الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

هو يصنعه والذي صنعه. وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على الأعداء والتمكين فى البلاد وعظم السلطان فى الدنيا ، فنحن نعرفه ولا ننكره ، والله صنعه لكم ، ووضعه فيكم ، وهو له دونكم ، وأما ما ذكرت فينا من سوء الحال ، وضيق المعيشة ، واختلاف القلوب ، فنحن نعرفه ، والله ابتلانا بذلك ، وصيرنا إليه ، والدنيا دول ، ولم يزل أهل شدائدها يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه ، وأهل رخائها يتوقعون الشدة حتى تنزل بهم ، ويصيروا إليها ، ولو كنتم فيما آتاكم الله دوننا أهل شكر ، لكان شكركم يقصر عما أوتيتم ، ولأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ، ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر ، كان عظيم ما تتابع علينا مستجلبا من الله رحمة يرفه بها عنا ، ولكن الشأن غير ما تذهبون إليه ، إن الله تعالى بعث فينا رسولا ، فكذبه مكذبون وصدقه منا آخرون ، وأظهر الله دعوته ، وأعز دينه على كره ممن كذبه وحاده ، حتى دخلوا فى الإسلام طوعا وكرها ، فأمرنا أن ندعو من خالفنا إلى ديننا ، فمن أباه قاتلناه.

وذكر نحو ما تقدم من الكلام فى الأحاديث المتقدمة من دعائه إلى الإسلام ، وقال له:فإن أبيت فكن لنا عبدا تؤدى الجزية عن يد وأنت صاغر ، وإلا السيف إن أبيت.

فنخر رستم عند ذلك نخرة واستشاط غضبا ، ثم حلف بالشمس لا يرتفع لكم الضحى غدا حتى أقتلكم أجمعين.

فانصرف المغيرة ، وخلص رستم بأشراف فارس ، فقال : أين هؤلاء منكم؟ ما بعد هذا؟ ألم يأتكم الأولان فجسراكم واستخرجاكم ، ثم جاءكم هذا فلم يختلفوا ، وسلكوا طريقا واحدا ، ولزموا أمرا واحدا ، هؤلاء والله الرجال ، صادقين أو كاذبين ، والله لئن كان بلغ من رأيهم وصونهم أمرهم أن لا يختلفوا ، ما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم ، وإن كانوا صادقين ما يقوم لهؤلاء شيء فلجوا وتجلدوا ، فقال : والله إنى لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم ، وإن هذا منكم رياء ، فازدادوا لجاجا.

وفى بعض الروايات أن مما قال المغيرة لرستم وقد توعد المسلمين بأنهم مقتولون ، قال : هو الذي نتمنى ، أن المقتول منا صائر فى الجنة ، والهارب فى النار ، وللباقى الصابر الظفر بحديث صادق ووعد لا خلف له ، وقد أصبنا فى بلادكم حبة كأنها قطع الأوتار ، فأكلنا منها وأطعمنا أهلينا ، فقالوا : لا صبر لنا حتى تنزلونا هذه البلاد.

قال رستم : أما لنقرننكم فى الجبال.

قال المغيرة : أما وبنا حياة فلا.

٤٦١

قال رستم : ارجع إلى أصحابك واستعدوا للحرب ، فليس بيننا وبينكم صلح ، ولنفقأن عينك غدا.

فقال المغيرة : وأنت ستقتل غدا إن شاء الله ، وإن ما قلت لى ليسرنى ، لو لا أن أجاهدكم بعد اليوم لسرنى أن تذهبا جميعا.

ورجع المغيرة فتعجبوا من قوله. فقال رستم : ما أظن هذا الملك إلا قد انقضى ، وأن أجمل بنا ألا يكون هؤلاء أصبر منا ، ولقد وعدوا وعدا ليموتن أو ليدركنه ، ولقد حذروا وخوفوا من الفرار خوفا لا يأتونه ، وقد رأيت ليلتى هذه كأن القوس التي فى السماء خرت ، وكأن الحيتان خرجن من البحر ، وأن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم ، فهل لكم أن تقبلوا بعض ما عرضوا عليكم؟ قالوا : لا.

قال : فأنا رجل منكم ، وكتب إلى يزدجرد بما كلمه به المغيرة ، فقال شاهين الأزدى : لو لم يكن إلا ساسة دوابنا لأخذناهم بهم. فكتب إليه أمره بقتالهم ، وقال : إذا لقيتهم فضع الرجال فيما بينى وبينك ، على كل ربوة رجلا ، فكلما حدث أمر نادى به بعضهم بعضا حتى يفضى الخبر إلىّ.

وحدث سيف (١) عن رجاله ، قالوا : أرسل إليهم سعد بقية ذوى الرأى جميعا ، وحبس الثلاثة ، فخرجوا حتى أتوه ، فقالوا له : إن أميرنا يقول لك : إن الحرب تحفظ الولاة ، وإنى أدعوك إلى ما هو خير لنا ولك ، وهى العاقبة بأن تقبل منا ما دعاك الله ، عزوجل ، إليه ، ونرجع إلى أرضنا ، وترجع إلى أرضك وبعضنا من بعض ، إلا أن داركم لكم ، وأمركم فيكم ، وما أصبتم مما وراءكم كان زيادة لكم دوننا ، وكنا لكم عونا على أحد إن أرادكم أو قوى عليكم. واتق الله يا رستم ، ولا يكونن هلاك قومك على يديك ، فإنه ليس بينك وبين أن تغتبط إلا أن تدخل فيه وتطرد به الشيطان عنك.

