الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

وأصابوا فى خزائنهم ما عجزوا عن حمله من المتاع وصنوف الأطعمة ما لا يوصف كثرة ، فأمر سعد بجمع ذلك ، فجمع وولاه النعمان بن مقرن ثم تلا :

(أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [إبراهيم : ٤٤ ، ٤٥].

وكتب سعد إلى عمر بفتح المدائن وبهرب ابن كسرى ، فكتب إليه عمر :

أوصيك بتقوى الله الذي بتقواه سعد من سعد وبترك تقواه شقى من شقى ، وقد عرفت بلاء الله عندنا أيها الرهط أنه استنقذنا من الشرك وأهله ، وأخرجنا من عبادة أوثانهم ، وهدانا من ضلالتهم ، وعرفت مخرجنا من عندهم ، كيف خرجنا ، وأن الرهط على بعير عليه أنفسهم وزادهم يتعاور اللحاف الواحد العدة منا من بلغ مأمنه منا بلغ مجهودا ، ومن أقام فى أرضه أقام مفتونا فى دينه معذبا فى بدنه ، أشد أهله عليه أقربهم منه ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم بالله لتأخذن كنوز كسرى وقيصر ، يعجب من ذلك من سمعه ، فأبقاك الله حتى وليت ذلك بنفسك ، فأعرض عن زهرة ما أنت فيه ، حتى تلقى الخماص الذين ذهبوا فى شمالهم ، لاصقة بطونهم بظهورهم ، ليس بينهم وبين الله حجاب ، لم تفتنهم الدنيا ، ولم يغتروا بها ، فاقتدوا بهديهم ، ولا تضللن أنفسكم ، وكونوا الأمة الممدوحة المباركة التي قال الله تبارك وتعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) [الأنبياء : ٧٣].

قال : وحصر سعد الرومية تسعة أشهر حتى أكل السنانير والكلاب بعضهم ، فأتى سعدا رجل مستأمن ، فسأله الأمان لنفسه وأهله ، على أن يدله على عورة المدينة ، فأمنه فدله على مجرى الماء إلى المدينة ، وكان يأتيهم الماء فى قناة من دجلة ، فغورها المسلمون فارتحل أهل الرومية حين انقطع الماء عنهم من ليلتهم ، وحملوا ما خف من أموالهم ، وخرجوا على حامية معهم أثقالهم ، فأخذوا طريق خراسان ، فأتت امرأة منهم سعدا فسألته الأمان فأمنها ، فقالت لم يبق فى المدينة أحد من المقاتلة ولا عيالاتهم ، بقى قوم ضعفاء ، فدخلها سعد ، فأصابوا متاعا كثيرا وسلاحا وسبيا قليلا ، فبعث بخمس ما أصاب من الرومية ، وما صالح عليه أهل المدائن إلى عمر مع بشير بن الخصاصية.

وذكر من حديث البساط الذي مر ذكره نحوا مما تقدم.

وذكر ، أيضا ، عن حرملة بن صدقة بإسناده إليه قال : غزوت خراسان فرأيت رجلا

٥٢١

من العجم يشبه الروم فسألنى عن مسكنى ، فقلت : المدائن ، قال : أيها؟ قلت : الرومية. قال : فأين منزلك منها؟ فوصفته له ، قال : هذه دارى ، إنى أحدث أصحابى عنها وعن حالى ، وما كنت فيه فيكذبوننى ، ولقد دفنت حين حصرنا العرب فى الدكان التي على باب الدار عشرة آلاف درهم وآنية ذهب وفضة كثيرة ، فأغضيت على ما قال ، واستأذنت أميرى فى القفل ، فأذن لى ، فقدمت فاحتفرت ذلك الموضع فأصبت ما قال على ما قال ، فأحرزته ورجعت إلى مركزى.

قال المدائنى : واقتسم المسلمون الرومية أرباعا فنزلوها ، ونسبت الأرباع إلى قبائل ، ومعهم فيها غيرهم ، غير أنه قيل : ربع عبد القيس وربع بجيلة وأسد وربع خزاعة وربع بقى على ما كان يسمى فى الجاهلية ، طسوج هندوان.

وكان كسرى أنزله قوما من الزط فهو يسمى بذلك الاسم إلى اليوم ، واتخذ آل صوحان مسجدا بالرومية ، واختطت القبائل فيما حول الإيوان ، ونزلوا المدينة العتيقة ، ولم ينزلوا إلا ما كان للملك ولأهل بيته ولمن هرب مما لم يصالح عليه ، فاختط حول الإيوان والرومية تميم وسليم وعبس وبكر ومزينة وجهينة وهمدان وثقيف والأنصار ومراد ، ونزل بنو أسد الفارقين ، ونزل المسلمون الإيوانات وبيوت النيران والمرابط والسكك ودور الضرب والدواوين ، وصار بستان الملك الذي كان يدخله إذا فرغ من الزمزمة مقابر للمسلمين ، ونزل حذيفة مربط يزدجرد ، ونزل سعد القصر الأبيض والمسجد الذي يجتمعون فيه مسجد العسكر على الناقوس ، فلم يزل المسلمون بالمدائن وما حولها حتى تحولوا إلى الكوفة ، فتركوا خططهم على حالها تعرف بهم ، وأقام قوم اتخذوا الضياع بالسواد ، فلم يتحولوا ، وكان مقامهم بعد الحرب سنتين.

وذكر أيضا أن سعد بن أبى وقاص كان حين سار إلى المدائن خلف قوما بأرض الكوفة ، فقسم لهم مع من شهد المدائن حين فتحها ، فقام إليه رجل من هذيل فقال له : عمدت إلى فيئنا فأعطيته من لم يشهد ، وركب إلى عمر فشكا سعدا ، فأرسل عمر ، عمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود ، فقال : إن وجدتماه بالكوفة فلا تبيتن بها ، وإن وجدتماه خارجا عن الكوفة فلا تدعاه يدخلها وخذا الخاتم من يده ، فلقياه بفيين فأخذ أحدهما الخاتم من يده ، فنظر إلى الآخر ، فقال : أمر بذلك ، فقال سعد :

خذينى فجرينى ضباع وأبشرى

بلحم امرئ لم يحضر اليوم ناصره

قال : دعونى أدخل الكوفة ، قالا : لا ، فقطعا به الفرات من دير الأعور ، فلما قدم على

٥٢٢

عمر قال : أين الهذلى؟ فقام ، فقال : ما يقول هذا؟ قال سعد : صدق ، قال : ارجع فخذه منهم ثم أقسمه.

وذكر عن عبد الله بن سليم وغيره ، قالوا : اجتمع الأساورة بحلوان عند يزدجرد ، فذكروا العرب ورثاثة سلاحهم وسوء عدتهم وظهورهم عليهم ، فتلاوموا وقالوا : أسلمنا ملكنا وما كنا فيه إلى عصابة لم تكن فى الأرض أمة أصغر أمرا عندنا منهم ، فقال بعضهم : لا تعجبوا من هذا ، فإنها دولة جاءت قوما ، ومدة انقضت عنكم ، وهذا أمر أراده الله ، والله لا يغلب. فقال رجل منهم : ارفعوا لى كرة ، فرفعوها فرماها بنشابات فلم يخطئها ، قال : هذا ما ترون من رمى ، ولقد رأيتنى مرة فى بستان أرمى الزنانير بجلاهق فما أخطأت بواحدة ، فقدم العرب فهربت واتبعنى رجل فرميته بخمس نشابات فما أصبته ، ودعا رجل بقوسه فرمى بنشابة فى حائط لبن فغيبها إلى قريب من الريش ، ثم اعترض ساقا من شجرة بسيف فاجتمه ، ثم قال : ترون رمى وضربى؟ قالوا : نعم ، قال : فإنى رميت رجلا ، يعنى من المسلمين ، ليس عليه سلاح ولا ثوب يقيه ، فأصبت بطنه فما خدشه ، ولقد ضربت رجلا حاسرا أصلع بسيفى هذا ، فخرج من رأسه شبه الدقيق ، وحدث بعض العجم قال : كنت فيمن انهزم عن العرب ، فإنى لأسير فى عشرة من الأساورة إذ انتهينا إلى نهر ورجل من العرب يسقى فرسه ، فلما رآنا شد حزام فرسه وألجمه وركبه وحمل علينا فولينا ، وانفردت من أصحابى دهشا وطمع فىّ فاتبعنى حتى صرت فى مؤخر النهر وفرسى أقوى من فرسه ، فزجرت فرسى ، فطغى بى النهر ، ووقف ينظر إلىّ لا يقدر على العبور ، فالتفت إليه ، فقال : أولى لك ، فلم أدر ما قال لى حتى سألت بعد وعلمت ، فما خرج رعب تلك الكلمة من قلبى.

