الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

فقال عمر : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت ، منهم من يقول : قوموا يكتب لكم رسول الله كتابا لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قوموا» (١) ، لما أكثروا اللغو والاختلاف عنده. قال : فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم.

وعن عبد الله بن مسعود قال : نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر ، بأبى هو ونفسى له الفداء ، فلما دنا الفراق جمعنا فى بيت أمنا عائشة فنظر إلينا وتشدد ودمعت عيناه ، وقال : «مرحبا بكم ، حياكم الله ، رحمكم الله ، آواكم الله ، حفظكم الله ، رفعكم الله ، نفعكم الله ، وقفكم الله ، رزقكم الله ، هداكم الله ، نصركم الله ، سلمكم الله ، قبلكم الله ، أوصيكم بتقوى الله ، وأوصى الله عزوجل بكم وأستخلفه عليكم ، وأذكركم الله وأشهدكم أنى لكم منه نذير وبشير أن لا تعلوا على الله فى عباده وبلاده فإنه عزوجل قال لى ولكم : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الزمر : ٣٢] ، وقال : (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) [٦٠ : الزمر]» ، قلنا : متى أجلك يا رسول الله؟ قال : «دنا الأجل والمنقلب إلى الله عزوجل وإلى سدرة المنتهى وإلى جنة المأوى والفردوس الأعلى والكأس الأوفى والعيس والحظ المهنى». قلنا : فمن يغسلك يا رسول الله؟ قال : «رجال أهل بيتى الأدنى فالأدنى» ، قلنا : ففيم نكفنك يا رسول الله؟ قال : «فى ثيابى هذه إن شئتم أو فى بياض مصر أو حلة يمانية» ، قلنا : فمن يصلى عليك يا رسول الله؟ قال : فبكى وبكينا ، فقال : «مهلا غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيرا إذا أنتم غسلتمونى وكفنتمونى فضعونى على شفير قبرى ثم اخرجوا عنى ساعة ، فإن أول من يصلى على خليلى وجليسى

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٤ / ٢٣٥ ، ٥ / ١٣٨ ، ٦ / ١٢ ، ٧ / ٨٩ ، ٨ / ١٧٤) ، صحيح مسلم فى كتاب الوصية باب (٥) رقم (٢٢) ، وكتاب الأشربة باب (٢٠) رقم (١٤٠ ، ١٤٢ ، ١٤٣) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٣٣٦ ، ٣ / ١٥٨ ، ٢١٨ ، ٢٣٢) ، السنن الكبرى للبيهقى (٤ ، ٢٧٣) ، الدر المنثور للسيوطى (٦ / ٣٨٩) ، فتح البارى لابن حجر (١ / ٥١٧ ، ٩ / ٥٢٦ ، ١٠ / ١٢٦ ، ١١ / ٥٧٠) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (٢ / ٢٠٦ ، ٧ / ١٨١) ، موطأ مالك (٩٢٧) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٨ / ٣٠٧) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣٥٤٤٤) ، مصنف ابن أبى شيبة (٧ / ٤١٦) ، دلائل النبوة للبيهقى (٦ / ٩٠ ، ٧ / ١٨٤) ، طبقات ابن سعد (٢ / ٢ / ٣٨) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (١٣٧ ، ١٤٧) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٢٢٧) ، ٦ / ١٢١ ، ١٥٤) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٩ / ٤).

٤١

جبريل ، ثم ميكائيل ، ثم إسرافيل ، ثم ملك الموت مع جنوده بأجمعهم مع الملائكة عليهم‌السلام ، ثم ادخلوا على أفواجا فصلوا على وسلموا تسليما ، ولا يؤمكم أحد ولا تؤذونى بتزكية ولا نصيحة ولا برنة ، واقرءوا أنفسكم منى السلام ، ومن كان غائبا من أصحابى فأبلغوه عنى السلام ، وأشهدكم أنى قد سلمت على من دخل فى الإسلام وعلى من تابعنى على دينى من اليوم إلى يوم القيامة». قلنا : فمن يدخلك قبرك يا رسول الله؟ قال : «رجال أهل بيتى الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثير يرونكم من حيث لا ترونهم» (١).

وعن الفضل بن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له وهو موعوك قد عصب رأسه : «خذ بيدى» (٢). قال : فأخذت بيده حتى جلس على المنبر ، ثم قال : «ناد فى الناس». فصحت فى الناس ، فاجتمعوا إليه ، فقال : «أما بعد ، أيها الناس ، فإنى أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وإنه قد دنا منى خفوف من بين أظهركم ، فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهرى فليستقد منه ، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضى فليستقد منه ، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالى فليأخذ منه ، ولا يقل رجل : إنى أخشى الشحناء من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا وأن الشحناء ليست من طبيعتى ، ولا من شأنى ، ألا وإن أحبكم إلى من أخذ منى حقا إن كان له أو حللنى ، فلقيت الله عزوجل وأنا طيب النفس ، وقد أرى أن هذا غير مغن عنى حتى أقوم فيكم مرارا». قال الفضل : ثم نزل فصلى الظهر ، ثم رجع فجلس على المنبر فعاد لمقالته الأولى فى الشحناء وغيرها ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ، إن لى عندك ثلاثة دراهم ، فقال : «أما إنا لا نكذب قائلا ، ولا نستحلفه على يمين ، فيم كانت لك عندى؟» (٣) فقال : يا رسول الله ، أتذكر يوم مر بك المسكين فأمرتنى فأعطيته ثلاثة دراهم؟ فقال : «أعطه يا فضل» (٤) ، ثم قال : «أيها الناس ، من كان عنده شيء فليرده ولا يقل رجل : فضوح الدنيا ، ألا وإن فضوح الدنيا أيسر من فضوح الآخرة» (٥). فقام رجل فقال : يا رسول الله ، عندى ثلاثة دراهم غللتها فى سبيل الله ، قال : «ولم غللتها؟» قال : كنت إليها محتاجا ، قال : «خذها منه يا فضل» ، ثم قال : «من

__________________

(١) انظر الحديث فى : إتحاف السادة المتقين للزبيدى (١٠ / ٣٨٦) ، المطالب العالية لابن حجر (٤٣٩٢ ، ٤٣٩٣) ، حلية الأولياء لأبى نعيم (٤ / ١٩٨).

(٢) انظر الحديث فى : السنن الكبرى للبيهقى (٦ / ٧٤) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٩ / ٢٥) ، دلائل النبوة للبيهقى (٧ / ١٧٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٢٣١).

(٣) انظر الحديث فى : ميزان الاعتدال (٦٨٥٥) ، المعجم الكبير للطبرانى (١٨ / ٢٨١).

(٤) انظر الحديث فى : السنن الكبرى للبيهقى (٦ / ٧٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٢٣١).

(٥) انظر الحديث فى : جمع الجوامع للسيوطى (٩٥٧٠) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١١٠٥١).