فقال رستم : إنى قد كلمت منكم نفرا ، ولو أنهم فهموا عنى رجوت أن تكونوا قد فهمتم ، وإن الأمثال أوضح من كثير من الكلام ، وسأضرب لكم مثلكم. إنكم كنتم أهل جهد فى المعيشة ، وقشف فى الهيئة ، لا تمتنعون ولا تنتصفون ، فلم نسئ جواركم ، ولم ندع مواساتكم ، تقتحمون المرة بعد المرة ، فنميركم ثم نردكم ، وتأتوننا أجراء وتجارا فنحسن إليكم ، فلما تطعمتم طعامنا ، وشربتم شرابنا ، وأظلكم ظلنا ، وصفتم ذلك لقومكم ، ثم دعوتموهم فأتيتمونا بهم ، وإنما مثلكم فى ذلك ومثلنا كمثل رجل كان له

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٢٥ ـ ٥٢٨).

٤٦٢

كرم ، فرأى فيه ثعلبا ، فقال : وما ثعلب فانطلق الثعلب ، فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم ، فلما اجتمعت عليه سد عليها صاحب الكرم مدخلها فقتلها ، وقد علمت أن الذي حملكم على هذا الحرص والطمع مع الجهد ، فارجعوا عنا عامكم هذا ، وامتاروا حاجتكم ، ولكم العود كلما احتجتم ، فإنى لا أشتهى أن أقتلكم ، وقد أصاب أناس كثير منكم ما أرادوا من أرضنا ، ثم كان مصيرهم القتل والمهرب ، ومن سن هذا لكم خير منكم وأقوى ، وقد رأيتم أنتم كلما أصابوا شيئا أصيب بعضهم ونجا بعضهم ، وخرج مما كان أصاب ، ومن أمثالكم فيما تصنعون مثل جرذان ألفت جرة فيها حب ، وفى الجرة ثقب ، فدخل الأول فأقام فيها ، وجعلت الأخر ينقلن منها ويرجعون ويكلمنه فى الرجوع ، فيأبى ، فانتهى سمن الذي فى الجرة ، فاشتاق إلى أهله ليريهم حسن حاله ، فضاق عليه الجحر ، ولم يطق الخروج ، فشكى القلق إلى أصحابه ، وسألهم المخرج ، فقالوا : ما أنت بخارج منها حتى تعود كما كنت قبل أن تدخل ، فكف وجوع نفسه ، وبقى فى الجرة ، حتى إذا عاد كما كان أتى عليه صاحب الجرة فقتله ، فاخرجوا أو ليكونن هذا لكم مثلا.

وقال لهم ، أيضا ، فيما قال : لم يخلق الله خلقا أولع من ذباب ، ما خلاكم يا معشر العرب ، ترون الهلاك ويدليكم فيه الطمع ، ومثلكم فى هذا مثل الذباب إذا رأى العسل طار ، وقال : من يوصلنى إليه وله درهمان حتى يدخله؟ لا ينهاه أحد إلا عصاه ، فإذا دخله غرق ونشب ، وقال : من يخرجنى وله أربعة دراهم؟ وضرب للقوم أمثالا غير هذه نحوا منها.

قالوا : فتكلم القوم ، فقالوا : أما ما ذكرت من سوء حالنا فيما مضى ، وانتشار أمرنا ، فلم نبلغ كنهه يموت الميت منا إلى النار ، ويبقى الباقى منا فى بؤس ، فبينا نحن فى أسواء ذلك ، فبعث الله ، عزوجل ، فينا رسولا من أنفسنا إلى الإنس والجن ، رحمة رحم بها من أراد رحمته ، ونقمة ينتقم بها ممن رد كرامته ، فبدأ بنا قبيلة قبيلة ، فلم يكن أحد أشد عليه ولا أشد إنكارا لما جاء به ، ولا أجهد على قتله ورد ما جاء به من قومه ، ثم الذين يلونهم ، حتى طابقناه على ذلك كلنا ، فنصبنا له جميعا ، وهو وحده فرد ليس معه إلا الله تعالى فأعطى الظفر علينا ، فدخل بعضنا طوعا وبعضنا كرها ، ثم عرفنا جميعا الحق والصدق لما أتى به من الآيات المعجزة ، وكان مما أتى به من عند ربنا ، عزوجل ، جهاد الأدنى فالأدنى ، فصرنا فى ذلك فيما بيننا ، نرى أن الذي قال لنا ووعدنا لا نخرج عنه ولا ننقص منه ، حتى اجتمعت العرب على هذا ، وكانوا من الاختلاف فيما لا يطيق

٤٦٣

الخلائق بالتفهم معه ، ثم أتيناكم بأمر ربنا ، نجاهد فى سبيله ، وننفذ لأمره ، ونستنجز موعوده ، وندعوكم إلى الإسلام وأحكامه ، فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا ، وخلفنا فيكم كتاب الله ، عزوجل ، وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا بالجزاء ، فإن فعلتم وإلا فإن الله ، عزوجل ، قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم. فاقبلوا نصيحتنا ، فو الله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم ، ولقتالكم بعد أحب إلينا من صلحكم ، وأما ما ذكرت من رثاثتنا وقلتنا فإن إرادتنا الطاعة ، وقتالنا الصبر وأما ما ضربتم لنا من الأمثال ، فإنكم ضربتم للرجال وللأمور الجسام وللجد الهزل ، ولكنا سنضرب لكم مثلا ، وإن مثلكم مثل رجل غرس أرضا ، واختار لها الشجر والحب ، وأجرى لها الأنهار ، وزينها بالقصور ، وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها ، ويقومون على جناتها ، فخلفه الفلاحون فى القصور بما لا يحب ، وفى الجنان بمثل ذلك ، فأطال نظرتهم ، فلما لم يستحيوا من تلقاء أنفسهم ، استعتبهم فكابروه ، فدعا إليهم غيرهم ، فأخرجهم منها ، فإن ذهبوا عنها تخطفهم الناس ، وإن أقاموا صاروا خولا لهم يملكونهم ويسومونهم الخسف أبدا ، والله لو لم يكن ما نقول لكم حقا ، ولم تكن إلا الدنيا ، لما كان لنا عما ضربنا به من لذيذ عيشكم ، ورأينا من زبرجكم من صبر ، ولقارعناكم أو نغلبكم عليه.