وذكر بإسناد له إلى عبد الله بن معقل بن مقرن المزنى قال : اصطفى عمر من مال العجم أصنافا ، مال من هرب ومن قتل ، وكل مال لكسرى أو لأحد من أهل بيته ، وكل مسيل ماء ، وكل دير يريد ، فكان خراج ما اصطفى سبعة آلاف ألف حتى كان يوم دير الجماجم أحرق الديوان ، فأخذ كل قوم ما يليهم.

قال المدائنى : وكان المغنم بالمدائن والرومية قريبا من مغنم القادسية.

ومما قيل فى ذلك من الشعر قول أبى بجيد ، نافع بن الأسود التميمى يفخر بقومه :

بنو تميم عتاد الحرب قد علموا

والناهضون إذا فرسانها ركبوا

والحاملون إذا ما أزمة أزمت

ثقل العشائر إن جمعوا وإن ندبوا

٥٢٣

والفاصلون إذا ما خطة جهلت

عند الجموع وفيهم تفصل الخطب

والمانعون من الأعداء دارهم

عند الهياج إذا ما اهتزت الطنب

والواردون على كسرى مدائنه

قسرا ومن دونها بحر له لجب

نحوى نهابهم والخيل مشعلة

وسط الديار ومنها حولهم عصب

شعث عليها ليوث ما يهجهجها

عند الصياح بها عجم ولا عرب

شمس بأيديهم سمر مثقفة

وكل عضب له فى متنه شطب

إذا جلوها على الأعداء فى فزع

لاحت كأن فوق أيديهم بها شهب

وقال أيضا :

ونحن صبحنا يوم دجلة أهلها

سيوفا وأرماحا وجيشا عرمرما

نراوح بالبيض الرقاق رءوسهم

إذ الرمى أغرى بيننا فتضرما

أذقناهم يوم المدائن بأسنا

صراحا وأسعطنا الألائم علقما

سقيناهم لما تولوا إلى الردى

كئوسا ملأناهن صابا وشبرما

أبيتم علينا السلم ثم رجعتمو

إلى السلم لما أصبح السلم محرما

ويوم يطير القلب من نعراته

ربطنا له جأشا وهجنا به دما

دعونا إليه من تميم معاشرا

يجيبون داعيهم وإن كان مجرما

يحلون فى اليوم الشديد قيامه

عن الشمس والآفاق أغبر مظلما

ألا أيها ذا السائل عن عشيرتى

ستخبر عنهم إن سألت لتعلما

فمهما عقدنا جاز فى الناس حكمنا

وننقضه منهم وإن كان محكما

وقال أيضا :

أىّ يوم لنا كيوم قديس

قد تركنا به القنا مرفوضا

كم سبينا من تاج ملك وأسوا

ر ترى فى نطاقه تفضيضا

وقربنا خير الجيوش شتاء

وربيعا مجملا وغريضا

ونفرنا فى مثلهم عن تراض

لم نعرض ولم نذق تغميضا

ثم سرنا من فورنا نحو كسرى

ففضضنا جموعه تفضيضا

وأملنا على المدائن خيلا

بحرها مثل برهن أريضا

وانتثلنا خزائن المرء كسرى

يوم ولى وحاص منا جريضا

وقال النابغة الجعدى من كلمة يذكر أيامهم تلك مع كسرى وغيره :

فمضت كتائبنا إليه عنوة

حتى حللنا حيث ينخرق الصبا

٥٢٤

نرمى مدينته ونحطم جمعه

ونصك رأس عموده حتى انشطا

ولقيصر أخرى رمينا رمية

قطعت قرينته كما انقطع السدا

والخيل تخفق بين دجلة عنوة

بالسفح من أقر إلى وادى القرى

لا قيصر أبدا ولا كسرى بها

قضى الحديث وكان شيئا فانقضى

حديث (١) وقعة جلولاء (٢)

ذكر سيف (٣) عن قيس بن أبى حازم قال : أقمنا بالمدائن حين هبطنا واقتسمنا ما فيها ، فأتانا الخبر بأن مهران قد عسكر بجلولاء ، وخندق عليه ، وأن أهل الموصل قد عسكروا بتكريت ، فكتب سعد بذلك إلى عمر ، فأجابه : أن سرح هاشم بن عتبة إلى جلولاء فى اثنى عشر ألفا ، واجعل على مقدمته القعقاع بن عمرو.

وروى من سماه سيف من رجاله : أن عمر كتب ، أيضا ، إلى سعد : لئن هزم الله الجندين : جند مهران وجند الأنطاق ، فقدم القعقاع حتى يكون على حد سوادكم ، بين السواد والجبل.

قالوا : وكان من حديث جلولاء أن الأعاجم لما انتهوا إليها بعد الهرب من المدائن ، وتفرقت الطرق بأهل أذربيجان والباب وبأهل الجبال وفارس تذامروا وقالوا : إن افترقتم لم تجتمعوا أبدا ، وهذا مكان يفرق بيننا ، فهلموا فلنجتمع به للعرب ولنقاتلهم ، فإن كان لنا فهو الذي نريد ، وإن كانت الأخرى كنا قد قضينا ما علينا ، وأبلينا عذرا. فاحتفروا الخندق ، واجتمعوا فيه على مهران ، ونفذ يزدجرد إلى حلوان فنزل بها ، ورماهم بالرجال ، وخلف فيهم الأموال ، فأقاموا فى خندقهم ، وقد أحاطوا به الحسك من الخشب إلا طرقهم. ففصل هاشم بالناس من المدائن فى اثنى عشر ألفا ، فيهم وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب ، فسار إلى جلولاء أربعا ، حتى قدم عليهم ، فحاصرهم وأحاط بهم ، فطاولهم أهل فارس ، وجعلوا لا يخرجون عليهم إلا إذا أرادوا ، وزاحفهم المسلمون ثمانين زحفا ، كل ذلك يعطيهم الله الظفر على المشركين ، وغلبوهم على حسك الخشب ، فاتخذوا حسك الحديد.

__________________

(١) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٢٤ ـ ٣٥) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٣٦١ ـ ٣٦٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٦٩ ـ ٧١) ، تاريخ ابن خلدون (٢ / ١٠٢ ، ١٠٣).

(٢) أشار صاحب الروض المعطار إلى أن جلولاء بالعراق فى أول الجبل ، وهى مدينة صغيرة عامرة بها نخل وزرع ، ومنها إلى خانقين سبعة وعشرون ميلا (ص ١٦٧).

(٣) انظر : الطبرى (٤ / ٢٤ ، ٢٥).

