الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

صريع رحمه‌الله ، ومر به معقل بن يسار فذكر عزمته : ألا يلوى أحد علىّ ، فجعل علما عنده ، ومر أخوه سويد بن مقرن أو نعيم ، فألقى عليه ثوبا لكى لا يعرف ، ونصب الراية وهى تقطر دما ، قد قتل بها قبل أن يصرع ، وسقط ذو الحاجب عن بغلته فانشق بطنه ، وانهزم المشركون ، فاتبعوهم يقتلونهم كيف شاءوا.

فقال بعض من حضر ذلك اليوم : إنى لفى الثقل فثارت بيننا وبين القوم عجاجة قسطلانية ، فجعلت أسمع وقع السيوف على الهام ، ثم كشفت ، فإذا المسلمون يتبعونهم كالذباب يتبع الغنم ، فاتبعتهم طائفة من المسلمين حتى دخلوا مدينتهم ، ثم رجعوا ، وحوى المسلمون عسكرهم ، ورجع معقل بن يسار إلى النعمان بعد انهزام المشركين ومعه أدواة فيها ماء فغسل التراب عن وجهه ، فقال : من أنت؟ قال : معقل بن يسار ، قال : ما فعل الناس؟ قال : فتح الله عليهم ، قال : الحمد لله ، اكتبوا بذلك إلى عمر. وفاضت نفسه ، فاجتمع الناس وفيهم ابن الزبير وابن عمر ، فأرسلوا إلى أم ولده ، فقالوا : أعهد إليك عهدا؟ فقالت : هاهنا سفط فيه كتاب ، فأخذوه فإذا كتاب عمر إلى النعمان : إن حدث بك حدث فالأمير حذيفة ، فإن قتل ففلان ، فإن قتل ففلان.

فتولى أمر الناس حذيفة ، فأمر بالغنائم فجمعت ، ثم سار إلى مدينة نهاوند وقد حملت الغنائم إلى عسكرهم ، وحصر أهل المدينة وقاتلوهم ، فبيناهم يطاردونهم إذ لحق سماك بن عبيد عظيما من عظمائهم يقال له : دينار ، فسأله الأمان ، فأمنه وأدخله على حذيفة ، فصالحه عن البلد على ثمانمائة ألف وشيء من العسل والسمن ، وقال : إن لكم لوفاء بالعهد ، وأخاف عليكم خمسة أشياء : الخب والبخل والغدر والخيلاء والفجور ، وأخاف أن يأتيكم الخب من قبل النبط ، والخيلاء من قبل الروم ، والبخل من قبل فارس ، والفجور والغدر من قبل أهل الأهواز ، وأتى السائب بن الأقرع دهقان وقد جمعت الغنائم ، فقال له : أتؤمنني على دمى ودماء قرابتى وأدلك على كنز النخيرجان؟ ثم تجلبوا عليه فى الحرب فيقسم وتجرى عليه السهام ، ولم يحرزوه بجزية أقاموا عليها ، وإنما هو دفين دفنوه وفروا عنه ، فتأخذه لصاحبكم ، يعنى عمر رضي‌الله‌عنه ، تخصه به.

قال : أنت آمن إن كنت صادقا ، قال : فانهض معى ، فنهض معه فانتهى به إلى قلعة ، فرفع صخرة ودخل غارا فاستخرج سفطين ، فإذا قلائد منظومة بالدرر والياقوت وقرطة وخواتم وتيجان مكللة بالجوهر ، فأمنه ثم أتى به حذيفة فأخبره ، فقال : اكتمه ، فكتمه حتى قسم الغنائم بين الناس وعزل الخمس ، ثم خرج السائب مسرعا فقدم على عمر ، فقال له عمر : ما وراءك؟ فو الله ما نمت هذه الليلة إلا تغررا ، وما أتت علىّ ليلة بعد الليلة

٥٦١

التي أصبح فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ميتا أعظم من هذه الليلة ، قال : أبشر بفتح الله وحسن قضائه لك فى جنودك ، ثم اقتص الخبر حتى انتهى إلى قتل النعمان ، فقال : إنا لله ، يرحم الله النعمان ، ثم مه ، قال : ثم والله ما أصيب بعده رجل يعرف وجهه ، قال : لا أم لك ولا أب ، قتل الضعفاء الذين لا يعرفهم عمر ابن أم عمر ، وأكب طويلا وبكى ، ثم قال : أصيبوا بمضيعة؟ قال : لا ، ولكن أكرمهم الله بالشهادة ، وساقها إليهم ، فقال : ويحك ، أغلبتم على أجساد إخوانكم أم دفنتموهم؟ قال : دفناهم ، قال : فأعطيت الناس حقوقهم؟ قال : نعم.

قال : فنهض عمر فأخذ السائب بثوبه وقال : حاجة ، قال : ما حاجتك إذ أعطيت الناس حقوقهم؟ قال : حاجة لك وإليك ، فجلس ، فجر السائب الغرارة فأخرج السفطين ففتحهما ونظر إلى ما فيهما كأنه النيران يشب بعضها بعضا ، فقال عمر : ما هذا؟ فأخبره ، فدعا عليا وعبد الله بن أرقم وغيرهما ، فختموا على السفطين وقال له : اختم معهم ، فختمه ، وقال لعبد الله بن أرقم : ارفعه ، ورجع السائب ، فرأى عمر ليالى كالحيات يردن نهشه ، فسرح رجلا ، وكتب إلى السائب : إن صادفك رسولى فى الطريق فلا تصلن إلى أهلك حتى تأتينى ، وإن وصلت إلى أهلك فعزمة منى إليك إذا قرأت كتابى أن تشد على راحلتك وتقبل إلىّ ، وكتب إلى عمار : لا تضعن كتابى حتى ترحل إلىّ السائب ، وأمر الرسول أن يعجله ، فقدم الرسول ، فقال له السائب : أبلغه عنى شيء أم به علىّ سخطة؟ قال : ما رأيت ذلك ولا أعلمه ، بلغه عنك خير ولا شر.

وركب فقدم على عمر ، فقال له : يا ابن أم مليكة ، يا ابن الحميرية ، ما لى ولك أم ما لك ولى ، ثكلتك أمك ، ما الذي جئتنى به؟ فلقد بت مما جئتنى به مروعا أظن الحيات تنهشنى ، أخبرنى عن السفطين ، فقال : والله لئن أعدت عليك الحديث فزدت حرفا أو نقصت حرفا لأكذبن ، قال : إنك لما انصرفت فأخذت مضجعى لمنامى أتتنى الملائكة ، فأوقدوا علىّ سفطيك جمرا ودفعوهما فى نحرى وأنا أنكص وأعاهدهم أن أردهما فأقسمهما على من أفاءهما الله عليه ، فكاد ابن الخطاب يحترق ، ثم لم أزل مروعا أظن الحيات تنهشنى ، فاردد هذين السفطين فبعهما بعطاء الذرية والمقاتلة أو بنصف ذلك ، وأقسم ثمنها على من أفاءهما الله عليه.

وقال بعضهم : قال له : بعهما واجعل ثمنهما فى أعطية المسلمين بالبصرة والكوفة ، فإن خرج كفافا فذاك ، وإن فضل فاجعله فى بيت مال المسلمين.

٥٦٢

فقدم السائب بهما فاشتراهما عمرو بن حريث بعطاء الذرية والمقاتلة. وقال بعضهم : اشتراهما بأعطية أهل المصرين ، فباع أحدهما من أهل الحيرة بما أخذهما به ، واستفضل الآخر. وقال بعضهم : استفضل مائة ألف دينار ، فكان أول مال اعتقده.

قال : وكان النخيرجان تحصن فى قلعة من قلاع نهاوند ومعه مائة امرأة من نساء الأساورة ومعه حلية كثيرة من كنز كسرى ، فصالحه حذيفة على ما كان معه ، وافتتح حذيفة رساتيق مما يلى أصبهان.

