الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

فارسهم ، فحملوا وحمل الناس حملة واحدة فانتهوا إليه وقد رمى فرسه بنشابة فسب فصرعه وعار ، وأخر عمرا عنه المشركون ، وذلك بعد ما طعنوه ، وإن سيفه لفى يده يضاربهم به.

فلما رأى أصحابه أخذ برجل فرس أسوار فاحتبسه ، وإن الفارسى ليضرب فرسه فما يتحرك ، فلما غشيه الجمع رمى بنفسه وخلا فرسه فركبه عمرو ، وقال : أنا أبو ثور كدتم تفقدوننى ، وثبت عمرو يقاتل فارسا وراجلا ، إذا قاتل راجلا شد مقود فرسه فى وسطه وقاتل.

وتزاحف الناس فقال رجل من المسلمين لرجل من الأنصار : أعرنى ترسك ، قال : ما بى عنه غنى ، ولكن أى أتراس العجم تريد أتيتك به إن شاء الله ، فأشار له إلى ترس مذهب ، فحمل فلم يزل يقاتل حتى خلص إلى صاحب الترس فقتله واستلب ترسه ، فأتى به صاحبه ، فقال : دونك.

وصار الناس إلى السيوف ، فقاتلوا حتى اعتموا وتحاجزوا عند العتمة عن قتلى وجرحى كثير فى الفريقين ، وقتل يومئذ رجل من طيئ يكنى أبا كعب رجلا من المشركين ، وأخذ قلنسوته فلبسها ، وأقبل يعدو به فرسه وهو يقاتل ، فنظر إليه رجل من بجيلة يقال له مضرس ، وهو يقاتل ، فظن أنه من الفرس فطعنه ، فقال : بسم الله ، قتلتنى ، فقال مضرس : إنا لله وعانقه ، فقال : غفر الله لك يا أخى ، فبكى مضرس واحتمل أبو كعب ، فقال سعد : الشهادة لا تقاد ، ولا كل ميتة مظنون غيرها ، ولكن من أحب أخذ الدية ، فكان مضرس يأتيه يعوده فيبكى حتى تبل دموعه لحيته ، ويقول أبو كعب : غفر الله لك يا أخى.

وقال أبو كعب :

لعمرى لقد ثارت رماح مضرس

بعلج هوى فى الصف من آل فارس

ثم مات أبو كعب بعد أيام من تلك الطعنة ، وصفح وليه عن الدية.

ويروى أنه عرض مثل هذا بعينه لرجل آخر من طيئ ، أيضا ، يقال له : بجير بن عميرة ، وكان أحمر شبيها بالعجم ، فاستلب رجلا من أهل فارس رايته فأقبل بها ، فبصر به رجل من كندة يدعى فروة ، فحمل عليه فطعنه ، فأصاب مقتله ، فنادى بجير : بسم الله ، فاعتنقه فروة ، فأتيا سعدا فقال لهما : إن الشهادة لا ثواب لها فى الدنيا ، ولكن كفوا العجلات.

٤٨١

وخرج يومئذ رجل من أهل فارس ينادى : من يبارز ، فبرز له علباء بن جحش العجلى ، فبعجه علباء ، فأصاب سحره ، وبعج الفارسى علباء فخرق أمعاءه ، وخرا جميعا ، فأما الفارسى فمات من ساعته ، وأما الآخر فانتثرت أمعاؤه ، فلم يستطع القيام ، فعالج ادخالها فلم يتأت له حتى مر به رجل من المسلمين فقال له : يا هذا أعنى على بطنى ، فأدخله له ، فأخذ بصفاقيه ثم زحف نحو صف فارس ما يلتفت إلى المسلمين ، فأدركه الموت على رأس ثلاثين ذراعا من مصرعه إلى صف فارس. فقال :

أرجو بها من ربنا الثوابا

قد كنت ممن يحسن الضرابا

قالوا (١) : وقاتلت الفرسان يوم الكتائب فيما بين أن أصبحوا إلى انتصاف الليل ، فكانت ليلة أرماث تدعى ليلة الهدأة ، وليلة أغواث تدعى ليلة السواد ، والنصف الأول يدعى السواد ، ثم لم يزل المسلمون يرون فى يوم أغواث الظفر على فارس ، وقتلوا فيه عامة أعلامهم ، وجالت فيه خيل القلب ، وثبت رجلهم ، فلو لا أن خيلهم كرت أخذ رستم أخذا ، فلما ذهب السواد تفايأ الناس وباتوا على مثل ما بات القوم عليه ليلة أرماث ، ولم يزل المسلمون ينتمون لدن أمسوا إلى أن تفايئوا.

فلما أمسى سعد وسمع ذلك نام ، وقال لبعض من عنده : إن تم الناس على الانتماء فلا توقظونى ، فإنهم أقوياء على عدوهم ، وإن سكتوا ولم ينتم الآخرون فلا توقظونى ، فإنهم على التساوى ، فإن سمعتم ينتمون فأيقظنى ، فإنما انتماؤهم من السوء.

قالوا (٢) : ولما اشتد القتال بالسواد ، وكان أبو محجن قد حبس وقيد ، فهو فى القصر ، صعد حين أمسى إلى سعد يستعفيه ويستقيله ، فزبره سعد ورده فنزل ، وأتى سلمى بنت خصفة ، فقال لها : يا بنت خصفة ، هل لك إلى خير؟ قالت : وما ذاك؟ قال : تخلين عنى وتعيرننى البلقاء ، فالله علىّ إن سلمنى الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلى فى قيدى ، وإن أصبت وخشيت هذا فما أكثر من يفلت ويجرب صاحبه. فقالت : وما أنا وذاك فرجع يرسف فى قيوده ويقول :

كفى حزنا أن تردى الخيل بالقنا

وأترك مشدودا علىّ وثاقيا

إذا قمت عنانى الحديد وأغلقت

مصاريع من دونى تصم المناديا

وقد كنت ذا مال كثير وإخوة

فقد تركونى واحدا لا أخا ليا

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٤٦ ، ٥٤٧).

(٢) انظر : الطبرى (٣ / ٥٤٨ ـ ٥٥٠).

٤٨٢

ولله عهد لا أخيس بعهده

لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا (١)

فقالت سلمى : إنى استخرت الله ورضيت بعهدك ، فأطلقته ، وقالت : أما الفرس فلا أعيرها ، ورجعت إلى بيتها ، فاقتاد أبو محجن الفرس فأخرجها من باب القصر الذي يلى الخندق فركبها ، قيل بسرجها ، وقيل : عريا ، ثم ذبب عليها حتى إذا كان بحيال الميمنة كبر ، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين ، ثم رجع من خلف المسلمين إلى الميسرة ، فكبر وحمل على ميمنة القوم ، يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه ، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فبرز أمام الناس ، فحمل على القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه ، وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفا منكرا ويعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه من النهار ، فقال بعضهم : أوائل أصحاب هاشم بن عتبة أو هاشم نفسه.