٥٢٥

وعن بعض الرواة أن هاشما لما نزل على مهران بجلولاء جعل يقوم فى الناس ، ويقول : إن هذا منزل له ما بعده ، وجعل سعد يمده بالفرسان حتى إذا كانوا أخيرا قال بعضهم لبعض : أبلوا الله بلاء حسنا يتم لكم عليه الأجر والمغنم ، واعملوا لله فإنكم ردء المسلمين ، فالتقوا فاقتتلوا ، وبعث الله عليهم ريحا أظلت عليهم البلاد ، ولم يستطيعوا إلا المحاجزة ، فتهافتت فرسانهم فى الخندق ، فلم يجدوا بدا من أن يجعلوا فرضا مما يليهم ، تصعد منه خيلهم ، فأفسدوا حصنهم ، وبلغ ذلك المسلمين ، فنظروا إليه ، فقالوا : ننهد إليهم ثانية فندخله عليهم أو نموت دونه ، فلما نهدوا الثانية خرج القوم ، فرموا حول الخندق مما يلى المسلمين بحسك الحديد لكيلا تقدم عليهم الخيول ، وتركوا للمجال وجها ، فخرجوا منه على المسلمين ، فاقتتلوا قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله ولا ليلة الهرير إلا أنه كان أكمش وأعجل ، وانتهى القعقاع فى الوجه الذي زحف منه إلى باب خندقهم ، فأخذ به ، وأمر مناديا فنادى : يا معشر المسلمين ، هذا أميركم قد دخل خندق القوم فأقبلوا إليه ، ولا يمنعكم من بينكم وبينه من دخوله. وإنما فعل القعقاع ذلك ليقوى المسلمين ، فحملوا حملة لم يقم لها شيء ، حتى انتهوا إلى باب الخندق ، ولا يشكون أن هاشما به ، فإذا هو بالقعقاع قد أخذ به ، وأخذ المشركون فى الهزيمة يمنة ويسرة عن المجال الذي بحيال خندقهم ، فهلكوا فيما أعدوا للمسلمين فعقرت دوابهم ، وعادوا رجالة ، واتبعهم المسلمون ، فلم يفلت منهم إلا من لا يعد ، وقتل الله منهم يومئذ مائة ألف ، فجللت القتلى المجال وما بين يديه وما خلفه ، فسميت جلولاء لما جللها من قتلاهم ، فهى جلولاء الوقيعة.

وقال بعضهم : كان أشقى أهل فارس بجلولاء أهل الرى ، كانوا بها حماة أهل فارس ، ففنى أهل الرى يوم جلولاء.

وفى حديث عن محفز بن ثعلبة ، وكان شهدها : أن أهل فارس لما رأوا أمداد المسلمين بادروا بقتالهم فى عددهم ، ثم وصف من شدة قتالهم. قال : حتى أنفذوا النبل ، وقصفوا الرماح حتى صاروا إلى السيوف والطبرزينات وكانوا بذلك صدر نهارهم إلى الظهيرة ، ولما حضرت الصلاة صلى الناس إيماء ، حتى إذا كان بين الصلاتين خنست كتيبة من كتائب المشركين وجاءت أخرى فوقفت مكانها ، فأقبل القعقاع على الناس ، فقال : أهالتكم هذه؟ قالوا : نعم ، نحن مكلون وهم مريحون ، والكال يخاف العجز إلا أن يعقب ، فقال : إنا حاملون حملة عليهم ومجادوهم وغير كافين عنهم ولا مقلعين عنهم حتى يحكم الله بيننا ، فاحملوا حملة رجل واحد حتى تخالطوهم ، ولا يكذبن أحد منكم. فحمل

٥٢٦

فانفرجوا فما نهنه أحد عن باب الخندق ، وألبسهم الليل رواقه ، فأخذوا يمنة ويسرة ، ونادى منادى القعقاع : أين تحاجزون وأميركم فى الخندق فحمل المسلمون ، فأدخل الخندق ، فأتى فسطاطا فيه مرافق وثياب ، وإذا ترس على إنسان فأنبشه ، فإذا امرأة كالغزال فى حسن الشمس ، فأخذها وثيابها ، فاديت الثياب ، وطلبت الجارية حتى صارت إلىّ فاتخذتها أم ولد.

قالوا (١) : وأمر هاشم القعقاع بالطلب ، فطلبهم حتى بلغ خانقين ، وأدرك بها مهران فقتله ، وأدرك الفيرزان فنزل ، فتوقل فى الظراب وخلى فرسه ، وأصاب القعقاع سبايا ، فبعث بهن إلى هاشم ، فكن مما اقتسم ، واتخذن ، فولدن فى المسلمين ، فذلك السبى ينسب إلى جلولاء ، ومنه كانت أم الشعبى ، ويقال من القادسية.

ويروى أن عمر ، رضي‌الله‌عنه ، قال وقد بلغه ما أصيب من هؤلاء السبايا : اللهم إنى أعوذ بك من أبناء الجلوليات.

قالوا : ولما بلغت الهزيمة يزدجرد سار من حلوان نحو الجبل ، فنزل القعقاع بحلوان فى جند فلم يزل إلى أن تحول سعد بالناس من المدائن إلى الكوفة ، فلحق به.

قالوا : وكتبوا إلى عمر بفتح جلولاء وبنزول القعقاع حلوان ، واستأذنوه فى اتباعهم ، فأبى ، وقال : لوددت أن بين السواد والجبل سدا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم ، حسبنا من الريف السواد ، إنى آثرت سلامة المسلمين على الأنفال.

وساق المدائنى خبر جلولاء مساقا بينه وبين ما تقدم بعض اختلاف وأسنده عن جماعة سمى منهم ، قال : وبعضهم يزيد على بعض ، فسقت حديثهم : أن يزدجرد هرب إلى حلوان ، فلما فتح سعد الرومية كتب إلى عمر يستأذنه فى البعثة إلى ابن كسرى ، فكتب إليه : «الحمد لله الذي أذل ابن كسرى وشرده ، فأقم بمكانك واحذر على من معك من المسلمين» فأقام سعد بالمدائن سنتين لم يوجه أحدا ، وكتب ابن كسرى إلى الجبال فجمع المقاتلة فوجههم إلى جلولاء ، وأمر الأساورة والجنود فنزلوها ، فاجتمع بها جمع عظيم عليهم خرزادين خرمهر ، فكتب سعد إلى عمر بجمعهم ، فكتب إليه : أقم بمكانك ووجه إليهم جيشا ، فإن الله ناصرك ومتم وعده الذي وعد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعقد سعد لهاشم بن عتبة وندب الناس ، فانتدب معه أربعة آلاف فيهم طليحة بن خويلد ، وعمرو ابن معدى كرب وفرسان المسلمين ، فسار.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٢٨).

٥٢٧

فلما كان بمهروذ أتاه دهقانها فصالحه على أن يفرش له جريبا دراهم ، فقبل منه ومضى إلى جلولاء ، فقدم على قوم قد أعدوا عدة عظيمة ، وتحرزوا بالخنادق ، فقاتلوهم قتالا شديدا عن العيال والذرارى ، وكتب هاشم إلى سعد يستمده ، وأتى المشركون أهل أذربيجان مددا فعاجلوهم القتال ، وكثروهم ، فجال المسلمون وانكشفوا ، فناداهم هاشم : يا معشر المسلمين أين؟ أما رأيتم ما خلفتم؟ أتأتون عمر منهزمين؟ فعطف الناس ، وعلى الميمنة حجر بن عدى ، وعلى الميسرة عمرو بن معدى كرب ، وعلى الخيل زهرة بن جوية ، وعلى الرجال طليحة بن خويلد ، فاشتد القتال بينهم حتى مضى وقت الظهر فصلى المسلمون يومئون إيماء ، وألح المشركون عليهم ، وطلعت كتيبة للمشركين حامية فجازت الخندق ، ثم طلعت أخرى ، فقال طليحة وعمرو بن معدى كرب : يا معشر الفرسان ، الأرض واقرنوا خيولكم ، ففعلوا وجثوا وأشرعوا الرماح فرجعت الخيل عنهم ، ورموهم بالنشاب ، فتترسوا ، فمكثوا بذلك مليا ، وأشفق المسلمون فحضهم طليحة وزهرة وعمرو ، فبينا هم على ذلك إذ سمعوا تكبيرا للمسلمين وراءهم ، فإذا قيس بن مكشوح قد جاءهم فى ألف وأربعمائة فارس وستمائة راجل ، فانهزم المشركون قبل أن يصل إليهم ، وهاجت ريح شديدة أظلمت لها الأرض ، فتهافت المشركون فى الخندق ، واتبعهم المسلمون فانتهوا إلى خنادقهم وقد انجلت عنهم الظلمة فركبوا أكتافهم ، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وحووا عسكرهم ، فأصابوا شيئا لم يصيبوا مثله من الأموال والسلاح والمتاع والسبايا والدواب ، فجمع ذلك كله إلى هاشم ، فجاء رجل من آل خارجة بن الصلت بتمثال ناقة من ذهب موشحة بالدر وألقاها فى المغنم ، وجاء مجفر بن ثعلبة بجارية ، وجاء كل رجل بما صار فى يديه ، فحمل هاشم ذلك كله إلى سعد ، فكتب سعد إلى عمر بالفتح وبما أصاب من السبايا واستأذنه فى اتباع العجم والمسير إلى الجبال ، فكتب إليه عمر ، رحمه‌الله : أقم مكانك عامك هذا حتى ننظر ، واحذر على المسلمين ، واترك أهل الجبال ما تركوك ، فوددت أن بيننا وبين الجبال سدا من نار لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم ، حسبنا من الريف السواد ، فأقم ولا تطلب ما سوى ذلك عامك هذا إلا أن ينزل عدو بقربك ، واقسم بين المسلمين ما أفاء الله عليهم.