وكان أهل نهاوند قد حفروا خندقا وهالوا فيه ترابا متحولا ، فلما انهزموا جعلوا يسقطون فى ذلك الخندق ويغرقون فى ذلك التراب.

وكان يقال لفتح نهاوند : فتح الفتوح.

وذكر المدائنى أيضا ، عن موسى بن عبيدة ، عن أخيه ، قال : قدمت البصرة فرأيت بها شيخا أصم ، فقلت : ما أصابك؟ قال : أنا من أهل نهاوند ، فنزل المسلمون ، يعنى عند ما نزلوا عليها ، فكبروا تكبيرة ذهب سمعى منها.

وذكر الطبرى (١) فيما ذكره من الأخبار المختلفة فى هذه الوقعة ، عن سيف ، عن أبى بكر الهذلى نحوا من هذا الحديث ، وزاد فيه أشياء وخالفه فى أماكن منه ، منها أن النعمان بن مقرن عند ما أمّره عمر ، رضي‌الله‌عنه ، على هذه الحرب فى هذا الوجه كان يومئذ بالبصرة ومعه قواد من قواد أهل الكوفة قد أمدّ بهم عمر ، رحمه‌الله ، أهل البصرة عند انتقاض الهرمزان ، فافتتحوا رامهرمز وايذج ، وأعانوهم على تستر وجندى سابور والسوس ، فكتب إليه عمر : إنى قد وليتك حربهم ، يعنى الأعاجم الذين اجتمعوا بنهاوند ، فسر من وجهك هذا حتى تأتى ماه ، فإنى قد كتبت إلى أهل الكوفة أن يوافوك بها ، فإذا اجتمع إليك جندك فسر إلى الفيرزان ومن تجمع إليه من الأعاجم من أهل فارس وغيرهم ، واستنصر الله ، وأكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله ، وإن حدث بك حدث فعلى الناس نعيم بن مقرن.

وفى حديثه : أنه لما استحث أهل الكوفة كان أسرعهم إلى ذلك الوجه الروادف ليبلو فى الدين وليدركوا حظا ، وأن حذيفة بن اليمان خرج بأهل الكوفة أميرا عليهم بأمر عمر حتى ينتهى إلى النعمان ، وخرج معه نعيم بن مقرن حتى قدموا على النعمان بالطرز ، وجعلوا بمرج القلعة خيلا عليها النسيسر ، وكتب عمر ، رحمه‌الله ، إلى سلمى بن القين

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٢٦).

٥٦٣

وحرملة بن مريطة ، وزر بن كليب والمقترب بن ربيعة ، والقواد الذين كانوا بين فارس والأهواز أن اشغلوا فارس عن إخوانكم ، وحوطوا بذلك أمتكم وأرضكم ، وأقيموا على حدود ما بين فارس والأهواز حتى يأتيكم أمرى ، وبعث مجاشع بن مسعود إلى الأهواز ، وقال له : أفصل منها على ماه ، ففعلوا ما أمرهم به ، وقطعوا بذلك على أهل نهاوند أمداد فارس.

وفيه (١) أن النعمان لما أتاه طليحة بخبر نهاوند وأعلمه أنه ليس بينه وبينها أحد ولا شيء يكرهه ، وقد توافى إليه أمداد المدينة ، نادى عند ذلك بالرحيل ، وبعث إلى مجاشع أن يسوق الناس ، وسار النعمان على تعبئته ، وعلى مقدمته أخوه نعيم ، وعلى مجنبتيه أخوه سويد وحذيفة بن اليمان ، وعلى المجردة القعقاع ، وعلى الساقة مجاشع ، فانتهوا إلى الأسبيذهان والفرس به وقوف على تعبئتهم وأميرهم الفيرزان ، وقد توافى إليه نهاوند كل من غاب عن القادسية والأيام من أهل الثغور وأمرائها وأعلام من أعلامهم ليسوا بدون من شهد الأيام والقوادس.

فلما رآهم النعمان كبر ثلاثا وكبر الناس معه ، فزلزلت الأعاجم ، وأمر النعمان وهو واقف بحط الأثقال ، وبضرب الفسطاط ، فضرب وهو واقف ، وابتدره أشراف أهل الكوفة وأعيانهم ، فسبق إليه عدة منهم سابقوا أكفاءهم فسبقوهم ، وهم أربعة عشر رجلا : حذيفة بن اليمان ، وعقبة بن عمرو ، والمغيرة بن شعبة ، وبشير بن الخصاصية ، وحنظلة بن الربيع الكاتب ، وابن الهدير ، وربعى بن عامر ، وعامر بن مطر ، وجرير بن عبد الله الحميرى ، وجرير البجلى ، والأشعث بن قيس ، والأقرع بن عبد الله الحميرى ، وسعيد بن قيس الهمدانيّ ، ووائل بن حجر ، فلم ير بناة فسطاط بالعراق كهؤلاء.

وأنشب النعمان القتال ، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس ، والحرب بينهم فى ذلك سجال ، ثم انحجزوا فى خنادقهم يوم الجمعة ، وحصرهم المسلمون ، فأقاموا عليهم ما شاء الله والأعاجم بالخيار ، لا يخرجون إلا إذا أرادوا الخروج ، فاشتد ذلك على المسلمين وخافوا أن يطول أمرهم ، وأحبوا المناجزة ، فتجمع أهل الرأى من المسلمين ، وأتوا النعمان فى ذلك فوافقوه وتروى فى الذي رووا فيه ، فقال : على رسلكم ، لا تبرحوا ، ثم بعث إلى من بقى ممن لم يأته من أهل النجدات والرأى فى الحرب ، فتوافوا إليه ، فتكلم النعمان ، فقال : قد ترون المشركين واعتصامهم بالحصون من الخنادق والمدائن ، وأنهم لا يخرجون إلا إذا شاءوا ، ولا يقدر المسلمون على انغاضهم وانبعاثهم قبل مشيئتهم ، وهم

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٢٨).

٥٦٤

يرون ما المسلمون فيه من التضايق ، فما الرأى الذي به نحمشهم ونستخرجهم إلى المناجزة؟.

فقال بعض المسلمين : التحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم ، فدعهم وطاولهم وقاتل من أتاك منهم.

فردوا جميعا عليه رأيه ، وقالوا : إنا لعلى يقين من إنجاز ربنا موعده ، فما لنا وللمطاولة حتى لا نجد منها بدا؟.

وتكلم (١) عمرو بن معدى كرب ، يومئذ ، فلم يوافقهم قوله الذي قال ، وردوه عليه.

وقال طليحة : أما أنا فأرى أن نبعث خيلا مؤدية ، فيحدقوا بهم ، ثم يراموهم ليحمشوهم وينشبوا القتال ، فإذا استحمشوا واختلطوا بهم أرزت إلينا خيلنا تلك استطرادا ، فإنا لم نستطرد لهم فى طول ما قاتلناهم ، وإنا إذا فعلنا ورأوا ذلك منا طمعوا فى هزيمتنا ولم يشكوا فيها ، فخرجوا فجادونا وجاددناهم ، حتى يقضى الله فينا وفيهم ما أحب.

فأمر (٢) النعمان القعقاع ، صاحب المجردة ، بذلك ففعل ، وأنشب القتال ، فأنغضهم فلما خرجوا نكص ، ثم نكص ، ثم نكص ، فاغتنمتها الأعاجم ، ففعلوا كما ظن طليحة وخرجوا ، فلم يبق أحد إلا من يقوم لهم على الأبواب ، وجعلوا يركبون القعقاع حتى أرزا إلى الناس ، وانقطع القوم من حصنهم بعض الانقطاع ، والنعمان والمسلمون على تعبئتهم فى يوم الجمعة وفى صدر النهار ، وقد عهد النعمان إلى الناس عهده ، وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوهم حتى يأذن لهم ، ففعلوا واستتروا بالحجف من الرمى ، وأقبل المشركون عليهم يثفنونهم حتى أفشوا فيهم الجراحات ، وشكا الناس ذلك بعضهم إلى بعض ، ثم قالوا للنعمان : ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما لقى الناس؟ فما تنتظر بهم؟ ائذن للناس فى قتالهم ، فقال النعمان : رويدا رويدا ، تروا أمركم ، فقال المغيرة : لو أن هذا الأمر إلىّ علمت ما أصنع ، فقال النعمان : رويدا ترى أمرك ، فقد كنت تلى الأمر فتحسن ، ولا يخذلنا الله وإياك ، ونحن نرجو فى المكث مثل الذي ترجو فى الحث.