وجعل سعد يقول وهو مشرف على الناس مكب من فوق القصر : والله لو لا محبس أبى محجن الثقفى لقلت : إن هذا أبو محجن وهذه البلقاء. وقال بعض الناس : إن كان الخضر يشهد الحروب فنظن أن صاحب البلقاء الخضر ، وقال آخرون : والله لو لا أن الملائكة لا تباشر القتال لقلنا : ملك بيننا ، ولا يذكر الناس أبا محجن ولا يأبهون له ، لمبيته فى محبسه ، فلما انتصف الليل حاجز أهل فارس وتراجع المسلمون ، وأقبل أبو محجن حتى دخل من حيث خرج ، فوضع عن نفسه وعن دابته ، وأعاد رجله فى قيده ، وقال :

لقد علمت ثقيف غير فخر

بأنا نحن أكثرهم سيوفا

وأكثرهم دروعا سابغات

وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا

وأنا وفدهم فى كل يوم

فإن عيوا فسل بهم عروفا

وليلة قادس لم يشعروا بى

ولم أشعر بمخرجى الزحوفا

فإن أحبس فذلكم بلائى

وإن ترك أذيقهم الحتوفا

فقالت له سلمى : فى أى شيء حبسك هذا الرجل؟ قال : أما والله ما حبسنى لحرام أكلته ولا شربته ، ولكنى كنت صاحب شراب فى الجاهلية ، وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر فى لسانى ، وينبعث على شفتى ، فيساء لذلك ثنائى ، فعلى ذلك حبسنى. قلت :

إذا مت فادفنى إلى جنب كرمة

تروى عظامى بعد موتى عروقها

ولا تدفننى بالفلاة فإننى

أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

__________________

(١) انظر الأبيات فى : الأغانى للأصفهانى (٢١ / ١٣٩ ، ١٤٠) ، مروج الذهب للمسعودى (١ / ٥٢٨ ـ ٥٣٠) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٣٠).

٤٨٣

ولم تزل سلمى مغاضبة لسعد عشية أرماث ، وليلة السواد ، حتى إذا أصبحت أتته فصالحته وأخبرته خبرها وخبر أبى محجن ، فدعا به فأطلقته ، وقال : اذهب فما أنا بمؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله ، قال : لا جرم ، والله لا أجيب لسانى إلى صفة قبيح أبدا.

حديث يوم عماس ، وهو اليوم الثالث من أيام القادسية

قالوا (١) : وأصبح المسلمون من اليوم الثالث ، وهم على مواقفهم ، وأصبحت الأعاجم كذلك ، وبين هؤلاء وهؤلاء قدر ميل فى عرض ما بين الصفين ، وقد قتل من المسلمين ألفان بين رثيث وميت ، ومن المشركين عشرة آلاف. وقال سعد : من شاء غسل الشهيد الميت والرثيث ، ومن شاء فليدفنهم بدمائهم ، وجعلهم المسلمون وراء ظهورهم ، وأقبل الذين يحملونهم إلى القبور ، يتبعون القتلى ويبلغون الرثيث إلى النساء ، وكان النساء والصبيان يحفرون المقابر فى اليومين : يوم أرماث ويوم أغواث ، بعدوتى مشرق ، وكان فى الطريق أصل نخلة بين القادسية والعذيب ، ليس بينهما يومئذ نخلة غيرها ، فكان الرثيث إذا انتهى بهم إليها وأحدهم يعقل سألهم أن يقفوا به تحتها يستروح إلى ظلها ، فمر حاجب بن يزيد ، وكان على الشهداء بتلك النخلة مع بعض الشهداء بتلك النخلة مع بعض الشهداء وولاتهم ، ورجل من الجرحى من طيئ يدعى يقول وهو مستظل بظلها :

ألا يا اسلمى يا نخلة بين قادس

وبين العذيب لا يجاورك النخل

وآخر من بنى ضبة أو من بنى ثور يدعى غيلان ، وهو يقول :

ألا يا اسلمى يا نخلة فوق جرعة

يجاورك الجمان والرمث والرغل

قالوا (٢) : وبات القعقاع ليلته كلها يسرب أصحابه إلى المكان الذي فارقهم فيه بالأمس ، ثم قال : إذا طلعت لكم الشمس ، فأقبلوا مائة مائة ، وكلما توارت عنكم مائة فليتبعها مائة ، فإن جاء هاشم فذاك وإلا جددتم للناس رجاء وجدا ، ففعلوا ، ولا يشعر بذلك أحد ، وكان مكانهم مما صنع الله للمسلمين ، فلما ذر قرن الشمس والقعقاع يلاحظ الخيل ، طلعت نواصيها ، فكبر وكبر الناس ، وقالوا : جاء المدد.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٥٠).

(٢) انظر : الطبرى (٣ / ٥٥١ ، ٥٥٢).

٤٨٤

وقد كان عاصم بن عمرو أمر أن يصنع مثلها ، فجاءوا من قبل خفان ، فتقدم الفرسان وتكتبت الكتائب ، فاختلف الطعن والضرب ، ومدد المسلمين متتابع ، فما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى انتهى إليهم هاشم ، وقد طوى فى سبعمائة ، فأخبروه برأى القعقاع وما صنع فى يومه ، فعبأ أصحابه سبعين سبعين ، فلما نجز آخر أصحاب القعقاع خرج هاشم فى سبعين معه ، فيهم قيس بن هبيرة المرادى ، وهو ابن المكشوح ، فأقبل هاشم حتى إذا خالط القلب ، كبر وكبر المسلمون ، وقد أخذوا مصافهم ، وقال هاشم : أول القتال المطاردة ثم المراماة ، فأخذ قوسه ، فوضع سهما ثم نزع فرفعت فرسه رأسها ، فخل أذنيها ، فضحك وقال : وا سوأتاه من رمية رجل ينتظره كل من رآه ، أين ترون سهمى كان بالغا؟ فقيل : العتيق. فنزقها وقد نزع السهم عن أذنيها ، ثم ضربها حتى وقفت على العتيق ، ثم ضربها فأقبلت تخرقهم حتى عاد إلى موقفه ، وقيل : إنه نزل عن فرسه وفعل ذلك راجلا ، فالله أعلم.

وما زالت مقانبه تطلع وقد بات المشركون فى علاج توابيتهم حتى أعادوها على الفيلة ، فأصبحوا على موافقهم ، وأقبلت الفيلة معها الرجالة يحمونها أن تقطع وضنها ، ومع الرجالة فرسان يحمونهم ، إذا أرادوا كتيبة دلفوا إليها بفيل وأتباعه ، لينفروا بهم خيلهم ، فلم يكن ذلك منهم كما كان بالأمس ؛ لأن الفيل إذا كان وحده ليس معه أحد كان أوحش ، وإذا طافوا به كان آنس ، فكان الفيل كذلك حتى عدل النهار.

ولما قدم قيس بن المكشوح مع هاشم ، قام فيمن يليه فقال : يا معشر العرب ، إن الله ، عزوجل ، قد من عليكم بالإسلام ، وأكرمكم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا ، دعوتكم واحدة وأمركم واحد ، بعد إذ أنتم يعدو بعضكم على بعض عدو الأسد ، ويختطف بعضكم بعضا اختطاف الذئاب ، فانصروا الله ينصركم ، وتنجزوا من الله تعالى فتح فارس ، فإن إخوتكم من أهل الشام قد أنجز الله تعالى لهم فتح الشام ، وانتثال القصور الحمر والحصون الحمر.

وخرج يوم عماس رجل من العجم حتى إذا كان بين الصفين هدر وشقشق ونادى : من يبارز؟ فخرج إليه رجل من المسلمين يقال له : شبر بن علقمة ، وكان قصيرا دميما ، فقال : يا معشر المسلمين ، قد أنصفكم الرجل ، فلم يجبه أحد ، ولم يخرج إليه أحد ، فقال: أما والله لو لا أن تزدرونى لخرجت إليه ، فلما رأى أنه لا يمنع أخذ سيفه وجحفته ، ثم تقدم ، فلما رآه الفارسى هدر ، ثم نزل إليه فاحتمله ، فألقاه ثم جلس على صدره ثم أخذ سيفه ليذبحه ، ومقود فرسه مشدود بمنطقته ، فلما استل السيف حاص الفرس حيصة

٤٨٥

فجذبه المقود فقلبه عنه ، فقام إليه وهو يسحب فافترسه ، فجعل أصحابه المسلمون يصيحون به ، فقال : صيحوا ما بدا لكم ، فو الله لا أفارقه حتى أقتله ثم أسلبه ، فذبحه وسلبه ، ثم أتى سعدا بالسلب فنفله إياه ، فباعه باثنى عشر ألفا.