وكانت الغنائم ثمانية عشر ألف ألف ، فبلغت السهام ثلاثة آلاف ، للفرس سهمان وللراجل سهم ، وقال قوم : كانت الغنائم ستة وثلاثين ألف ألف ، وكانت السهام ستة آلاف وثمانية من الدواب ، للفرس سهمان وللراجل سهم ، فحمل سعد الخمس مع زياد ابن أبى سفيان.

٥٢٨

وفى كتاب سيف (١) عمن سمى من رجاله قالوا : ونفل سعد من أخماس جلولاء من أعظم البلاء ممن شهدها ، ومن أعظمه ممن كان ثابتا بالمدائن ، وبعث بالأخماس مع قضاعى بن عمرو الدؤلى من الذهب والورق والآنية والثياب ، وبعث بالسبى مع أبى مفزر الأسود بن قطبة. قال بعضهم : وبعث بالحساب مع زياد بن أبى سفيان ، وكان الذي يكتبه للناس ويدونهم ، فلما قدموا على عمر كلم زياد عمر فيما جاء به ووصف له ، فقال له عمر : هل تستطيع أن تقوم فى الناس بمثل الذي كلمتنى به؟ فقال : والله ما على الأرض شخص أهيب فى صدرى منك ، فكيف لا أقوى على هذا فى غيرك؟ فقام فى الناس بما أصابوا وبما صنعوا ، وبما يستأذنون فيه من الانسياح فى البلاد ، فقال عمر ، رضي‌الله‌عنه : هذا الخطيب المصقع ، فقال زياد : إن جندنا أطلقوا بأفعالهم لسانى.

وعن أبى سلمة قال (٢) : لما قدم على عمر ، رحمه‌الله ، بالأخماس من جلولاء ، قال عمر : والله لا يجنه سقف بيت حتى أقسمه. فبات عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن أرقم يحرسانه فى صحن المسجد ، فلما أصبح جاء فى الناس وكشف عنه جلابيبه ، وهى الأنطاع ، فلما نظر إلى ياقوته وزبرجده وجوهره بكى ، فقال له عبد الرحمن : ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فو الله إن هذا إلا موطن شكر. فقال عمر : والله ما ذاك يبكينى ، وتالله ما أعطى الله هذا قوما إلا تحاسدوا وتباغضوا ، ولا تحاسدوا إلا ألقى باسهم بينهم. ثم دعا الحسن فيما ذكر المدائنى فحثا له ، ثم دعا الحسين فحثا له ، ثم قال : ما ترى؟ أنحثى لهم حثيا أم نكيل بالصاع. قال : بل احث لهم ، ففعل ، ثم دون الدواوين وفرض وقسم.

وذكر المدائنى ، أيضا ، أن سعدا كتب إلى عمر ، رحمه‌الله ، مع زياد يستأذنه فى اتباع المشركين ويصغر أمرهم عنده ، فكتب إليه عمر : جاءنى كتابك تستأذننى فى اتباع المشركين ، وسيأتى فيهم أمرى ، وذلك من حق إمامك عليك ، وإنما حق المسلم على المسلم بحق الله ، وإن أعظم أهل الإسلام حقا عليهم إمامهم ، وذلك أنه لا تجد أحدا من الناس صلاح أهل الأرض فى صلاحه إلا نبى أو خليفة ، فالأمر إليك فى اتباعهم تغرير بالمسلمين ، وانظر ما أجلب الناس به عليك فى العساكر من مال أو كراع أو سلاح أو متاع ، فاقسمه بين من حضر ، واترك الأرضين والأنهار فتكون فى أعطية المسلمين ، فإنك إن قسمتها بين من حضرك لم يكن لمن بعدهم شيء ولا توطن ولدا من والده ، ولا تمسن أنثى من السبى حتى يطيب رحمها ، ولا تتخذن مشركا أمينا على المسلمين ، فإنهم

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٢٩).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٣٠).

٥٢٩

يأخذون الرشوة فى دينهم ولا رشوة فى دين الله ، وادع الناس فمن استجاب لك وأسلم قبل القتال فهو رجل من المسلمين وله سهم فى الإسلام ، ومن أسلم بعد القتال وبعد الهزيمة فهو رجل من المسلمين وماله لأهل الإسلام ، والأسير إذا أسلم فى أيدى المسلمين فقد أمن على دمه ، وهو فيء للمسلمين ، وأقر الفلاحين على حالهم إلا من حاربك أو هرب أو ترك أرضه وخلاها ، فهى لكم فإن رجع فقبلتم منه الجزية فهو ذمة.

وذكر سيف (١) عن رجاله قالوا : كان صلح عمر الذي صالح عليه أهل الذمة ، أنهم إن غشوا المسلمين لعدوهم برئت منهم الذمة ، وإن سبوا مسلما أن ينهكوا عقوبة ، وإن قاتلوا مسلما أن يقتلوا ، وعلى عمر منعهم ، وبرئ عمر إلى كل ذى عهد من معرة الجيش.

قال بعضهم : فكان الفلاحون للطرق والجسور والأسواق والحرث ، والدلالة مع الجزى عن أيديهم على قدر طاقتهم ، وكانت الدهاقين للجزية عن أيديهم والعمارة ، وعلى كلهم الإرشاد وضيافة ابن السبيل من المهاجرين.

قال المدائنى : وشهد عبد الله بن عمر جلولاء ، واشترى من المغنم متاعا بأربعين ألفا ، فلما قدم المدينة أتاه عمر فى منزله ، فقال لامرأته : يا صفية احتفظى بما جاء به عبد الله ولا يصلن منه إلى شيء ، ثم قال لعبد الله : يا عبد الله اشتريت من غنائم المسلمين؟ فقالوا : ابن عمر وصاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلأن يرخصوا عليك بمائة أحب إليهم من أن يغلوا عليك بدرهم ، لك فيما اشتريت ربحا لدرهم درهم ، فدعا عمر التجار فعرضه عليهم وقال : اشتروا فإنه للمسلمين ، فتزايدوا حتى بلغ مائة ألف ، فباعه ، وأعطى عبد الله ثمانين ألفا ، وبعث بالباقى إلى سعد ، وكتب إليه : اقسمه فيمن شهد سنة تسع عشرة.

وعن رجال سيف (٢) قالوا : ولما رجع أهل جلولاء إلى المدائن نزلوا قطائعهم ، وصار السواد ذمة لهم إلى ما أصفاهم الله به من مال الكاسرة ، ومن لج معهم.

وقال القعقاع بن عمرو يذكر نزوله بجلولاء :

من مبلغ عنى القبائل مالكا

وقد أحسنت عند الهياج القبائل

فلله جاهدنا وفى الفرس بغية

ونحن على الثغر المخوف نساجل

وأنتم عتاد إن ألمت ملمة

وجلت علينا فى الثغور الجلائل

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٣٢).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٣٣).

