الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

ذكر الجزيرة ، وذكر السبب الذي دعا عمر إلى الأمر بقصدها (١)

وذلك أن هرقل أغزى حمص فى البحر بعد أن غلب عليها المسلمون ، واستمد أهل الجزيرة على أبى عبيدة ومن فيها من المسلمين ، فأجابوه ، وبلغت أمداد الجزيرة ثلاثين ألفا ، سوى أمداد قنسرين من تنوخ وغيرهم ، فبلغوا من المسلمين كل مبلغ ، فضم أبو عبيدة مسالحه ، وعسكروا بفناء مدينة حمص ، وخندقوا عليها ، وكتبوا إلى عمر واستصرخوه ، وكان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، قد اتخذ فى كل مصر على قدرها خيولا من فضول أموال المسلمين ، عدة لما يعرض ، فكان من ذلك بالكوفة أربعة آلاف فرس يشتيها فى قبلة قصر الكوفة وميسرته ، بمكان يسمى لأجل ذلك الآرى ، ويربعها فيما بين الفرات والأبيات من الكوفة ، مما يلى العاقول ، فسمته الأعاجم : آخر الشاهجان ، يعنون معلف الأمراء.

وكان قيمه عليها سلمان بن ربيعة الباهلى فى نفر من أهل الكوفة ، يصنع سوابقها ، ويجريها فى كل يوم ، وبالبصرة نحو منها ، وقيمه عليها جزء بن معاوية ، وفى كل مصر من الأمصار على قدره ، فلما وقع إلى عمر كتاب أبى عبيدة يستصرخه ، كتب إلى سعد بن أبى وقاص : أن اندب الناس مع القعقاع بن عمرو ، وسرحهم من يومهم الذي يأتيك فيه كتابى إلى حمص ، فإن أبا عبيدة قد أحيط به ، وتقدم إليهم فى الجد والحث.

وكتب إليه أيضا : أن سرح سهيل بن عدى إلى الجزيرة فى الجند ، وليأت الرقة فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص ، وإن أهل قرقيسيا لهم سلف ، وسرح عبد الله بن عتبان إلى نصيبين ، ثم لينفضا حران والرها ، وسرح الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة من ربيعة وتنوخ ، وسرح عياض بن غنم ، فإن كان قتال فقد جعلت أمرهم جميعا إلى عياض ، فمضى القعقاع فى أربعة آلاف من يومهم الذي أتاهم فيه الكتاب نحو حمص ، وحديثهم مذكور فى أمر حمص من فتح الشام ، وإنما أعيد منه هنا هذا القدر تطريقا لحديث الجزيرة وتمهيدا له.

وخرج عياض بن غنم ، وأمراء الجزيرة ، فسلكوا طريق الجزيرة على الفراض وغيرها ، فتوجه كل أمير إلى الكورة التي أمّر عليها ، ولما بلغ أهل الجزيرة الذين أعانوا الروم على أهل حمص أن الجنود قد خرجت من الكوفة ، ولم يدروا ، الجزيرة يريدون أم حمص؟

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٥٠) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٧٦) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٣٧٢ ـ ٣٧٩).

٥٤١

تفرقوا إلى بلدانهم خوفا عليها ، وخلوا الروم ، فأتى سهيل بن عدى حتى انتهى إلى الرقة ، وقد حصر فيها أهلها الذين ارفضوا عن حمص ، فنزل عليهم ، وأقام محاصرهم حتى صالحوه ، وذلك أن قالوا فيما بينهم : إنكم بين أهل العراق وأهل الشام ، فما بقاؤكم على حرب هؤلاء وهؤلاء؟ فبعثوا إلى عياض ، وهو فى منزل واسط بالجزيرة ، فقبل منهم وعقد لهم عن أمرة سهيل بن عدى.

وخرج عبد الله بن عبد الله بن عتبان ، فسلك على دجلة حتى انتهى إلى الموصل ، عبر إلى بلد ثم أتى نصيبين ، فلقوا بالصلح ، وصنعوا كما صنع أهل الرقة ، وخافوا مثل الذي خافوا ، فعقد لهم عبد الله عن أمر عياض ، وأجروا ما أخذوه عنوة من الرقة ونصيبين ، ثم أجابوا مجرى أهل الذمة ، ولما أعطى أهل الرقة ونصيبين الطاعة ، ضم عياض سهيلا وعبد الله إليه ، فسار بالناس إلى حران ، فأخذ ما دونها ، فلما انتهى إليهم اتقوه بالإجابة إلى الجزية ، فقبل منهم ، وأجرى من أجاب بعد غلبته مجرى أهل الذمة ، ثم سرح سهيلا وعبد الله إلى الرها ، فاتقوهما بالإجابة إلى الجزية ، فقبل ذلك عياض منهم ، وأجرى من دونهم مجراهم ، فكانت الجزيرة أسهل البلدان أمرا وأيسره فتحا.

وقال سهيل بن عدى فى ذلك :

وصادمنا الفرات غداة سرنا

إلى أهل الجزيرة بالعوالى

ولم نثن الأعنة حين سرنا

بجرد الخيل والأسل النهال

فأجهضنا الأولى قادوا لحمص

وقد منوا أمانى الضلال

أخذنا الرقة البيضاء لما

رأينا الشهر لوح بالهلال

وأزعجت الجزيرة بعد خفض

وقد كانت تخوف بالزوال

وصار الخرج صافية إلينا

بأكناف الجزيرة عن تغال

وقال فى ذلك عبد الله بن عتبان :

ألا من مبلغ عنى بجيرا

فما بينى وبينك من بعاد

فإن تقبل تلاق العدل فينا

وتنسى ما عهدت من الجهاد

وإن تدبر فما لك من نصيب

نصيبى فيلحق بالعباد

وقد ألقت نصيبين إلينا

سواد البطن بالخرج السداد

لقد لقيت نصيبين الدواهى

بدهم الخيل والجرد الوراد

ونفست الجياد عن أهل حمص

جنود الروم أصحاب الفساد

٥٤٢

وعاين عامر منهم عديدا

ودهما مثل سائمة الجراد

وخرج الوليد بن عقبة (١) حتى قدم على بنى تغلب وعرب الجزيرة ، فنهض معه مسلمهم وكافرهم إلا أياد بن نزار ، فإنهم ارتحلوا بكليتهم ، فاقتحموا أرض الروم ، فكتب الوليد بذلك إلى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، فكتب إلى ملك الروم : إنه بلغنى أن حيا من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك ، فو الله لتخرجنه أو لننبذن إلى النصارى ، ثم لنخرجنهم إليك. فأخرجهم ملك الروم ، فتم منهم على الخروج أربعة آلاف ، وخنس بقيتهم ، فتفرقوا مما يلى الشام والجزيرة من بلاد الروم ، فكل أيادى فى أرض العرب من أولئك الأربعة آلاف ، وأبى الوليد أن يقبل من بنى تغلب إلا الإسلام ، وكتب فيهم إلى عمر ، فأجابه : إنما ذلك لجزيرة العرب لا يقبل منهم فيها إلا الإسلام ، فدعهم على أن لا ينصروا وليدا ، وأقبل منهم إذا أسلموا ، فقبل منهم على أن لا ينصروا وليدا ، ولا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام ، وأبى بعضهم إلا الجزاء ، ورضى منهم بما رضى به من العباد وتنوخ.

وفى حديث عن أبى سيف التغلبى (٢) : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان عاهد وفد بنى تغلب على أن لا ينصروا وليدا ، فكان ذلك الشرط على الوفد وعلى من وفدهم ، ولم يكن على غيرهم ، فلما كان زمان عمر قال مسلموهم : لا تنفروهم بالخراج فيذهبوا ، ولكن أضعفوا عليهم الصدقة التي تأخذونها من أموالهم ، فإنهم يغضبون من ذلك الجزاء على أن لا ينصروا وليدا إذا أسلم آباؤهم ، فخرج وفدهم فى ذلك إلى عمر ، رحمه‌الله.