٤٢

خشى من نفسه شيئا فليقم أدع له» ، فقام رجل فقال : يا رسول الله ، إنى لكذوب ، وإنى لفاحش ، وإنى لنئوم. فقال : «اللهم ارزقه الصدق وأذهب عنه النوم إذا أراد». ثم قال رجل فقال : والله يا رسول الله إنى لكذاب وإنى لمنافق وما شيء أو إن شيء إلا قد جئته. فقام عمر بن الخطاب فقال : فضحت نفسك أيها الرجل ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا ابن الخطاب ، فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة ، اللهم ارزقه صدقا وإيمانا وصير أمره إلى خير».

فقال عمر كلمة ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : «عمر معى وأنا مع عمر والحق بعدى مع عمر حيث كان» (١).

وعن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث ، قالت : فلما اشتد وجعه كنت أنا أقرأ عليه وأمسح عنه بيمينه رجاء بركتها.

وعنها قالت : ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أغبط أحدا بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقالت رضي‌الله‌عنها : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بالموت وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده فى القدح ثم يمسح وجهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالماء ، ثم يقول : «اللهم أعنى على منكرات الموات أو سكرات الموت» (٢).

وعنها ، وعن عبد الله بن عباس أيضا قالا : لما نزل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طفق يلقى خميصة على وجهه ، فإذا اغتم كشفها عن وجهه ، فقال وهو كذلك : «لعنة الله على اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (٣). يحذرهم مثل ما صنعوا.

وعن أسامة بن زيد قال : لما ثقل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهبطت وهبط الناس معى إلى المدينة يعنى

__________________

(١) انظر الحديث فى : المعجم الكبير للطبرانى (١٨ / ٢٨١) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٩ / ٢٦).

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٦ / ٦٤ ، ٧٠ ، ٧٧ ، ١٥١) ، سنن ابن ماجه (١٦٢٣) ، الدر المنثور للسيوطى (٦ / ١٠٥) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (١٥٦٤) ، فتح البارى لابن حجر (٨ / ١٤٠ ، ١١ / ٣٦٢) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١٨٨٣٦) ، طبقات ابن سعد (٢ / ٢ / ٤٧) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٢٣٩).

(٣) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (١ / ١١٩ ، ٤ / ٢٠٦ ، ٦ / ١٤ ، ٧ / ١٠٩) ، صحيح مسلم فى كتاب المساجد باب (٣) رقم (٢٢) ، سنن النسائى (٢ / ٤٠) ، مسند الإمام أحمد (٦ / ٢٧٥ ، ٢٩٩) ، دلائل النبوة للبيهقى (٧ / ٢٠٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٢٣٨).

٤٣

الجيش الذي كان تهيأ للخروج معه فى بعثه قال : فدخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أصمت فلا يتكلم ، وجعل يرفع يديه إلى السماء ، ثم يضعهما على ، أعرف أنه يدعو لى.

وذكر ابن إسحاق (١) : من حديث أبى بكر بن عبد الله بن أبى مليكة أن مما تكلم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس يوم صلى قاعدا عن يمين أبى بكر أن قال لهم لما فرغ من الصلاة وأقبل عليهم فكلمهم رافعا صوته حتى خرج صوته من باب المسجد ، يقول : «يا أيها الناس ، سعرت النار ، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، إنى والله ما تمسكون على بشيء ، إنى لم أحل إلا ما أحل القرآن ، ولم أحرم إلا ما حرم القرآن».

قال : فلما فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كلامه قال له أبو بكر : يا رسول الله ، إنى أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحب ، واليوم يوم بنت خارجة ، أفآتيها؟ قال : «نعم» ، ثم دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخرج أبو بكر إلى أهله بالسنح (٢).

وعن عبد الله بن عباس قال : خرج يومئذ على بن أبى طالب رضي‌الله‌عنه على الناس من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له الناس : يا أبا حسن ، كيف أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

قال : أصبح بحمد الله بارئا. قال : فأخذ العباس بيده ، ثم قال : يا على ، أنت والله عبد العصا ، بعد ثلاث مرات ، أحلف بالله لقد رأيت الموت فى وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما كنت أعرفه فى وجوه بنى عبد المطلب ، فانطلق بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن كان هذا الأمر فينا عرفناه ، وإن كان فى غيرنا أمرناه فأوصى بنا الناس. فقال على : إنى والله لا أفعل ، والله لئن منعناه لا يؤتيناه أحد بعده ، فتوفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم.

وقالت عائشة رضي‌الله‌عنها : رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ذلك اليوم حين دخل المسجد فاضطجع فى حجرى ، فدخل على رجل من آل أبى بكر وفى يده سواك أخضر ، فنظر إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى يده نظرا عرفت أنه يريده ، فقلت : يا رسول الله ، أتحب أن أعطيك هذا السواك؟ قال : «نعم» ، قالت : فأخذته فمضغته له حتى لينته ، ثم أعطيته إياه ؛ قالت : فاستن به كأشد ما رأيته استن بسواك قط ، ثم وضعه ؛ ووجدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يثقل فى حجرى ، فذهبت أنظر فى وجهه ، فإذا بصره قد شخص وهو يقول : «بل الرفيق الأعلى من الجنة» (٣) ؛ قالت : فقلت : خيرت فاخترت والذي بعثك بالحق.

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٧٨).

(٢) انظر الحديث فى : دلائل النبوة للبيهقى (٧ / ٢٠١).

(٣) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٦ / ٢٧٤) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (١٠ / ٢٨٨ ، ٢٩٣).

٤٤

وقالت : كان عليه‌السلام كثيرا ما أسمعه يقول : «إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيره» ، فلما حضر كان آخر كلمة سمعتها منه وهو يقول : «بل الرفيق الأعلى من الجنة» فقلت : إذا والله لا يختارنا ، وعرفت أنه الذي كان يقول لنا : «إن نبيا لم يقبض حتى يخير» (١).

قالت : وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن أنس بن مالك قال : لما وجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كرب الموت ما وجد قالت فاطمة ، وا كرباه لكربك يا أبة ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا كرب على أبيك بعد اليوم ، إنه قد حضر من أبيك ما ليس بتارك منه أحدا لموافاة يوم القيامة» (٢).

وقالت عائشة رضي‌الله‌عنها : كان آخر ما عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن قال : «لا يترك بجزيرة العرب دينان» (٣).

وقالت أم سلمة : كان عامة وصية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند موته : «الصلاة وما ملكت أيمانكم» (٤) ، حتى جعل يلجلجها فى صدره ، وما يقبض بها لسانه.

وقال أنس بن مالك : شهدته يوم توفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم أر يوما كان أقبح منه.

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٦ / ٤٥ ، ٤٨ ، ٧٤ ، ٨٩ ، ١٠٨ ، ١٢٠ ، ١٢٦) ، صحيح مسلم (٤ / ١٨٩٣ / ٨٥).