فقال رستم : أتعبرون إلينا أو نعبر إليكم؟ فقالوا : بل اعبروا إلينا ، فخرجوا من عنده عشيا ، فأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم ، وأرسل إليهم : شأنكم والعبور ، فأرادوا القنطرة ، فأرسل إليهم : لا ولا كرامة أما شيء قد غلبناكم عليه فلن نرده عليكم ، تكلفوا معبرا غير القناطر ، فباتوا يسكرون العتيق حتى الصباح بأمتعتهم.

وذكر المدائنى أن رستم وجه الجالينوس ليعبر القنطرة ، فوقف بحيال زهرة بن جوية ، وكان عليها ، وقال : ليخرجن إلىّ الموكل بهذا الموضع ، فخرج زهرة على فرس كميت أغر ذنوب ، معه رمح معلوب ، وسيف رث الجفن ، فقال له الفارسى : إنك لم توضع هذا الموضع إلا وأنت ركن من أركان أصحابك ، وأرى سيفك رث الجفن ، قال : إن يكن رث المنظر فإنه حديد الضربة ، وقرب إليه الفارسى بالصلح ولم يصرح ، ومناه ، وقال : نحسن جواركم ونرفقكم فى معايشكم. فقال زهرة : إنا لم نأتكم نطلب الدنيا بغير آخرة ، إنما أتيناكم ندعوكم إلى ديننا ، فإن أبيتموه فدنياكم التي تعرضون علينا لنا إن شاء الله ، فقال له الفارسى : فخلوا لنا الطريق فنعبر إليكم فنناجزكم ، قال : لا ، قال : ولم وأنتم تمنون لقاءنا قال : نكره أن نرد عليكم شيئا قد غلبناكم عليه ، فرجع إلى رستم فأخبره ، فأعظم ذلك ، فانصرف الجالينوس ، فجلس رستم يفكر فيما أخبره ، وغلبته عيناه فنام

٤٦٤

فانتبه ويده فى كتف جارية قاعدة بين يدى فراشه ، فقال : ما لك؟ قالت : مالت يدك فرفعتها ، فقال : أشفقت أن سقطت من فراش ديباج على بساط ديباج؟ فكيف بها غدا إذا انعفرت فى التراب ووطئتها الخيل؟ قالت : وما يضطرك إلى ذلك؟ وقد أعطوك ما لك فيه نصف ونجاة : إما أن تدخل فى دينهم فتكون مثلهم ، وإما أن تفتدى منهم بشيء تعطيهم ويبقى لك أمرك ، وإما أن تذهب إلى مأمنك من الأرض؟ فقال : إن فى عنقى حبلا أقاد به إلى مصرعى ، لا أقدر على الامتناع.

وبات العاجم ليلتهم يسكرون العتيق بالقصب والتراب والبراذع حتى جعلوه طريقا ، واستتم بعد ما ارتفع النهار من الغد.

قالوا : ورأى رستم من الليل أن ملكا نزل من السماء فأخذ قسى أصحابه فختم عليها ، ثم صعد بها إلى السماء ، فاستيقظ مهموما حزينا ، فدعا خاصته وقصها عليهم ، وقال : إن الله ، عزوجل ، ليعظنا ، لو أن فارس تركونى أتعظ ، أما ترى النصر قد رفع عنا وترى الريح مع عدونا وأنا لا نقوم لهم فى فعل ولا منطق؟.

يوم أرماث

ولما تم السكر عبروا بأثقالهم حتى نزلوا على ضفة العتيق ، ولما عبر أهل فارس أخذوا مصافهم ، وجلس رستم على سريره ، وضربت عليه طيارة ، وعبأ فى القلب ثمانية عشر فيلا ، عليها الصناديق والرجال ، وفى المجنبتين ثمانية وسبعة عليها الصناديق والرجال ، وأقام الجالينوس بينه وبين ميمنته والبيزران بينه وبين ميسرته ، وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين والمشركين.

وأخذ المسلمون ، أيضا ، مصافهم ، وكانت التعبئة التي تقدم بها سعد قبل انفصاله عن شراف بإذن عمر ، رضي‌الله‌عنه ، أن جعل على المقدمة زهرة بن الجوية ، وعلى الميمنة عبد الله بن المعتم ، وكان من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأحد التسعة الذين قاموا عليه فتممهم طلحة بن عبيد الله عشرة فى العرافة ، وعلى الميسرة شرحبيل بن السمط الكندى ، وكان شابا قد قاتل أهل الردة على الردة ، ووفى الله عزوجل ، فعرف ذلك له ، وعلى الساقة عاصم بن عمرو السعدى ، وعلى الطلائع سواد بن مالك التميمى ، وعلى المجردة سلمان بن ربيعة الباهلى ، وعلى الرجال حمال بن مالك الأسدي ، وعلى الركبان عبد الله بن ذى السهمين الخثعمى ، فلما تصافوا يومئذ جعل سعد زهرة وعاصما بين عبد الله بن المعتم ،

٤٦٥

وبين شرحبيل بن السمط ، ووكل صاحب الطلائع بالطرد ، وخلط بين الناس فى القلب والمجنبات ، ونادى مناديه : ألا إن الحسد لا يحل إلا على الاجتهاد فى أمر الله تعالى يا أيها الناس ، فتحاسدوا وتغايروا على الاجتهاد.