وجعل النعمان ينتظر بالكتائب أحب الساعات كانت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى القتال أن يلقى فيها العدو ، وذلك عند الزوال وتفيؤ الأفياء ومهب الأرواح. فلما كان قريبا من

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٣٠).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ١٣٠ ، ١٣١).

٥٦٥

تلك الساعة تحشحش النعمان وسار فى الناس على برذون أحوى قريب من الأرض ، فجعل يقف على كل راية فيحمد الله عزوجل ويثنى عليه ويقول : قد علمتم ما أعزكم الله به من هذا الدين وما وعدكم من الظهور ، وقد أنجز لكم هوادى ما وعدكم وصدوره ، وإنما بقيت أعجازه وأكارعه ، والله منجز وعده ، ومتبع آخر ذلك أوله ، واذكروا ما مضى إذ أنتم أذلة ، وما استقبلتم من هذا الأمر وأنتم اليوم عباد الله حقا وأولياؤه ، وقد علمتم انقطاعكم من إخوانكم من أهل الكوفة ، والذي لهم فى ظفركم وعزكم ، والذي عليهم فى هزيمتكم وذلكم ، وقد ترون ما أنتم بإزائه من عدوكم ، وما أخطرتم وما أخطروا لكم ، فأما ما أخطروا لكم فهذه الزينة وما ترون من هذا السواد ، وأما ما أخطرتم لهم فدينكم وبيضتكم ، ولا سواء ما أخطرتم وأخطروا ، فلا يكونن على دنياهم أحمى منكم على دينكم ، وأتقى الله عبد صدق الله وأبلى نفسه فأحسن البلاء ، فإنكم بين خيرين تنتظرون إحدى الحسنيين ، من بين شهيد حى مرزوق ، أو فتح قريب وظفر يسير ، فكفى كل رجل ما يليه ولم يكل قرنه إلى أخيه ، فإذا قضيت أمرى فاستعدوا ، فإنى مكبر ثلاثا ، فإذا كبرت الأولى فليتهيأ من لم يكن تهيأ ، فإذا كبرت الثانية فليجمع عليه رداءه ، وليشد عليه سلاحه وليتأهب للنهوض ، فإذا كبرت الثالثة فإنى حامل إن شاء الله ، فاحملوا معا ، اللهم أعز دينك ، وانصر عبادك ، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك.

وفى رواية (١) إنه قال : اللهم إنى أسألك أن تقر عينى بفتح يكون فيه عز الإسلام وذل يذل به الكفار ، ثم اقبضنى بعد ذلك على الشهادة ، أمنوا يرحمكم الله ، فأمنا وبكينا.

فلما فرغ النعمان من التقدم إلى أهل المواقف رجع إلى موقفه ، فكبر الأولى والثانية والثالثة ، والناس سامعون مطيعون مستعدون للمناهضة ينحى بعضهم بعضا عن سننه ، وحمل النعمان وحمل الناس ، وراية النعمان تنقض نحوهم انقضاض العقاب ، فالتقوا بالسيوف فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع السامعون بوقعة يوم قط كانت أشد منها قتالا ، فقتلوا فيها من أهل فارس فيما بين الزوال والإعتام ما طبق أرض المعركة دما ، يزلق الناس والدواب ، وأصيب فرسان من فرسان المسلمين فى الزلق فى الدماء ، منهم النعمان أميرهم ، زلق فرسه فى الدماء فصرعه ، فأصيب عند ذلك ، رحمه‌الله ، وتناول الراية منه قبل أن تقع أخوه نعيم بن مقرن ، وسجى النعمان بثوب ، وأتى حذيفة بالراية فدفعها إليه ، وكان اللواء مع حذيفة.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٣٢).

٥٦٦

وقال المغيرة : اكتموا مصاب أميركم حتى ننظر ما يصنع الله فينا وفيهم ؛ لئلا يهن الناس ، فاقتتلوا حتى إذا أظلم الليل عليهم انكشف المشركون وذهبوا ، والمسلمون ملظون بهم ، فعمى على المشركين قصدهم ، فتركوه وأخذوا نحو اللهب وهو الخندق الذي كانوا أنزلوا دونه ، فوقعوا فيه ، فمات فيه منهم مائة ألف أو يزيدون ، سوى من قتل منهم فى المعركة ، وهم أعداد الذين هووا ، ولم يفلت إلا الشريد ، ونجا الفيرزان من بين الصرعى فى المعركة ، فهرب نحو همدان فى ذلك الشريد ، فتبعهم نعيم بن مقرن ، وقدم القعقاع فأدركه حين انتهى إلى ثنية همدان ، والثنية مشحونة من بغال وحمير موقورة عسلا ، فحبسه على أجله ، فقتله على الثنية بعد ما امتنع ، لم يزل يتوقل فى الجبل لما غشيه إذ لم يجد مساغا ، وتوقل القعقاع فى أثره حتى أخذه ، واستاق العسل وما خالطه من سائر الأحمال ، فأقبل به ، وسميت تلك الثنية بذلك : ثنية العسل. وقال القعقاع فى ذلك :

قولا لأصرام بأكناف الجبل

بأن لله جنودا من عسل

تقتل أحيانا بأسياف الأجل

ومضى الفلال حتى انتهوا إلى مدينة همدان فدخلوها والخيل فى آثارهم ، فنزلوا عليها وحووا ما حولها ، فلما رأى ذلك خسروشنوم استأمنهم على أن يضمن لهم همدان ودستى ، وأن لا يؤتى المسلمون منهم ، فقبل المسلمون ذلك وأجابوا إليه ، وآمنوهم فأقبل كل من كان هرب ، ولما بلغ الخبر أهل الماهين بأن همدان قد أخذت ، ونزلها نعيم بن مقرن والقعقاع بن عمرو اقتدوا بخسروشنوم ، فراسلوا حذيفة فأجابهم إلى ما طلبوا ، فأجمعوا على إتيانه ، فخدعهم دينار ، وكان ملكا إلا أنه كان دون أولئك الملوك ، وأتى إلى المسلمين فى الديباج والحلى ، فأعطاهم حاجتهم واحتمل لهم ما أرادوا ، فعاقدوه عليهم ، ولم يجد الآخرون بدا من متابعته والدخول فى أمره ، فقيل لأجل ذلك : ماه دينار ، فنسبت إليه ، وذهب حذيفة بها ، وكان النعمان بن مقرن قد عاهد بهراذان على مثل ذلك ، فقيل : ماه بهراذان ، فنسبت إليه لأجل ذلك ، ووكل النسير بن ثور بقلعة قد كان لجأ إليها قوم فحاصرها فافتتحها ، فنسبت إلى النسير.

وفى غير هذا الحديث (١) أن أهل نهاوند خرجوا ذات يوم على المسلمين فلم يلبثهم المسلمون أن هزموهم ، وتبع سماك بن عبيد العنسى رجلا منهم معه نفر ثمانية على أفراس لهم ، فبارزهم فلم يبرز له أحد منهم إلا قتله حتى أتى عليهم ، ثم حمل الفارسى الذي كانوا معه فأسره سماك وأخذ سلاحه ، ووكل به رجلا ، فقال : اذهبوا بى إلى

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٣٥ ، ١٣٦).