ولما بعث الوليد إليه برءوس النصارى وبديانيهم ، فأمرهم عمر بأداء الجزية ، قالوا له :أبلغنا مأمننا ، فو الله لئن وضعت علينا الجزاء لندخلن أرض الروم ، وو الله لتفضحنا من بين العرب ، فقال لهم : أنتم فضحتم أنفسكم ، وخالفتم أمتكم ، والله لتؤدنها وأنتم صغرة قمأة ، ولئن هربتم إلى الروم لأكتبن فيكم ، ثم لأسبينكم. قالوا : فخذ منا شيئا ولا تسميه جزاء ، فقال : أما نحن فنسميه الجزاء ، وسموه أنتم ما شئتم. فقال له على بن أبى طالب وأصغى إليه عمر : يا أمير المؤمنين ، ألم يضعف عليهم سعد بن مالك الصدقة؟ قال : بلى،

__________________

(١) انظر ترجمته فى : طبقات ابن سعد (٦ / ٢٤) ، الجرح والتعديل (٩ / ٨) ، تاريخ ابن عساكر (١٧ / ٤٣٤) ، تذهيب التهذيب (٤ / ١٣٨) ، البداية والنهاية (٨ / ٢١٤) ، العقد الثمين (٧ / ٣٩٨) ، تهذيب التهذيب (١١ / ١٤٢) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٥٤٧٥) ، الإصابة ترجمة رقم (٩١٦٧).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٥٦).

٥٤٣

قال : فرضى به منهم جزاء ورضى القوم بذلك ، فبنو تغلب تسمى جزيتهم صدقة ، وأما تنوخ فلم تبال أى ذلك كان ، فهم يسمونها الجزية ، وكان فى بنى تغلب عز وامتناع ، فلا يزالون ينازعون الوليد فيهم بهم ويقول :

إذا ما عصبت الرأس منى بمشوذ

فغيك منى تغلب ابنة وائل

وبلغت عمر ، رحمه‌الله ، فخاف أن يخرجوه وأن يضعف صبره فيسطو عليهم ، فعزله وأمر عليهم فرات بن حيان وهند بن عمرو الجملى.

ذكر فتح سوق الأهواز ومناذر ونهرتير (١)

ذكر سيف عن شيوخه ، قالوا (٢) : لما انهزم الهرمزان بالقادسية ، جعل وجهه إلى أمته ، فملكهم وقاتل بهم من أرادهم ، فكان يغير على ميسان ودست ميسان من وجهين ، من مناذر ونهرتير ، فاستمد عتبة بن غزوان سعدا ، فأمده بنعيم بن مقرن ونعيم بن مسعود ، وأمرهما أن يكونا بين أهل ميسان ودست ميسان وبين نهرتير ، ووجه عتبة ، سلمى بن القين وحرملة بن مريطة الحنظليين ، فنزلا على حدود أرض ميسان ودست ميسان ، بينهم وبين مناذر ، ودعوا بنى العم بن مالك ، فخرج إليهم غالب الوائلى وكليب بن وائل الكلبى ، فتركا نعيما ونعيما ، وأتيا سلمى وحرملة ، وقالا : أنتما من العشيرة ، وليس لكما منزل ، فإذا كان يوم كذا فانهدوا للهرمزان ، فإن أحدنا يثور بمناذر ، والآخر بنهرتير ، فنقتل المقاتلة ، ثم يكون وجهنا إليكم ، فليس دون الهرمزان شيء إن شاء الله.

فلما (٣) كانت ليلة الموعد ، خرج سلمى وحرملة صبيحتها فى تعبئة ، وأنهضا نعيما ، ونعيم وسلمى على أهل البصرة ، ونعيم بن مقرن على أهل الكوفة ، فالتقوا هم والهرمزان بين دلث ونهرتير فاقتتلوا ، فبينا هم فى ذلك أقبل المدد من قبل غالب وكليب ، وأتى الهرمزان الخبر بأخذ مناذر ونهرتير ، فكسر الله فى ذرعه وذرع جنده ، وهزمه وإياهم ، فقتل المسلمون منهم ما شاءوا وأصابوا ما شاءوا ، واتبعوهم حتى وقفوا على شاطئ دجيل ، وأخذوا ما دونه ، وعسكروا بحيال سوق الأهواز ، وقد عبر الهرمزان جسر سوق الأهواز ، وأقام بها ، وصار دجيل بينه وبين المسلمين ، ورأى الهرمزان ما لا طاقة له به ،

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٧٢ ـ ٧٧) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٨٢ ، ٨٣).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٧٢ ، ٧٣).

(٣) انظر : الطبرى (٤ / ٧٤).

٥٤٤

فطلب الصلح وكتبوا إلى عتبة يستأمرونه فيه ، وكاتبه الهرمزان ، فأجاب عتبة إلى ذلك على الأهواز كلها ومهرجان قذق ، ما خلا نهرتير ومناذر ، وما غلبوا عليه من سوق الأهواز ، فإنا لا نرد عليهم ما تنقذنا.

وجعل عتبة على مناذر سلمى بن القين مسلحة وأمرها إلى غالب ، وحرملة على نهرتير ، وأمرها إلى كليب ، فكانا على مسالح البصرة ، وهاجرت طوائف بنى العم ، فنزلوا البصرة ، وجعلوا يتبايعون على ذلك ، وكتب عتبة بذلك إلى عمر ، رحمه‌الله ، ووفد وفدا منهم سلمى وحرملة ، وأمرهما أن يستخلفهما على عمليهما وغالب وكليب ، ووفد يومئذ من البصرة وفودا ، فأمرهم عمر أن يرفعوا حوائجهم ، فكلهم قال : أما العامة فأنت صاحبها ، فلم يبق إلا خواص أنفسنا ، فطلبوا لأنفسهم ، إلا ما كان من الأحنف بن قيس ، فإنه قال : يا أمير المؤمنين ، إنه لكما ذكروا ، ولقد يغرب عنك ما يحق علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامة ، وإنما ينظر الوالى فيما غاب عنه بأعين أهل الخير ، ويسمع بآذانهم ، وإنا لم نزل ننزل منزلا بعد منزل حتى أرزنا إلى البر ، وإن إخواننا من أهل الكوفة نزلوا فى مثل حدقة البعير الغاسقة ، من العيون العذاب ، والجنان الخصاب ، فتأتيهم ثمارهم غضة ، لم تخضد ، وإنا معاشر أهل البصرة نزلنا بسبخة هشاشة زعقة نشاشة ، طرف لها فى الفلاة ، وطرف لها فى البحر الأجاج ، يجر إليها ما جر فى مثل مرئ النعامة ، دارنا مفعمة ، ووظيفتنا ضيقة ، وعددنا كثير ، وأشرافنا قليل ، وأهل البلاء فينا كثير ، ودرهمنا كبير ، وفقيرنا صغير ، وقد وسع الله علينا ، وزادنا فى أرضنا ، فوسع علينا يا أمير المؤمنين ، وزدنا وظيفة ، تطوف علينا ، ونعيش بها.

فنظر عمر إلى منازلهم التي كانوا بها ، إلى أن صاروا إلى الحجر ، فنفلهموها ، وأقطعهم إياها ، وكان ذلك مما كان لآل كسرى ، فصار فيئا فيما بين دجلة والحجر ، فاقتسموه ، وكان سائر ما كان آل كسرى فى أرض البصرة على حال ما كان فى أرض الكوفة ينزلونه من أحبوا ، ويقتسمونه بينهم ، لا يستأثرون به على بدء ولا ثنى ، بعد ما يرفعون خمسه إلى الوالى. فكانت قطائع أهل البصرة نصفين ، نصفها مقسوم ، ونصفها متروك للعسكر وللاجتماع ، وكان أصحاب الألفين ممن شهد القادسية ثم أتى البصرة مع عتبة خمسة آلاف ، وكانوا بالكوفة ثلاثين ألفا ، فألحق عمر أعدادهم بأهل البصرة ، حتى ساواهم بهم ، ألحق جميع من شهد الأهواز ، ثم قال : هذا الغلام سيد أهل البصرة ، يعنى الأحنف ، وكتب إلى عتبة أن يسمع منه ، ورد سلمى وحرملة وغالبا وكليبا إلى مناذر ونهرتير ، فكانوا عدة فيها لما يعرض.