وذكر المدائنى أنه كان على الميمنة يوم القادسية شرحبيل بن السمط ، وعلى الميسرة هاشم بن عتبة ، وعلى الخيل قيس بن مكشوح ، وعلى الرجل المغيرة بن شعبة ، فالله تعالى أعلم.

وكان سعد يومئذ لا يستطيع أن يركب ولا يجلس ، كان به عرق النسا ودماميل ، وإنما هو على وجهه وفى صدره وسادة ، وهو مكب عليها ، مشرف على الناس من القصر ، يرمى بالرقاع فيها أمره ونهيه إلى خالد بن عرفطة ، وهو أسفل منه ، وكان الصف إلى جانب القصر ، وكان خالد كالخليفة لسعد لو لم يكن سعد شاهدا مشرفا.

وقيل : بل استخلفه على الناس لأجل شكواه ، فاختلف عليه الناس ، فقال سعد : احملونى ، فأشرفوا به على الناس ، فارتقوا به ، فأكب مطلعا عليهم ، والصف فى أصل حائط قديس ، حيث كان سعد يأمر خالدا فيأمر خالد الناس ، وكان ممن شغب عليه وجوه من وجوه الناس ، فهم بهم سعد وشتمهم ، وقال : أما والله لو لا أن عدوكم بحضرتكم لجعلكم نكالا لغيركم فحبسهم فى القصر وقيدهم ، منهم أبو محجن الثقفى.

وقال جرير يومئذ : أما أنى بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على أن أسمع وأطيع لمن ولى الأمر وإن كان عبدا حبشيا.

وقال سعد : والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويساغبهم وهم بإزائهم إلا سننت فيه سنة يؤخذ بها من بعدى.

وذكر المدائنى أنه أتى رستما رجل من أهل الحيرة ليلا ، فقال له : أمير المسلمين وجع ، وهو فى قصر العذيب مع العيال ، ولو طرقته خيل لقتل لا يشعر به أصحابه ، فانتخب رستم خمسمائة فارس ، فوجههم ، إليه ، فترفعوا عن العسكرين وقطعوا الوادى ، وأخذوا فى خفض من الأرض ، وجاء رجل من العجم إلى المسلمين مستأمنا ، فأخبرهم ، فانتدب حنظلة بن الربيع الأسيدى فى خمسمائة من تحت الليل ، فسار إلى العذيب ، وقال لأصحابه : إنه ليطيب نفسى أن عبد الله بن سبرة عند سعد ، فانتهى إلى سعد عند طلوع الفجر ولم تصل إليهم الفرس ، فأنذروه وأصبحوا فإذا الأساورة متحدرون من ناحية وادى السباع ، فتلقاهم عبد الله بن سبرة الواقفى ، أحد بنى حرملة بن سعد بن مالك بن

٤٦٦

ضبيعة بن قيس بن ثعلبة ، فى سرعان الناس ، معه عشرة فوارس وغلام له روى يقال له يزيد ، كان أصابه يوم اليرموك ، واتبعهم حنظلة فى أصحابه ، فقتل عبد الله بن سبرة قبل أن تتام إليه الخيل أسوارين.

وقال مرة الهمدانيّ ، وكان مع حنظلة : لما دنونا من معتركهم سمعنا صوتا منكرا شديدا ، فقال حنظلة : صوت ابن الكندية ورب الكعبة ، بعض هنات أبى قيس ، فانتهينا إليهم فإذا عبد الله بن سبرة يذمر أصحابه وهو يقول لغلامه : يا يزيد ثكلتك أمك إن فاتك أحد ، وقد انكسر رمحه ، وهو يضربهم بعمود ما يضرب به رجلا إلا قتله ، ولا دابة إلا عقرها ، وإن غلامه ليذودهم عليه بالرمح ، فلما غشيهم حنظلة وأصحابه انهزموا ، فما تشاء أن تجد الخمسة والستة من المسلمين يخفقون أسوارا بأسيافهم إلا وجدته ، فقتل منهم ثلاثون ، ويقال مائة ، وأفلت الآخرون أكثرهم جريح ، فرجعوا إلى رستم ، فطلب الحيرى ليقتله وظن أنه عين دس له فلم يقدر عليه ، وتحول سعد فنزل مع جماعة الناس.

وفيما حكاه سيف عن رجاله (١) : أن سعدا ، رحمه‌الله ، بعد ما تهدم على الذين اعترضوا على خالد بن عرفطة خطب من يليه يومئذ فحمد الله وأثنى عليه. وقال : إن الله وهو الحق ، وقوله الحق ، لا شريك له فى الملك ، وليس لقوله خلف ، قال : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] ، إن هذا ميراثكم وهو موعد ربكم ، وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج ، وأنتم تطعمون منها وتأكلون ، وتقتلون أهلها ، وتجبونهم وتسبونهم إلى هذا اليوم ، بما نال منه أصحاب الأيام منكم ، وقد جاءكم منهم هذا الجمع ، وأنتم وجوه العرب ، وأعيانهم ، وخيار كل قبيلة ، وعز من وراءكم ، فإن تزهدوا فى الدنيا وترغبوا فى الآخرة يجمع الله لكم الدنيا والآخرة ، ولا يقرب ذلك أحدا إلى أجله ، وأن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا تذهب ريحكم وتوبقوا آخرتكم.