٥٣٠

وهل تذكرونا إن نزلنا وأنتم

منازل كسرى والأمور حوائل

فصرنا لكم ردءا بحلوان بعد ما

نزلنا جميعا والجموع نوازل

فنحن الأولى فزنا بحلوان بعد ما

أرنت على كسرى الإما والحلائل

وقال أبو بجيد فى ذلك :

ويوم جلولاء الوقيعة أصبحت

كتائبنا تردى بأسد عوابس

فضضت جموع الفرس ثم أنمتهم

فتبا لأجساد المجوس النجائس

وأفلتهن الفيرزان بجرعة

ومهران أردت يوم حز القوانس

أقاموا بدار للمنية موعد

وللترب تحثوها خجوج الروامس(١)

حديث يوم تكريت (٢)

وكان سعد ، رحمه‌الله ، لما كتب إلى عمر ، رضي‌الله‌عنه ، بأمر جلولاء ، وأجابه بما ذكر قبل ، كتب إليه أيضا باجتماع أهل الموصل إلى الأنطاق وإقباله بهم إلى تكريت حتى نزل بها ، وخندق عليه ليحمى أرضه ، فأمر عمر سعدا أن يسرح عبد الله بن المعتم إلى الأنطاق ، وعين لمقدمته وميمنته وميسرته وساقته رجالا سماهم له ، ففصل على ذلك عبد الله من المدائن فى خمسة آلاف ، فسار إلى تكريت حتى ينزل على الأنطاق ، ومعه الروم وإياد وتغلب والنمر ، وقد خندقوا ، فحصرهم أربعين يوما وتزاحفوا أربعة وعشرين زحفا ، فى كلها هزم المشركون ولا يخرجون خرجة إلا كانت عليهم.

فلما رأت الروم ذلك تركوا أمراءهم ، ونقلوا متاعهم إلى السفن ، وقد كان عبد الله ابن المعتم وكل بالعرب ليدعوهم إليه وإلى نصرته على الروم رجالا من تغلب وإياد والنمر ، فكانوا لا يخفون عليه شيئا ، فأقبلت إليه العيون منهم بما فعلت الروم وسألوه للعرب السلم وأخبروه أنهم قد استجابوا ، فأرسل إليهم : إن كنتم صادقين فاشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وأقروا بما جاء به من عند الله ، ثم اعملوا بما نأمركم ، فردوا إليه رسلهم بالإسلام ، فأرسل إليهم : إذا سمعتم تكبيرنا فاعلموا أنا قد نهدنا إلى الأبواب التي تلينا لندخل عليهم منها ، فخذوا بالأبواب التي تلى دجلة ، وكبروا وقاتلوا واقتلوا من قدرتم عليه.

__________________

(١) انظر الأبيات فى : الطبرى (٤ / ٣٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٧١).

(٢) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٣٥ ـ ٣٧) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٣٦٤ ـ ٣٦٦) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٧١ ، ٧٢).

٥٣١

فانطلقوا حتى واطئوهم على ذلك ، ونهد عبد الله والمسلمون لما يليهم وكبروا وكبرت تغلب وإياد والنمر ، وقد أخذوا بالأبواب ، فحسب القوم أن المسلمين قد أتوهم من خلفهم ، فابتدروا الأبواب التي أمامهم ، فأخذتهم سيوف المسلمين مستقبلتهم ، وسيوف الربعيين الذين أسلموا ليلتئذ من خلفهم ، فلم يفلت من أهل الخندق إلا من أسلم من تغلب وإياد والنمر.

قال سيف (١) : وكان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، قد عهد إلى سعد ، إن هزم أهل تكريت أن يأمر عبد الله بن المعتم بتسريح ربعى بن الأفكل العنزى إلى الحصنين ، وربعى هو الذي كان عمر رسم أن يكون على مقدمة عبد الله فى هذا الوجه ، فسرحه عبد الله إلى الحصنين ، وقال له : اسبق الخبر ، وسر ما دون القيل ، وأحى الليل ، وسرح معه تغلب وإياد والنمر ، فقدمهم وعليهم عتبة بن الوعل ، أحد بنى سعد بن جشم وذو القرط وأبو وداعة ابن أبى كرب وابن ذى السنينة قتيل الكلاب وابن الحجير الأيادي وبشر بن أبى حوط متساندين ، فساروا يسبقون إلى الحصنين خبر الهزيمة ليغزوا أهلها.

فلما كانوا قريبا منها ، قدموا عتبة بن الوعل فادعى الظفر والنفل والقفل ، ثم الرجال المسلمون آنفا واحدا بعد آخر ، كلما وصل واحد منهم ذكر مثل ما ذكر عتبة ، فوقفوا بالأبواب وقد أخذوا بها ، وأقبلت سرعان الخيل مع ربعى بن الأفكل ، حتى اقتحمت الحصنين على أهلهما ، فكانت إياها ، فنادوا بالإجابة إلى الصلح ، فأقام من استجاب ، وهرب من لم يستجب ، إلى أن أتاهم عبد الله بن المعتم ، فدعا من لج وهرب ، ووفى لمن أقام ، فتراجع الهارب واغتبط مع المقيم ، وصارت لهم جميعا الذمة والمنعة ، واقتسم المسلمون بتكريت ما أفاء الله عليهم على أن لكل سهم ألف درهم للفارس ثلاثة آلاف وللراجل ألف ، وبعثوا بالأخماس مع فرات بن حيان (٢) ، وبالفتح مع الحارث بن حسان (٣) ، وولى حرب الموصل ربعى بن الأفكل ، والخراج عرفجة بن هرثمة.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٣٦).

(٢) انظر ترجمته فى : الثقات (٣ / ٣٣٣) ، الإكمال (٢ / ٣٢٥) ، الطبقات الكبرى (٦ / ٤٠) ، تهذيب الكمال (٢ / ١٠٩٢) ، الجرح والتعديل (٧ / ٤٤٩ ، ٤٥٠) ، الإصابة ترجمة رقم (٦٩٨٠) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٢٠٥).

(٣) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (١٤٠٠) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٨٦٩) ، الثقات (٣ / ٧٥) ، تقريب التهذيب (١ / ١٤٠) ، الجرح والتعديل (٣ / ٣٢٥) ، تهذيب التهذيب (٢ / ١٣٩).

٥٣٢

ذكر يوم ماسبذان (١) ويوم قرقيسيا (٢)

ذكروا (٣) أنه لما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن ، بلغ سعدا أن آذين بن الهرمزان جمع جمعا ، فخرج بهم إلى السهل ، وأن أهل الجزيرة بعثوا جندا إلى هيت ، فكتب سعد بذلك إلى عمر ، فكتب إليه أن يبعث ضرار بن الخطاب فى جند إلى ابن الهرمزان ، ويبعث عمر بن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف فى جند إلى هيت ، ورسم لكلا الجندين صاحب مقدمتيه ومجنبتين وساقة وسماهم ، فخرج ضرار فى الجند ، وقدم صاحب مقدمته حتى انتهى إلى سهل ماسبذان ، فالتقوا بمكان يدعى بهندف ، فاقتتلوا به ، فأسرع المسلمون فى المشركين ، وأخذ ضرار آذين بن الهرمزان سلما ، فأسره فانهزم عنه جيشه ، فقدمه فضرب عنقه ، ثم خرج فى الطلب حتى انتهى إلى السيروان ، فأخذ ماسبذان عنوة ، فتطاير أهلها فى الجبال ، فدعاهم فاستجابوا له ، وأقام بها حتى تحول سعد من المدائن فأرسل إليه ، فنزل الكوفة واستخلف على ماسبذان ، وكانت إحدى فروج الكوفة.