(٢) انظر الحديث فى : سنن ابن ماجه (١٦٢٩) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (١٠ / ٢٦٣) ، دلائل النبوة للبيهقى (٧ / ٢١٢) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١٨٨١٨ ، ١٨٨٢٠) ، تاريخ أصفهان (٢ / ٢٢١).

(٣) انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (٥ / ٣٢٥) ، مسند الإمام أحمد (٦ / ٢٧٥).

(٤) انظر الحديث فى : سنن ابن ماجه (١٦٢٥ ، ٢٦٩٧ ، ٢٦٩٨) ، مسند الإمام أحمد (٣ / ١١٧) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٤ / ٢٣٧) ، طبقات ابن سعد (٢ / ٢ / ٤٤) ، شرح السنة للبغوى (٩ / ٣٥٠) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (١٠ / ٢٩٧) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (٣ / ٢١٥) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١٨٨٦٣) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (٣٣٥٦ ، ٣٣٥٧) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٢٣٨) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (٤ / ٢٤٠) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (٢ / ٢٣٦) ، المغنى عن حمل الأسفار للعراقى (٢ / ٤٤) ، مشكل الآثار للطحاوى (٤ / ٢٣٥ ، ٢٣٦) ، تفسير ابن كثير (٨ / ٣١٤) ، علل الحديث لابن أبى حاتم الرازى (٣٠٠).

٤٥

وقالت عائشة : توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين سحرى ونحرى ، وفى دولتى (١) ، لم أظلم فيه أحدا ، فمن سفهى وحداثة سنى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبض وهو فى حجرى ، ثم وضعت رأسه على وسادة ، وقمت التدم مع النساء ، وأضرب وجهى (٢).

واختلف أهل العلم بهذا الشأن فى اليوم الذي توفى فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشهر بعد اتفاقهم على أنه توفى يوم الاثنين فى شهر ربيع الأول.

فذكر الواقدى وجمهور الناس أنه توفى يوم الاثنين لاثنتى عشرة خلت من ربيع الأول لتمام عشر سنين من مقدمه المدينة ، وهذا لا يصح ، وقد جرى فيه على العلماء من الغلط ما علينا بيانه ، وذلك أن المسلمين قد أجمعوا على أن وقفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعرفة فى حجة الوداع كانت يوم الجمعة تاسع ذى الحجة من سنة عشر ، فاستهل هلال ذى الحجة على هذا ليلة الخميس ، ثم لا يخلو شهر ذى الحجة والمحرم بعده من سنة إحدى عشرة ثم صفر بعده أن تكون هذه الأشهر الثلاثة كاملة كلها أو ناقصة كلها ، أو اثنان منها كاملين وواحد ناقصا ، أو اثنان منها ناقصين وواحد كاملا ، وأيا ما قدرت من ذلك واعتبرته لم تجد الثانى عشر من ربيع الأول يكون يوم الاثنين أصلا.

وذكر أبو جعفر الطبرى بإسناد يرفعه إلى فقهاء أهل الحجاز ، قالوا : قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصف النهار يوم الاثنين لليلتين مضتا من شهر ربيع الأول.

وهذا القول وإن خالف ما ذكره جهور العلماء فإنه أولى بالصواب ، وأمكن أن يكون حقا ، فإنه إن كانت الأشهر الثلاثة كل شهر منها من تسعة وعشرين يوما كان استهلال شهر ربيع الأول على ذلك بالأحد فكان يوم الاثنين ثانيه.

وقد حكى الخوارزمى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفى أول يوم من شهر ربيع الأول ، وهذا أيضا أمكن وأكثر إذ اتصال النقص فى ثلاثة أشهر لا يكون إلا قليلا ، والله تعالى أعلم.

ولما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وارتفعت الرنة عليه وسجته الملائكة دهش الناس كما روى عن غير واحد من الصحابة وطاشت عقولهم ، وأفحموا ، واهتلطوا ، فمنهم من خبل ، ومنهم من أصمت ، ومنهم من أقعد إلى الأرض ، فكان عمر رضي‌الله‌عنه ممن خبل ، فجعل يصيح ويقول : إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفى وإنه والله ما مات ، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران ، فقد غاب عن قومه أربعين

__________________

(١) فى دولتى : أى فى نوبتها.

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٦ / ٤٨ / ١٢١ ، ٢٠٠ ، ٢٧٤) ، صحيح البخاري (٣ / ١٣٨٩).

٤٦

ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل : قد مات ، والله ليرجعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما رجع موسى ، فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم زعموا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مات.

وأما عثمان بن عفان رضي‌الله‌عنه فأخرس حتى جعل يذهب به ويجاء ولا يتكلم.

وأقعد على رضي‌الله‌عنه فلم يستطع حراكا. وأضنى عبد الله بن أنيس.

وبلغ الخبر أبا بكر رضي‌الله‌عنه وهو بالسنح فجاء وعيناه تهملان وزفراته تترد فى صدره وغصصه ترتفع كقطع الحرة وهو فى ذلك رضوان الله عليه جلد العقل والمقالة ، حتى دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكب عليه وكشف عن وجهه ومسحه وقبل جبينه وجعل يبكى ويقول : بأبى أنت وأمى طبت حيا وميتا ، ولنقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء من النبوة ، فعظمت عن الصفة ، وجللت عن البكاء ، وخصصت حتى صرت مسلاة ، وعممت حتى صرنا فيك سواء ، ولو لا أن موتك كان اختيارا لجدنا لموتك بالنفوس ، لو لا أنك نهيت عن البكاء لأنفذنا عليك ماء الشون ، فأما ما لا نستطيع نفيه عنا فكمد وأدناف يتخالفان لا يبرحان ، اللهم فأبلغه عنا ، اذكرنا يا محمد عند ربك ولنكن من بالك ، فلو لا ما خلفت من السكينة لم نقم لما خلفت من الوحشة ، اللهم أبلغ نبيك عنا واحفظه فينا. ثم خرج إلى الناس وهم فى عظيم غمراتهم وشديد سكراتهم فقام فيهم بخطبة جلها الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال فيها : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله وخاتم أنبيائه ، وأشهد أن الكتاب كما نزل وأن الدين كما شرع ، وأن الحديث كما حدث ، وأن القول كما قال ، وأن الله هو الحق المبين ... فى كلام طويل ، ثم قال :

أيها الناس ، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت ، وإن الله قد تقدم إليكم فى أمره فلا تدعوه جزعا ، قال الله تبارك وتعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران : ١٤٤]. وإن الله سبحانه قد اختار لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما عنده على ما عندكم ، وقبضه إلى ثوابه ، وخلف فيكم كتابه وسنة نبيه ، فمن أخذ بهما عرف ومن فرق بينهما أنكر ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) [النساء : ١٣٥] ولا يشغلنكم الشيطان بموت نبيكم ، ولا يلفتنكم عن دينكم ، فعاجلوا الشيطان بالخزى تعجزوه ولا تستنظروه فليلحق بكم.