٥٦٧

أميركم حتى أصالحه على هذه الأرض وأؤدى إليه الجزية ، واسألنى أنت عن أسارك ما شئت ، وقد مننت علىّ إذ لم تقتلنى ، وإنما أنا عبدك الآن ، وإن أدخلتنى على الملك فأصلحت ما بينى وبينه وجدت لى شكرا ، وكنت لى أخا ، فخلى سبيله وآمنه ، وقال : من أنت؟ قال : أنا دينار ، والبيت يومئذ فى آل قارن ، فأتى به حذيفة فحدثه دينار عن نجدة سماك وما قتل ، وصالحه على الخراج ، فنسبت إليه ماه ، فكان بعد يواصل سماكا ويهدى له ، ويوافى الكوفة ، فقدمها فى إمارة معاوية مرة ، فقال للناس : يا معشر أهل الكوفة ، إنكم أول ما مررتم بنا كنتم خيار الناس ، فعمرتم بذلك زمان عمر وعثمان ، ثم تغيرتم وفشت فيكم خصال أربع : بخل وخب وغدر وضيق ، ولم تكن فيكم واحدة منهن ، فرمقتكم ، فإذا ذلك فى مولديكم ، فعلمت من أين أتى ذلك ، وإذ الخب من قبل النبط ، والبخل من قبل فارس ، والغدر من قبل خراسان ، والضيق من قبل الأهواز.

وقسم حذيفة لمن خلفوا بمرج القلعة وغيره ، ولأهل المسالح جميعا من فيء نهاوند مثل الذي قسم لأهل المعركة ؛ لأنهم كانوا ردءا للمسلمين ، وكان سهم الفارس يوم نهاوند ستة آلاف ، وسهم الراجل ألفين ، ونفل حذيفة من الأخماس من شاء من أهل البلاء ، ودفع ما بقى منها إلى السائب ، فخرج بها إلى عمر ، وتململ عمر ، رضي‌الله‌عنه ، تلك الليلة التي كان قدر لملاقاتهم ، وجعل يخرج ويلتمس الخبر ، فبينا رجل من المسلمين قد خرج فى بعض حوائجه ، فرجع إلى المدينة ليلا ، لحق به راكب فى الليلة الثالثة من يوم نهاوند يريد المدينة ، فقال له الرجل : يا عبد الله ، من أين أقبلت؟ فقال : من نهاوند ، فقال : الخبر؟ قال : فتح الله على النعمان واستشهد ، واقتسم المسلمون فيء نهاوند ، فأصاب الفارس منه ستة آلاف ، وطواه الراكب حتى انغمس فى المدينة ، فلما أصبح الرجل تحدث بحديثه ، ونمى الخبر حتى بلغ عمر ، رحمه‌الله ، وهو فيما هو فيه ، فأرسل إليه ، فسأله فأخبره ، فقال : صدق وصدقت ، هذا غيثم بريد الجن ، وقد رأى بريد الإنس ، فقدم بعد ذلك عليه بالفتح طريف بن سهم ، أخو ربيعة بن مالك ، وقدم السائب على أثره بالأخماس.

وذكر من حديث السفطين قريبا مما تقدم فى الحديث الآخر ، إلا أنه ذكر فيه أنه صرف معه السفطين من فوره وقال له : النجاء النجاء ، عودك على بدئك حتى تأتى حذيفة فيقسمهما على من أفاءهما الله عليه ، وأنه أصاب الفارس منهما لما باعهما حذيفة وقسم ثمنهما أربعة آلاف.

٥٦٨

وفى بعض ما ذكره الطبرى (١) عن سيف عن شيوخه أن انبعاث الأعاجم للاجتماع بنهاوند كان بدؤه فى زمان سعد بن أبى وقاص بالكوفة ، وإليه بلغ الخبر فأعلم به عمر ، ثم انبرى لسعد قوم تشكوا منه ظالمين له إلى عمر ، أحدهم الجراح بن سنان الأسدي ، فاستقدمه عمر مع محمد بن مسلمة ، بعد أن وجه محمدا لسؤال أهل الكوفة عنه ، والطواف به على مساجدها ، فكلهم يقول إذا سئل : لا نعلم إلا خيرا ، ولا نشتهى به بدلا ، إلا الجراح وأصحابه فإنهم كانوا يسكتون ، يتعمدون ترك الثناء ، ولا يسوغ لهم قول الشر ، حتى انتهوا إلى بنى عبس ، فقال محمد : أنشد الله رجلا علم حقا إلا قاله. فقال أسامة بن قتادة : اللهم إذ نشدتنا فإنه لا يقسم بالسوية ، ولا يعدل فى الرعية ، ولا يغزو فى السرية. فقال سعد : اللهم إن كان قالها كاذبا رياء وسمعة فأعم بصره ، وأكثر عياله ، وعرضه لمضلات الفتن. فعمى ، واجتمع عنده عشر بنات ، وكان يسمع بخبر المرأة فيأتيها حتى يجسها ، فإذا غير عليه يقول : دعوة سعد الرجل المبارك.

ثم أقبل سعد يدعو على أولئك النفر الذين انبروا له وخرجوا إلى عمر متشكين به ، فقال : اللهم إن كانوا خرجوا أشرا وبطرا وكذبا فأجهد بلاءهم ، ففعل الله ذلك بهم ، فقطع جراح بالسيوف يوم ثاور الحسن بن على ليغتاله بساباط ، وشدخ قبيصة بالحجارة ، وقتل أربد بالوجء وبنعال السيوف. وقال سعد : والله إنى لأول رجل هراق دما فى المشركين ، ولقد جمع لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبويه ، وما جمعهما لأحد قبلى ، ولقد رأيتنى خمس الإسلام ، وبنو أسد تزعم أنى لا أحسن أصلى وأن الصيد يلهينى. وخرج محمد بن مسلمة به وبهم حتى قدموا على عمر ، فقال : يا سعد ، ويحك! كيف تصلى؟ فقال : أطيل الأوليين ، وأحذف الأخريين ، فقال : هكذا الظن بك ، ثم قال : لو لا الاحتياط لكان سبيلهم بيننا ، ثم قال : من خليفتك يا سعد على الكوفة؟ فقال : عبد الله بن عبد الله بن عتبان ، فأقره عمر واستعمله.

قال (٢) : فكان سبب نهاوند وبدء مشورتها وبعوثها فى زمان سعد ، وأما الوقعة ففى زمان عبد الله.

وكان من حديثهم أنهم نفروا لكتاب يزدجرد ، فتوافوا إلى نهاوند مائة وخمسين ألف مقاتل ، واجتمعوا على الفيرزان ، وإليه كانوا توافوا ، ثم قالوا : إن محمدا الذي جاء العرب بالدين لم يغرض غرضا ، يريدون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالوا : ثم ملكهم أبو بكر من بعده فلم يغرض

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٢٠).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ١٢٢).

٥٦٩

غرض فارس ، إلا فى غارة تعرض لهم فيها ، وإلا فيما يلى بلادهم من السواد ، ثم ملك عمر فطال ملكه وغرض ، حتى تناولكم وانتقضكم السواد والأهواز وأوطأها ، ثم لم يرض حتى أتى أهل فارس فى عقر دارهم ، وهو آتيكم إن لم تأتوه ، وقد أخذ بيت مملكتكم فاقتحم بلاد ملككم ، وليس بمنته حتى تخرجوا من فى بلادكم من جنوده وتقلعوا هذين المصرين ، ثم تشغلوه فى بلاده وقراره ، فتعاهدوا على ذلك وتعاقدوا ، وكتبوا بينهم به كتابا.