وخرج عمر بن مالك فى جنده سائرا نحو هيت (٤) ، وقدم الحارث بن يزيد العامرى ، وهو المعين لمقدمته ، حتى نزل بهيت وقد خندقوا عليهم ، فلما رأى عمر بن مالك امتناع القوم بخندقهم استطال أمرهم ، فترك الأخبية على حالها وخلف عليهم الحارث بن يزيد يحاصرهم ، وخرج فى نصف الناس يعارض الطريق حتى جاء قرقيسيا فى عرة ، فأخذها عنوة ، فأجاب أهلها إلى الجزاء ، وكتب إلى الحارث فى أهل هيت : إن هم استجابوا فخل عنهم وإلا فخندق على خندقهم خندقا أبوابه مما يليك حتى أرى من رأيى ، فسمحوا بالاستجابة ، وانضم الجند إلى عمر بن مالك والأعاجم إلى أهل بلدهم.

وقال ضرار بن الخطاب يذكر ملتقاهم بهندف :

ولما لقينا فى بهندف جمعهم

تنادوا وقالوا يا صبر وايال فارس

فقلنا جميعا نحن أصبر منكم

وأكرم فى يوم الوغى والتمارس

__________________

(١) ماسبذان : أحد فروج الشام بالقرب من هيت. انظر : الروض المعطار (ص ٥١٩).

(٢) قرقيسيا : كورة من كور ديار ربيعة ، كانت فى الجانب الشرقى من الفرات. انظر : الروض المعطار (ص ٤٥٥).

(٣) انظر الخبر فى : الطبرى (٤ / ٣٧ ، ٣٨) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٣٦٦ ، ٣٦٧) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٧٢ ، ٧٣).

(٤) هيت : مدينة بين الرحبة وبغداد ، وهى على شاطئ الفرات. انظر : الروض المعطار (ص ٥٩٧).

٥٣٣

ضربناهم بالبيض حتى إذا انثنت

أقمنا لها ميلا بضرب القوانس

فولوا سراعا نحو دار أبيهم

وقد خومروا يوم الوغا بالوساوس

فما برحت خيلى تقص طريقهم

وتقتلهم بين اشتباك الخنادس

ذكر الحديث عن تمصير الكوفة والبصرة

وتحول سعد بن أبى وقاص عن المدائن إلى الكوفة

وما يندرج مع ذكر البصرة من فتح الأبلة (١)

ذكروا (٢) أنه جاء عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فتح جلولاء ، وما ذكر بعدها ، ونزول المسلمين حيث ذكر قبل نزولهم منها ، ولما قدمت الوفود بذلك عليه ، أنكرهم حين رآهم ، وقال : والله ما هيئتكم بالهيئة التي بدوتم بها ، ولقد قدمت وفود القادسية والمدائن وإنهم لكما بدوا ، فما غيركم؟ قالوا : وخومة البلاد ، فنظر فى حوائجهم ، وعجل سراحهم ، وكتب إلى سعد : أنبئنى ما الذي غير ألوان العرب ولحومهم؟.

فكتب إليه : إن العرب خددهم وغير ألوانهم وخومة المدائن ودجلة ، فكتب إليه عمر:إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان ، فابعث سلمان رائدا وحذيفة ، وكانا رائدى الجيش ، فليرتادا منزلا بريا بحريا ، ليس بينى وبينكم فيه بحر ولا جسر ، ولم يكن بقى من أمر الجيش شيء إلا وقد أسنده عمر إلى رجل ، فبعث سعد حذيفة وسلمان.

فخرج سلمان حتى أتى الأنبار ، فسار فى غربى الفرات لا يرى شيئا ، حتى أتى الكوفة ، وخرج حذيفة فى شرقى الفرات لا يرضى شيئا ، حتى أتى الكوفة ، فأتيا عليها وفيها ديارات ثلاث : دير حرقة ، ودير أم عمرو ، ودير سلسلة ، وأخصاص خلال ذلك ، فأعجبتهما البقعة ، فنزلا فصليا ، وقال كل واحد منهما : اللهم رب السماوات وما أظلت ، ورب الأرضين وما أقلت ، ورب الريح وما أذرت ، والنجوم وما هوت ، والبحار وما جرت ، والشياطين وما أضلت ، والخصاص وما أجنت ، بارك لنا فى هذه الكوفة ، واجعله منزل ثبات ، فرجعا إلى سعد بالخبر.

وذكر المدائنى أن الناس اجتووا المدائن بعد أن رجعوا من جلولاء ، فشكوا ذلك إلى

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٤٠) / فتوح البلدان للبلاذرى (ص ٣٣٨ ـ ٣٥٤ ، ٤٢٥ ـ ٤٥٨) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٦٧ ـ ٣٧١).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ٤٠).

٥٣٤

عمر ، فقال عمر : هل تصبر بها الإبل؟ قالوا : لا ؛ لأن بها بعوضا ، قال : فإن العرب لا تصبر ببلاد لا تصبر بها الإبل ، اخرجوا فارتادوا منزلا.

قال أبو وائل : فخرجنا فأردنا أن ننزل الحيرة ، فقال رجل من أهلها : يا معشر المعذبين ، ألا أدلكم على ما ارتفعت عن البعوضة وتطأطأت عن الثلجة وطعنت فى البرية وخالطت الريف؟ قلنا : بلى ، فدلنا على الكوفة ، فاختط الناس ونزلوا الكوفة ، فكتب إلى عمر بذلك.

وذكر سيف (١) عمن سماه من رجاله قالوا : مصر المسلمون المدائن وأوطنوها ، حتى إذا فرغوا من جلولاء وتكريت وأخذوا الحصنين ، كتب عمر إلى سعد أن ابعث عتبة بن غزوان (٢) إلى فرج الهند فليرتد منزلا يمصره ، وابعث معه سبعين رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وابعث بعده عرفجة بن هرثمة ، واجعل مكانه الحارث بن حسان ، وابعث عاصم بن عمرو ، وحذيفة بن محصن ، ومجزأة بن ثور ، والحصين بن القعقاع ، فخرج عتبة فى سبعمائة من المدائن واتبعه عرفجة فى سبعمائة ، ثم عاصم ثم حذيفة ثم مجزأة ثم الحصين ، كل واحد منهم فى سبعمائة ، ثم سعد بن سلمى فى سبعمائة ، فساروا حتى أتوا على البصرة اليوم فنزلوها وثبتوا بها ، والبصرة كل أرض حجارتها جص.

قالوا (٣) : ولما نزل أهل الكوفة الكوفة ، واستقرت بأهل البصرة الدار ، عرف القوم أنفسهم ، وثاب إليهم ما كانوا فقدوا ، ثم إن أهل المصرين استأذنوا فى بنيان القصب ، فقال عمر ، رضي‌الله‌عنه : العسكرة أجد لحربكم وأذكى لكم ، وما أحب أن أخالفكم ، وما القصب؟ قالوا : العكرش إذا روى قصب فصار قصبا ، قال : فشأنكم ، فابنوا بالقصب ، ثم وقع الحريق فى المصرين ، وكانت الكوفة أشدهما حريقا ، فاحترق ثمانون عرشا ، ولم يبق فيها قصبة ، فبعث سعد نفرا منهم إلى عمر يستأذنونه فى البنيان باللبن ، ويخبرونه عن الحريق وما بلغ منهم ، وكانوا لا يدعون شيئا ولا يأتونه إلا أمروه فيه ، فقال : ابنوا ، ولا يزدن أحد على ثلاثة أبيات ، ولا تطاولوا فى البنيان ، والزموا السنة تلزمكم الدولة ، فرجع القوم بذلك إلى الكوفة.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ٤٣).

(٢) انظر ترجمته فى : طبقات ابن سعد (٣ / ١ / ٦٩) ، التاريخ الكبير (٦ / ٥٢٠ ، ٥٢١) ، المعارف (٢٧٥) ، الجرح والتعديل (٦ / ٣٧٣) ، تاريخ بغداد (١ / ١٥٥ ـ ١٥٧) ، تهذيب التهذيب (٧ / ١٠٠) ، شذرات الذهب (١ / ٢٧) ، الإصابة ترجمة رقم (٥٤٢٧) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٣٥٥٦).