وكتب سعد إلى أهل الرايات : إنى قد استخلفت عليكم خالد بن عرفطة ، وليس يمنعنى أن أكون مكانه إلا وجعى الذي كان يعودنى ، وما بى من جبون ، وإنى مكب على وجهى وشخصى لكم باد ، فاسمعوا له وأطيعوا ، فإنه إنما يأمركم بأمرى ، ويعمل برأيى. فقرئ على الناس فزادهم خيرا ، فانتهوا إلى رأيه ، وقبلوا منه ، وتحاثوا على السمع والطاعة ، وأجمعوا على عذر سعد والرضا بما صنع.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٣١ ، ٥٣٢).

٤٦٧

قالوا : وأرسل سعد للذين انتهى إليهم رأى الناس ، والذين انتهت إليهم نجدتهم ، وأصناف الفضل منهم إلى الناس ، فقال : انطلقوا فقوموا فى الناس بما يحق عليكم وعليهم عند مواطن البأس ، فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به ، وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتهم ، فسيروا فيهم ، وحرضوهم على القتال. فساروا فيهم.

فقال قيس بن هبيرة : أيها الناس ، احمدوا الله على ما هداكم له وأبلاكم يزدكم ، واذكروا آلاء الله ، وارغبوا إليه فى عادته ، فإن الجنة والغنيمة أمامكم ، وإنه ليس وراء هذا القصر إلا العراء ، والأرض القفر ، والظراب الخشن ، والفلوات التي لا تقطعها الأدلة.

وقال غالب بن عبد الله الليثى : أيها الناس ، احمدوا الله على ما أبلاكم ، وسلوه يزدكم ، وادعوه يجبكم ، يا معشر معد ، ما علتكم اليوم وأنتم فى حصونكم ، يعنى الخيل ، ومن لا يعصيكم معكم ، يعنى السيوف؟ فاذكروا حديث الناس فى غد ، فإنه بكم غدا يبدأ ، وبمن بعدكم يثنى.

وقال ابن الهذيل الأسدي : يا معشر معد ، اجعلوا حصونكم السيوف ، وكروا عليهم كأسود الجم ، وتربدوا إليهم تربد النمور ، وادرعوا العجاج ، وثقوا بالله تعالى وغضوا الأبصار ، فإذا كلت السيوف فإنها يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه.

وقال بسر بن أبى رهم : احمدوا الله ، وصدقوا قولكم بفعل ، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، انصروا الله ينصركم ، ولا يكونن شيء بأهون عليكم من الدنيا ، فإنها تأتى من تهاون بها ، ولا تميلوا إليها فتهرب منكم.

وقال عاصم بن عمرو : يا معشر العرب ، إنكم أعيان العرب ، وقد صمدتم لأعيان العجم ، إنما تخاطرون بالجنة ، ويخاطرون بالدنيا ، فلا يكونن على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم. لا تحدثن اليوم أمرا تكونون به شينا على العرب غدا.

وقال ربيع السعدى : يا معشر العرب ، قاتلوا للدين والدنيا ، (سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] ، فإن عظم الشيطان عليكم الأمر ، فاذكروا الأخبار عنكم بالمواسم ما دام للأخبار أهل.

وتقدم كل واحد من أولئك الذين بعثهم سعد من وجوه الناس بمثل هذا الكلام ، وتواثق الناس ، وتعاهدوا ، واهتاجوا لكل ما ينبغى لهم.

٤٦٨

وفعل أهل فارس ، فيما بينهم ، مثل ذلك ، وتعاهدوا وتواصوا ، واقترنوا بالسلاسل ، وكان المقترنون ثلاثين ألفا.

وقال سعد للناس : الزموا مواقفكم ، لا تحركوا شيئا حتى نصلى الظهر ، فإذا صليتم الظهر فإنى مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا ، واعلموا أن التكبير لم يعطه أحد قبلكم ، وإنما أعطيتموه تأييدا ، فإذا سمعتم الثانية فكبروا ، ولتستتموا عدتكم ، فإذا كبرت الثالثة فكبروا ، ولينشط فرسانكم الناس ليبرزوا ويطاردوا ، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعا حتى تخالطوا عدوكم ، وقولوا : لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.

ويروى أنه لما نادى منادى سعد بالظهر ، نادى رستم : أكل عمر كبدى أحرق الله كبده علم هؤلاء حتى علموا.

وقيل : إن رستم قال نحوا من هذا عند ما نزل بين الحصن والعتيق ، وقد أذن مؤذن سعد الغداة ، وراى الناس يتخشخشون ، فنادى فى أهل فارس : أن اركبوا ، فقيل له : ولم؟

قال : أما ترون إلى عدوكم قد نودى فيهم فتخشخشوا لكم؟ فقال له رجل قد كان رستم بعثه قبل ذلك عينا إلى عسكر المسلمين فانغمس فيهم وعرف حالهم ، وانصرف إليه : فأخبره أن ذلك تخشخشهم للصلاة. فقال رستم بالفارسية ما تفسيره : أتانى صوت عند الغداة ، وإنما هو عمر الذي يعلم الكلاب العقل ، فلما سمع الأذان بالصلاة قال : أكل عمر كبدى.

قالوا : ولما صلى سعد الظهر أمر غلاما كان عمر ، رحمه‌الله ، ألزمه إياه ، وكان من القراء ، بقراءة سورة الجهاد ، وكان المسلمون كلهم إذ ذاك يتعلمونها ، فقرأها على الكتيبة التي تليه ، وقرئت فى كل كتيبة ، فهشت قلوب الناس وعرفوا السكينة مع قراءتها.

قال مصعب بن سعد : وكانت قراءتها سنة ، يقرأها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عند الزحف ، ويستقرئها ، فعمل الناس بذلك.