٤٧

فلما فرغ من خطبته التفت إلى عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه فقال : يا عمر ، أنت الذي بلغنى عنك أنك تقول على باب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفس عمر بيده ما مات نبى الله أما علمت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يوم كذا : كذا وكذا ، وقال يوم كذا : كذا وكذا ، وقال الله تعالى فى كتابه : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [٣٠ : الزمر]. فقال عمر : والله لكأنى لم أسمع بها فى كتاب الله تعالى قبل ذلك لما نزل بنا ، أشهد أن الكتاب كما نزل وأن الحديث كما حدث وأن الله تبارك وتعالى حى لا يموت ، صلوات الله على رسوله ، وعند الله نحتسب رسوله.

وفى بعض سياق هذا الخبر أن أبا بكر رضي‌الله‌عنه لما دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بيت عائشة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مسجى فى ناحية البيت عليه برد حبرة ، أقبل حتى كشف عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أقبل عليه فقبله ، ثم قال : بأبى أنت وأمى ، أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها ، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا ، ثم رد البرد على وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم خرج وعمر يكلم الناس ، فقال : يا عمر ، أنصت. فأبى إلا أن يتكلم ، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل يكلم الناس ، فلما سمع الناس كلام أبى بكر أقبلوا عليه وتركوا عمر ؛ فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه ، ثم قال :

يا أيها الناس ، إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت ، ثم تلا هذه الآية : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [آل عمران : ١٤٤] إلى آخر الآية.

قال : فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ ؛ وأخذها الناس عن أبى بكر ، فإنما هى فى أفواههم.

وقال عمر رضي‌الله‌عنه : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ، فعقرت (١) حتى وقعت إلى الأرض ، ما تحملنى رجلاى ، وعرفت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد مات (٢).

وقال عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه فيما كان منه يومئذ :

لعمرى لقد أيقنت أنك ميت

ولكنما أبدى الذي قلته الجزع

وقلت يغيب الوحى عنا لفقده

كما غاب موسى ثم يرجع كما رجع

وكان هواى أن تطول حياته

وليس لحى فى بقا ميت طمع

__________________

(١) عقرت : أى دهشت وتحيرت.

(٢) انظر الحديث فى : صحيح البخاري فى كتاب فضائل الصحابة (٧ / ٣٦٦٧ ـ ٣٦٦٨).

٤٨

فلما كشفنا البرد عن حر وجهه

إذا الأمر بالجدع الموعب قد وقع

فلم تك لى عند المصيبة حلية

أرد بها أهل الشماتة والقذع

سوى إذن الله الذي فى كتابه

وما أذن الله العباد به يقع

وقد قلت من بعد المقالة قولة

لها فى حلوق الشامتين به بشع

ألا إنما كان النبيّ محمد

إلى أجل وافى به الموت فانقطع

ندين على العلات منا بدينه

ونعطى الذي أعطى ونمنع ما منع

ووليت محزونا بعين سخينة

أكفكف دمعى والفؤاد قد انصدع

وقلت لعينى كل دمع ذخرته

فجودى به إن الشجى له دفع

وذكر ابن إسحاق (١) بإسناد يرفعه إلى عبد الله بن عباس قال : إنى لأمشى مع عمر فى خلافته وهو عامد إلى حاجة له ، وفى يده الدرة ما معه غيرى ، وهو يحدث نفسه ويضرب وخشى قدمه بدرته ، إذ التفت إلى فقال : يا ابن عباس ، هل تدرى ما حملنى على مقالتى التي قلت حين توفى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : قلت : لا أدرى يا أمير المؤمنين ؛ أنت أعلم. قال : فإنه والله ، إن حملنى على ذلك إلا أنى كنت أقرأ هذه الآية : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [١٤٣ : البقرة] ، فو الله إن كنت لأظن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيبقى فى أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها ، فإنه للذى حملنى على أن قلت ما قلت (٢).

وذكر موسى بن عقبة أن المقام الذي قام به أبو بكر رضي‌الله‌عنه بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعد الذي كان من عمر من القول هو أنه خرج سريعا إلى المسجد من بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوطأ رقاب الناس حتى جاء المنبر وعمر يكلم الناس ويوعد من زعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مات ، فجلس عمر حين رأى أبا بكر مقبلا ، فقام أبو بكر على المنبر فنادى الناس أن اجلسوا وأنصتوا ، فتشهد بشهادة الحق ، ثم قال : إن الله قد نعى نبيكم لنفسه وهو حى بين أظهركم ، ونعى لكم أنفسكم ، فهو الموت حتى لا يبقى أحد إلا الله ، يقول الله عزوجل : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [١٤٤ : آل عمران].

وقال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [٣٠ : الزمر]

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٨٦).

(٢) أخرجه الطبرى فى تاريخه (٢ / ٢٣٨).

٤٩

وقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ٣٥ ، الأنبياء ، ٥٧].

وقال : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨]. وقال : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [الرحمن : ٢٦].

ثم قال : إن الله عمر محمدا وأبقاه حتى أقام دين الله وأظهر أمر الله وبلغ رسالة الله وجاهد أعداء الله حتى توفاه الله صلوات الله عليه وهو على ذلك وتركتم على الطريقة ، فلا يهلك هالك إلا من بعد البينة ، فمن كان الله ربه فإن الله حى لا يموت فليعبده ، ومن كان يعبد محمدا أو يراه ، إلها فقد هلك إلهه ، فأفيقوا أيها الناس واعتصموا بدينكم وتوكلوا على ربكم ، فإن دين الله قائم ، وإن كلمته باقية ، وإن الله ناصر من نصره ومعز دينه.

وإن كتاب الله بين أظهرنا هو النور والشفاء وبه هدى الله محمدا ، وفيه حلال الله وحرامه ، لا والله ما نبالى من أجلب علينا من خلق الله ، إن سيوف الله لمسلولة ما وضعناها بعد ، ولنجاهدن من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا يبقين أحد إلا على نفسه.

ثم انصرف وانصرف المهاجرون معه.

بيعة أبى بكر رضي‌الله‌عنه وما كان

من تحيز الأنصار إلى سعد بن عبادة فى سقيفة بنى ساعدة ،

ومنتهى أمر المهاجرين معهم

قال ابن إسحاق (١) : ولما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انحاز هذا الحى من الأنصار إلى سعد بن عبادة فى سقيفة بنى ساعدة ، واعتزل على بن أبى طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله فى بيت فاطمة ، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبى بكر ، وانحاز معهم أسيد بن حضير فى بنى عبد الأشهل ، فأتى آت إلى أبى بكر فقال : إن هذا الحى من الأنصار مع سعد بن عبادة فى سقيفة بنى ساعدة قد انحازوا إليه ، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا الناس من قبل أن يتفاقم أمرهم ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بيته لم يفرغ من أمره قد أغلق دونه الباب أهله. قال عمر : فقلت لأبى بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٨١).