وبلغ الخبر سعدا ، فكتب به إلى عمر ، ثم لقيه بالخبر مشافهة لما شخص إليه ، وقال:إن أهل الكوفة يستأذنونك فى الانسياح إليهم ومبادرتهم الشدة ، وكان عمر منعهم من الانسياح فى الجبل ، ثم كتب إليه عبد الله بن عبد الله بمن اجتمع منهم ، وقال : إن جاءونا قبل أن نبادرهم الشدة ازدادوا جرأة وقوة ، وإن نحن عاجلناهم كان لنا ذلك عليهم ، وبعث بكتابه مع قريب بن ظفر العبدى.

فلما قرأ عمر الكتاب قال للرسول : ما اسمك؟ قال : قريب ، قال : ابن من؟ قال : ابن ظفر ، فتفاءل إلى ذلك ، وقال : ظفر قريب إن شاء الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ونودى فى الناس : الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، وحينئذ وافاه سعد ، فتفاءل أيضا إلى سعد بن مالك ، وقام عمر على المنبر خطيبا ، فأخبر الناس الخبر ، واستشارهم ، وقال : هذا يوم له ما بعده من الأيام ، ألا وإنى قد هممت بأمر وإنى عارضه عليكم ، فاسمعوه ثم أجيبونى وأوجزوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ، ولا تكثروا ولا تطلبوا ، فتفشغ بكم الأمور ، ويلتوى عليكم الرأى ، أفمن الرأى أن أسير فيمن قبلى ومن قدرت عليه حتى أنزل منزلا واسطا بين المصرين ، فأستنفرهم ثم أكون لهم ردءا حتى يفتح الله عليهم ويقضى ما أحب؟.

فقام عثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف فى رجال من أهل الرأى من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : لا نرى ذلك ، ولكن لا يغيبن عنهم رأيك وأمرك ، وبإزائهم وجوه العرب وفرسانهم وأعلامهم ومن قد فض جموعهم وقتل ملوكهم وباشر من حروبهم ما هو أعظم من هذا ، وإنما استأذنوك ولم يستصرخوك ، فأذن لهم ، واندب إليهم ، وادع لهم ، فقام على بن أبى طالب ، رضي‌الله‌عنه ، فقال : أصاب القوم يا أمير المؤمنين الرأى ، وفهموا ما كتب به إليك ، وإن هذا الأمر لم يبن نصره ولا خذلانه لكثرة ولا لقلة هو دينه الذي أظهر ، وجنده الذي أعز وأمده بالملائكة حتى بلغ ما بلغ ، ونحن على موعود من الله سبحانه ، والله منجز وعده ، وناصر جنده ، ومكانك منهم مكان

٥٧٠

النظام من الخرز يجمعه ويمسكه ، فإن انحل تفرق ما فيه وذهب ، ثم لم تجتمع بحذافيره أبدا ، والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثير عزيز بالإسلام ، فأقم واكتب إلى أهل الكوفة ، فهم أعلام العرب ورؤساؤهم ، ومن لم يحفل بمن هو أجمع من هؤلاء وأحد وأجد فليأتهم الثلثان وليقم الثلث ، واكتب إلى أهل البصرة أن يمدوهم ببعض من عندهم.

فسر عمر ، رحمه‌الله ، بحسن رأيهم ، وأعجبه ذلك منهم. وقام سعد فقال : خفض عليك يا أمير المؤمنين ، فإنهم إنما جمعوا لنقمة نازلة بهم.

وبالوقوف على ما أثبتناه من الأخبار عن هذه الوقعة يعرف ما اتفقت عليه وما اختلفت فيه ، وقد حذفنا منها ما قدرنا الاستغناء عن إيراده مما لعل فى بعضه زيادة فى الخلاف.

وذكر المدائنى أن وقعة نهاوند كانت فى سنة إحدى وعشرين ، وذكر الطبرى (١) أنها كانت فى أول سنة تسع عشرة لست سنين من إمارة عمر ، رضي‌الله‌عنه.

وذكر أيضا عن سيف (٢) عن شيوخه ما كتب به النعمان بن مقرن من الأمان لأهل ماه بهراذان ، وحذيفة لأهل ماه دينار ، وكلا الكتابين موافق للآخر لفظا ومعنى ، وكتاب النعمان :

بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى نعمان بن مقرن أهل ماه بهراذان ، أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأراضيهم ، لا يغيرون على ملتهم ، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم ، ولهم المنعة ما أدوا الجزية فى كل سنة إلى من وليهم ، على كل حالم فى ماله ونفسه على قدر طاقته ، وما أرشدوا ابن السبيل ، وأصلحوا الطرق ، وقروا جنود المسلمين ممن مر بهم فأوى إليهم يوما وليلة ، ووفوا ونصحوا ، فإن غشوا وبدلوا ، فذمتنا منهم بريئة. شهد عبد الله بن ذى السهمين ، والقعقاع بن عمرو ، وجرير بن عبد الله ، وكتب فى المحرم سنة تسع عشرة.

قالوا : وألحق عمر ، رضي‌الله‌عنه ، من شهد نهاوند من الروادف فأبلى بلاء حسنا فاضلا فى ألفين ، ألحقهم بأهل القادسية.

وقال القعقاع بن عمرو فى ذلك :

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١١٤).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ١٣٦ ، ١٣٧).

٥٧١

جذعت على الماهات آناف فارس

لكل فتى من صلب فارس حادر

هتكت بيوت الفرس لما لقيتهم

وما كل من يلقى الحروب بثائر

حبست ركاب الفيرزان وجمعه

على قتر من حرها غير فاتر

هدمت به الماهات والدرب بغتة

إلى غاية أخرى الليالى الغوابر

وقال أبو بجيد فى ذلك :

لو أن قومى فى الحروب أذلة

لأخنث عليهم فارس فى الملاحم

ولكن قومى أحرزتهم سيوفهم

فآبوا وقد عادوا حواة المكارم

أبينا فلم نعط الظلامة فارسا

ولكن قبلنا عفو سلم المسالم

ونحن حبسنا فى نهاوند خيلنا

لشر ليال أنتجت للأعاجم

نتجن لهم فينا وعضل سخلها

غداة نهاوند لإحدى العظائم

ملأنا شعابا فى نهاوند منهم

رجالا وخيلا أضرمت فى الضرائم

وأركضهن الفيرزان على الصفا

فلم ينجه منا انفساح المخارم

ذكر الانسياح فى بلاد فارس ، وعمل المسلمين به بإذن عمر

رضي‌الله‌عنه ، فيه بعد منعه إياهم ، وما تبع ذلك من الفتوح

فى بقية خلافته وقتال الترك والديلم وغيرهم (١)

ولم يزل عمر ، رضي‌الله‌عنه ، ينهى المسلمين عن الانسياح فى بلاد فارس ، ويأمرهم بالاقتصار على ما فى أيديهم ، والجد فى قتال من قاتلهم ، نظرا للإسلام واحتياطا على أهله وإشفاقا ، ولا يزال أهل فارس يجهدون بعد كل نيل منهم وهزيمة تأتى على جموعهم فى انبعاث جموع أخر ، رجاء الاستدراك لما قد أذن الله فى إقامته ، والإبقاء من أمرهم لما سبقت المشيئة بزواله واستيلاء الإسلام عليه وعلى سواه ، تتميما لنوره ، وإنجازا لموعود رسوله الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

وكان بعض أهل الذمة الذين قهرهم الإسلام على الصلح وأقرهم على الجزية ينتقضون عند تحرك أهل فارس ، فسأل عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، وفد أهل البصرة عن ذلك ، وهل يفضى المسلمون إلى أهل الذمة بأذى أو بأمور لها ينتقضون؟ فقالوا : لا نعلم إلا وفاء وحسن ملكة ، قال : كيف هذا؟ فلم يجد عند أحد منهم شيئا يشفيه ويبصر

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٩٤ ـ ١٣٨) ، فتوح البلدان للبلاذرى (ص ٤٧٦).