قالوا (١) : ولما رأى سعد الفيلة تفرق الناس ، وعادت لفعلها يوم أرماث ، سأل : هل لها مقاتل؟ فقيل له : نعم ، المشافر والعيون لا تنتفع بها بعدها ، فأرسل إلى القعقاع وأخيه عاصم : أن اكفيانى الفيل الأبيض ، وكان بإزائهما ، فأخذ القعقاع وعاصم رمحين أصمين لينين ودنوا فى خيل ورجل ، وقالا : اكتنفوه لتحيروه ، وفعل الآخران مثل ذلك ، فلما اكتنف الفيلان نظر كل واحد منهما يمنة ويسرة وهما يريدان أن يتخبطا ، فحمل القعقاع وعاصم والفيل البيض متشاغل بمن حوله فوضعا رمحيهما معا فى عينيه ، وقبع ونفض رأسه فطرح سائسه ودلى مشفره ، فنفخه القعقاع ورمى به ووقع لجنبه ، وقتلوا كل من كان عليه ، وقال حمال لصاحبه وقد قصدا إلى الفيل الأجرب : إما أن تضرب المشفر وأطعن فى عينه ، أو تطعن فى عينه وأضرب مشفره ، فاختار صاحبه الضرب ، فحمل عليه حمال وهو متشاغل بملاحظة من اكتنفه ، لا يخاف سائسه إلا على بطانه فطعنه فى عينه ، فأقعى ، ثم استوى فنفخه الآخر ، فأبان مشفره ، وبصر به السائس ففقر أنفه وجبينه بفأسه.

ويروى أن الفيلين صاحا عند ذلك صياح الخنزير ، ثم ولى الأجرب الذي عور فوثب فى العتيق ، فاتبعته الفيلة فخرقت صف الأعاجم ، فعبرت العتيق فى أثره فبيتت المدائن فى توابيتها وهلك من فيها.

وقيل : إنه بقى منها الفيل الأبيض ، لم يبق فى المعركة غيره ، وإن الناس رشقوا مشافر الفيلة ، فعند ذلك انبعث الفيل الآخر فلم تنته عن المدائن ، وكانت تفعل بالناس الأفاعيل فاستقام للناس بعدها وجه القتال ، وخلصوا بأهل فارس ، فاجتلدوا على جرد بالسيوف حتى أمسوا وهم فى ذلك على السواء.

فكان يوم عماس من أوله إلى آخره شديدا ، العرب والعجم فيه على السواء ، ولا يكون بينهم لفظة إلا تقاولها الرجال بالأصوات حتى تبلغ يزدجرد بالمدائن ، إذ كان قد أمر رستم بأن يرتب الرجال على الطريق بينهما ليبلغه بالتنادى ما يطرأ فى العسكر من حينه ، فيرسل إليهم أهل النجدات ممن بقى عنده فيتقوون بهم ، وأصبحت عنده للذى

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٥٥ ، ٥٥٦).

٤٨٦

لقى بالأمس الأمداد على البرد ، فلو لا الذي صنع الله للمسلمين فى الذي ألهم إليه القعقاع فى اليومين ، وما أتاح لهم بهاشم لكسر ذلك المسلمين.

وأصيب يومئذ مؤذن سعد بن أبى وقاص فتشاح الناس على الأذان ، حتى كادوا يجتلدون بالسيوف ، فأقرع بينهم سعد.

قالوا (١) : ولما أمسى الناس من يومهم ذلك ، وأطعنوا إلى الليل ، واشتد القتال فصبر الفريقان ، فخرجا على السواء فلم يسمع إلا الغمائم من هؤلاء وهؤلاء ، فسميت ليلة الهرير ، ولم يكن بعدها قتال بليل فى القادسية.

وجدد المشركون فى تلك الليلة تعبئة ، وأخذوا فى أمر لم يكونوا عليه فى الأيام الثلاثة ، وبقى المسلمون على تعبئتهم ، فخرج مسعود بن مالك الأسدي ، وقيس بن هبيرة المرادى ، وهو ابن المكشوح ، وأشباههم فطاردوا القوم وحركوهم للقتال ، فإذا هم فيه أمة لا يشهدون ولا يريدون إلا الزحف ، فقال قيس بن مكشوح لمن يليه ، ولم يشهد شيئا من لياليها إلا تلك الليلة : إن عدوكم قد أبى إلا المزاحفة ، والرأى رأى الأمير ، وليس بأن تحمل الخيل ليس معها الرجال ، فإن القوم إذا زحفوا وطاردهم عدوهم على الخيل لا رجال معهم عقروا بهم ، ولم يطيقوا أن يقدموا عليهم ، فتيسروا للحملة.

وقال دريد بن كعب النخعي ، وكان معه لواء النخع : إن المسلمين قد تهيئوا للمزاحفة ، فاسبقوا المؤمنين الليلة إلى الله والجهاد ، فإنه لا يسبق الليلة أحد إلا كان ثوابه على قدر سبقه ، فنافسوهم فى الشهادة ، وطيبوا بالموت أنفسا ، فإنه لا نجاء من الموت إن كنتم تريدون الحياة ، وإلا فالآخرة ما أردتم.

وقال الأشعث بن قيس : يا معشر العرب ، إنه لا ينبغى أن يكون هؤلاء أجرأ على الموت ولا أسخى أنفسا عن الدنيا منكم ، تنافسوا ولا تجزعوا من القتل فإنه أمانى الكرام ، ومنايا الشهداء ، وترجل.

وقال حنظلة بن الربيع (٢) وأمراء الأعشار : ترجلوا أيها الناس ، وافعلوا كما نفعل ، ولا

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٥٧).

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (١٨٦٤) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٢٨٠) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١٤٢) ، الطبقات (١ / ٤٣ ، ١٢٩) ، تهذيب الكمال (١ / ٣٤٣) ، الإكمال (١ / ٧٣) ، تقريب التهذيب (١ / ٢١٦) ، الجرح والتعديل (٣ / ١٠٥٩) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٦٠ ، ٦٣).

٤٨٧

تجزعوا مما لا بد منه ، فالصبر أنجى من الجزع. وفعل طليحة وغالب أهل النجدات من جميع القبائل مثل ذلك.

وقال أنس بن الجليس : شهدت ليلة الهرير ، فكان صليل الحديد فيها كضرب القيون ليلتهم حتى الصباح ، أفرغ عليهم الصبر إفراغا.

وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها ، ورأى العرب والعجم أمرا لم يروا مثله قط ، وانقطعت الأصوات والأخبار عن سعد ورستم ، فبعث سعد فى تلك الليلة نجادا ، وهو غلام ، إلى الصف ، إذ لم يجد رسولا ، فقال : انظر ما ذا ترى من حالهم ، فرجع إليه فقال : ما رأيت يا بنى؟ فقال : رأيتهم يلعبون ، فقال : أو يجدون. فأقبل سعد على الدعاء ، حتى إذا كان فى وجه الصبح ، انتمى الناس فاستدل سعد بذلك على أنهم الأعلون ، وأن الغلبة لهم.

قال بعضهم : أول شيء سمعه سعد ليلتئذ مما يستدل به على الفتح فى نصف الليل الباقى صوت القعقاع بن عمرو وهو يقول :

نحن قتلنا معشرا وزائدا

أربعة وخمسة وواحدا

تحسب فوق البلد الأساودا

حتى إذا ماتوا دعوت واحدا

الله ربى واحترزت جاهدا

فاستدل سعد بهذا ، وبما سمع معه من غير القعقاع من الانتماء ، واتسع له الرجاء ، فسمع عمرو بن معدى كرب يقول : أنا ابن أسلة ، وطليحة يقول : أنا ابن ليلى ، وسعد بن عمارة يقول : أنا ابن أروى ، ثم سمع الانتساب من كل ناحية : خذها وأنا الغلام الجرمى من النخع ، خذها وأنا الغلام المالكى من بنى أسد ، خذها وأنا الغلام الأسعدى من عجل ، فأصبحوا والناس على مواقفهم متحاجزين ، فصلى المسلمون الغداة وفضوا من شأنهم.