٥٠

الأنصار حتى ننظر ما هم عليه. قال : وكان من حديث السقيفة حين اجتمعت بها الأنصار أن عبد الله بن عباس قال : أخبرنى عبد الرحمن بن عوف وكنت فى منزله بمنى أنتظره ، وهو عند عمر فى آخر حجة حجها عمر قال : فرجع عبد الرحمن بن عوف من عند عمر فوجدنى فى منزله أنتظره ، وكنت أقرئه القرآن ، فقال لى : لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين فقال : يا أمير المؤمنين ، هل لك فى فلان يقول : والله لو قد مات عمر بن الخطاب لقد بايعت فلانا ، والله ما كانت بيعة أبى بكر إلا فلتة فتمت. قال : فغضب عمر فقال : إنى إن شاء الله لقائم العشية فى الناس ، فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم. ثم قال عبد الرحمن : فقلت : يا أمير المؤمنين لا تفعل ، إن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم وإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم فى الناس ، وإنى أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطير بها أولئك عنك كل مطير ولا يعودها ولا يضعوها على موضعها ، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار السنة وتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت بالمدينة متمكنا ، فيعى أهل الفقه مقالتك ، ويضعونها موضعها. فقال عمر : أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة.

قال ابن عباس (١) : فقدمنا المدينة فى عقب ذى الحجة ، فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زاغت الشمس فأجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر ، فجلست حذوه تمس ركبتى ركبته ، فلم أنشب أن خرج عمر ، فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد : ليقولن العشية على هذا المنبر مقالة لم يقلها منذ استخلف ؛ قال : فأنكر على سعيد بن زيد ذلك. قال : وما عسى أن يقول مما لم يقل قبله ، فجلس عمر على المنبر ، فلما سكت المؤذن قام فأثنى على الله بما هو له أهل ، ثم قال : أما بعد ، فإنى قائل لكم مقالة قد قدر لى أن أقولها ولا أدرى لعلها بين يدى أجلى ، فمن عقلها ووعاها فليأخذنها حيث انتهت به راحلته ، ومن خشى أن لا يعيها فلا يحل لأحد أن يكذب على ؛ إن الله بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنزل عليه الكتاب ، فكان مما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها وعلمناها ووعيناها ، ورجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجمنا بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد الرجم فى كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، وإن الرجم فى كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة ، أو كان الحبل أو الاعتراف ؛ ثم إنا قد كنا نقرأ فيما نقرأ من الكتاب : «لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم» أو «كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم» ، ألا إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٨٢).

٥١

قال : «لا تطرونى كما أطرى عيسى ابن مريم ، وقولوا : عبد الله ورسوله» (١) ؛ ثم إنه قد بلغنى أن فلانا قال : لو والله قد مات عمر بايعت فلانا ، فلا يغرن امرأ أن يقول : إن بيعة أبى بكر كانت فلتة فتمت ، وإنها قد كانت كذلك إلا أن الله قد وقى شرها ، وليس فيكم من تنقطع الأعناق إليه مثل أبى بكر ، فمن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه ، تغرة أن يقتلا ، إنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الأنصار خالفوا فاجتمعوا بأشرافهم فى سقيفة بنى ساعدة ، وتخلف عنا على بن أبى طالب والزبير بن العوام ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلى أبى بكر ، فقلت لأبى بكر : انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا منهم رجلان صالحان ، فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم ، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلنا : نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار ، فقالا : فلا عليكم أن لا تقربوهم يا معشر المهاجرين ، اقضوا أمركم. قال : قلت : والله لنأتينهم. فانطلقنا حتى أتيناهم فى سقيفة بنى ساعدة ، فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمل ، فقلت : من هذا؟ قالوا : سعد بن عبادة ، فقلت : ما له؟ فقالوا : وجع. فلما جلسنا تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو له أهل ، ثم قال : أما بعد ، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا ، وقد دفت دافة من قومكم.

قال : وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا ويغصبونا الأمر ، فلما سكت أردت أن أتكلم وقد زورت فى نفسى مقالة قد أعجبتنى ، أريد أن أقدمها بين يدى أبى بكر ، وكنت أدارى منه بعض الحد ، فقال أبو بكر : على رسلك يا عمر. فكرهت أن أعصيه ، فتكلم ، وهو كان أعلم منى وأوقر ، فو الله ما ترك من كلمة أعجبتنى من تزويرى إلا قالها فى بديهته أو مثلها أو أفضل منها حتى سكت.

قال : أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ، ولن تعرف العرب هذا الأمر إلا هذا الحى من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم ، وأخذ بيدى وبيد أبى عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا ، ولم أكره شيئا مما قال غيرها ، كان والله أن أقدم فتضرب عنقى لا يقربنى ذلك إلى إثم أحب إلى من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر.

قال : فقال قائل من الأنصار : أنا جذيلها المحك وعذيقها المرجب ، منا أمير ومنكم

__________________

(١) انظر الحديث فى : سنن الدارمى (٢ / ٢٧٨٤) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٢٣ ، ٢٤ ، ٤٧ ، ٥٥) ، مصنف عبد الرزاق (١١ / ٢٠٥٢٤).

٥٢

أمير يا معشر قريش. قال : فكثر اللغط وارتفعت الأصوات ، حتى تخوفت الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر ، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعه الأنصار ، ونزونا على سعد بن عبادة فقال قائل منهم : قتلتم سعد بن عبادة. فقلت : قتل الله سعد ابن عبادة.

وذكر ابن إسحاق (١) عن الزهرى عن عروة أن أحد الرجلين اللذين لقوا من الأنصار حين ذهبوا إلى السقيفة هو عويم بن ساعدة ، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما سئل : من الذين قال الله لهم : (رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)[التوبة : ١٠٨]، فقال عليه‌السلام : «نعم المرء منهم عويم بن ساعدة ، وأما الرجل الآخر فهو : معن بن عدى» (٢) ، ويقال : إنه لما بكى الناس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين توفاه الله وقالوا : والله لوددنا أن متنا قبله ، إنا نخشى أن نفتتن بعده ، قال معن بن عدى : لكنى والله ما أحب أنى مت قبله حتى أصدقه ميتا كما صدقته حيا ، وقتل رحمه‌الله شهيدا اليمامة.