٥٧٢

به ما يقولون ، إلا ما كان من الأحنف بن قيس ، فإنه قال : يا أمير المؤمنين ، أخبرك أنك نهيتنا عن الانسياح فى البلاد ، وأمرتنا بالاقتصار على ما كان فى أيدينا ، وأن ملك فارس حى بين أظهرهم ، وأنهم لا يزالون يساجلوننا ما دام ملكهم فيهم ، ولم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يخرج أحدهما صاحبه ، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئا بعد شيء إلا بانبعاثهم ، وأن ملكهم هو الذي يبعثهم ، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فنسيح فى بلادهم حتى نزيله عن فارس ونخرجه من مملكته وعن أمته ، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس.

فقال : صدقتنى والله وشرحت لى الأمر عن حقه ، وأذن عمر عند ذلك فى الانسياح ، وانتهى إلى رأى الأحنف ، وعرف فضله وصدقه ، ورأى أن يزدجرد يبعث عليه فى كل عام حربا إن لم يأذن للناس فى الانسياح فى أرض العجم ، ورأى أن يزدجرد على ما كان فى يدى كسرى ، فوجه عمر ، رضي‌الله‌عنه ، الأمراء من أهل البصرة ومن أهل الكوفة ، وأمر على كلا المصرين أمراء ، أمرهم بأمره ، وأذن لهم فى الانسياح ، فانساحوا وبعث بألوية من ولى مع سهيل بن عدى حليف بنى عبد الأشهل ، فقدم سهيل البصرة بالألوية ، فدفع لواء خراسان إلى الأحنف بن قيس ، ولواء أردشير خره وسابور إلى مجاشع ابن مسعود السلمى ، ولواء اصطخر إلى عثمان بن أبى العاص ، ولواء فسا ودرابجرد إلى سارية بن زنيم الكنانى ، ولواء كرمان مع سهيل بن عدى ، ولواء سجستان إلى عاصم بن عمرو ، ولواء مكران إلى الحكم بن عمرو التغلبى ، فعسكروا ليخرجوا إلى هذه الكور ، وذلك فى سنة سبع عشرة فى بعض ما ذكره الطبرى عن سيف عن شيوخه. قالوا : فلم يستتب مسيرهم حتى دخلت سنة ثمان عشرة.

وذكر الطبرى أيضا ، عن سيف أن إذن عمر فى الانسياح إنما كان بعد فتح نهاوند ، وهذا لا يكون إلا فى سنة تسع عشرة أو بعدها ، على ما ذكرنا من الاختلاف فى فتح نهاوند.

وذكر أيضا أنه قدمت الألوية من عند عمر ، رحمه‌الله ، إلى نفر بالكوفة ، فقدم لواء منها على نعيم بن مقرن ، وأمره بالمسير نحو همدان ، وكان أهلها كفروا بعد الصلح الذي تقدم ذكره بعد هزيمة فارس بنهاوند ، وقال له : إن فتح الله عليك فما وراءك لك ، فى وجهك كذلك إلى خراسان ، وبعث عقبة بن فرقد وبكير بن عبد الله ، وعقد لهما على أذربيجان وفرقها بينهما ، وأمر أحدهما أن يأخذ إليها من حلوان على ميمنتها ، والآخر أن يأخذ إليها من الموصل على ميسرتها ، فتيامن هذا عن صاحبه ، وتياسر هذا ، وبعث إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان بلواء ، وأمره أن يسير إلى أصبهان ، وكان شجاعا بطلا ،

٥٧٣

من أشراف الصحابة ، ومن وجوه الأنصار ، وأمده بأبى موسى من البصرة ، وأمّر مكانه على البصرة عمر بن سراقة ، وكان عبد الله خليفة سعد على الكوفة عند ما توجه إلى عمر ، فأقره عمر مستعملا عليها ، ثم صرفه عنها بزياد بن حنظلة ، وكتب إليه عند ما أراد توجيهه إلى أصبهان أن سر من الكوفة حتى تنزل المدائن ، فاندبهم ولا تنتخبهم ، ثم اكتب إلىّ بذلك ، فلما أتى عمر انبعاث عبد الله ، بعث حينئذ زياد بن حنظلة على الكوفة ، فلما أتاه انبعاث الجنود وانسياحهم ، أمّر عمار بن ياسر على الكوفة ، وقرأ قول الله تعالى : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ)[القصص : ٥].

ويروى أن زيادا ألح على عمر فى الاستعفاء بعد أن عمل قليلا فأعفاه وولى عمارا ، وكان زياد من المهاجرين.

ولما بعث عمر ، رضي‌الله‌عنه ، عمارا على الكوفة بعث عبد الله بن مسعود ليعلم الناس ، وكتب إلى أهل الكوفة : إنى بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرا ، وجعلت عبد الله ابن مسعود معلما ووزيرا ، وهما من النجباء من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفى رواية : ووليت حذيفة بن اليمان ما سقت دجلة وما وراءها ، ووليت عثمان بن حنيف الفرات وما سقى.

وسنذكر إن شاء الله الجهات والكور التي عقد عليها عمر ، رضي‌الله‌عنه ، الألوية لمن ذكر قبل من أمرائه جهة جهة وبلدا بلدا ، غير متقلدين فى ذلك تاريخا ولا متبرئين فيه من عهدة الخطأ فى تقديم مؤخر أو تأخير مقدم ، لكثرة ما بين أهل الأخبار فى ذلك من الاختلاف الذي لا يتحصل معه حقيقة سوى المقصود من صنع الله لأوليائه فى إظهار كلمة الإسلام ونصره إياهم على كل من ناوأهم من الأمم تتميما لأمره وإنجازا لموعوده وتصديقا فى كل زمان ومكان لقوله : (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة : ٤٠].

ذكر الخبر عن أصبهان (١)

فأما أصبهان ، فإن عبد الله بن عبد الله بن عتبان خرج إليها بأمر عمر ، رضي‌الله‌عنه ، وعلى مقدمته عبد الله بن ورقاء الرياحى ، وعلى مجنبتيه عبد الله بن بديل بن ورقاء

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٣٩ ـ ١٤١) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٣ / ٨ ، ٩).

٥٧٤

الأسدي ، وليس الخزاعى ، وعصمة بن عبد الله ، وسار عبد الله فى الناس نحو جيّ وقد اجتمع أهل أصبهان عليهم الاستندار ، وعلى مقدمته شهربراز جاذويه ، شيخ كبير فى جمع عظيم ، فالتقى المسلمون ومقدمة المشركين برستاق من رساتيق أصبهان ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، ودعا الشيخ إلى البراز ، فبرز له عبد الله بن ورقاء ، فقتله وانهزم أهل أصبهان ، وسمى المسلمون ذلك الرستاق رستاق الشيخ ، فما زال ذلك اسمه بعد.

ودعى عبد الله من يليه فسارع الاستندار إلى الصلح ، فصالحه عبد الله ، ثم سار من رستاق الشيخ نحو جيّ فانتهى إليها ، وبها يومئذ ملك أصبهان الفاذوسفان فى جمعه ، فحاصرهم عبد الله ، وخرجوا إليه ، فلما التقوا ، قال له ملكهم : لا تقتل أصحابى ولا أقتل أصحابك ، ولكن ابرز إلىّ ، فإن قتلتك رجع أصحابك ، وإن قتلتنى سالمك أصحابى ، وإن كان أصحابى لا تقع لهم نشابة إلا فى رجل ، فبرز له عبد الله ، وقال : إما أن تحمل علىّ ، وإما أن أحمل عليك ، فقال : أحمل عليك ، فوقف له عبد الله ، فحمل عليه الفاذوسفان ، فطعنه ، فأصاب قربوس السرج فكسره ، وقطع اللبد والحزام ، وزال اللبد والسرج ، فوقع عبد الله قائما ، ثم استوى على الفرس عريا ، وقال له : اثبت ، فحاجزه وقال : ما أحب أن أقاتلك ، فإنى قد رأيتك رجلا كاملا ، ولكن ارجع معك إلى عسكرك فأصالحك وأدفع المدينة إليك على أن من شاء أقام وأدى الجزية وقام على ماله ، وعلى أن تجرى مجراهم من أخذتم ماله عنوة ويتراجعون ، ومن أبى أن يدخل فيما دخلنا فيه ذهب حيث شاء ولكم أرضه.