٥٤٥

حديث فتح الأهواز ومدينة سرق

واتصل ما بين أهل البصرة وبين أهل ذمتهم ، على ما ذكر ، إلى أن وقع بين الهرمزان وبين غالب وكليب فى حدود الأرضين اختلاف ، فحضر سلمى وحرملة لينظرا فيما بينهم ، فوجدا غالبا وكليبا محقين ، والهرمزان مبطلا ، فحالا بينه وبينهما ، فكفر الهرمزان ، ومنع ما قبله ، واستعان بالأكراد ، فكثف جنده ، وكتبوا ببغيه وكفره إلى عتبة ، فكتب بذلك إلى عمر ، فأمدهم عمر بحرقوص بن زهير السعدى ، وكانت له صحبة ، وأمره على القتال ، وعلى ما غلب عليه. فنهدوا معه ، ونهد الهرمزان بمن معه حتى إذا انتهوا إلى جسر سوق الأهواز عبر الهرمزان فوق الجسر ، بعد أن خيرهم ، فقالوا له : اعبر ، فاقتتلوا هنالك ، فهزم الله الهرمزان ، ووجه نحو رامهرمز ، وافتتح حرقوص سوق الأهواز ، فأقام بها ، ونزل الجبل ، واتسقت له بلاد سوق الأهواز إلى تستر ، ووضع الجزية ، وكتب بالفتح والأخماس إلى عمر ، فحمد الله ، ودعا له بالثبات والزيادة.

وكان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، قد عهد إلى حرقوص : إن فتح الله عليهم أن يبعث جزء بن معاوية فى أثر الهرمزان ، وهو متوجه إلى رامهرمز ، فما زال يقاتلهم حتى انتهى إلى قرية الشغر ، وأعجزهم بها الهرمزان ، فمال منها جزء إلى دورق ، ومدينة سرق فيها قوم لا يطيقون منعها ، فأخذها صافية ، ودعا من هرب إلى الجزاء والمنعة ، فأجابوه ، وكتب بذلك كله إلى عمر وإلى عتبة ، فكتب عمر ، رحمه‌الله ، إلى جزء وإلى حرقوص بلزوم ما غلبا عليه ، والمقام حتى يأتيهما أمره ، ففعلا ، واستأذنه جزء فى عمران ما دثر ، فأذن له ، فشق الأنهار ، وعمر الموات.

ولما نزل الهرمزان رامهرمز وضاقت عليه الأهواز بالمسلمين ، طلب الصلح وراسل فيه حرقوصا وجزءا ، فكتب فيه حرقوص إلى عمر ، فكتب إليه وإلى عتبة ، يأمر بقبول صلح الهرمزان على ما لم يفتتحوا من البلاد ، على رامهرمز وتستر والسوس وجندى سابور والبنيان ومهرجان نقذق ، فقبل ذلك الهرمزان ، وأجابهم إليه ، فأقام أمراء الأهواز على ما أسند إليهم عمر ، وأقام الهرمزان على صلحه يجبى إليهم ويمنعونه ، وإن غاوره أكراد فارس أعانوه وذبوا عنه.

وكتب عمر إلى عتبة أن يوفد عليه عشرة من صالحاء جند البصرة ، فوفد إليه منهم عشرة ، فيهم الأحنف بن قيس ، فلما قدموا عليه ، قال للأحنف : إنك عندى مصدق ، وقد رأيتك رجلا ، فأخبرنى : أظلمت الذمة ، ألمظلمة نفروا ، أم لغير ذلك؟ فقال : بل لغير مظلمة ، والناس على ما تحب ، قال : فنعم إذا انصرفوا إلى رحالكم.

٥٤٦

وكتب عمر إلى عتبة : أن اصرف الناس عن الظلم ، واتقوا الله ، واحذروا أن يدال عليكم لغدر يكون منكم أو بغى ، فإنكم إنما أدركتم بالله ما أدركتم على عهد عاهدكم عليه ، وقد تقدم إليكم فيما أخذ عليكم ، فأوفوا بعهد الله ، وقوموا على أمره يكن لكم عونا وناصرا.

وبلغ عمر ، رحمه‌الله ، أن حرقوصا نزل جبل الأهواز والناس يختلفون إليه ، والجبل كئود يشق على من رامه ، فكتب إليه : بلغنى أنك نزلت منزلا كئودا لا تؤتى فيه إلا على مشقة ، فأسهل ولا تشقن به على مسلم ولا معاهد ، وقم فى أمرك على رجل تدرك الآخرة وتصف لك الدنيا ، ولا تدركنك فترة ولا عجلة ، فتكدر دنياك وتذهب آخرتك.

ذكر غزو المسلمين أرض فارس (١)

قالوا (٢) : وكان المسلمون بالبصرة وأرضها يومئذ سوادها ، والأهواز على ما هم عليه ، ما غلبوا عليه منها ففى أيديهم ، وما صلحوا عليه ففى أيدى أهله يؤدون الخراج ، ولا يدخل عليهم ، ولهم الذمة والمنعة ، وعميد الصلح الهرمزان. وقد قال عمر ، رحمه‌الله : حسبنا أهل البصرة سوادهم والأهواز ، وددت أن بيننا وبين فارس جبلا من نار لا نصل إليهم منه ولا يصلون إلينا ، كما قال لأهل الكوفة : وددت أن بينهم وبين الجبل جبلا من نار لا يصلون إلينا منه ولا نصل إليهم.

وكان العلاء بن الحضرمى على البحرين ، رده إليها عمر بعد أن عزله عنها بقدامة بن مظعون ، وكان العلاء يناوئ سعد بن أبى وقاص لصدع صدعه القضاء بينهما ، فطار العلاء على سعد فى الردة بالفضل ، فلما ظفر سعد بالقادسية ، وأزاح الأكاسرة ، واستعلى بأعظم مما كان جاء به العلاء ، أسر العلاء أن يصنع شيئا فى الأعاجم ، ورجاء أن يدال كما قد كان أديل ، ولم يقدر العلاء ، ولم ينظر فيما بين فضل الطاعة وفضل المعصية وعواقبها ، فندب أهل البحرين إلى أهل فارس ، فتسرعوا إلى ذلك ، ففرقهم أجنادا ، على أحدها الجارود بن المعلى ، وعلى الآخر السوار بن همام ، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى ، وهو مع ذلك على جماعة الناس ، فحملهم فى البحر إلى فارس بغير إذن عمر ،

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٧٩ ـ ٨٣) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٧٦ ـ ٢٧٩).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٧٩).

٥٤٧

وكان عمر ، رحمه‌الله ، لا يأذن لأحد فى ركوبه غازيا ، يكره التغرير بجنده استنانا بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأبى بكر ، إذ لم يغزيا فيه أحدا.

فعبرت تلك الجنود من البحرين إلى فارس ، فخرجوا فى اصطخر ، وبإزائهم أهل فارس ، قد اجتمعوا على الهربذ ، فحالوا بين المسلمين وبين سفنهم ، فقام خليد فى الناس ، فقال : إن الله إذا قضى لأحد أمرا جرت به المقادير حتى يصيبه ، وإن هؤلاء القوم لم يزيدوا بما صنعوا على أن دعوكم لحربهم ، وإنما جئتم لمحاربتهم ، والسفن والأرض لمن غلب ، (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة : ٤٥].

فأجابوه ، فصلوا الظهر ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالا شديدا فى موضع يدعى طاوس ، وجعل السوار يحض ويذكر قومه عبد القيس حتى قتل ، وقتل الجارود ، ويومئذ ولى عبد الله بن المسور والمنذر بن الجارود حياتهما إلى أن ماتا. وجعل خليد بن المنذر يقول للمسلمين : انزلوا ، فنزلوا فقاتلوا القوم فقتل أهل فارس مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها ، ثم خرج المسلمون يريدون البصرة إذ غرقت سفنهم ، ولم يجدوا إلى الرجوع فى البحر سبيلا ، فوجدوا شهرك قد أخذ عليهم الطرق فعسكروا وامتنعوا.

ولما بلغ عمر ، رحمه‌الله ، ما صنع العلاء من بعثه ذلك الجيش فى البحر ، يعنى قبل أن يبلغه ما عرض لهم ، ألقى فى روعه نحو من الذي كان ، فاشتد غضبه على العلاء وكتب إليه بعزله وتوعده وأمره بأثقل الأشياء عليه ، وأبغض الوجوه عليه ، بتأمر سعد عليه ، وقال : الحق بسعد بن أبى وقاص فيمن قبلك ، فخرج نحوه بمن معه.

