفان ، قال : ما صنعت بأول عطاء خرج لك؟ فقال : اشتريت به والدتى فأعتقتها ، واشتريت فى الثانى ربيبى عبيدا فأعتقته ، فقال : وفقت ، وسأله عن الفرائض والسنن والقرآن ، فوجده فقيها ، فرده ، وأمر أمراء البصرة أن يستعينوا برأيه ، وحبس عقيلة بالمدينة.

وقال عمر ، رضي‌الله‌عنه : ألا إن ضبة بن محصن غضب على أبى موسى فى الحق أن أصابه ، وفارقه مراغما أن فاته أمر من أمور الدنيا ، فصدق عليه وكذب ، فأفسد كذبه صدقه ، فإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدى إلى النار.

وكان الحطيئة قد لقيه فى غزاة بيروذ ، وكان أبو موسى ابتدأها فحاصرهم حتى فلهم ثم جازاهم ووكل بهم الربيع ، ثم رجع إليهم بعد الفتح فولى القسم.

ومن مدح الحطيئة فى أبى موسى :

وغارة كشعاع الشمس مشعلة

تهوى بكل صبيح الوجه بسام

قب البطون من التعداء قد علمت

أن كل عام عليها عام الجام

مستحقبات رواياها جحافلها

يسمو بها أشعرى طرفه سامى

لا يزجر الطير إن مرت به سنحا

ولا ياض له قسم بأزلام

جمعت من عامر فيها ومن أسد

ومن تميم وذبيان ومن حام

٥٩٨

وما رضيت لهم حتى رفدتهم

من وائل رهط بسطام بإصرام

فى متلف طائعا لله محتسبا

يرجو ثواب كريم العفو رحام

غزوة سلمة بن قيس الأشجعى الأكراد

ذكر الطبرى (١) من طريقين ، كلاهما ينمى إلى سليمان بن بريدة ، واللفظ فى الحديثين متقارب ، وربما كان فى أحدهما زيادة على الآخر ، وأحدهما عن سيف بن عمر ، وفيه : أن سليمان بن بريدة قال : لقيت رسول سلمة بن قيس الأشجعى ، فقال : كان عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، إذا اجتمع له جيش من العرب ، بعث عليهم رجلا من أهل العلم والفقه ، فاجتمع إليه جيش ، فبعث سلمة بن قيس ، فقال : سر باسم الله ، قاتل فى سبيل الله من كفر بالله ، فإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى ثلاث خصال : ادعوهم إلى الإسلام ، فإن أسلموا واختاروا دارهم فعليهم فى أموالهم الزكاة ، وليس لهم فى فيء المسلمين نصيب ، وإن اختاروا أن يكونوا معكم فلهم مثل الذي لكم وعليهم مثل الذي عليكم ، وإن أبوا فسلوهم الخراج ، فإن أعطوكموه فقاتلوا عدوكم من ورائهم ، وفرغوهم لخراجهم ، ولا تكلفوهم فوق طاقتهم ، فإن أبوا فقاتلوهم ، فإن الله ناصركم عليهم ، وإن تحصنوا منكم فى حصن فسألوكم أن ينزلوا على حكم الله ورسوله فلا تعطوهم على حكم الله ورسوله ، فإنكم لا تدرون ما حكم الله ورسوله فيهم ، وإن سألوكم أن ينزلوا على ذمة الله ورسوله فلا تعطوهم ذمة الله وذمة رسوله ، وأعطوهم ذمم أنفسكم ، فإن قاتلوكم فلا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليدا.

قال : فلقينا عدونا من المشركين من الأكراد ، فدعوناهم إلى ما أمر به أمير المؤمنين من الإسلام ، فأبوا ، فدعوناهم إلى الخراج فأبوا ، فقاتلناهم ، فنصرنا عليهم ، فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية وجمعنا الرثة ، فوجد فيها سلمة حقى جوهر ، فجعلهما فى سقط ، ثم قال : إن هذا لا يبلغ فيكم شيئا ، فإن طابت أنفسكم به لأمير المؤمنين بعثت به إليه ، فإن له بردا ومؤونة ، فقالوا : نعم ، قد طابت أنفسنا ، فبعثنى سلمة ، يعنى بالخبر والسفط ، إلى أمير المؤمنين.