وذكر ابن عقبة أنهم لما توجهوا إلى سقيفة بنى ساعدة وأراد عمر أن يتكلم ويسبق بالقول ويمهد لأبى بكر ويتهدد من هناك من الأنصار ، وقال عمر : خشيت أن يقصر أبو بكر رضي‌الله‌عنه عن بعض الكلام وعن ما أجد فى نفسى من الشدة على من خالفنا زجره أبو بكر رضي‌الله‌عنه فقال : على رسلك فستكفى الكلام إن شاء الله تعالى ، ثم سوف تقول بعدى ما بدا لك ، فتشهد أبو بكر ، وأنصت القوم ، ثم قال :

بعث الله محمدا بالهدى ودين الحق ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام فأخذ الله بقلوبنا ونواصينا إلى ما دعانا إليه ، فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلاما ، ونحن عشيرته وأقاربه ، وذوو رحمه ، فنحن أهل النبوة وأهل الخلافة وأوسط الناس أنسابا فى العرب ، ولدتنا العرب كلها ، فليست منها قبيلة إلا لقريش فيها ولادة ، ولن تعترف العرب ولا تصلح إلا على رجل من قريش ، هم أصبح الناس وجوها ، وأبسطه ألسنا ، وأفضله قولا ، فالناس لقريش تبع ، فنحن الأمراء ، وأنتم الوزراء ، وهذا الأمر بيننا وبينكم قسمة إلا بلمه ، وأنتم يا معشر الأنصار إخواننا فى كتاب الله وشركاؤنا فى الدين وأحب الناس إلينا ، وأنتم الذين آووا ونصروا ، وأنتم أحق الناس أن لا تحسدوهم على خير أتاهم الله إياه ، فأنا أدعوكم إلى أحد هذين الرجلين : عمر بن الخطاب وأبى عبيدة

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٨٥).

(٢) انظر الحديث فى : طبقات ابن سعد (٣ / ٢ / ٣١).

٥٣

ابن الجراح ووضع يديه عليهما ، وكان قائما بينهما فكلاهما قد رضيته للقيام بهذا الأمر ، ورأيته أهلا لذلك.

فقال عمر وأبو عبيدة : ما ينبغى لأحد بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يكون فوقك يا أبا بكر ، أنت صاحب الغار مع رسول الله ، وثانى اثنين ، وأمرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين اشتكى فصليت بالناس ، فأنت أحق بهذا الأمر.

قالت الأنصار : والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم ، وما خلق الله قوما أحب إلينا ولا أعز علينا منكم ، ولا أرضى عندنا هديا ، ولكنا نشفق بعد اليوم ، فلو جعلتم اليوم رجلا منكم فإذا مات أخذنا رجلا من الأنصار فجعلناه ، فإذا مات أخذنا رجلا من المهاجرين فجعلناه ، فكنا كذلك أبدا ما بقيت هذه الأمة بايعناكم ورضينا بذلك من أمركم ، وكان ذلك أجدر إن يشفق القرشى إن زاغ أن ينقض عليه الأنصاري ، وأن يشفق الأنصاري إن زاغ أن ينقض عليه القرشى.

فقال عمر : لا ينبغى هذا الأمر ولا يصلح إلا لرجل من قريش ، ولن ترضى العرب إلا به ، ولن تعرف العرب الإمارة ، إلا له ، ولن تصلح إلا عليه ، والله لا يخالفنا أحد إلا قتلناه.

فقام الحباب بن المنذر من بنى سلمة (١) ، فقال : منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش ، أنا جذيلها المحك وعذيقها المرجب ، دفت علينا منكم دافة أرادوا أن يخرجونا من أصلنا ويختصونا من هذا الأمر ، وإن شئتم كررناها جزعة.

فكثر القول حتى كادت الحرب تقع بينهم ، وأوعد بعضهم بعضا ، ثم تراد المسلمون وعصم الله لهم دينهم ، فرجعوا بقول حسن ، وسلموا الأمر لله وعصوا الشيطان ، ووثب عمر فأخذ بيد أبى بكر وقام أسيد بن حضير الأشهلى (٢) وبشير بن سعد أبو النعمان بن

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الأنساب (٣ / ٢٧٨) ، الإصابة ترجمة رقم (١٥٥٧) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٠٢٣).

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (١٨٥) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٧٠) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢١) ، الثقات (٣ / ٦) ، الإكمال (٢ / ٤٨٢) ، تهذيب الكمال (١ / ١١٣) ، الطبقات (٧٧) ، تقريب التهذيب (١ / ٧٨) ، بقى بن مخلد (١٣٦) ، خلاصة تذهيب الكمال (١ / ٩٨) ، الوافى بالوفيات (٩ / ٢٥٨ ، ١ / ٣٢٨) ، تهذيب التهذيب (١ / ٣٤٧) ، الكاشف (١ / ١٣٣) ، الجرح والتعديل (٢ / ١١٦٣) ، التاريخ الكبير (٢ / ٤٧) ، البداية والنهاية (٧ / ١٠١) ، الأنساب (١ / ٢٧٨).

٥٤

بشير (١) يستبقان ليبايعا أبا بكر فسبقهما عمر فبايع ثم بايعا معا ، ووثب أهل السقيفة يبتدرون البيعة ، وسعد بن عبادة مضطجع يوعك ، فازدحم الناس على أبى بكر ، فقال رجل من الأنصار : اتقوا سعدا ، لا تطؤه فتقتلوه.

فقال عمر وهو مغضب : قتل الله سعدا ، فإنه صاحب فتنة. فلما فرغ أبو بكر من البيعة رجع إلى المسجد فقعد على المنبر فبايعه الناس حتى أمسى ، وشغلوا عن دفن رسول الله حتى آخر الليل من ليلة الثلاثاء مع الصبح.

وقال ابن أبى عزة القرشى الجمحى فى ذلك :

شكرا لمن هو بالثناء خليق

ذهب اللجاج وبويع الصديق

من بعد ما دحضت بسعد نعله

ورجا رجاء دونه العيوق

جاءت به الأنصار عاصب رأسه

فأتاهم الصديق والفاروق

وأبو عبيدة والذين إليهم

نفس المؤمل للبقاء تتوق

كنا نقول لها على والرضى

عمر وأولادهم بتلك عتيق

فدعت قريش باسمه فأجابها

إن المنوه باسمه الموثوق

وذكر وثيمة بن موسى بن الفرات أنه كان لأشراف قريش فيما كان من شأن الأنصار مقامات محمودة ، فمن ذلك أن خالد بن الوليد قام على أثر أبى بكر بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان خطيب قريش ، فقال :

أيها الناس ، إنا رمينا فى بدء هذا الدين بأمر ثقل علينا محمله وصعب علينا مرتقاه ، وكنا كأنا منه على أوفاز ، ثم والله ما لبثنا أن خف علينا ثقله ، وذللنا صعبه ، وعجبنا ممن شك فيه بعد عجبنا ممن آمن به ، حتى والله أمرنا بما كنا ننهى عنه ، ونهينا عن ما كنا نأمر به ، ولا والله ما سبقنا إليه بالعقول ، ولكنه التوفيق. ألا وإن الوحى لم ينقطع حتى أكمل ، ولم يذهب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أعذر ، فلسنا ننتظر بعد النبيّ نبيا ولا بعد الوحى وحيا ، ونحن اليوم أكثر منا بالأمس ، ونحن بالأمس خير منا اليوم ، من دخل فى هذا الدين كان من ثوابه على حسب عمله ، ومن تركه رددناه إليه ، إنه والله ما صاحب هذا الأمر