خبر اليوم الرابع من أيام القادسية

وهذا أهو آخر أيامها ، ويسمى من بينها : يوم القادسية ، وفيه قتل الله رستم ، وأتم الفتح للمسلمين.

قالوا (١) : وأصبح الناس ذلك اليوم حسرى ، لم يغمضوا ليلتهم كلها ، فسار القعقاع

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٦٣).

٤٨٨

فى الناس ، فقال : إن الدبرة بعد ساعة لمن بدأ اليوم ، فاصبروا واحملوا ، فإن النصر مع الصبر. فاجتمع إليه هلال بن علفة ، ومالك بن ربيعة ، والكلح الضبى ، وضرار بن الخطاب ، وابن الهذيل ، وغالب ، وطليحة ، وعاصم بن عمرو بن ذى البردين ، وأمثالهم ممن اختصر ذكره ، ومعهم عشائرهم. ثم صمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح.

ولما رأت ذلك القبائل قام فيهم رجال منهم ، فقالوا : لا يكونن هؤلاء أجد فى أمر الله تعالى ، منكم ، ولا أسخى نفسا عن الدنيا ، تنافسوها. فحملوا مما يليهم حتى خالطوا الذين بإزائهم.

وقام فى ربيعة عتيبة بن النهاس ، وفرات بن حيان ، والمعنى بن حارثة ، وسعيد بن مرة ، فى أمثالهم ، فقالوا : أنتم أعلم الناس بفارس وأجرؤهم عليهم فيما مضى ، فما يمنعكم اليوم أن تكونوا أجرأ مما كنتم.

واقتتل الناس إلى أن انفرج قلب المشركين حين قام قائم الظهيرة ، وقد ركد عليهم النقع ، واشتد الحر ، وسقفتهم الشمس ، فهبت ريح عاصف ، فقلعت طيارة رستم عن سريره ، فهوت فى العتيق ، فانتهى القعقاع وأصحابه إلى السرير فعثروا به ، وقد قام رستم عنه حين طارت الريح بالطيارة إلى بغال قدمت عليه يومئذ بمال فهى واقفة ، فاستظل فى ظل بغل منها وحمله ، وضرب هلال بن علفة العدل الذي على البغل الذي رستم تحته ، فقطع حباله ، فوقع عليه أحد العدلين ، ولا يراه هلال ولا يشعر به ، فأزال من ظهره فقارا ، ويضربه ضربة فنفحت مسكا ، ومضى رستم نحو العتيق فرمى بنفسه فيه ، فاقتحمه عليه هلال ، فتناوله وقد عام ، فأخرجه ثم ضرب جبينه بالسيف حتى قتله ، ثم جاء به فرمى به بين أرجل البغال ، وصعد السرير ، ثم نادى : قتلت رستما ورب الكعبة ، إلىّ إلىّ ، فأطافوا به ما يحسون السرير وما يرونه ، وكبروا وتنادوا ، وانبت قلب المشركون عندها وانهزموا ، وقام الجالينوس على الردم ، ونادى أهل فارس إلى العبور ، وانسفى الغبار ، فأما المقترنون فإنهم خشعوا فتهافتوا فى العتيق ، فوخزهم المسلمون برماحهم فما أفلت منهم مخبر ، وهم ثلاثون ألفا.

وأخذ ضرار بن الخطاب «درفش كابيان» ، راية كسرى ، فعوض عنها ثلاثين ألفا ، وكانت قيمتها ألف ألف ومائتى ألف ، وقتلوا فى المعركة من الليل ، يعنى ليلة الهرير ، عشرة آلاف سوى من قتلوا فى تلك الثلاثة الأيام.

٤٨٩

وأكب المسلمون على من ثبت لهم وعلى من سفل منهم عن الردم ومن ارتفع عنه فقتلوا منهم ستين ألفا ، فقتلوا يوم القادسية مائة ألف سوى من قتلوا فى الأيام قبله.

قالوا : فلما انكشف أهل فارس ، فلم يبق منهم بين الخندق والعتيق أحد ، وطبقت القتلى ما بين قديس والعتيق أمر سعد زهرة بن جوية باتباعهم ، فنادى زهرة فى المقدمات وساروا ، وأمر سعد القعقاع بمن سفل ، وشرحبيل بمن علا ، وأمر خالد بن عرفطة بسلب القتلى وبدفن الشهداء ليلة الهرير ويوم القادسية ، ألفين وخمسمائة ، وقيل : ثلاثة آلاف ، من وراء العتيق بحيال مشرق ، ودفن شهداء الأيام الثلاثة قبل ذلك على مشرق ، ويقال : كانوا ألفين وخمسمائة ، وجمعت الأسلاب والأموال ، فجمع منها شيء لم يجمع قبله ولا بعده ، وأرسل سعد إلى هلال بن علفة فدعا له ، فقال : أين صاحبك؟ يعنى رستما. قال: رميت به تحت بغل ، فقال : اذهب فجئ به ، فذهب فجاء به. فقال له سعد : جرده إلا ما شئت ، فخذ سلبه ، فلم يدع عليه شيئا ، ويقال : إنه باع الذي سلبه بسبعين ألفا ، وكان قد تخفف حين وقع فى الماء ، ولم توجد قلنسوته ، وكانت قيمتها مائة ألف.

وجاء نفر من العباد حتى دخلوا على سعد ، فرأوا رستما ببابه مطروحا ، فقالوا : أيها الأمير ، رأينا جسد رستم على باب قصرك وعليه رأس غيره ، وكأن الضرب قد شوهه ، فضحك سعد ، وخرج زهرة فى آثار أهل فارس ، فانتهى إلى الردم وقد تبعوه ليمنعوهم به من الطلب ، فقال زهرة لبكير بن عبد الله الليثى ، وهو الذي يقال له فارس أطلال ، وهو اسم فرس له كان يعرف بها : يا بكير ، أقدم ، وكان يقاتل على الإناث ، فضرب فرسه ، وقال : ثبى أطلال ، فتجمعت وقالت : وثبا وسورة البقرة ثم وثبت ووثب زهرة ، وكان على حصان ، وتتابع ذلك ثلاثمائة فارس ، فلحق زهرة بالقوم والجالينوس فى آخرهم يحميهم ، فشاوله زهرة ، فاختلفا ضربتين ، فقتله زهرة ، وأخذ سلبه ، وقتل أولئك الفرار ما بين الخرارة إلى السيلحين إلى النجف ، ورجع زهرة فى أصحابه حين أمسوا ، فباتوا بالقادسية ، ولما رجع القعقاع وشرحبيل إلى سعد ، قال لشرحبيل : اغد فى طلب القعقاع ، وقال للقعقاع : اغد فى طلب شرحبيل فعلا هذا ، وسفل هذا ، حتى بلغا مقدار الخرارة من القادسية.

قال الشعبى : خرج القعقاع وأخوه وشرحبيل فى طلب من ارتفع وسفل ، فقتلوهم فى كل قرية وأجمة وشاطئ نهر ، ورجعوا ، فوافوا صلاة الظهر ، وهنأ الناس أميرهم ، وأثنى على كل حى خيرا ، وذكره منهم.