قالوا : ولما فرغ القراء ، كبر سعد فكبر الذين يلونه ، وكبر بعض الناس بتكبير بعض ، فتخشخش الناس ، ثم ثنى فاستتم الناس ، ثم ثلث فبرز أهل النجدات فأنشبوا القتال ، وخرج أمثالهم من فارس ، فاعتوروا الطعن والضرب ، وخرج غالب بن عبد الله الليثى وهو يقول :

قد علمت واردة المسالح

ذات البنان واللبان الواضح

٤٦٩

أنى سمام البطل المشايح

وفارج الأمر المهم الفادح

فخرج إليه هرمز ، وكان من ملوك الباب ، وكان متوجا ، فأسره غالب أسرا ، فجاء به فأدخل إلى سعد ، وانصرف غالب للمطاردة.

وذكر المدائنى أن رستم أمر هرمز فتقدم فى كتيبة ، فشد عليه غالب وزهرة بن جوية ، فسبق إليه غالب فى خيل فقتله.

قالوا : وخرج عاصم بن عمرو وهو يقول :

قد علمت صفراء بيضاء اللبب

مثل اللجين يتغشاه الذهب

أنى أمر إمرار السبب

مثلى على مثلك يعديه الكثب

فطارد رجلا من أهل فارس ، فهرب منه واتبعه ، حتى إذا خالط صفهم والتقى بفارس معه بغل ، فترك الفارس البغل ، واعتصم بأصحابه فحموه ، واستاق عاصم البغل والرحل ، حتى آوى إلى الصف ، وإذا الفارس خباز الملك ، وإذا الذي كان معه لطف الملك : الأخبصة والعسل المعقد ، فنفل ذلك سعد أهل موقف عاصم ، وبعث إليهم ليأكلوه وهم فى موقفهم.

وجال عمرو بن معدى كرب بين الصفين يحرض الناس ، ويقول : إن الرجل من هذه الأعاجم إذا ألقى من فرسه فإنما هو تيس.

قال قيس بن أبى حازم : فبينا هو كذلك يحرضنا إذ خرج إليه رجل من الأعاجم ، فوقف بين الصفين فرماه بنشابة فما أخطأت سية قوسه وهو متنكبها ، فالتفت إليه ثم حمل عليه ، فاعتنقه ، ثم أخذ بمنطقته فاحتمله فوضعه بين يديه ، فجاء به حتى إذا دنا منا كسر عنقه ، ثم وضع سيفه على حلقه فذبحه ، ثم ألقاه. وقال : هكذا فافعلوا بهم. فقلنا : من يستطيع يا أبا ثور أن يصنع كما تصنع؟.

وقال بعضهم : وأخذ سواريه ومنطقته ويلمق ديباج كانت عليه. ثم كتبت الكتائب من هؤلاء وهؤلاء.

وذكر المدائنى أن رستم ظاهر يومئذ بين درعين ، وقرب له فرس فنزا عليه ، ولم يمسه بيده ، وقال : اليوم ندق العرب دقا. فقال له رجل : قل إن شاء الله. قال : إن شاء وإن لم يشأ ، وقدم كتيبة عليها الدروع والمغافر والأداة الكاملة ، فدفعوا إلى جعفى ، وهم حديثو عهد بالشرك ، فنازلوهم فلم تحك سيوفهم فى جنبهم ، فظنوا أن الحديد لا يحك فيهم ،

٤٧٠

حتى حمل رجل منهم على أسوار فطعنه فقتله ، ونادى : يا آل جعفى ، السلاح تنفد فيهم فشأنكم بهم ، ونحو هذا قول عمرو بن معدى كرب فى ذلك اليوم ، وقد رماه رجل من أهل العجم بنشابة ، فوقعت فى كتفه ، وعليه درع حصينة ، فلم تنفد ، وحمل هو على الرجل فعانقه ثم صرعه فقتله ، وقال :

أنا أبو ثور وسيفى ذو النون

أضربهم ضرب غلام مجنون

يا زيد إنهم يموتون

ولم يكن عمرو ولا قومه يجهلون أن القوم يموتون ، ولكنه الشعر تحسن فيه هذه المآخذ ، ويملح بهذه المقاصد.

ومثله قول الآخر :

القوم أمثالكم لهم شعر

فى الرأس لا ينشرون إن قتلوا

ويفوق هذا كله قول الله سبحانه ، ولكتابه المثل الأعلى : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) [النساء : ١٠٤]. وقد بعدنا عما كنا بسبيله ، فلنعد إليه.

قالوا : لما كتبت الكتائب بعد الطراد ، وتزاحف الناس ، صرفت الأعاجم فيولها نحو المسلمين ، فوجهت إلى الوجه الذي فيه بجيلة ثلاثة عشر فيلا ، وصفوا على سائر الناس سبعة عشر ، ولما حمل أصحاب الفيلة تفرقت الكتائب ، وابذعرّت الخيل ، وكادت بجيلة تؤكل ، فرت خيلها نفارا ، فأرسل سعد إلى بنى أسد : يا بنى أسد ذببوا على بجيلة ومن لافها من الناس ، فخرج طليحة بن خويلد ، وحمال بن مالك الأسدي وغالب بن عبد الله والرفيل بن عمرو فى كتائبهم فباشروا الفيلة ، حتى عزلها ركبانها ، وإن على كل فيل يومئذ عشرين رجلا.