وكتب عمر إلى عتبة بن غزوان : أن العلاء بن الحضرمى حمل جندا من المسلمين ، فأقطعهم أهل فارس ، وعصانى ، وأظنه لم يرد الله بذلك ، فخشيت عليهم ألا ينصروا وأن يغلبوا وينشبوا ، فاندب الناس إليهم ، واضممهم إليك من قبل أن يجتاحوا ، فندب عتبة الناس ، وأخبرهم بكتاب عمر ، فانتدب عاصم بن عمرو وعرفجة بن هرثمة وحذيفة بن محصن ومجزأة بن ثور والأحنف بن قيس وصعصعة بن معاوية وآخرون من رءوس المسلمين وفرسانهم ، فخرجوا فى اثنى عشر ألفا على البغال يجنبون الخيل ، وعليهم أبو سبرة بن أبى رهم ، أحد بنى مالك بن حسل بن عامر بن لؤيّ ، والمسالح على حالها بالأهواز والذمة ، وهم ردء الغازى والمقيم ، فسار أبو سبرة بالناس ، وساحل لا يلقاه أحد ، ولا يعرض له حتى التقى بخليد وأصحابه بحيث أخذ عليهم الطريق.

وكان أهل اصطخر حيث أخذوا عليهم الطريق وأنشبوهم ، استصرخوا عليهم أهل

٥٤٨

فارس كلهم ، فضربوا إليهم من كل وجه وكورة ، فالتقوا هم وأبو سبرة ، وقد توافت إلى المسلمين أمدادهم وإلى المشركين أمدادهم ، وعلى المشركين شهرك ، وهو الذي كان أخذ عليهم الطريق غب وقعة القوم بطاوس ، فاقتتلوا ، ففتح الله على المسلمين ، وقتل المشركون وأصاب المسلمون منهم ما شاءوا ، وهى الغزاة التي شرفت بها نابتة البصرة ، فكانوا أفضل المصرين نابتة ، ثم انكفأوا بما أصابوا ، وقد عهد إليهم عتبة وكاتبهم بالحث وقلة العرجة ، فانضموا إليه بالبصرة ، فرجع أهلها إلى منازلهم منها ، وتفرق الذين تنقذوا من أهل هجر إلى قبائلهم ، والذين تنقذوا من عبد القيس فى موضع سوق البحرين.

ولما أحرز عتبة الأهواز وأوطأ فارس ، استأذن عمر فى الحج ، فأذن له ، فلما قضى حجه استعفاه ، فأبى أن يعفيه ، وعزم عليه ليرجعن إلى عمله ، فدعا الله ثم انصرف ، فمات فى بطن نخلة ، فدفن بها ، ومر به عمر زائرا لقبره ، فقال : أنا قتلتك ، لو لا أنه أجل معلوم وكتاب مرقوم ، وأثنى عليه بالفضل. ومات عتبة وقد استخلف على الناس أبا سبرة بن أبى رهم وعماله على حالهم ، ومسالحه على نهرتير ومناذر وسوق الأهواز وسرق. وأمّر عمر أبا سبرة على البصرة بقية السنة التي مات فيها عتبة ، ثم عزله ، واستخلف عبد الرحمن بن سهل ، ثم استعمل المغيرة بن شعبة ، فعمل عليها بقية تلك السنة التي ولاه فيها والسنة التي تليها ، لم ينتقض عليه أحد فى عمله ، وكان مرزوق السلامة.

ذكر فتح رامهرمز والسوس وتستر وأسر الهرمزان (١)

ذكر سيف (٢) عن أصحابه قالوا : لم يزل يزدجرد يثير أهل فارس أسفا على ما خرج عنهم ، فكتب إليهم وهو بمرو ، يذكرهم الأحقاد ويؤنبهم ، أن قد رضيتم يا أهل فارس أن غلبتكم العرب على السواد وما والاه ، وعلى الأهواز ، ثم لم يرضوا بذلك حتى يوردوكم فى بلادكم وعقر داركم ، فخرجوا وتكاتبوا هم وأهل الأهواز ، وتعاهدوا وتواثقوا على النصرة ، وجاءت الأخبار حرقوص بن زهير وجزءا وسلمى وحرملة عن خبر غالب وكليب ، فكتبوا إلى عمر وإلى المسلمين بالبصرة ، فكتب عمر إلى سعد : أن ابعث إلى الأهواز بعثا كثيفا مع النعمان بن مقرن وعجل ، وابعث سويد بن مقرن ، وعبد

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٨٣) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ١٨٧ ، ١٨٨) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٨٥ ـ ٨٩).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٨٣ ، ٨٤).

٥٤٩

الله بن ذى السهمين ، وجرير بن عبد الله الحميرى ، وجرير بن عبد الله البجلى ، فلينزلوا بإزاء الهرمزان حتى يتيقنوا أمره.

وكتب إلى أبى موسى ، وهو على البصرة : أن ابعث إلى الأهواز جندا كثيفا ، وأمر عليهم سهيل بن عدى ، وابعث معه البراء بن مالك ، وعاصم بن عمرو ، ومجزأة بن ثور ، وكعب بن سور ، وعرفجة بن هرثمة ، وحذيفة بن محصن ، وعبد الرحمن بن سهل ، والحصين بن معبد ، وعلى أهل الكوفة والبصرة جميعا أبو سبرة بن أبى رهم ، وكل من أتاه فمدد له.

وخرج النعمان بن مقرن فى أهل الكوفة ، فأخذ وسط السواد حتى قطع دجلة بحيال ميسان ، ثم أخذ البر إلى الأهواز على البغال يجنبون الخيل ، وانتهى إلى نهرتير فجازها ، وجاز مناذر ، ثم شق الأهواز ، وخلف حرقوصا وسلمى وحرملة ، ثم سار نحو الهرمزان ، وهو برامهرمز ، فلما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره ، ورجا أن يقتطعه ، وقد طمع فى نصر أهل فارس ، وقد أقبلوا نحوه ، ونزلت أوائل أمدادهم بتستر ، فالتقى النعمان والهرمزان بأزبك ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثم إن الله هزم الهرمزان ، وأخلى رامهرمز ولحق بتستر ، وسار النعمان بن أزبك حتى نزل برامهرمز ، ثم صعد لإيذج ، فصالحه عليها تيرويه ، فقبل منه وتركها ، ورجع إلى رامهرمز ، فأقام بها.

وجاء سهل فى أهل البصرة حتى نزلوا سوق الأهواز ، فأتاهم بها خبر الوقعة التي أوقعها النعمان بالهرمزان حتى لحق بتستر ، فمالوا نحوه من سوق الأهواز ، فكان وجههم منها إلى تستر ، ومال النعمان إليها من رامهرمز ، وخرج سلمى وحرملة وحرقوص وجزء ، فنزلوا جميعا على تستر ، وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس وأهل الجبال وأهل الأهواز فى الخنادق ، فكتبوا بذلك إلى عمر ، رحمه‌الله ، واستمده أبو سبرة فأمده بأبى موسى ، فساجلوهم ، وعلى أهل الكوفة النعمان ، وعلى أهل البصرة أبو موسى ، وعلى الفريقين أبو سبرة ، فحاصروهم أشهرا ، وأكثروا فيهم القتل.

وقتل البراء بن مالك فيما بين أول ذلك الحصار إلى أن فتح الله على المسلمين مبارزة مائة ، سوى من قتل فى غير المبارزة ، وقتل مجزأة بن ثور مثل ذلك ، وقتل كعب بن سور وأبو تميمة كل واحد منهما مثل ذلك ، وهؤلاء فى عدة من أهل البصرة ، وفعل مثل ذلك من الكوفيين رجال ، منهم حبيب بن قرة ، وربعى بن عامر ، وعارم بن عبد الأسد ، وكان من الرؤساء ، فى ذلك ، ما ازدادوا به إلى ما كان منهم ، وزاحفهم المشركون فى أيام

٥٥٠

تستر ثمانين زحفا تكون عليهم مرة ولهم أخرى ، حتى إذا كان فى آخر زحف منها واشتد القتال ، قال المسلمون : يا براء ، أقسم على ربك ليهزمنهم لنا ، فقال البراء بن مالك : اللهم اهزمهم لنا واستشهدنى ، فهزمهم حتى أدخلوهم خنادقهم ثم اقتحموها عليهم ، فأرزوا إلى مدينتهم ، فأحاط المسلمون بها.