٤٩٠

وقال فى ذلك هلال بن علفة :

جدعت أنوف العجم يوم لقيتهم

برستم والجمعان فى أشغل الشغل

فضضت به رض الصفوف فقوضت

صفوفهم والحرب جاحمة تغلى

وقال الشماخ فى قصيدة يرثى بكير بن عبد الله ، فارس أطلال ، ويذكر ما كان من فرسه فى وثبتها المذكورة قبل :

وغيب عن خيل بموقان أسلمت

بكير بنى الشدّاخ فارس أطلال

غداة اقتحام القوم من بعد نطقها

وحلفتها عرض العتيق بإدلال

ولما قتل زهرة الجالينوس وأخذ سلبه ، جاء به إلى سعد ، فعرفه الأسارى الذين كانوا عند سعد ، وقالوا : هذا سلب الجالينوس ، وكان سيدا من ساداتهم ، وعظيما من عظمائهم ، فقال سعد لزهرة : هل أعانك عليه أحد؟ قال : نعم. قال : من؟ قال : الله عزوجل. فنفله إياه.

وقيل : إنما جاء بالسلب وقد لبسه ، فانتزعه منه سعد ، وقال : ألا انتظرت إذنى ، وكتب فيه إلى عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فكتب إليه عمر : أن يمضى لزهرة ذلك السلب ، وعاتب سعدا فى كتابه ، وقال له : تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بما صلى به وبقى عليك ما بقى من حربك ، تكسر قرنه وتفسد قلبه.

ويروى أن سعدا استكثر له السلب ، فكتب فيه إلى عمر ، فكتب إليه : إنى قد نفلت من قتل رجلا سلبه ، فدفعه إليه سعد ، فباعه بسبعين ألفا.

وقال زهرة فى قتل الجالينوس :

تبعنا جيوش الجالينوس وقد رأى

بعينيه أمرا ذا إياس منكرا

لحقنا به نرمى الكرانيف سادرا

ويعجب إذ خلى الجموح وشمرا

فوليته لما التقينا مصمما

أراه محيا الموت أحمر أصفرا

وقال سيف (١) عن رجاله : ثبت بعد الهزيمة بضع وثلاثون كتيبة ، استحيوا من الفرار ، فصمد لهم بضعة وثلاثون من رؤساء المسلمين ، لكل كتيبة منها رأس من رؤساء المسلمين فأباد الله تلك الكتائب يومئذ.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٦٩ ، ٥٧٠).

٤٩١

وقال سعيد بن المرزبان (١) : أصاب أهل فارس يومئذ بعد ما انهزموا ما أصاب الناس قبلهم ، قتلوا حتى إن كان الرجل من المسلمين ليدعو الرجل منهم فيأتيه حتى يقوم بين يديه فيضرب عنقه ، وحتى إنه ليأخذ سلاحه فيقتله به ، وحتى إنه ليأمر أحد الرجلين منهم بقتل صاحبه.

وقال بعض من شهدها : أبصر سلمان بن ربيعة الباهلى أناسا من الأعاجم تحت راية لهم قد حفروا لها وجلسوا تحتها ، وقالوا : لا نبرح حتى نموت ، فحمل عليهم فقتلهم وسلبهم ، وكان سلمان فارس الناس يوم القادسية ، وأحد الذين مالوا بعد الهزيمة على من ثبت ، وكذلك أخوه عبد الرحمن بن ربيعة ، ذو النور ، مال على آخرين قد تكتبوا ونصبوا للمسلمين ، فطحنهم بخيله.

وقال الشعبى : كان يقال لسلمان أبصر بالمفاصل من الجازر بمفاصل الجزور.

وقال بعض بنى معرض : ما رأينا مثل أهل القادسية ، هزمناهم فاتبعناهم وهم على خيولهم كأنها فى طين ، ونحن على أرجلنا كأنا ظباء ، ولقد أدركنا رجلا يعدو به فرسه فصحنا به ، فلم يتحرك ، فأخذناه أسيرا.

قال أبو وائل ، وشهدها : لقد سمعت الفرس يقولون ما تقطع سيوفنا الشعر ، ولقد نزع منا النصر.

وقال الأسود النخعي (٢) : شهدت القادسية ، فلقد رأيت غلاما منا من النخع يسوق ستين أو ثمانين رجلا من أبناء الأحرار ، وأتى رجل سعدا فقال : تجعل لى ثلث ما أجيئك به؟ قال : نعم. فأتاه بأساورة قد أسرهم ، فقال له سعد : كيف أخذت هؤلاء وحدك؟ قال : صحت بهم وهم منهزمون فوقفوا لم يمتنع منهم أحد ، فجعل سعد يتعجب.

وكان سعد أجرأ الناس وأشجعهم ، إنه نزل قصرا غير حصين يشرف منه على الناس ويرى قتالهم ، وصف المسلمين إلى أصل حائط القصر ، ولو أعراه الصف فواق ناقة أخذوا برمته. فو الله ما كربه هول تلك الأيام ، ولا أغلقه. ودخل إليه فى اليوم الرابع رجل من بجيلة فقال : أبا إسحاق إن الناس قد جبنوك وقالوا : لم يمنعك من الخروج الوجع ، قال : ما أخاف ذلك على نفسى ، أو ما ترى ما بى ، وسأخرج ، وكان به حبون ودماميل لا يستطيع أن يقر لها إلا مكبا على صدره ، فركب فرسا فانتهى إلى باب القصر

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٦٩).

(٢) انظر : الطبرى (٣ / ٥٧٦).

٤٩٢

وقد تبوأ فيه حمام ، فطرن فنفر الفرس فشب ، فانفجر ما كان من قروحه وخرج ، فوقف وحض المسلمون وقال : لا تكون هذه الأعاجم أصبر على المقارعة منكم ، واعلموا أن القوم ملوا إن كنتم مللتم ، فنشط الناس.

وفى حديث غير هذا أن جريرا البجلى قال فى ذلك اليوم :

أنا جرير كنيتى أبو عمرو

قد نصر الله وسعد فى القصر

وقال رجل من المسلمين ، أيضا :

نقاتل حتى أنزل الله نصره

وسعد بباب القادسية معصم

فأبنا وقد أمت نساء كثيرة

ونسوة سعد ليس فيهم أيم

فلما بلغ ذلك من قولهما سعدا خرج إلى الناس فاعتذر إليهم وأراهم ما به من القروح فى فخذيه ، فعذره الناس ، وقال سعد يجيب جريرا من أبيات :

وما أرجو بجيلة غير أنى

أؤمل أجرهم يوم الحساب

وفى حديث يروى عن قيس بن أبى حازم (١) ، وكان شهد تلك الحرب أن الفرس لما انهزموا لحقوا بدير قرة وما وراءه ، ونهض سعد بالمسلمين حين نزل بدير قرة على من هناك من الفرس ، وقدم عليه بالدير عياض بن غنم فى ألف رجل من الشام مددا لهم ، فأسهم لهم سعد مع المسلمين فيما أصابوا بالقادسية ، ثم إن الفرس هربت من دير قرة إلى المدائن يريدون نهاوند ، واحتملوا معهم الذهب والفضة والديباج والفرند والحرير والسلاح وثياب كسرى ، وخلوا ما سوى ذلك ، وأتبعهم سعد الطلب ، فبعث خالد بن عرفطة ووجه معه عياض بن غنم فى أصحابه ، وجعل على مقدمة الناس هاشم بن عتبة ، وعلى ميمنتهم جرير بن عبد الله وعلى الميسرة زهرة بن جوية ، وتخلف سعد لما به من الوجع.

فلما أفاق من وجعه أتبع الناس بمن بقى معه من المسلمين حتى أدركهم دون دجلة ، فلما وضعوا على دلجة العسكر والأثقال طلبوا المخاضة فلم يهتدوا لها ، حتى أتى سعدا علج من أهل المدائن فقال : أدلكم على طريق تدركونهم قبل أن يمنعوا ، فخرج بهم على مخاضة بقطربل ، فكان أول من خاضها هاشم ، وأتبعه خيله ، ثم جاز خالد بن عرفطة بخيله وتتابع الناس فخاضوا حتى جاوزوا ، فزعموا أنه لم يتهد لتلك المخاضة بعد ، ثم ساروا حتى انتهوا إلى مظلم ساباط ، فأشفق الناس أن يكون به كمين للعدو ، فتردد الناس

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٧١٦٨).