(٣) انظر : الطبرى (٤ / ٤٣).

٥٣٥

وكتب عمر إلى عتبة وأهل البصرة بمثل ذلك ، وعهد عمر إلى الوفد ، وتقدم إلى الناس ألا يرفعوا بنيانا فوق القدر ، قالوا : وما القدر؟ قال : ما لا يقربكم من السرف ، ولا يخرجكم من القصد.

فأول شيء خط بالكوفة ، وبنى حين عزموا على البناء المسجد ، فاختط ثم قام رجل شديد النزع ، فرمى عن يمينه ومن بين يديه ومن خلفه وعن شماله ، وأمر من شاء أن يا بنى وراء مواقع تلك السهام ، وبنوا لسعد دارا بحياله ، بينهما الطريق ، وجعل فيها بيوت الأموال ، وهى قصر الكوفة اليوم ، وبنى سعد فى الذي خطوا للقصر قصرا بحيال محراب مسجد الكوفة اليوم ، وجعل فيه بيت المال ، وسكن ناحيته ، ثم إن بيت المال نقب عليه منه ، فأخذ منه المال.

وكتب سعد بذلك إلى عمر ، ووصف له موضع الدار وبيوت المال من الصحن ، فكتب إليه عمر : أن انقل المسجد حتى تضعه إلى جانب الدار ، واجعل الدار قبالته ، فإن للمسجد أهلا بالنهار وبالليل ، وفيهم حصن لمالهم ، فنقل المسجد وأراع بنيانه ، فقال له دهقان من أهل همذان ، يقال له روزبه بن بزرجمهر : أنا أبنيه لك ، وأبنى لك قصرا وأصلهما ، ويكون بنيانا واحدا ، فخط قصر الكوفة على ما خط عليه ، ثم أنشأه من بعض آجر قصر كان للأكاسرة فى ضواحى الحيرة على مساحته اليوم ، ووضع المسجد بحيال بيوت الأموال ، وكان بنيانه على أساطين من رخام ، كانت لكنائس لكسرى بغير مجنبات ، فلم يزل على ذلك حتى بنى زمن معاوية بنيانه اليوم على يدى زياد.

ولما أراد زياد بناءه دعا بنائين من بنائى الجاهلية ، فوصف لهم موضع المسجد وقدره وما يزيد من طوله فى السماء ، وقال : أشتهى من ذلك شيئا لا أقع على صفته ، فقال له بناء قد كان بنى لكسرى : لا يجىء هذا إلا بأساطين من جبال الأهواز ، تنقر ثم تثقب ، وتحشى بالرصاص وبسفافيد الحديد ، فترفعه ثلاثين ذراعا فى السماء ثم تسقفه ، ثم تجعل له مجنبات ومواخر ، فيكون أثبت له ، فقال : هذه الصفة التي كانت نفسى تنازعنى إليها ولم تعبرها.

قال عطاء مولى إسحاق بن طلحة : كنت أجلس فى المسجد الأعظم من قبل أن يبنيه زياد ، وليست له مجنبات ولا مواخر ، فأرى منه دير هند وباب الجسر.

وذكر الطبرى (١) عن المدائنى أن عمر بن الخطاب وجه عتبة بن غزوان إلى البصرة

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٩٠).

٥٣٦

سنة أربع عشرة ، وذكر عن الشعبى قال : قتل مهران فى صفر سنة أربع عشرة ، فقال عمر لعتبة : قد فتح الله على إخوانكم الحيرة وما حولها ، وقتل عظيم من عظمائها ، ولست آمن أن يمدهم إخوانهم من أهل فارس ، فأنا أريد أن أوجهك إلى أرض الهند ، والبصرة يومئذ تدعى أرض الهند ، لتمنع أهل ذلك الحيز من إمداد إخوانهم على إخوانكم وتقاتلهم ، لعل الله أن يفتح عليكم ، فسر على بركة الله ، واتق الله ما استطعت ، واحكم بالعدل ، وصل الصلاة لوقتها ، وأكثر ذكر الله.

فأقبل عتبة فى ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا ، وضوى إليه قوم من الأعراب وأهل البوادى ، فقدم البصرة فى خمسمائة ، يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا.

وذكر من طريق آخر (١) أنه رقمها فى ثلاثمائة ، فلمّا رأى منبت القصب ، وسمع نقيق الضفادع قال : إن أمير المؤمنين أمرنى أن أنزل أقصى البر من أرض العرب ، وأدنى أرض الريف من أرض العجم ، فهذا حيث وجب علينا طاعة إمامنا ، فنزل الخريبة.

وفى حديث الشعبى (٢) : وليس بها ، يعنى بالبصرة ، يومئذ إلا سبع دساكر ، فكتب إلى عمر ، ووصف له منزله ، فكتب إليه عمر : أجمع الناس موضعا واحدا ولا تفرقهم ، وأقام عتبة أشهرا لا يغزو ولا يلقى أحدا.

وفى حديث آخر (٣) : أن عتبة أقبل بمن كان معه حتى إذا كانوا بالمربد وجدوا هذا الكذان ، قالوا : هذه البصرة ، فساروا حتى بلغوا حيال الجسر الصغير ، فإذا حلفاء وقصب نابتة ، فقالوا : هاهنا أمرتم ، فنزلوا دون صاحب الفرات ، فأتى فقيل له : إن هاهنا قوما معهم راية ، وهم يريدونك ، فأقبل فى أربعة آلاف أسوار ، فقال : ما هم إلا ما أرى ، اجعلوا فى أعناقهم الحبال ، وأتونى بهم ، فجعل عتبة يوجل ويقول : إنى شهدت القتال مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعنى فكان لا يقاتل حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر ، حتى إذا زالت الشمس ، قال عتبة لأصحابه : احملوا ، فحملوا عليهم فقتلوهم أجمعين ، إلا صاحب الفرات ، أخذوه أسيرا ، فقال عتبة : ابغوا لنا منزلا هو أنزه من هذا ، وكان يوم عكاك ، فرفعوا له منبرا ، فقام يخطب ، فقال : إن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء ، ولم يبق منها إلا صبابة الإناء ، ألا وأنكم منتقلون منها إلى دار القرار ، فانتقلوا بخير ما

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٩٤).

(٢) انظر : الطبرى (٣ / ٥٩١).

(٣) انظر : الطبرى (٣ / ٥٩١ ، ٥٩٢).

٥٣٧

بحضرتكم ، ولقد ذكر لى : أن صخرة ألقيت من شفير جهنم هوت سبعين خريفا ، ولتملأنه ، أفعجبتم! ولقد ذكر لى أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاما ، وليأتين عليه يوم وله كظيظ من الرخام ، ولقد رأيتنى وإنى لسابع سبعة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لنا طعام إلا ورق السمر ، حتى تقرحت أشداقنا ، والتقطت بردة فشققتها بينى وبين سعد ، فما منا من أولئك السبعة من أحد إلا وهو أمير مصر من الأمصار ، وستجربون الأمراء بعدنا.

وفى بعض ما ذكره الطبرى (١) من الأحاديث عن مقدم عتبة البصرة ، وأنه نزل الخريبة ، قال : وبالأبلة خمسمائة من الأساورة يحمونها ، وكان مرفأ السفن من الصين وما دونها ، فسار عتبة ، فنزل دار الإجانة ، فأقام نحوا من شهر ، ثم خرج إليه أهل الأبلة فناهضهم عتبة ، وجعل قطبة بن قتادة السدوسى ، وقسامة بن زهير المازنى فى عشرة فوارس ، وقال لهما : كونا فى ظهورنا ، فتردا المنهزم ، وتمنعا من أرادنا من ورائنا ، ثم التقوا فما اقتتلوا مقدار جزر جزور وقسمها ، حتى منحهم الله أكتافهم ، وولوا منهزمين ، حتى دخلوا المدينة ، ورجع عتبة إلى عسكره فأقاموا أياما وألقى الله فى قلوبهم الرعب فخرجوا عن المدينة ، وحملوا ما خف لهم ، وعبروا إلى الفرات ، وخلوا المدينة ، فدخلها المسلمون فأصابوا متاعا وسلاحا وسبيا وعينا ، فاقتسموا العين ، فأصاب كل رجل منهم درهمان ، وولى نافع بن الحارث أقباض الأبلة ، فأخرج خمسه ثم قسم الباقى بين من أفاء الله عليه ، وكتب بذلك مع نافع بن الحارث.