فبينا هم على ذلك وقد ضاقت المدينة بهم ، وطالت حربهم ، خرج رجل إلى النعمان فاستأمنه على أن يدله على مدخل يوصل منه إلى المدينة ، ويكون منه فتحها ، فأمنه النعمان ، فقال : انهدوا من قبل مخرج الماء ، ورمى رجل آخر غير ذلك الرجل فى ناحية أبى موسى بسهم يستأمنهم فيه على أن يدلهم على ذلك ، فأمنوه فى نشابة ، فرمى إليهم بأخرى ، ودلهم على مخرج الماء ، فندب الأميران أصحابهما ، فانتدب لأبى موسى كعب ابن سور ومجزأة بن ثور وبشر كثير.

وانتدب للنعمان أيضا بشر كثير ، منهم : سويد بن المثعبة ، وعبد الله بن بشر الهلالى ، فنهدوا ، فالتقوا هم وأهل البصرة على ذلك المخرج ، وقد تسرب سويد وعبد الله ، فاتبعهم الفريقان ، حتى إذا اجتمعوا فيها ، والناس على رجل من خارج ، كبروا فيها ، وكبر المسلمون من خارج ، وفتحت الأبواب ، فاجتلدوا فيها ، فأناموا كل مقاتل ، وأرز الهرمزان إلى القلعة فأطاف به الذين دخلوا من مخرج الماء ، فلما عاينوه وأقبلوا قبله ، قال لهم : ما شئتم ، قد ترون ضيق ما أنا فيه وأنتم ، وإن معى فى جعبتى مائة نشابة ، وو الله لا تصلون إلىّ ، ما دامت معى نشابة ، وما يقع لى سهم إلا فى رجل ، وما خير أسارى إذا أصبت منكم مائة بين قتيل وجريح ، قالوا : فتريد ما ذا؟ قال : أن أضع يدى فى أيديكم على حكم عمر يصنع بى ما شاء ، قالوا : فذلك لك.

فرمى بقوسه ، وأمكنهم من نفسه ، فشدوه وثاقا ، واقتسموا ما أفاء الله عليهم ، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف ، والراجل ألفا. وجاء الرجل الذي خرج بنفسه إلى النعمان ، والآخر الذي رمى بالسهم فى ناحية أبى موسى ، فقالا للمسلمين : من لنا بالأمان الذي طلبنا علينا وعلى من مال علينا؟ قالوا : ومن مال معكم؟ قالوا : من أغلق عليه بابه مدخلكم ، فأجازوا ذلك لهم ، وقتل ليلتئذ من المسلمين ناس كثير ، منهم مجزأة بن ثور ، والبراء بن مالك ، قتلهما الهرمزان.

وخرج أبو سبرة من تستر فى أثر الفل ، وقد قصد السوس ، وأخرج معه النعمان وأبا موسى الهرمزان ، حتى نزلوا على السوس ، وكتبوا بذلك إلى عمر ، فكتب إلى أبى موسى

٥٥١

برده على البصرة ، فانصرف عليها ، وأمر عمر على جند البصرة المقترب ، وهو الأسود بن ربيعة ، وكتب إلى زر بن عبد الله بن كليب الفقيمى أن يسير إلى جندى سابور ، فسار حتى نزل عليها ، وكان الأسود وزر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المهاجرين إليه ، الوافدين عليه ، فقال له الأسود لما وفد عليه : جئت لأقترب إلى الله بصحبتك ، فسماه المقترب ، وقال له زر : يا رسول الله ، فنى بطنى ، وكثر إخوتنا ، فادع الله لنا ، فقال : «اللهم أوف لزر عمارته» ، فتحول إليهم العدد.

ووفد أبو سبرة وفدا ، فيهم أنس بن مالك ، والأحنف بن قيس ، وأرسل الهرمزان معهم ، فقدموا مع أبى موسى البصرة ، ثم خرجوا نحو المدينة ، حتى إذا دخلوها هيئوا الهرمزان فى هيئته ، فألبسوه كسوته من الديباج ، ووضعوا على رأسه تاجا مكللا بالياقوت ، كيما يراه عمر والمسلمون فى هيئته ، ثم خرجوا به على الناس يريدون عمر فى منزله فلم يجدوه ، فسألوا عنه ، فقيل لهم : جلس فى المسجد لوفد قدموا عليه من الكوفة ، فانطلقوا يطلبونه فى المسجد فلم يروه.

فلما انصرفوا مروا بغلمان يلعبون ، فقالوا لهم : ما تلددكم تريدون أمير المؤمنين؟ فإنه نائم فى ميمنة المسجد ، متوسد برنسه ، وكان عمر ، رحمه‌الله ، قد جلس لوفد الكوفة فى برنس ، فلما فرغ من كلامهم وارتفعوا عنه ، وأخلوه نزع برنسه ثم توسده فنام ، فانطلقوا ومعهم النظارة ، حتى إذا رأوه جلسوا دونه ، وليس فى المسجد نائم ولا يقظان غيره ، والدرة فى يده ، فقال الهرمزان : أين عمر؟ قالوا : هو ذا ، وجعل الوفد يشيرون إلى الناس أن اسكتوا عنه ، فقال لهم الهرمزان : أين حرسه وحجابه؟ فقالوا : ليس له حارس ولا حاجب ، ولا كاتب ولا ديوان ، فقال : ينبغى له أن يكون نبيا ، قالوا : بل يعمل عمل الأنبياء ، وكثر الناس ، فاستيقظ عمر ، رحمه‌الله ، بالجلبة ، فاستوى جالسا ، ثم نظر إلى الهرمزان ، فقال : الهرمزان؟ قالوا : نعم ، فتأمله وتأمل ما عليه ، وقال : أعوذ بالله من النار ، وأستعين بالله ، ثم قال : الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وأشباهه ، يا معشر المسلمين ، تمسكوا بهذا الدين ، واهتدوا بهدى نبيكم ، ولا تبطرنكم الدنيا فإنها غرارة.

فقال الوفد : هذا ملك الأهواز فكلمه ، فقال : لا ، حتى لا يبقى عليه من حليته شيء ، فرمى عنه بكل شيء كان عليه إلا شيئا يستره ، وألبسوه ثوبا صفيقا ، فقال عمر : هى يا هرمزان ، كيف رأيت وبال الغدر وعاقبة أمر الله؟ فقال : يا عمر ، إنا وإياكم فى الجاهلية كان الله قد خلى بيننا وبينكم ، فغلبناكم إذ لم يكن معنا ولا معكم ، فلما كان معكم غلبتمونا ، فقال عمر : إنما غلبتمونا فى الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا ، ثم قال عمر : ما

٥٥٢

عذرك وما حجتك فى انتقاضك مرة بعد مرة؟ فقال : أخاف أن تقتلنى قبل أن أخبرك ، قال : لا تخف ذلك. واستسقى ماء ، فأتى به فى قدح غليظ ، فقال : لو مت عطشا لم أستطع أن أشرب فى مثل هذا ، فأتى به فى إناء يرضاه ، فجعلت يده ترعد ، وقال : إنى أخاف أن أقتل وأنا أشرب ، فقال عمر : لا بأس عليك حتى تشربه ، فأكفأه.

فقال عمر : أعيدوا عليه ، ولا تجمعوا عليه القتل والعطش ، فقال : لا حاجة لى فى الماء ، إنما أردت أن أستأمن به ، فقال عمر : إنى قاتلك ، فقال : قد أمنتنى ، قال : كذبت ، قال أنس : صدق يا أمير المؤمنين ، قد أمنته ، قال : ويحك يا أنس ، أنا أؤمن قاتل مجزأة والبراء ابن مالك ، والله لتأتين بمخرج وإلا عاقبتك. قال : قلت له : لا بأس عليك حتى تخبرنى ، وقلت له : لا بأس عليك حتى تشربه ، وقال له من حوله مثل ذلك ، فأقبل الهرمزان ، وقال : خدعتنى ، والله لا أنخدع إلا أن تسلم ، فأسلم ففرض له على ألفين وأنزله المدينة.

ويروى أن المغيرة بن شعبة كان الترجمان يومئذ بين عمر وبين الهرمزان إلى أن جاء المترجم ، وكان المغيرة يفقه من الفارسية شيئا ، فقال له عمر : ما أراك بها حاذقا ، ما أحسنها أحد منكم إلا خب ، ولا خب إلا دق ، إياكم وإياها ، فإنها تنقص الإعراب.