٤٩٣

وجبنوا عنه ، فكان أول من دخله بجيشه هاشم ، فلما جاز ألاح للناس بسيفه ، فعرف الناس أن ليس به شيء يخافونه ، فأجاز بهم خالد بن عرفطة ، ثم لحق سعد بالناس حين انتهوا إلى جلولاء وبها جماعة من الفرس ، فكانت وقعة جلولاء بها ، فهزم الله الفرس وأصاب المسلمون بها أفضل مما أصابوا بالقادسية ، وأصيبت ابنة لكسرى ، يقال لها :

منجانة ، ويقال : ابنة ابنه ، وقال شاعر من المسلمين :

يا رب مهر حسن مطهم

يحمل أثقال الغلام المسلم

ينجو إلى الرحمن من جهنم

يوم جلولاء ويوم رستم

ويوم زحف الكوفة المقدم

ويوم لا فى حتفة مهزم

وخر دين الكافرين للفم

وفى كتاب المدائنى عن أبى وائل قال : هزمناهم ، يعنى يوم القادسية ، حتى انتهوا إلى الفرات فقاتلونا عليه ، فهزمناهم حتى انتهوا إلى الصراة فقاتلونا عليها ، فهزمناهم حتى انتهوا إلى المدائن فدخلوها ونزل المسلمون دير السباع ، فجعلنا نغاديهم فنقاتلهم ، فقال المسلمون : هؤلاء فى البيوت ونحن فى الصحراء ، اعبروا إليهم فعبرنا إليهم فحصرناهم فى الجانب الشرقى حتى أكلوا الكلاب والسنانير ، فخرجوا على حامية معهم الأثقال والعيال حتى نزلوا جلولاء الوقيعة ، وتبعناهم فقاتلوا بها قتالا شديدا عن العيال والذرارى ، فجال المسلمون جولة فناداهم سعد : يا معشر المسلمين ، أين أين أما رأيتم ما خلفكم؟ أتأتون عمر منهزمين فعطفوا ، وهزم الله المشركين ، وسميت جلولاء الوقيعة فتح الفتوح ، وسيأتى ذكر فتح جلولاء والمدائن على التمام بعد انقضاء بقايا الأخبار عن شأن القادسية ومغانمها إن شاء الله تعالى.

قال الشعبى : بلغ الفيء بالقادسية ستمائة ألف ألف ، وكان خمسها عشرين ومائة ألف ألف ، وكان الملك يزدجرد بن كسرى قد حمل نصف الأموال إلى أهل فارس بالقادسية ليتوردوا بها بلاد العرب ، وليغزوا عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فى داره وقراره ، فعل مقتدر مغرور ، وأمر الجنود أن يحضروا الحرب بأموالهم ، وأن يختلفوا ليكون أجد لهم فى الامتناع والمخاطرة لدنياهم ، فاجتمعت معهم من الأموال والزين والشارات على قدر أحسابهم ما لا يحصى ، وكان سبب ذلك ما قضى الله عزوجل ، للمسلمين ، فساقه إليهم ، وكان يزدجرد قد استبقى النصف من الأموال وأقره فى بيت المال على حاله ، فأفاءه الله على المسلمين يوم المدائن.

وذكر المدائنى أن المسور بن مخرمة أصاب يوم القادسية إبريق ذهب عليه ياقوت ،

٤٩٤

فقال له بعض الفرس : آخذه منك بعشرة آلاف ، فأبى وأتى به سعدا ، فباعه بمائة ألف.

وقال مخنف بن سليم : إنى لفى طلب المشركين يومئذ إذ لحقت رجلين أحدهما على فرس والآخر على بغل ، ثم ذكر حديثا انتهى فيه إلى أن فاته صاحب الفرس ولحق بصاحب البغل فأخذه ، قال : وأنا أريد أن آتى به سعدا وما من رأى أن أنظر إليه ، فجاء مولى لى وأنا أصلى فحط الثقل واستخرج سفطا فنظر إليه وقال لى : أتدري ما معك؟ قلت : لا ، قال : بعض كنوز كسرى ، فنظرت فإذا ناقة ذهب عليها رجل ذهب وبطان ذهب وزمام ذهب ، وإذا ذلك كله مكلل بالجوهر عليه مثال رجل من فضة ، فأتيت بها سعدا ، فقال : أبشر لأفضل منه من ثواب الله ، وولاني مغانم القادسية ، ومعى غيرى ، فجاء رجل بسفط آخر فألقاه فى المغانم ، وقال : أما والله لو لا خوف الله ما أديته ، فإذا الذي جئت به لا يقارب ما جاء به الرجل ، فقلت : من أنت؟ قال : والله ما أخبرك لتحمدنى أنت ولا أحد من الناس ، وأصاب الناس رثة ومتاعا كبيرا.

وقال طلحة بن مصرف : أمروا مما جدوا من الطيب للنساء ببعضه ، فأصاب كل امرأة مع الناس ثلاثة وثلاثون مثقالا من عنبر ، ومثلها من مسك ، وأشرك صبيان الذين استشهدوا فى ذلك ، فأما الكافور فلم يعبئوا به شيئا ، وبعضهم استبدل منه بالملح كيلا بكيل ، وأصاب الرجل من المسلمين خمسة آلاف ونيف من سهمه ، وصير الله ، عزوجل ، العدة والأداة إلى المسلمين ، فلم يبق أحد إلا أردى ، وركب ، وفضل عنهم حتى جنبوا الجنائب.

وذكر سيف عن رجاله قالوا : وقسم سعد الفيء بالقادسية على تسعة وثلاثين ألفا أو يزيدون ، وكان من شهدها أكثر من تسعة وثلاثين ألفا وأقل من الأربعين ، فأصيب منهم خمسة آلاف ومائتان ، وقيل وخمسمائة ، ثم لحق فى الأيام الثلاثة بعد الوقعة عدد من استشهد فقسم الفيء على تلك العدة التي هى أقل من أربعين ألفا. قالوا : وأعطى الناس المتاع بالقيمة فى سهم الرجل.

قال إبراهيم بن يزيد : كانوا ليقومون الشيء الثمين بالشىء اليسير.

وقال الشعبى : لم يقسم يومئذ لأكثر من فرسين ، ولا يقسم لأكثر منهما ، قالوا : فبلغ سهم الفرسين وصاحبهما سبعة وعشرين ألفا ، للرجل خمس ذلك وللفرسين سائر ذلك ، وللفرس الواحد بحساب ذلك عشرة آلاف ونيف ، وسهم الرجل الواحد خمسة آلاف ونيف ، وسهم الرجل الفارس ذى الفرس الواحد خمسة عشر ألفا ونيف ، وكان القاسم

٤٩٥

بين الناس والمميز للخيل والذي يلى الأقباض سلمان بن ربيعة الباهلى.