فقال له عبد الله : لكم ذلك ، فرجع القوم إلى جيّ ، إلا ثلاثين رجلا من أصبهان خالفوا قومهم ، فخرجوا فلحقوا بكرمان ، ودخل عبد الله وأبو موسى حيا ، مدينة أصبهان ، وإنما وصل إليه أبو موسى من ناحية الأهواز بعد الصلح ، واغتبط من أقام ، وندم من شخص.

وكتب عبد الله بالفتح إلى عمر ، فأمره أن يلحق بسهيل بن عدى فيجتمع معه على قتال من بكرمان ، وأن يستخلف على أصبهان السائب بن الأقرع ، ففعل عبد الله ما أمره به ، وخرج فى جريدة خيل فلحق بسهيل قبل أن يصل إلى كرمان ، وسيأتى ذكر فتحها بعد إن شاء الله.

والكتاب الذي كتبه عبد الله لأهل أصبهان :

بسم الله الرحمن الرحيم ، كتاب من عبد الله للفاذوسفان وأهل أصبهان وما حواليها ،

٥٧٥

إنكم آمنون ما أديتم الجزية ، وعليكم من الجزية على قدر طاقتكم كل سنة تؤدونها إلى الذي يلى بلادكم عن كل حالم ، ودلالة المسلم وإصلاح طريقه وقراه يوما وليلة ، وحملان الراجل إلى مرحلة ، ولا تسلطوا على مسلم ، وللمسلمين نصحكم وأداء ما عليكم ، ولكم الأمان ما فعلتم ، فإذا غيرتم شيئا أو غيره مغير منكم ولم تسلموه فلا أمان لكم ، ومن سب مسلما بلغ منه ، فإن ضربه قتلناه. وكتب وشهد عبد الله بن قيس ، وعبد الله بن ورقاء ، وعصمة بن عبد الله.

ذكر فتح همذان ثانية وقتال الديلم (١)

وقد كان حذيفة اتبع فالة نهاوند نعيم بن مقرن والقعقاع بن عمرو ، فبلغا همذان فصالحهم خسروشنوم على همذان ودستبى ، فرجعوا عنه ، ثم إن أهل همذان كفروا بعد ونقضوا ذلك الصلح ، فكتب عمر ، رحمه‌الله ، إلى نعيم بن مقرن : أن سر حتى تأتى همذان ، وابعث على مقدمتك سويد بن مقرن ، وعلى مجنبتيك ربعى بن عامر ومهلهل بن زيد ، هذا طائى ، وذاك تميمى ، فخرج نعيم فى تعبئته فسار حتى نزل مدينة همذان وقد تحصنوا ، فحاصرهم وأخذ ما بينها وبين جرميذان ، واستولى على بلاد همذان كلها.

فلما رأى ذلك أهل المدينة سألوا الصلح ، على أن يجريهم ومن استجاب له مجرى واحدا ، ففعل ، وقبل منهم الجزاء على المنعة ، وفرق دستبى بين النفر من أهل الكوفة ، بين عصمة بن عبد الله الضبى ، ومهلهل بن زيد الطائى ، وسماك بن عبيد العبسى ، وسماك ابن مخرمة الأسدي ، وسماك بن خرشة الأنصاري ، فكان هؤلاء أول من ولى مسالح دستبى وقاتل الديلم.

فبينا نعيم فى مدينة همذان فى توطئتها فى اثنى عشر ألفا من الجند تكاتب الديلم وأهل الرى وأهل أذربيجان ، ثم خرج موثا فى الديلم حتى ينزل بواج الروذ ، وأقبل أبو الفرخان فى أهل الرى ، حتى انضم إليه ، وأقبل أخو رستم فى أهل أذربيجان حتى انضم إليه ، وتحصن أمراء مسلح دستبى وبعثوا إلى نعيم بالخبر ، فاستخلف يزيد بن قيس ، وخرج إليهم فى الناس حتى نزل عليهم بواج الروذ ، فاقتتلوا بها قتالا شديدا ، وقتل القوم مقتلة عظيمة لم تكن دون وقعة نهاوند ، ولا قصرت ملحمتهم عن الملاحم الكبار ، وقد

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٤٦ ـ ١٤٩) ، الكامل لابن الأثير (٣ / ٧ ، ٨) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٢٠ ـ ١٢٢).

٥٧٦

كانوا كتبوا إلى عمر ، رحمه‌الله ، باجتماعهم ، ففزع عمر واهتم لحربهم ، وتوقع ما يأتيه عنهم ، فلم يفجأه إلا البريد بالبشارة ، فقال : أبشير؟ فقال : بل عروة ، فلما ثنى عليه : أبشير؟ فهم عنه ما أراد ، فقال : بشير ، فقال عمر : رسول نعيم؟ قال : رسول نعيم ، قال : الخبر؟ قال : البشرى بالفتح والنصر ، وأخبره الخبر ، فحمد الله ، وأمر بالكتاب فقرئ على الناس ، فحمد الله تعالى ، ثم قدم عليه بالأخماس سماك بن مخرمة ، وسماك بن عبيد ، وسماك بن خرشة فى نفر من أهل الكوفة ، فنسبهم ، فانتسبوا له ، فقال : بارك الله فيكم ، اللهم أسمك بهم الإسلام وأيدهم بالإسلام ، ثم كتب إلى نعيم :

أما بعد ، فاستخلف على همذان وآمد بكير بن عبد الله بن سماك بن خرشة ، وسر حتى تقدم الرى فتلقى جمعهم ، ثم أقم بها ، فإنها أوسط تلك البلاد وأجمعها لما تريد.

فأقر نعيم يزيد بن قيس على همذان ، وسار بالناس من واج الروذ إلى الرى.

وقال نعيم يذكر قتالهم فى واج الروذ من أبيات :

صدمناهم فى واجروذ بجمعنا

غداة رميناهم بإحدى القواصم

فما صبروا فى حومة الموت ساعة

لجد الرماح والسيوف الصوارم

أصبنا بها موثا ومن لف جمعه

وفيها نهاب قسمها غير عاتم

تبعناهم حتى أووا فى شعابهم

نقتلهم قتل الكلاب الحوائم

كأنهم عند انثياب جموعهم

جدار تشظى لبنه للهوادم

وقال سماك بن مخرمة الأسدي بعد تلك الأيام (١) :

برزت لأهل القادسية معلما

وما كل من يلقى الكريهة يعلم

وقومى بنو عمرو بن نصر كأنهم

أسود بتوج حين شبوا وأسلموا

ويوم بأكناف النخيلة قبلها

لججت فلم أبرح أدمى وأكلم

وأقعص منهم فارسا بعد فارس

وما كل من يغشى الكريهة يسلم

فنجانى الله الأجل وجرأتى

وسيف لأطراف المآرب مخذم

وحولى بنو ذودان لا يبرحوننى

إذا سرحت صاحوا بهم ثم صمموا

وأيقنت يوم الديلميين أنه

متى ينصرف قومى عن الناس يهزم

محافظة إنى امرؤ ذو حفيظة

إذا لم أجد مستأخرا أتقدم

__________________

(١) انظر الأبيات فى : الطبرى (٤ / ١٤٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٢١).

٥٧٧

فتح الرى (١)

وخرج نعيم بن مقرن إلى الرى فلقيه أبو الفرخان مسالما ، ومخلفا بالرى يومئذ سياوخش بن مهران بن بهرام ، وكان سياوخش قد استمد أهل دنباوند وطبرستان وقرمس وجرجان ، وقال : قد علمتم أن هؤلاء إن حلوا بالرى ، إنه لا مقام لكم ، فاحتشدوا له ، فناهد بهم المسلمين ، فالتقوا بسفح جبل الرى الذي إلى جانب مدينتها فاقتتلوا به.