ذكر فتح السوس

والأخبار التي نذكرها بعد ذلك شديدة الخلاف لبعض ما تقدم ، وكذلك قال أبو جعفر الطبرى (١) : إن أهل السير اختلفوا فى أمرها. قال : فأما المدائنى فإنه قال : لما انتهى فل جلولاء إلى يزدجرد وهو بحلوان ، دعا بخاصته وبالموبذ ، فقال : إن القوم لا يلقون جمعا إلا فلوه ، فما ترون؟ قال الموبذ : نرى أن نخرج فننزل اصطخر ، فإنها بيت المملكة ، وتضم إليك خزائنك ، وتوجه الجنود ، فأخذ برأيه ، وسار إلى أصبهان ودعا سياه ، فوجه ثلاثمائة فيهم سبعون من عظمائهم ، وأمره أن ينتخب من كل بلدة يمر بها من أحب ، فمضى سياه واتبعه يزدجرد ، حتى نزلوا اصطخر وأبو موسى محاصر سوس ، فوجه سياه إلى السوس ، والهرمزان إلى تستر ، فنزل سياه منزلا تحول عنه حين سار أبو موسى إلى تستر.

فنزل سياه بينها وبين رامهرمز ، ودعا الرؤساء الذين كانوا خرجوا معه من أصبهان ، وقد عظم أمر المسلمين عنده ، فقال : قد علمتم أنا كنا نتحدث أن هؤلاء القوم أهل

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٨٩).

٥٥٣

الشقاء والبؤس سيغلبون على هذه المملكة ، وتروث دوابهم فى إيوانات اصطخر ومصانع الملوك ، ويشدون خيولهم بشجرها ، وقد غلبوا على ما رأيتم ، وليس يلقون جندا إلا فلوه ، ولا ينزلون بحصن إلا فتحوه ، فانظروا لأنفسكم. قالوا : رأينا رأيك ، قال : فليكفنى كل رجل منكم حشمه والمنقطعين إليه ، فإنى أرى أن ندخل فى دينهم.

فوجهوا شيرويه فى عشرة من الأساورة إلى أبى موسى ، فقدم عليه ، فقال : إنا قد رغبنا فى دينكم ، فنسلم على أن نقاتل العجم معكم ، وإن قاتلنا أحد من العرب منعتمونا منهم ، وننزل حيث شئنا ، ونكون فيمن شئنا منكم ، وتلحقونا بأشرف العطاء ، ويعقد لنا بذلك الأمير الذي هو فوقك ، فقال أبو موسى : بل لكم ما لنا ، وعليكم ما علينا ، فقال: لا نرضى.

وكتب أبو موسى إلى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، بأمرهم ، فأجابه : أعطهم ما سألوك ، فكتب لهم أبو موسى ، فأسلموا ، وشهدوا معه حصار تستر ، فلم يكن أبو موسى يرى منهم جدا ولا نكاية ، فقال لسياه : يا أعور ، ما أنت وأصحابك كما كنا نرى ، قال : لسنا مثلكم فى هذا الدين ، ولا بصائرنا كبصائركم ، وليس لنا فيكم حرم نحامى عنهم ، ولم تلحقونا بأشرف العطاء ولنا سلاح وكراع وأنتم حسر. فكتب أبو موسى إلى عمر فى ذلك ، فكتب إليه : أن ألحقهم على قدر البلاء فى أفضل العطاء وأكثر شيء أخذه أحد من العرب. ففرض لمائة منهم فى ألفين ألفين ، ولستة منهم فى ألفين وخمسمائة ، لسياه وخسرو وابنه مقلاص وشهريار وشهرويه وأفريذون ، وإياهم عنى الشاعر بقوله :

ولما رأى الفاروق حسن بلائهم

وكان بما يأتى من الأمر أبصرا

فسن لهم ألفين فرضا وقد رأى

ثلاثمائين فرض عك وحميرا

قال : فحاصروا حصنا بفارس ، فمشى سياه فى آخر الليل فى زى العجم حتى رمى بنفسه إلى جانب الحصن ، ونضح ثيابه بالدم ، وأصبح أهل الحصن ، فرأوا رجلا فى زيهم صريعا ، فظنوا أنه رجل منهم أصيبوا به ، ففتحوا باب الحصن ليدخلوه ، وثار فقاتلهم حتى دخلوا عن باب الحصن وهربوا ، ففتح الحصن وحده ودخله المسلمون ، وقوم يقولون : فعل هذا الفعل سياه بتستر ، وحاصروا حصنا آخر ، فمشى خسرو إلى الحصن ، فأشرف عليه رجل منهم فكلمه ، فرماه خسرو بنشابة فقتله.

٥٥٤

أما سيف (١) ، فإنه ذكر بإسناد له قال : لما نزل أبو سبرة فى الناس على السوس ، وأحاط المسلمون بها ، وعليهم شهريار أخو الهرمزان ، ناوشهم مرات ، كل ذلك يصيب أهل السوس من المسلمين ، فأشرف عليهم الرهبان والقسيسون ، فقالوا : يا معشر العرب ، إن مما عهد إلينا علماؤنا وأوائلنا ، أنه لا يفتح السوس إلا الدجال ، أو قوم فيهم الدجال ، فإن كان الدجال فيكم فستفتحونها ، وإن لم يكن معكم فلا تعنوا بحصارنا ، وجاء صرف أبى موسى إلى البصرة ، وعمل مكانه على جندها الذين بالسوس المقترب ، والنعمان على أهل الكوفة ، فحاصر السوس مع أبى سبرة.

فجاء كتاب عمر بصرف النعمان إلى أهل نهاوند لاجتماع الأعاجم بها ، فتهيأ للمسير ، ثم استقبل فى تعبئته ، فناوش أهل السوس قبل مضيه ، فعاد الرهبان والقسيسون ، وأشرفوا على المسلمين ، وغاظوهم ، وصاف ابن صياد يومئذ مع النعمان فى خيله ، فأتى باب السوس غضبان فدقه برجله ، وقال : انفتح ، فتقطعت السلاسل ، وتكسرت الأغلاق ، وفتحت الأبواب ، ودخل المسلمون ، فألقى المشركون بأيديهم ، ونادوا : الصلح الصلح ، فأجابهم المسلمون إلى ذلك ، بعد ما دخلوها عنوة ، واقتسموا ما أصابوا قبل الصلح ، ثم افترقوا.

فتح جندى سابور

قالوا (٢) : ولما فرغ أبو سبرة من السوس خرج فى جنده حتى ينزل على جندى سابور ، وزر بن عبد الله محاصرهم ، فأقاموا عليها يغادونهم ويراوحنهم القتال ، فلم يفجأ المسلمين يوما إلا وأبوابها تفتح ، ثم خرج السرح ، وخرجت الأسواق ، وانبث أهلها ، فأرسل إليهم المسلمون : أن ما لكم؟ قالوا : رميتم لنا بالأمان فقبلناه ، وأقررنا لكم الجزاء ، على أن تمنعونا ، فقال المسلمون : ما فعلنا ، فقال أهل جندى سابور : ما كذبنا ، فسأل المسلمون فيما بينهم ، فإذا عبد يدعى مكنفا كان أصله منها ، هو الذي كتب لهم أمانا ، فرمى به إليهم من عسكر المسلمين ، فقالوا : إنما هو عبد ، فقال المشركون : إنا لا نعرف حركم من عبدكم ، وقد جاءنا أمان ، فنحن عليه قد قبلناه ، ولم نبدل ، فإن شئتم فاغدروا ، فأمسكوا عنهم ، وكتبوا بذلك إلى عمر ، فأجابهم : إن الله عظيم الوفاء ، فلا

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٩١ ، ٩٢).

(٢) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٩٣ ، ٩٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٨٩) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٨٧).

٥٥٥

تكونون أوفياء حتى توفوا ، ما دمتم فى شك أجيزوهم ، وفوا لهم ، ففعلوا وانصرفوا عنهم.