قال المدائنى : فجاء عمرو بن معدى كرب بفرسين يقودهما ، فقال سلمان لأحد الفرسين : هذا هجين ، فقال عمرو : الهجين يعرف الهجين ، فأغلظ له سعد عند ذلك وهدده. فقال عمرو :

إذا قتلنا ولا يبكى لنا أحد

قالت قريش ألا تلك المقادير

نعطى السوية من طعن له نهل

ولا سوية إذ تعطى الدنانير

ونح فى الصف قد تدمى حواجبنا

نعطى السوية مما أخلص الكير

قالوا (١) : وكتب سعد بالفتح إلى عمر ، رحمه‌الله ، وبعدة من أصيب من المسلمين جملة ، وسمى له منهم من كان عمر يعرفه ، وكان كتابه إليه :

أما بعد ، فإن الله ، عزوجل ، نصرنا على أهل فارس ، ومنحهم سنن من كان قبلهم من أهل دينهم ، بعد قتال طويل وزلزال شديد ، وقد لقوا المسلمين بعدة لم ير الراءون مثل زهوها فلم ينفعهم الله بذلك ، بل سلبهموه ونفله عنهم إلى المسلمين ، واتبعهم المسلمون يقتلونهم على الأنهار وعلى صفوف الآجام وفى الفجاج ، وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ ، وفلان وفلان ، ورجال من المسلمين لا تعلمهم ، الله بهم عالم ، كانوا إذا جن عليهم الليل يدوون بالقرآن دوى النحل ، وهم آساد من الناس لا تشبههم الأسود ، ولم يفضل من مضى منهم على من بقى إلا بفضل الشهادة ، إذ لم تكتب لهم.

ولما أتى عمر الكتاب بالفتح قام فى الناس فقرأه عليهم ، وكان رضي‌الله‌عنه ، لما أتاه الخبر بنزول رستم القادسية يستخبر الركبان عن أهل القادسية من حين يصبح إلى انتصاف النهار ، ثم يرجع إلى بيته ، فلما لقيه البشير سأله من أين جاء ، فأخبره ، فقال : يا عبد الله ، حدثني ، قال : هزم الله العدو ، وعمر ، رضي‌الله‌عنه ، يخب معه ويستخبره ، والآخر يسير على ناقته وهو لا يعرفه حتى دخل المدينة ، فإذا الناس يسلمون عليه بإمرة المؤمنين ، فقال الرجل : فهلا أخبرتنى ، رحمك الله ، أنك أمير المؤمنين وجعل عمر يقول له : لا عليك يا أخى.

وقال عمر للناس عند ما قرئ عليهم الفتح : إنى حريص على أن لا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض ، فإذا عجز ذلك عنا تأسينا حتى نستوى فى الكفاف ، إنى

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٨٣).

٤٩٦

والله ما أنا بملك فأستعبدكم ، ولكنى عبد الله عرض علىّ الأمانة ، فإن أبيتها ورددتها عليكم وأتبعتكم حتى تشبعوا وترووا فى بيوتكم سعدت ، وإن أنا حملتها واستتبعتكم إلى بيتى شقيت ، ففرحت قليلا وحزنت طويلا ، وبقيت لا أقال ولا أرد فأستعتب.

وكتب سعد ، أيضا ، إلى عمر فى ثلاثة أصناف من المسلمين اجتمعوا إليه يسأله عنهم ، عمن أسلم بعد ما فتح الله تعالى ، عليهم ممن كان له عهد ومعونة ، وعمن أعتق الجند من رقيقهم بعد الفتح ، وعمن جاء بعد ما فتح الله عليهم وأخبره أنه ممسك عن القسم حتى تأتيه رأيه.

قالوا : وكانت طائفة من الديلم ورؤساء أهل المسالح قد استجابوا للمسلمين واختاروا عهودهم على عهد فارس ، وقاتلوا مع المسلمين على غير الإسلام ، وكانوا حشوة فيمن أسلم منهم ، فلما فتح الله تعالى على المسلمين قال أولئك الذين لم يكونوا أسلموا : إخواننا الذين سبقونا دخلوا فى هذا الأمر من أول الشأن خير وأصوب رأيا ، والله لا يفلح أهل فارس بعد رستم إلا من دخل فى هذا الأمر منهم ، فأسلموا ، فهم الصنف الأول من الذين سأل عنهم سعد عمر ، رضي‌الله‌عنهما ، قالوا : وتتابع أهل العراق من أصحاب الأيام الذين شهدوا اليرموك ودمشق ورجعوا ممدين لأهل القادسية ، فتوافوا بها من الغد ومن بعد الغد جاء أولهم يوم أغواث وآخرهم من بعد الغد من يوم الفتح ، وقدمت أمداد فيها وهمدان ومن أبناء الناس ، فهذا الصنف الثانى ممن كتب فيهم سعد.

وأقام المسلمون فى انتظار أمر عمر ، رضي‌الله‌عنه ، يقومون أقباضهم ، ويحزرون جندهم ويرمون أمورهم ويجددون حربهم ، حتى جاءهم جواب عمر :

أما بعد ، فالغنيمة لمن شهد الوقعة ، والمواساة لمن أغاث فى ثلاث بعد الوقعة ، فأشركوهم ومن أعانكم فى حربكم من أهل عهدكم ، ثم أسلم بعد الحرب فى ثلاث ، ومن شهد حربكم من مملوك ثم عتق فى ثلاث بعدها فأشركوا هؤلاء الأصناف الثلاثة فيما أفاء الله عليكم.

وكانوا كتبوا إليه ، أيضا ، يسألونه عمن احتلم بعد الوقعة ممن شهدها ، فأجابهم عن ذلك :

أما بعد فمن أدرك الحلم ممن شهد الوقعة فى ثلاث بعدها فأشركوهم وألحقوهم ، وأقسموا لهم ولمن لحق فى ثلاث أو أسلم فى ثلاث ، فإن الله لن يزيدكم بذلك إلا فضلا ، وليست فى الفيوء أسوة بعد الخمس إلا لهؤلاء الطبقات.

٤٩٧

وكتبوا إلى عمر ، أيضا ، أن أقواما من أهل السواد ادعوا عهودا ، ولم يقم على عهد الأيام لنا ولم يف به أحد علمناه إلا أهل بانقيا وبسما وأهل أليس الأخيرة ، وادعى سائر أهل السواد أن فارس أكرهوهم وحشروهم ، فلم يخالفوا إلينا ، ولم يذهبوا فى الأرض.

وكتبوا إليه ، أيضا ، فى كتاب آخر : أن أهل السواد جلوا ، فجاءنا من تمسك بعهده ولم يجلب علينا ، فتممنا لهم على ما كان بين المسلمين وبينهم قبلنا ، وزعموا أن أهل الأرض قد لحقوا بالمدائن ، فأحدث إلينا فيمن أقام وفيمن جلا وفيمن ادعى أنه استكره وحشر فهرب ولم يقاتل ، أو استسلم ، فإنا بأرض رغيبة ، والأرض خلاء من أهلها ، وعددنا قليل ، وقد كثر أهل صلحنا ، وإن أعمر لها وأوهن لعدونا تألفهم.

فلما انتهى ما كتبوا به إلى عمر ، رضي‌الله‌عنه ، قام فى الناس فقال : إنه من يعمل بالهوى والمعصية يسقط حظه ولا يضر إلا نفسه ، ومن يتبع السنة وينته إلى الشرائع ويلزم السبيل النهج ابتغاء ما عند الله لأهل طاعته أصاب أمره وظفر بحظه ، وذلك أن الله عزوجل يقول : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] ، وقد ظهر الأيام والقوادس بما يليهم ، وجلا أهله ، وأتاهم من أقام على عهدهم ، فما رأيكم فيمن زعم أنه استكره وحشر ، وفيمن لم يدع ذلك ولم يقم وجلا ، وفيمن أقام ولم يدع شيئا ، ولم يجل ، وفيمن استسلم.

فأجمعوا على أن الوفاء لمن أقام وكف ، وأن من ادعى وصدق بمنزلتهم ، ومن كذب نبذ إليهم وأعادوا صلحهم ، وأن يجعل أمر من جلا إلى المسلمين ، فإن شاءوا وادعوهم وكانوا لهم ذمة ، وإن شاءوا أتموا على منعهم من أرضهم ، ولم يعطوهم إلا القتال ، وأن يخيروا من أقام واستسلم بين الجزاء والجلاء ، وكذلك الفلاح.