وقال موسى بن طريف : قام طليحة فى قومه حين استصرخهم سعد ، فقال : يا عشيرتاه ، إن المنوه باسمه ، الموثوق به ، أنتم ، وإن هذا ، يعنى سعدا ، لو علم أن أحدا أحق بإغاثة هؤلاء منكم لاستغاثتهم ، ابدءوهم الشدة ، وأقدموا عليهم إقدام الليوث الحربة ، فإنما سميتم أسدا لتفعلوا فعلهم ، شدوا ولا تصدوا ، وكروا ولا تفروا ، لله در ربيعة أى فرى يفرون وأى قرن يغنون هل يوصل إلى مواقفهم فأغنوا عن مواقفكم أعانكم الله ، شدوا عليهم باسم الله. فقام المعرور بن سويد وشقيق ، فشدوا والله عليهم فما زالوا يضربونهم

٤٧١

ويطعنونهم حتى حبسنا الفيلة عنهم ، وخرج إلى طليحة عظيم منهم فبارزه ، فما ألبثه طليحة أن قتله.

قالوا : وقام الأشعث بن قيس ، فقال : يا معشر كندة ، لله در بنى أسد أى فرى يفرون وأى هذ يهذون عن موقفهم منذ اليوم أغنى كل قوم ما يليهم ، وأنتم تنظرون من يكفيكم البأس ، أشهد ما أحسنتم أسوة إخوانكم من العرب ، وأنهم ليقتلون ويقتلون ، وأنتم جثاة على الركب ، فوثب إليه منهم عشرة ، فقالوا : عثر جدك إنك لتؤيسنا يا هذا ، نحن أحسن الناس موقفا! فمن أين خذلنا قومنا العرب وأسأنا أسوتهم؟ فها نحن معك ، فنهد ونهدوا ، فأزالوا الذين بإزائهم.

ولما رأى أهل فارس ما تلقى من كتيبة بنى أسد رموهم بحدهم ؛ وبدر المسلمون الشدة عليهم ، وهم ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد ، فاجتمعت حلبة فارس ، فيهم ذو الحاجب والجالينوس ، على بنى أسد ومعهم تلك الفيلة ، وقد ثبتوا لهم ، وكبر سعد التكبيرة الرابعة ، فزحف إليهم المسلمون ورحى الحرب تدور على بنى أسد ، وحملت الفيول فى الميمنة والميسرة على الخيول ، فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد ، وألح فرسانهم على الرجل ، وجد المقاتلة مع الفيلة ، فقال بعض الأسديين : والله لأموتن أو لأطعنن عينى بعض هذه الفيلة ، فقصد لأعظمها فيلا فقاتل حتى وصل إليه ، وعلى كل فيل قوم يقاتلون ، فطعن فى عين ذلك الفيل بسيفه ، وضربه سائس الفيل بعمود فهشم وجهه ، وأدبر الفيل فخبط من حوله ، واشتد القتال عند فيل منها ، فقال حبيش الأسدي لبشر بن أبى العوجاء الطائى : أرى القتال قد اشتد عند هذا الفيل ، فتبايعنى على الموت فنحمل على حماته فنكشفهم أو نقتل دونه. قال : نعم ، فحملا فضرب حبيش رجلا من الفرس من حماة الفيل فقتله ، ودنوا من الفيل ، فضرب حبيش مشفره فرمى به وضرب الطائى ساقه فبرك الفيل ، وانطوت الفرس على بنى أسد ، فقتل حبيش.

وأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو ، فقال : يا معشر بنى تميم ، ألستم أصحاب الإبل والخيل؟ أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة ، قالوا : بلى والله ، ثم نادى عاصم فى رجال من قومه رماة وأخر أهل ثقافة ، فقال : يا معشر الرماة ، ذبوا ركبان الفيلة عنا ، ويا معشر أهل الثقافة ، استدبروا الفيلة فقطعوا وضنها ، وخرج يحميهم والرحى دائرة على بنى أسد ، وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد ، وأقدم أصحاب عاصم على الفيلة ، فأخذوا بأذنابها وذباب توابيتها فقطعوا وضنها ، فما بقى لهم يومئذ فيل إلا أعرى ، وقتل أصحابها ، وتقاتل الناس ونفس عن بنى أسد ، وردوا عنهم الفرس إلى مواقفهم ، فاقتتلوا حتى غربت

٤٧٢

الشمس. ثم حتى ذهبت هدأة من الليل ، ثم رجع هؤلاء وهؤلاء ، وأصيب من بنى أسد تلك العشية خمسمائة ، وكانوا ردءا للناس ، وكان عاصم عادية الناس وحاميتهم ، فهذا يوم القادسية الأول ، وهو يوم أرماث.

وقال عاصم بن عمرو التميمى فى ذلك :

ألم يأتيك والأنباء تسرى

بما لاقيت فى يوم النزال

ولما أن تزايل مقرفوهم

عصينا القوم بالأسل الطوال

وعريت الفيول من التوابى

وعطلت الخيول من الرجال

ولو لا ذبنا عمن يلينا

للج الجمع فى فعل الضلال

حمينا يوم أرماث حمانا

وبعض القوم أولى بالحمال

وقال عمرو بن ساس الأسدي :