وقال عاصم بن عمرو فى ذلك :

لعمرى لقد كانت قرابة مكنف

قرابة صدق ليس فيها تقاطع

أجارهم من بعد ذل وقلة

وخوف شديد والبلاء بلاقع

فجاز جواز العبد بعد اختلافنا

ورد أمورا كان فيها تنازع

إلى الركن والوالى المصيب حكومة

فقال بحق ليس فيه تخادع

فلله جندى ساهبور لقد نجت

غداة منتها بالبلاء اللوامع

حديث وقعة نهاوند (١)

والاختلاف فيها بين أهل الأخبار كثير ، ولكن الذي ذكره أبو الحسن المدائنى من حديثها أحسن ما وقفت عليه من الأحاديث منساقا ، وأطوله اقتصاصا ، فلذلك آثرت الابتداء به ، وربما أدرجات فى تضاعيفه من حديث غيره ما يحسن إدراجه فيه ، ثم أذكر بعد انقضائه ما اختار ذكره من الأخبار التي أوردها سواه عن هذه الوقعة إن شاء الله.

ذكر المدائنى (٢) عن رجال من أهل العلم ، يزيد بعضهم على بعض : أن عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، شاور الهرمزان ، فقال له : أما إذا فتنى بنفسك فأشر علىّ ، أبفارس أبدأ أم بالجبال : أذربيجان وأصبهان؟ قال : فارس الرأس والجبال جناحان ، فاقطع الجناحين فلا يتحرك الرأس ، قال عمر : بل أقطع الرأس فلا يقوم جسد ولا جناح. فكتب عمر إلى عثمان بن أبى العاص وهو بتوج : أن سر إلى اصطخر ، وقدم عليه أبو موسى ، فأمره أن يرجع إلى البصرة ، ويسير إلى ابن كسرى مع عثمان بن أبى العاص ، وقال : كل واحد منكم أمير على جنده ، فقدم أبو موسى البصرة ، فسار إلى يزدجرد باصطخر ، وسار إليه عثمان من توج.

فلما ألحوا على يزدجرد كتب إلى أهل الرى وأهل الجبال : أصبهان وهمدان وقومس ،

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ١٢٢) ، فتوح البلدان للبلاذرى (ص ٣٧١ ـ ٣٧٦) ، معجم البلدان لياقوت (٥ / ٣١٣ ، ٣١٤) ، العبر للذهبى (١ / ٢٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٠٥) ، مرآة الجنان لليافعى (١ / ٧٧).

(٢) انظر الرواية فى : الطبرى (٤ / ٥٣٤ ـ ٥٣٦) ، الأخبار الطوال للدينورى (ص ١٣٣ ـ ١٣٨).

٥٥٦

أن العرب قد ألحوا علىّ فاشغلوهم عنى ، وردوهم إلى بلادهم ، فكتب بعضهم إلى بعض : أن صاحب العرب الذي جاء بدينهم وأظهر أمرهم هلك ، وملك بعده رجل لم يلبث إلا قليلا حتى هلك ، وإن صاحبهم هذا عمر وطال سلطانه ، وأغزى جنوده بلادكم ، فليس بمنته حتى تخرجوه من بلادكم وتغزوه فى بلاده ، فأجمعوا على ذلك وتمالوا عليه وتعاقدوا ، وأنفذوا أن يجتمعوا بنهاوند ، وبلغ ذلك أهل الكوفة ، فكتبوا به إلى عمر ، فخرج يمشى حتى قام على المنبر ، فقال : أين المسلمون؟ أين المهاجرون والأنصار؟ فاجتمع الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : إن عظماء أهل الرى وأهل أصبهان وأهل همذان وأهل نهاوند وأهل قومس وأهل حلوان ، أمم مختلفة ألوانها وألسنتها وأديانها ومللها ، وقد تعاهدوا أن يخرجوا إخوانكم من بلادهم وأن يغزوكم فى بلادكم ، فأشيروا علىّ وأوجزوا ولا تطنبوا ، فتفشغ بكم الأمور.

فقام طلحة ، وكان من خطباء قريش وذوى رأيهم ومن علية أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قد حنكتك الأمور ، وجربتك الدهور ، وعجمتك البلايا ، وأحكمتك التجارب ، فأنت ولى ما وليت ، لا ينبثر فى يديك ، ولا يحل عليك ، فمرنا نطع ، واحملنا نركب ، وقدنا ننقد ، فإنك مبارك الأمر ، ميمون النقيبة ، وقد أخبرت وخبرت وجربت ، فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيار.

قال : تكلموا ، فقال عثمان : اكتب إلى أهل الشام أن يسيروا من شامهم ، وإلى أهل اليمن فليسيروا من يمنهم ، وسر نفسك فى أهل الحرمين إلى أهل المصرين ، فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين ، فيتعال فى عينك ما قد كثر عندك ، وتكون أعز منهم ، إنك لن تستبقى من نفسك باقية بعد العرب ، ولن تمتنع من الدنيا بعزيز ، ولا تلوذ منها بحريز ، وهذا يوم له ما بعده ، فاحضرهم برأيك ، واشهدهم بمقدرتك.

قال : تكلموا ، فقال على بن أبى طالب : يا أمير المؤمنين ، إن كتبت إلى أهل الشام فساروا من شامهم أغارت الروم على بلادهم ، وإن سار أهل اليمن من يمنهم خلفتهم الحبش فى عيالاتهم ، وإن سرت بأهل الحرمين انتقضت الأرض عليك من أقطارها ، حتى يكون ما تخلفه من العورات فى العيالات أهم إليك مما بين يديك ، وأما ما ذكرت من مسيرهم فالله لمسيرهم أكره ، وهو أقدر على تغيير ما كره ، وأما كثرتهم فإنا لم نكن نلق عدونا بالكثرة ، ولكنا كنا نلقاهم بالصبر ، إنك إن نظر إليك الأعاجم قالوا : هذا أمير العرب ، فكان أشد لحربهم وكلبهم ، ولكن اكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا على ثلاث فرق ، فلتقم فرقة فى ديارهم ، وفرقة فى أهل عهدهم ، وتسير فرقة إلى إخوانهم بالكوفة.

٥٥٧

قال : هذا رأى ، وقد كنت أحب أن أتابع عليه ، لعمرى لئن سرت بأهل الحرمين ونظر إلىّ الأعاجم لتنقضن الأرض وليمدنهم من لم يمدهم ، وليقولن : أمير العرب إن قطعناه قطعنا أصل العرب ، فأشيروا علىّ برجل أوليه واجعلوه عراقيا ، قالوا : أنت أفضل رأيا وأعلم بأهل العراق ، وهم عمالك وقد وفدوا عليك وعرفتهم ، قال : لأولينها رجلا يكون لأول أسنة يلقاها ، النعمان بن مقرن. وكان النعمان بكسكر قد كتب إلى عمر : يا أمير المؤمنين ، إنما مثلى ومثل كسكر مثل شاب عند مومسة تلون له كل يوم وتعطر ، وإنى أذكرك الله إلا بعثتنى فى جيش إلى ثغر غازيا ، ولا تبعثنى جابيا.

فندب عمر أهل المدينة ، فانتدب منهم جمع ، فوجههم إلى الكوفة ، وكتب إلى عمار بن ياسر أن يستنفر ثلث أهل الكوفة ، وأن يسيروا إلى العجم بنهاوند ، فقد وليت عليهم النعمان بن مقرن المزنى ، وكتب إلى أهل الكوفة بذلك ، وكتب إلى أبى موسى أن يستنفر ثلث أهل البصرة إلى نهاوند ، وكتب إلى النعمان : إنى وجهت جيشا من أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة إلى نهاوند ، فأنت على الناس ومعك فى الجيش طليحة بن خويلد وعمرو بن معدى كرب ، فأحضرهما الناس وشاورهما فى الحرب ، فإن حدث بك حدث ، فأمير الناس حذيفة ، فإن قتل فجرير بن عبد الله ، فإن قتل فالمغيرة بن شعبة ، فإن قتل فالأشعث بن قيس ، وذكر الأشعث فى هذا غريب ، فإن المعروف من عمر ، رضي‌الله‌عنه ، أنه لم يستعمل أحدا ممن ارتد ، ولكن هذا وقع فى هذا الحديث ، والله أعلم.