وقد كان أبو الفرخان قال لنعيم : إن القوم كثير وأنتم فى قلة ، فابعث معى خيلا أدخل مدينتهم من مدخل لا يشعرون به ، وناهدهم أنت ، فإنهم إذا خرجوا عليهم لم يثبتوا لك. فبعث معه نعيم من الليل خيلا عليها ابن أخيه المنذر بن عمرو ، فأدخلهم المدينة ، ولا يشعر القوم ، وبيتهم نعيم بياتا فشغلهم عن مدينتهم ، فاقتتلوا وصبروا حتى سمعوا التكبير من ورائهم ، فانهزموا ، فقتلوا مقتلة عدوا فيها بالقصب ، وأفاء الله على المسلمين بالرى نحوا من فيء المدائن ، وصالح أبو الفرخان نعيما على أهل الرى ، فلم يزل بعد شرف الرى فى آله ، وسقط آل بهرام ، وأخرب نعيم مدينة الرى ، وهى التي يقال لها العتيقة ، وأمر أبا الفرخان فبنى مدينة الرى الحدثاء ، وكتب لهم نعيم كتابا أعطاهم فيه الأمان لهم ولمن كان معهم من غيرهم ، على أن على كل حالم من الجزية طاقته فى كل سنة ، وعلى أن ينصحوا ولا يغلوا ولا يسلوا ، ويدلوا المسلم ويقروه يوما وليلة ، ويفخموه ، فمن سب مسلما أو استخف به نهك عقوبة ، ومن ضربه قتل ، ومن بدل منهم فلم يسلم برمته فقد غير جماعته.

وراسل عند ذلك نعيما مردانشاه مصمعان نهاوند فى الصلح على شيء يفتدى به من غير أن يسأله النصر والمعونة ، ففعل ذلك نعيم ، وكتب له به ولأهل موضعه كتابا على أن يتقى من ولى الفرج بمائتى ألف درهم فى كل سنة.

وقال أبو بجيد فى يوم الرى :

ألا هل أتاها أن بالرى معشرا

شفوا سقما لما استجاشوا وقتلوا

لها موطنان عاينوا الهلك فيهما

بأيد طوال لم يخنهن مفصل

وخيل تعادى لا هوادة عندها

وزاد وكمت تمتطى ومحجل

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٥٠ ، ١٥١) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٢١ ، ١٢٢) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥).

٥٧٨

ودهم وشقر تنشر البلق بينها

إذا ناهبت قوما تولوا وأوهلوا

قتلناهم بالسفح مثنى وموحدا

وصار لنا فيها مداد ومأكل

قتلنا سيا وخشا ومن مال ميله

ولم ينج منهم بالسفوح مؤمل

جزى الله خيرا معشر عصبوهم

وأعطاهم خير العطاء الذي ولوا

وقال أيضا :

وبالرى إن سألت بنا أم جعفر

فمنا صدور الخيل والخيل تنفر

إذا حذر الأقرام منهن قارح

تفخمه فى الموت أغيد أزهر

أخو الهيج والروعات إن زفرت به

أناخ إليها صابرا حين يزفر

فتسفر عنها الحرب بعد انصبابها

وفينا البقايا والفعال المسهر

قتلنا بنى بهرام لما تتابعوا

على أمر غاويهم وغاب المسور

وبالسفح موتى لا تطير نسورها

لها فى سواء السفح مثوى ومغبر

ولو لا اتقاء القوم بالسلم أقفرت

بلادهم أو يهربون فيعذروا

خلفناهم بالرى والرى منزل

له جانب صعب هناك معور

ذكر فتح قومس وجرجان

فأما قومس ، فإن عمر ، رحمه‌الله ، كان كتب إلى نعيم بن مقرن حين أعلمه بفتح الرى : أن قدم سويد بن مقرن إلى قومس ، ففصل إليها سويد من الرى فى تعبئته ، فلم يقم له أحد ، فأخذها سلما ، وعسكر بها ، وكاتب الذين لجئوا إلى طبرستان منهم ، والذين أخذوا المفاوز يدعوهم إلى الصلح والجزاء ، وكتب لهم بذلك كتابا (١).

وأما جرجان ، فإن سويدا سار إليها فكاتبه ملكها ، وبدأه بالصلح على أن يؤدى له الجزاء ويكفيه حرب جرجان ، فإن غلب أعانه ، فقبل سويد ذلك منه ، ثم تلقاه قبل أن يدخل جرجان ، فدخلها معه ، وعسكر سويد بها حتى جبى إليه خراجها ، وسمى فروجها ، فسدها بترك دهستان ، ورفع الجزاء عمن أقام بمنعها ، وأخذ الخراج من سائر أهلها ، وكتب سويد بذلك كتابا لملكها رزبان صول وأهل دهستان وسائر أهل جرجان (٢).

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٥١ ، ١٥٢) ، الروض المعطار (ص ٤٨٥).

(٢) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٥٢ ، ١٥٢) ، تاريخ جرجان (ص ٤٤).

٥٧٩

ذكر فتح طبرستان

وراسل الأصبهبذ سويدا فى الصلح على أن يتوادعا ، ويجعل له شيئا على غير نصرة ولا معونة على أحد ، فقبل ذلك منه ، وكتب له :

بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من سويد بن مقرن للفرخان اصبهبذ خراسان على طبرستان وجبل جيلان ، إنك آمن بأمان الله على أن تكف نصرتك وأهل حواشى أرضك ، ولا تؤوى لنا بغية وتتقى من ولى فرج أرضك بخمسمائة ألف درهم من دراهم أرضك ، فإذا فعلت ذلك فليس لأحد منا أن يغير عليك ، ولا أن يتطوف أرضك ، ولا يدخل عليك إلا بإذنك ، سبيلنا عليكم بالإذن آمنة ، وكذلك سبيلكم ، ولا تسألون لنا إلى عدو ولا تغلون ، فإن فعلتم فلا عهد بيننا وبينكم (١).

فتح أذربيجان

ولما (٢) افتتح نعيم همذان ثانية ، وسار إلى الرى كتب إلى عمر : أن يبعث سماك بن خرشة الأنصاري ، وليس بأبى دجانة ، ممدا لبكير بن عبد الله بأذربيجان ، وكان عمر قد فرق أذربيجان بين بكير وبين عتبة بن فرقد ، وأمر كل واحد منهما بطريق غير طريق صاحبه ، فسار بكير حين بعث إليها حتى إذا طلع بحيال جرميذان ، طلع عليه اسفندياذ بن الفرخزاد مهزوما من واجروذ ، فكان أول قتال لقيه بكير بأذربيجان ، فاقتتلوا ، فهزم الله جند اسفندياذ وأخذه بكير أسيرا ، فقال له : الصلح أحب إليك أم الحرب؟ فقال بكير : بل الصلح ، قال : فأمسكنى عندك ، فإن أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم وأراضى لم يقيموا لك ، وجلوا إلى الجبال التي حولها من القبج والروم ومن كان فى حصن تحصن إلى يوم ما ، فأمسكه عنده ، وصارت البلاد إليه إلا ما كان من حصن ، وقدم سماك على بكير واسفندياذ فى إساره ، وقد افتتح ما يليه ، وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه.

وتشوفت نفس بكير إلى المضى قدما ، فقال لسماك : إن شئت كنت معى ، وإن شئت أتيت عتبة ، فإنى لا أرانى إلا تارككما وطالبا وجها هو أكره من هذا. فاستأذن عمر ، فكتب إليه بالإذن على أن يتقدم نحو الباب ، وأمره أن يستخلف على عمله ، فاستخلف

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٥٣).

(٢) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٥٣ ـ ١٥٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٢٢) ، تاريخ ابن خلدون (٢ / ١١٩ ، ١٢٠).

٥٨٠