وقال داود بن أبى هند : أصاب المسلمون بالأبلة من الدراهم ستمائة درهم ، فأخذ كل رجل درهمين ، ففرض عمر لأصحاب الدرهمين فى ألفين من العطاء.

وقال الشعبى (٢) : شهد فتح الأبلة مائتان وسبعون ، فيهم أبو بكرة ، نفيع بن الحارث ، وشبل بن معبد ، والمغيرة بن شعبة ، ومجاشع بن مسعود ، وأبو مريم البلوى.

وفى حديث يروى عن عمرة ابنة قيس (٣) : أنه لما خرج الناس لقتال أهل الأبلة ، وكانوا حيالها ، قالوا للعدو : نعبر إليكم أو تعبرون إلينا؟ قال : اعبروا إلينا ، فأخذوا خشب العشر فأوثقوه ، وعبروا ، فقال المشركون : لا تأخذوا أولهم حتى يعبر آخرهم ،

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٩٤).

(٢) انظر : الطبرى (٣ / ٥٩٥).

(٣) انظر : الطبرى (٣ / ٥٩٧).

٥٣٨

فلما صاروا على الأرض كبروا تكبيرة ، ثم كبروا الثانية ، فقامت دوابهم على أرجلها ، ثم كبروا الثالثة ، فجعلت الدابة تضرب بصاحبها الأرض ، وجعلنا ننظر إلى رءوس تندر ، ما نرى من يضربها ، وفتح الله على أيديهم المدينة.

وقال سلمة بن المحبق (١) : شهدت فتح الأبلة ، فوقع فى سهمى قدر نحاس ، فلما نظرت إذا هى ذهب فيها ثمانون ألف مثقال ، وكتب فى ذلك إلى عمر ، فكتب : أن تصبر يمين سلمة بالله لقد أخذها يوم أخذها وهى عنده نحاس ، فإن حلف سلمت إليه ، وإلا قسمت بين المسلمين. قال : فحلفت فسلمت لى.

قال المثنى بن موسى بن سلمة : فأصول أموالنا اليوم منها.

وقال عباية بن عبد عمرو (٢) : شهدت فتح الأبلة مع عتبة ، فبعث نافعا إلى عمر ، وجمع لنا أهل دست ميسان ، فقال عتبة : أرى أن نسير إليهم ، فسرنا فلقينا مرزبان دست ميسان ، فقاتلناه ، فانهزم أصحابه وأخذ أسيرا ، فأخذ قباؤه ومنطقته فبعث بها عتبة مع أنس بن حجية اليشكرى.

قال أبو المليح الهذلى : فسأله عمر : كيف المسلمون؟ قال : انثالت عليهم الدنيا ، فهم يهيلون الذهب والفضة ، فرغب الناس فى البصرة فأتوها.

وعن على بن زيد قال : لما فرغ عتبة من الأبلة جمع له مرزبان دست ميسان ، فسار إليه عتبة من الأبلة فقتله ، ثم سرح مجاشع بن مسعود إلى الفرات وبها مدينة ، ووفد عتبة إلى عمر ، وأمر المغيرة بن شعبة أن يصلى بالناس حتى يقدم مجاشع من الفرات ، فإذا قدم فهو الأمير ، فظفر مجاشع بأهل الفرات ، ورجع إلى البصرة ، وجمع الميلكان ، عظيم من عظماء الأعاجم ، للمسلمين ، فخرج إليه المغيرة ، فلقيه بالمرغاب (٣) ، فظفر به ، فكتب إلى عمر بالفتح ، فقال عمر لعتبة : من استعملت على البصرة؟ فقال : مجاشع بن مسعود ، قال : تستعمل رجلا من أهل الوبر على أهل المدر؟ تدرى ما حدث؟ قال : لا ، فأخبره بما كان من أمر المغيرة ، وأمره أن يرجع إلى عمله ، فمات عتبة فى الطريق ، واستعمل عمر المغيرة.

وفى رواية أن أهل ميسان هم الذين جمعوا ، فلقيهم المغيرة ، وظهر عليهم قبل قدوم مجاشع من الفرات ، وبعد أن شخص عتبة إلى عمر أثر ما قتل مرزبان دست ميسان.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٩٦).

(٢) انظر : الطبرى (٣ / ٥٩٥).

(٣) المرغاب : موضع نهر بالبصرة. انظر : معجم البلدان (٥ / ١٠٧).

٥٣٩

وذكر الطبرى بسنده عن قتادة قال : جمع أهل ميسان للمسلمين ، فسار إليهم المغيرة ، وخلف الأثقال ، فلقيهم دون دجلة ، فقالت أردة بنت الحارث بن كلدة : لو لحقنا بالمسلمين فكنا معهم ، فاعتقدت لواء من خمارها ، واتخذ النساء من خمرهن رايات ، وخرجن يردن المسلمين ، فانتهين إليهم ، والمشركون يقاتلونهم ، فلما رأى المشركون الرايات مقبلة ، ظنوا أن مددا أتى المسلمين فانكشفوا ، واتبعهم المسلمون ، فقتلوا منهم عدة.

أردة بنت الحارث بن كلدة : هذه كانت تحت شبل بن معبد البجلى ، وكانت أختها صفية عند عتبة بن غزوان ، فلما ولى عتبة البصرة ، انحدر معه أصهاره ، أبو بكرة ونافع وشبل ، وانحدر معهم زياد ، فلما فتحوا الأبلة لم يجدوا قاسما يقسم بينهم ، فكان زياد قاسمهم ، وهو ابن أربع عشرة سنة ، له ذؤابة ، فأجروا عليه كل يوم درهمين.

قال الطبرى : وكان ممن سبى من ميسان يسار أبو الحسن البصرى ، وأرطبان جد عبد الله بن عون بن أرطبان.

والأخبار فى شأن هذين المصرين يوهم ظاهرها الاختلاف المتباين فى وقت عمارة المسلمين لهما ، فأكثرها على أن ذلك كان بعد المدائن ، وبعد جلولاء ، وقد ذكرنا ما ذكر الطبرى فى بعض ما أورده ، أن عمر وجه الناس مع عتبة إلى البصرة فى سنة أربع عشرة ، وهذا يقتضى أنه قبل القادسية ، فضلا عن المدائن ، وكذلك ذكر المدائنى من حديث حميد بن هلال ، أن خالد بن عمير العدوى حدثه قال : لما كان أيام القادسية ، كتب إلينا أهل الكوفة يستمدوننا ، فأمدهم أهل البصرة بألف وخمسمائة راكب ، كنت فيهم ، فقدمنا على سعد بالقادسية وهو مريض ، وذكر بقية الحديث.

ولعل نزول المسلمين بهذين الموضعين كان متقدما على تمصيرهما وبنيانهما بزمان ، ومع ذلك فلا يرتفع الخلاف فى ذلك بين الأخبار كل الارتفاع ، والله تعالى أعلم.

وكان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، قد أمر سعدا بعد ما وجهه إلى العراق أن يجعل الناس أعشارا ، فلما كان بعد ذلك رجح الأعشار بعضهم بعضا رجحانا كثيرا ، فكتب سعد إلى عمر فى تعديلهم ، فكتب إليه : أن عدلهم ، فأرسل سعد إلى قوم من نساب العرب وعقلائهم وذوى الرأى منهم ، كسعيد بن نمران ، ومشعلة بن نعيم ، فعدلوهم أسابعا ، فلم يزالوا كذلك عامة إمارة معاوية حتى ولى زياد فربعهم.

٥٤٠