فكتب عند ذلك عمر ، رضي‌الله‌عنه ، جوابا عما كتبوا إليه فى ذلك.

أما بعد ، فإن الله عزوجل أنزل فى كل شيء رخصة فى بعض الحالات إلا فى أمرين : العدل فى السيرة ، والذكر. فأما الذكر فلا رخصة فيه فى حالة ، ولم يرض منه إلا بالكثير ، وأما العدل فلا رخصة فيه فى قريب ولا بعيد ، ولا فى شدة ولا رخاء ، والعدل وإن رئى لنا ، فهو أقوى وأطفأ للجور ، وأقمع للباطل من الجور ، وإن رئى شديدا فهو أنكس للكفر ، فمن تم على عهده من أهل السواد ولم يعن عليكم بشيء فله الذمة وعليهم الجزية ، وأما من ادعى أنه استكره ممن لم يخالفهم أو يذهب فى الأرض فلا تصدقوهم بما ادعوا من ذلك إلا أن تشاءوا ، وإن لم تشاءوا فانبذوا إليهم ، وأبلغوهم

٤٩٨

مأمنهم ، ومن أقام ولم يجل وليس له عهد فلهم ما لأهل الذمة بمقامهم لكم وكفهم عنكم إجابة ، والفلاحون إذا فعلوا ذلك ، وكل من ادعى شيئا فصدق فلهم الذمة. وإن كذبوا نبذ إليهم ، وأما من أعان وجلا فذلك أمر جعله الله إليكم ، فإن شئتم فادعوهم إلى أن يقوموا لكم فى أرضكم ، ولهم الذمة وعليهم الجزية ، فإن كرهوا ذلك فاقتسموا ما أفاء الله عليكم منهم.

فلما قدمت كتب عمر على سعد بن مالك والمسلمين عرضوا على من يليهم ممن جلا وتنحى من أهل السواد أن يتراجعوا ، ولهم الذمة وعليهم الجزية ، وتراجعوا وصاروا ذمة كمن تم ولزم عهده إلا أن خراجهم أثقل ، وأنزلوا من ادعى الاستكراه وهرب منزلتهم ، وعقدوا لهم ، وأنزلوا من أقام منزلة ذى العهد ، وكذلك الفلاحون ، ولم يدخل فى الصلح ما كان لآل كسرى ، ولا ما كان لمن خرج معهم ، ولم يجب إلى الإسلام ولا إلى الجزية. فصارت فيئا لمن أفاء الله عليه كالصوافى فى الأول ، وسائر السواد لهم ذمة ، وأخذوهم بخراج كسرى ، وكان على رءوس الرجال وما بأيديهم من الحصة والأموال ، وكان مما أفاء الله عليهم ما كان لآل كسرى ومن صوب معهم وعيالهم وعيال من قاتل معهم وماله ، وما كان لبيوت النيران والآجام ومستنقع المياه ، وما كان للسكك ، فلم يتأت قسم ذلك الفيء الذي كان لآل كسرى ومن صوب معهم ؛ لأنه كان متفرقا فى كل السواد ، فكان يليه لأهل الفيء من وثقوا به وتراضوا عليه.

قالوا : وأدلى جرير وبجيلة يوم القادسية بمثل ما كان عمر جعل لهم من ربع الخمس مما أفاء الله يوم البويب ، فكتب سعد إلى عمر بذلك ، فاجابه : قد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ، إنى إنما كنت جعلت لهم ربع الخمس مما أفاء الله على المثنى حين أمددته بهم فى وجههم ذلك إلى البويب نفلا ، فقد أخذوه أيام البويب ، ثم لم يمضوا ولكن رجعوا إلى أرض العرب ، فعنفهم بما ادعوا مما ليس لهم ولا لى وقل لهم : والله ولو لا أنى قاسم مسئول لبلغت منكم.

فلما بلغ الكتاب سعدا أمر جريرا بجمع بجيلة ، فجمعهم له ، فقرأ عليهم سعد الكتاب ، فقال جرير : صدق والله عمر وأسأنا ، وتتابع على ذلك قومه إلا امرأة يقال لها : أم كرز ، فإنها قالت : كذبت والله يا جرير ، وجعل جرير يقول لها : حلا يا أم كرز ، فتعود له بالتكذيب ، فلا يزيد على أن يقول : حلا يا أم كرز.

وخالف المدائنى ما ذكره سيف فى قصة جرير وقومه ، وقال : إن سعدا لما جمع الغنائم

٤٩٩

وعزل الخمس ، وأراد قسمة الباقى ، قال له جرير : إن أمير المؤمنين جعل لنا الربع ، وقال بعضهم : الثلث بعد الخمس من كل شيء ، فبعث سعد بالخمس إلى عمر ، وكتب إليه بقول جرير ، فقال عمر : صدق جرير ، قد جعلت له ولقومه ما قال من السواد ، فخيروهم ، فإن شاءوا أعطوا وكان قتالهم للجعالة ، وإن شاءوا فلهم سهم المسلمين وقتالهم ، فخيرهم سعد فاختاروا سهام المسلمين. فالله أعلم أى ذلك كان.

وذكر المدائنى ، أيضا ، أنه كان فيمن قدم على عمر مع الخمس الأسدي الذي طعن الفيل فضربه سائسه على وجهه فهشم وجهه ، فقال له عمر : من أنت؟ وما هذه؟ يعنى الضربة التي فى وجهه ، قال : أصابنى قدر من قدر الله ، فأخبر القوم عمر خبره ، فعانقه عمر وقال : أبشر فهى نور لك يوم القيامة ، فهل لك من حاجة؟ قال : تكتب إلى سعد يعطينى محتلما وفرسى ، فكتب إلى سعد : أعطه محتلمين ، ففعل ذلك سعد.

قال الشعبى : وأمر عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فى الأعشار بخمسمائة فرس نفلا من خيل فارس لتقسم فى أهل البلاء ، فأصاب كل عشر خمسون فرسا ، فأصاب النخع عشرون ، وقيل : خمسة وعشرون ، وأصاب سائرها ، سائر مذحج.

قالوا : وكتب عمر ، رحمه‌الله ، إلى سعد : أنبئنى أى فارس كان يوم القادسية أفرس ، وأى راجل كان أرجل ، وأى راكب كان أثبت. فكتب إليه : إنى لم أر فارسا مثل القعقاع بن عمرو حمل فى يوم ثلاثين حملة ، فقتل فى كل حملة كميا ، ولم أر راجلا مثل يعفور بن حسان الذهلى إنه جاء فى اليوم بخمسة فوارس ، يختل الفارس منهم حتى يردفه ، ثم يغلبه على عنانه حتى يأتى به سلما ، ولم أر راكبا مثل الحارث بن قرم البهزى ، إنه جاء ببعيره يرفعه ، ثم ركب الكراديس ففرق بينها ، فإذا نفر بالفارس انحط عنه فعانقه ، ثم قتله ، ثم يثب على بعيره من قيام.

وكتب عمر إلى سعد ، أيضا : أنبئنى من وجدت أصبر ليلة الهرير؟ فكتب إليه : إن الحس سكن عنى ، حتى إذا كان فى وجه الصبح سمعت انتماء فى مضر وانتماء فى ربيعة ثم انتسابا فى اليمن ، فوجدت المنتمين من تميم وأسد وقيس والمنتمين من بكر وحلفاؤها والمنتسبين فى أهل اليمن من مذحج وكندة.

وفى كتاب المدائنى أن عمر كتب إلى سعد يسأله : أى الناس كان أصبر بالقادسية؟ فكتب إليه سعد : إن الحرب ركدت ليلة ، فلم أسمع إلا هماهم الرجال ، وهريرهم ، ووقع الحديد ، فلما كان قبيل الفجر سمعت الانتماء من كل : أنا ابن معدى كرب ، أنا

٥٠٠