قال : فدفعت إليه ضحى والناس يتغدون وهو متكئ على عصا كهيئة الراعى فى غنمه يطوف فى تلك القصاع يقول : يا يرفاء ، زد هؤلاء لحما ، زد هؤلاء خبزا ، زد هؤلاء

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٨٦ ـ ١٩٠) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٣٢ ، ١٣٣) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٣ / ٢٥).

٥٩٩

مرقة ، فلما دفعت إليه قال : اجلس ، فجلست فى أدانى الناس ، فإذا طعام فيه خشونة وغلظ ، طعامى الذي معى أطيب منه ، فلما فرغ الناس قال : يا يرفاء ، ارتفع قصاعك ، ثم أدبر واتبعته ، فدخل داره ثم دخل حجرته ، فاستأذنت وسلمت ، فأذن لى ، فإذا هو جالس على مسح متكئ على وسادتين من أدم محشوتين ليفا ، فنبذ إلىّ إحداهما ، فجلست عليها ، فقال : يا أم كلثوم ، غداءنا ، فجاءوا إليه بقصعة فيها خبز وزيت فى عرضها ملح لم يدق ، فقال لى : كل ، فأكلت قليلا ، وأكل حتى فرغ ، ما رأيت رجلا أحسن أكلا منه ، ما يتليس طعامه بيده ولا فمه ، ثم قال : اسقونا ، فجاءوا بغس ، فقال : اشرب ، فشربت قليلا ، شرابى الذي معى أطيب منه ، فأخذه فشربه حتى قرع القدح جبهته ، وقال : إنك لضعيف الأكل والشرب ، ثم قال : الحمد لله الذي أطعمنا فأشبعنا ، وسقانا فأروانا.

قال : قلت : قد أكل أمير المؤمنين فشبع ، وشرب فروى ، حاجتى يا أمير المؤمنين ، قال : وما حاجتك؟ قلت : أنا رسول سلمة بن قيس ، فقال : مرحبا بسلمة وبرسوله ، وكأنما خرجت من صلبه ، قال : حدثني عن المهاجرين ، كيف هم؟ قلت : كما تحب من السلامة والظفر على العدو ، قال : كيف أسعارهم؟ قلت : أرخص أسعار ، قال : كيف اللحم فيهم؟ فإنه شجرة العرب ولا تصلح العرب إلا بشجرتها ، قلت : البقرة بكذا ، والشاة بكذا ، ثم قلت : يا أمير المؤمنين ، سرنا حتى لقينا عدونا من المشركين ، فدعوناهم إلى ما أمرتنا به من الإسلام فأبوا ، فدعوناهم إلى الخراج فأبوا ، فقاتلناهم فنصرنا الله عليهم ، فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية ، وجمعنا الرثة ، وخرج له عن الحديث كله حتى انتهى إلى السقط وأخرجه إليه.

قال : فلما نظر إلى تلك الفصوص من بين أحمر وأصفر وأخضر ، وثب وجعل يديه فى خاصرتيه ، وقال : لا أشبع الله إذا بطن عمر! وظن النساء أنى قد اغتلته ، فكشفن الستر ، فقال : يا يرفاء ، جأ عنقه ، فوجأ عنقى وأنا أصيح ، فقال : النجاء ، وأظنك ستبطئ ، أما والذي لا إله غيره لئن تفرق الناس إلى مشاتيهم قبل أن يقسم هذا فيهم لأفعلن بك وبصاحبك فاقرة ، قلت : يا أمير المؤمنين ، ابدع بى فاحملنى ، قال : يا برفاء ، اعطه راحلتين من الصدقة ، فإذا لقيت أفقر إليهما منك فادفعهما إليه ، قلت : نعم ، وارتحلت حتى أتيت سلمة ، فقلت : ما بارك الله لى فيما اختصصتنى به ، اقسم هذا فى الناس قبل أن أفضح والله وتفضح. قال : فقسمه فيهم قبل التفرق إلى مشاتيهم ، والفص يباع بخمسة دراهم وستة دراهم ، وهو خير من عشرين ألفا.

٦٠٠