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٦٩٤) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٥٩) ، الثقات (٣ / ٣٣) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٥٣) ، تهذيب التهذيب (١ / ٤٦٤) ، الطبقات (٩٤ ، ١٩٠) ، خلاصة تذهيب تهذيب الكمال (١ / ١٣٠) ، الوافى بالوفيات (١٠ / ١٦٢) ، العبر (١ / ١٥ ، ١٦) ، البداية والنهاية (٦ / ٣٥٣) ، التاريخ الصغير (١ / ٧٣) ، تقريب التهذيب (١ / ١٠٣) ، التاريخ الكبير (٢ / ٩٨) ، الجرح والتعديل (٢ / ٣٧٤).

٥٥

يعنى أبو بكر بالمسئول عنه ولا المختلف فيه ، ولا بالخفى الشخص ، والمغمور القناة.

ثم سكت ، فعجب الناس من كلامه.

وقام حزن بن أبى وهب وهو الذي سماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سهلا فقال :

وقامت رجال من قريش كثيرة

فلم يك فى القوم القيام كخالد

ترقى فلم تزلق به صدر نعله

وكف فلم يعرض لتلك الأوابد

فجاء بها غراء كالبدر سهلة

تشبهها فى الحسن أم القلائد

أخالد لا تعدم لؤيّ بن غالب

قيامك فيها عند قذف الجلامد

كساك الوليد بن المغيرة مجده

وعلمك الشيخان ضرب القماحد

تقارع فى الإسلام عن صلب دينه

وفى الشرك عن أجلال جد ووالد

وكنت لمخزوم بن يقظة جنة

كلا اسميك فيها ماجد وابن ماجد

إذا ما غنا فى هيجها ألف فارس

عدلت بألف عند تلك الشدائد

ومن يك فى الحرب المصرة واحدا

فما أنت فى الحرب العوان بواحد

إذا ناب أمر فى قريش محلج

تشيب له روس العذارى النواهد

توليت منه ما يخاف وإن تغب

يقولوا جميعا خطنا غير شاهد

قال ابن إسحاق (١) : ولما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عظمت به مصيبة المسلمين ، فكانت عائشة فيما بلغنى تقول : لما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارتدت العرب واشرأبت اليهودية والنصرانية ونجم النفاق ، وصار المسلمون كالغنم المطيرة فى الليلة الشاتية لفقد نبيهم حتى جمعهم الله على أبى بكر.

وذكر ابن هشام (٢) عن أبى عبيدة وغيره من أهل العلم أن أكثر أهل مكة لما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هموا بالرجوع عن الإسلام وأرادوا ذلك حتى خافهم عتاب بن أسيد فتوارى فقام سهيل بن عمرو فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة ، فمن رابنا ضربنا عنقه ، فتراجع الناس وكفوا عن ما هموا به ، فظهر عتاب بن أسيد ، وقد تقدم لنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فى سهيل بن عمرو لعمر بن الخطاب وقد قال له : انزع ثنيتي سهيل بن عمرو يدلع لسانه فلا يقوم عليك

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٩١).

(٢) انظر المصدر السابق.

٥٦

خطيبا أبدا ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه» (١) ، فكان هذا المقام المتقدم هو الذي أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن أنس بن مالك قال : لما بويع أبو بكر فى السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر على المنبر ، فقام عمر فتكلم قبل أبى بكر ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ، ثم قال :

أيها الناس ، إنى قد كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت وما وجدتها فى كتاب الله ، ولا كانت عهدا عهده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكنى كنت أرى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سيد برنا ؛ يقول : يكون آخرنا ، وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى رسوله ، فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان هداه ، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم ، صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثانى اثنين إذ هما فى الغار ، فقوموا فبايعوه.

فبايع الناس أبا بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة.

ثم تكلم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالذى هو أهله ، ثم قال : أما بعد أيها الناس ، فإنى قد وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينونى ، وإن أسأت فقومونى ؛ الصدق أمانة والكذب خيانة ، والضعيف فيكم قوى عندى حتى أريح عليه حقه إن شاء الله ، والقوى فيكم ضعيف عندى حتى آخذ الحق منه إن شاء الله ، لا يدع قوم الجهاد فى سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل ، ولا تشيع الفاحشة فى قوم إلا عمهم الله بالبلاء ؛ أطيعونى ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لى عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله (٢).

وذكر موسى بن عقبة أن رجالا من المهاجرين غضبوا فى بيعة أبى بكر ، منهم على والزبير ، فدخلا بيت فاطمة ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعهما السلاح ، فجاءهما عمر بن الخطاب فى عصابة من المهاجرين والأنصار فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش الأشهليان وثابت بن قيس بن شماس الخزرجى فكلموهما حتى أخذ أحد القوم سيف الزبير فضرب به الحجر حتى كسره ثم قام أبو بكر فخطب الناس واعتذر إليهم وقال :

والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما قط ، ولا ليلة ، ولا سألتها الله قط سرا ولا علانية ، ولكنى أشفقت من الفتنة ، وما لى فى الإمارة من راحة ، ولقد قلدت أمرا عظيما

__________________

(١) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٣ / ٣١٠) ، دلائل النبوة للبيهقى (٦ / ٣٦٧).

(٢) انظر : البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٠١).

٥٧

ما لى به طاقة ولا يدان إلا بتقوية الله ، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكانى اليوم.

فقبل المهاجرون منه ما قاله واعتذر به ، وقال على والزبير : ما غضبنا إلا أنا أخرنا عن المشورة ، وإنا لنرى أن أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه لصاحب الغار وثانى اثنين ، وإنا لنعرف له شرفه وسنه ، ولقد أمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصلاة بالناس وهو حى.

وذكر غير ابن عقبة أن أبا بكر رضي‌الله‌عنه قام فى الناس بعد مبايعتهم إياه يقيلهم فى بيعتهم ويستقيلهم فيما تحمله من أمرهم ويعيد ذلك عليهم ، كل ذلك يقولون له : والله لا نقيلك ولا نستقيلك ، قدمك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمن ذا يؤخرك.