وبعث عمر بالكتاب مع السائب بن الأقرع بن عوف ، وقال له : إن سلم الله ذلك الجند فقد وليتك مغانمهم ومقاسمهم ، فلا ترفعن إلىّ باطلا ولا تمنعن أحدا حقه ، وإن هلك ذلك الجند فاذهب فلا أرينك أبدا ، فقدم السائب الكوفة فيمن نفر من أهل المدينة ، وبعث بكتاب أهل البصرة مع عمرو بن معدى كرب فاستنفرهم أبو موسى فنفر ثلثهم ، وخرجوا إلى الكوفة عليهم مجاشع بن مسعود ، وعلى أهل الكوفة حذيفة بن اليمان ، ثم ساروا جميعا مع من قدم من أهل المدينة إلى نهاوند ، وسار النعمان بن مقرن فتوافوا بنهاوند ، والأعاجم بها ستون ألفا عليهم ذو الفروة ، وهو ذو الحاجب ، وهم بمكان يقال له : الاستفيذهان بقرية يقال لها : فيديسجان ، دون مدينة نهاوند بفرسخين ، وقد خندق الأعاجم وهالوا فى الخندق ترابا قد نخلوه ، فبعث النعمان طليحة بن خويلد وبكير بن الشداخ ، فارس أطلال ، ليعلما علم القوم.

فأما بكير فانصرف ، فقيل له : ما ردك؟ قال : أرض العجم ، ولم يكن لى بها علم

٥٥٨

فخفت أن يأخذ علىّ مضيق أو بعض جبالها ، ومضى طليحة فأبطأ حتى ساء ظن الناس به ، فعلم علمهم ثم رجع فلم يمر بجماعة إلا كبروا ، فأنكر ذلك منهم ، وقال : ما لكم تكبرون إذا رأيتمونى؟ قالوا : ظننا أنك فعلت كفعلتك. قال : لو لم يكن دين لحميت أن أجزر العرب هذه الأعاجم الطماطم ، وأخبر الناس بعدة القوم وكثرتهم ، فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل.

وأقام النعمان أياما حتى استجم الناس أنفسهم وظهرهم ، فلما كان يوم الأربعاء من بعض تلك الأيام دنا من عسكر المشركين ، وقال : إن أمير المؤمنين كتب إلىّ أن لا أقاتلهم حتى أدعوهم ، فمن رجل يأتيهم بكتابه؟ ومعه فى عسكره ممن قدم من المدينة عبد الله ابن الزبير وعبد الله بن عمر أو الزبير وابنه عبد الله ، فتواكل الناس ، فقام المغيرة بن شعبة يتذيل فى مشيته ، وكان آدم طويلا ذا ضفيرتين أعور ، فأخذ الكتاب فأتاهم ، فقال : القوا إلىّ شيئا ، فألقوا له ترسا فجلس عليه ، فقال الترجمان : ما أقدمكم؟ فذكر ما كانوا فيه من ضيق المعيشة ، وقال : كنا أهل جهد وجفاء بين شوك وحجر ، ومدر وحية وعقرب ، يغير بعضنا على بعض ، فأتينا بلادكم فأصبنا مطعما طيبا وشرابا عذبا ولبوسا لينا وطلا باردا ، فلسنا براجعين إلى ما كنا فيه حتى نصيب حاجتنا أو نموت.

فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا : صدق ، فقالوا : إنكم معشر العرب أرجاس أنجاس ، وإنما غركم مناخر نبذ جوى الأهواز ، وعوران المدائن الذين لقوكم ، وإنه ليس ممن ترى إلا فارسى محض أسوار ، ولو لا فساد الأرض لقتلناكم ، فما حاجتكم التي تريدون أن تصيبوها؟ فقرأ عليهم المغيرة كتاب عمر : إنا ندعوكم إلى ما دعاكم الله إليه ورسوله ، أن تدخلوا فى السلم كافة ، فإن فعلتم فأنتم إخواننا ، لكم ما لنا وعليكم ما علينا ، فإن أبيتم الإسلام فالجزية ، فإن أبيتم الجزية استنصرنا الله عليكم.

قالوا : الآن حين نقرنكم فى الجبال ، فرجع المغيرة ، فقال للنعمان : حبست الناس حتى طمحت أبصارهم ، أما والله إن لو كنت صاحبها؟ قال : ربما كنت ، فلم يخزك الله ولم تخب. ونهض المسلمون للحرب ، فأقبل ذو الحاجب على برذون أمام العجم ، فقالوا : انزلوا بالطائر الصالح الذي نصرتم به على الأمم ، وتهزمون به العرب ، فبرز له رجل من المسلمين فقتله ذو الحاجب ، وتهايجوا واقتتلوا حتى كثرت بينهم القتلى والجرحى ، ثم تحاجزوا ، وغدا المشركون غداة الخميس من غد يجرون الحديد ويسحبون الدروع ، وغدا المسلمون على راياتهم فتقدم رجل من العجم قد أعلم بعصابة فيها جواهر أمام أصحابه ، فحمل عليه أوفى بن سبرة القشيرى فقتله وسلبه ، فنفله النعمان سلبه ، وحمل المشركون

٥٥٩

فتلقاهم المسلمون فاقتتلوا حتى صبغت الدماء ثنن الخيل وتحاجزوا عند السماء ، فبات المسلمون يوقدون النيران ، ويعصبون بالخرق ، لهم أنين من الجراح ، ودوى بالقرآن كدوى النحل ، وبات المشركون فى المعازف والخمور وبهم من الجراح مثل ما بالمسلمين.

وأصبحوا يوم الجمعة ، فأقبل النعمان معلما ببياض ، على برذون قصير ، عليه قباء أبيض مصقول وقلنسوة بيضاء مصقولة ، فوقف على الرايات فحضهم ، وقال : يا معشر المسلمين ، إن هؤلاء قد أخطروا لكم أخطارا وأخطرتم لهم أخطارا ، أخطروا لكم دنيا ، وأخطرتم لهم الإسلام ، فالله الله فى الإسلام أن تخذلوه ، فإنكم أصبحتم بابا بين المسلمين والمشركين ، فإن كسر الباب دخل على الإسلام ليشغل كل امرئ منكم قربه ولا يخلفه على صاحبه ، فإنه لوم وخذلان ووهن وفشل ، إنى هاز الراية فإذا هززتها فليأخذ الرجال همايينها فى أحقيتها وشسوعها فى نعالها ، وليتعهد أصحاب الخيل أعنتها وحزمها ، فإذا هززتها الثانية فليعرف كل امرئ منكم مصوب رمحه وموضع سلاحه ووجه مقاتله ، فإذا هززتها الثالثة وكبرت فكبروا واستنصروا الله واذكروه ، فإذا حملت فاحملوا.

فقال رجل من أهل العراق : قد سمعنا مقالتك أيها الأمير ، فنحن واقفون عند قولك ، منتهون إلى رأيك ، فأى النهار أحب إليك؟ أوله أم آخره؟ قال : آخره حين تهب الرياح ، وتحل الصلاة وينزل النصر لمواقيت الصلاة ، فأمهل الناس حتى إذا زالت الشمس ، هز الراية فقضى الناس حوائجهم وشدت الرجال مناطقها ، ونزع أصحاب الخيل المخالى عن خيلهم وقرطوها أعنتها وشدوا حزمها وتأهبوا للحرب ، ثم أمهل حتى إذا كان فى آخر الوقت هزها فصلى الناس ركعتين وجال أصحاب الخيل فى متونها وصوبوا رماحهم فوضعوها بين آذان خيولهم ، وأقبلت الأعاجم على براذينهم عليهم الرايات المدبجة ، والمناطق المذهبة ، ووقف ذو الحاجب على بغلة ، فلقد رأى الأعاجم وهم فى عدتهم وإن لأقدامهم فى ركبهم لزلزلة ، وإن الأسوار ليأخذ النشابة فما يسدد الفوق للوتر وما يتمالك أن يضعها على قوسه.

فقال النعمان : يا معشر المسلمين ، إنى هاز الراية وحامل فاحملوا ، ولا يلوى أحد على أحد ، وإن قيل قتل النعمان ، فلا يلوين علىّ أحد ، وأنا داع بدعوة فعزمت على كل رجل منكم إلا أمن ، ثم قال : اللهم اعط النعمان اليوم الشهادة فى نصر المسلمين ، وافتح عليهم ، ثم نثل درعه ، وهز الراية وكبر ، فكبر الأدنى فالأدنى ممن حوله حتى غشيهم التكبير من السماء ، وصوب رايته كأنها جناح طائر ، وحمل وحمل الناس ، فكان أول

٥٦٠