ولم يبدأ أبو بكر رضي‌الله‌عنه بعد أن فرغ أمر البيعة واطمأن الناس بشيء من النظر قبل إنفاذ بعث أسامة ، فقال له : امض لوجهك الذي بعثك له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكلمه رجال من المهاجرين والأنصار وقالوا : أمسك أسامة وبعثه ، فإنا نخشى أن تميل علينا العرب إذا سمعوا بوفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال أبو بكر وكان أفضلهم رأيا : أنا أحتبس بعثا بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقد اجترأت إذ على أمر عظيم ، والذي نفسى بيده لأن تميل العرب على أحب إلى من أن احتبس جيشا أمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. امض يا أسامة فى جيشك للوجه الذي أمرت به ، ثم اغز حيث أمرك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ناحية فلسطين ، وعلى أهل مؤتة فإن الله سيكفى ما تركت ، ولكن إن رأيت أن تأذن لعمر بن الخطاب بالتخلف لأستشيره وأستعين برأيه فإنه ذو رأى ونصيحة للإسلام وأهله فعلت. ففعل أسامة وأذن لعمر ، فأقام بالمدينة مع أبى بكر رضي‌الله‌عنهم أجمعين.

ذكر غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودفنه ، وما يتصل بذلك من أمره

صلوات الله عليه وسلامه ورحمته وبركاته

ولما فرغ الناس من بيعة أبى بكر الصديق رضي‌الله‌عنه وجمعهم الله عليه وصرف عنهم كيد الشيطان أقبلوا على تجهيز نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاشتغال به.

قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : لما أرادوا غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختلفوا فيه ، فقالوا : والله ما ندرى ، أنجرّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا ، أو نغسله وعليه ثيابه؟ قالت : فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلا ذقنه فى صدره ، وكلمهم

٥٨

مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو : أن اغسلوا النبيّ وعليه ثيابه. قالت : فقاموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فغسلوه وعليه قميصه ، يصبون الماء فوق القميص ، ويدلكونه والقميص دون أيديهم.

ويروى عن غير واحد أن الذين ولوا غسله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن عمه على بن أبى طالب ، وعمه العباس بن عبد المطلب ، وابناه الفضل ، وقثم ، وحبه أسامة بن زيد ، ومولاه شقران.

وقال أوس بن خولى أحد بنى عوف بن الخزرج وكان ممن شهد بدرا لعلى بن أبى طالب يومذاك أنشدك الله يا على وحظنا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال له : ادخل ، فدخل وجلس ، فحضر غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم ، فأسند على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى صدره ، وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه معه ، وكان أسامة وشقران هما اللذان يصبان الماء عليه ، وعلى يغسله ، قد أسنده إلى صدره ، وعليه قميصه يدلكه به من ورائه ، لا يفضى بيده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى يقول : بأبى أنت وأمى ، ما أطيبك حيا وميتا. ولم ير من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيء مما يرى من الميت (١).

وكانت عائشة رضي‌الله‌عنها تقول : لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا نساؤه (٢).

ولما فرغ من غسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفن فى ثلاث أثواب.

قال ابن إسحاق (٣) فى حديث يرفعه إلى على بن حسين : ثوبين صحاريين ، وبرد حبرة أدرج فيه إدراجا (٤).

وخرج مسلم فى صحيحه من حديث عائشة ، قالت : كفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ثلاثة

__________________

(١) انظر : الطبقات لابن سعد (٢ / ٢٨٠) ، تاريخ الطبرى (٢ / ٢٣٨) ، سنن ابن ماجه فى كتاب الجنائز باب ما جاء فى غسل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١ / ١٤٦٧).

(٢) انظر : مسند أبى داود الطيالسى (ص ٢١٥ ج ١٥٣٠).

(٣) انظر : السيرة (٤ / ٢٨٨).

(٤) انظر : التمهيد لابن عبد البر (٢ / ١٦٣) ، الدلائل للبيهقى (٧ / ٢٤٨) ، صحيح البخاري فى كتاب الجنائز (٣ / ١٢٦٤) ، صحيح مسلم فى كتاب الجنائز (٢ / ٦٥٠ ، ٦٥١) ، سنن أبى داود فى كتاب الجنائز باب فى الكفن (٣ / ٣١٥١) ، سنن الترمذى فى كتاب الجنائز (٣ / ٩٩٦) ، سنن النسائى (١٨٩٦) ، سنن ابن ماجه (١ / ١٤٦٩) ، موطأ مالك (١ / ٥ / ٢٢٣) ، مسند الإمام أحمد (٦ / ٤٠ ، ١٣٢ ، ١٦٥ ، ١٩٢ ، ٢٠٤ ، ٢٣١).

٥٩

أثواب بيض سحولية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة (١).

زاد الترمذى قال : فذكروا لعائشة قولهم : فى ثوبين وبرد حبرة. فقالت : قد أتى بالبرد ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه.

واختلف المسلمون فى موضع دفنه ، فقال قائل : ندفنه فى مسجده ، وقال آخر : بل ندفنه مع أصحابه ، وقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه : ادفنوه فى الموضع الذي قبض فيه ، فإن الله لم يقبض روحه إلا فى مكان طيب ، فعلموا أن قد صدق (٢).

وفى رواية أنه قال لهم : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ما قبض نبى إلا دفن حيث يقبض.

فرفع فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي توفى عليه ، فحفر له تحته.

ولما أرادوا أن يحفروا له ، وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة ، وكان أبو طلحة زيد بن سهل هو الذي يحفر لأهل المدينة ، وكان يلحد ، دعا العباس برجلين ، فقال لأحدهما : اذهب إلى أبى عبيدة بن الجراح ، وللآخر : اذهب إلى أبى طلحة. اللهم خر لرسول الله ، فوجد الذي توجه إلى أبى طلحة أبا طلحة ، فجاء به ، فلحد لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فلما فرغ من جهاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الثلاثاء ، وضع على سريره فى بيته ، ثم دخل الناس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلون عليه أرسالا الرجال ، حتى إذا فرغوا أدخل النساء حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان ، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد.

ويروى فى حديث أن عليا رضي‌الله‌عنه قال : لقد سمعنا همهمة ولم نر شخصا ، فسمعنا هاتفا يقول : ادخلوا رحمكم الله فصلوا على نبيكم.

ثم دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وسط الليل ، ليلة الأربعاء (٣).

قالت عائشة رضي‌الله‌عنها : ما علمنا بدفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى سمعنا صوت

__________________

(١) انظر : صحيح مسلم (٣ / ٣٩) ، صحيح البخاري (٢ / ٢١١) ، سنن أبى داود (٣ / ١٩٨ / ٣١٥١) ، سنن النسائى (٤٩٠ / ٣٥ ، ٣٦) ، طبقات ابن سعد (٢ / ٢٨٢ ـ ٢٨٤) ، دلائل النبوة للبيهقى (٧ / ٢٤٦ ـ ٢٤٩).

(٢) انظر : طبقات ابن سعد (٢ / ٢٧٥ ، ٢٩٢ ، ٢٩٩) ، دلائل النبوة للبيهقى (٢٥٩ ـ ٢٦١).

(٣) انظر : السيرة (٤ / ٢٨٩).

٦٠