فلا وأبيك لا ينفك فينا

من السادات حظ ما بقينا

ألسنا المانحين لدى قديس

جموع الفرس مرداة طحونا

ولسنا مثل من لا طرق فيه

ولكن غثنا يلفى سمينا

ونحن إذا يريح الليل أمرا

يهم الناس عصمة من يلينا

ومرقصة منعناها إذا ما

رأت دون المحافظة التقينا

نذكرها إذا ولهت بنيها

ونحميها إذا نحمى بنينا

إذا افترش النواحى بالنواحى

وكان القوم فى الأبدان جونا

إذا ثار الغبار كأن فيه

إذا اصطفت عجاجته طحينا

وقد علمت بنو أسد بأنا

نضارب بالسيوف إذا غشينا

ونحن فوارس الهيجا إذا ما

رأيت الخيل مسندة عرينا

وذكر المدائنى خبر هذا اليوم ، وقد أورد كثيرا مما أورده ، فى تضاعيف الأخبار المتقدمة وفى بعض ما ذكره أن المسلمين هم الذين عبروا إلى الفرس ، خلافا لما تقدم ذكره : أنه لما عزم الفريقان على اللقاء أرسل سعد إلى جرير والمغيرة وحنظلة ، فقال : إنكم قد أصبحتم فى دار قد أذل الله لكم أهلها ، فأنتم تطئونهم منذ سنين ، وقد أتوكم فى جمع لا أظنهم يريدون أن يزايلوكم حتى يفصل بينكم ، ولستم وهم سواء فى دنيا تقاتلون عنها ، وقد خلفوا مثلها ، فإن فروا فروا إلى مثلها وأنتم تقاتلون عن دينكم ، فإن فررتم فررتم عنه إلى فيافى لا خير فيها ، وأنتم غرر قومكم ، إنكم إن ظهرتم عليهم كان لكم أبناؤهم ونساؤهم ، وإن تواكلتم لم يبقوا منكم باقية مخافة أن تعودوا عليهم ،

٤٧٣

والأرض من وراءكم قفر بسابس ، ليس لكم فيها معقل ولا ملجأ ، فاتقوا الله واصبروا ، وحضوا المسلمين وواسوهم وتنجزوا موعود الله ، فإنه قال : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] ، وقد وليت الحرب خالد بن عرفطة ، فالزموا السمع والطاعة ، ولا تهنوا ولا تفشلوا فتذهب ريحكم ، فخرجوا من عند سعد وقد استعد المشركون لقتالهم ، وهم وقوف يهابون العبور والإقدام ، فأرسل سعد إلى الناس : لا تعبروا حتى آذن لكم ، وقد أخذ الناس العدة للقتال ، فوقفوا ينتظرون الإذن من سعد ، وحض رؤساء القبائل عشائرهم ، فلما طال وقوفهم ولم يأتهم إذن سعد ، قال جرير بن عبد الله : أيها الناس ، ما تنتظرون ، أما تريدون أن تقاتلوهم إن لم يقاتلوكم ، وعبر النهر فى بجيلة ، فقال قيس بن مكشوح : يا معشر مذحج ، قد تقدمكم إخوانكم فسابقوهم ، فو الله لا يسبق أحد اليوم إلا أعطاه الله غدا على قدر سبقه فى الدنيا ، وعبر قيس ، وعبر بعده عمرو بن معدى كرب ، وقال زهرة بن جوية : يا بنى تميم ، ما تنتظرون وقد مضى إخوانكم ، وعبروا ، واتبع الناس بعضهم بعضا. فقال سعد : اللهم إنهم عبروا ولم يستأمرونى فاقض لهم بالنصر ، فصف المسلمون ، على ميمنتهم شرحبيل بن السمط ، وعلى ميسرتهم هاشم بن عتبة ، وعلى الخيل قيس بن مكشوح ، وعلى الرجالة المغيرة بن شعبة ، والمسلمون عشرة آلاف ، ويقال ما بين السبعة آلاف إلى الثمانية ، عامة جثهم براذع الرحال ، قد عرضوا فيها الجريد يتسترون بها ، وعلى رءوسهم أنساع الرجال ، يطوى الرجل نسعة رحله على رأسه ، والمشركون ستون ألفا ، وقيل أكثر.

وظاهر رستم بين درعين ، وقدم كتيبة عليهم الدروع والمغافر والأداة الكاملة ، فدفعوا إلى جعفى ، وقد تقدم خبرهم ، وأخرج رستم بعد ذلك كتيبة فيها الجالينوس ، فتقدم وقد اعتصب بعصابة ديباج ، معه ترس مذهب ، فتلقاه طليحة ، واختلفا ضربتين ، فوقعت ضربة الجالينوس فى جحفة طليحة ، ووقع سيف طليحة فى رأس الجالينوس ، فهشم البيضة وندرت عن رأسه وقد جرحه ، فولوا منهزمين إلى رستم ، فعظموا أمر العرب ليعذرهم ، وأخذ طليحة البيضة فنفلها ، فكانت قيمتها أربعمائة مثقال ، وأقبل قيس بن مكشوح ، يومئذ ، فوقف على المغيرة فقال : ما رأيت كاليوم عديدا ولا حديدا ، فقال المغيرة : إن هذا زبد من زبد الشيطان ، والله جاعل بعضه على بعض ، وحض المغيرة الناس وقال : إن الكلام عند القتال فشل ، فالزموا الصمت ، ولا يزولن أحد منكم عن مركزه ، فإذا حركت رايتى فاحملوا ، فقال له رجل : ما تنتظر؟ قال : اجلس ، فقال رجل من بنى

٤٧٤

مجاشع : الله أكبر ، إنى لأرى الأرض من خلل صفهم ، فكبروا واحملوا ، فقال له المغيرة : اجلس ، وأقبل المغيرة على قيس بن مكشوح فقال : احمل يا قيس فإنى حامل ، ونكبنى خيلك ، لا أعرفنك إذا غلبت رجالى فيهم إن تجاوزها خيلك ، فإذا عضك السلاح رددتها على أعقابها فى وجوه رجالى ، فيكون أشد عليهم من عدوهم ، وهز المغيرة رايته ، وحمل ، واتبعه قيس ، فما وصلوا كتيبته حتى رجع فيهم طعنتين ، فقال طليحة : يا بنى أسد ، ما تستحيون ، الناس يقاتلون وأنتم وقوف ، فحمل فقالت امرأة من بنى أسد لبنيها وهم أربعة : يا بنى ، والله ما نبت بكم دار ولا أفحمتكم سنة ، ولقد أسلمتم طائعين ، وهاجرتم راغبين ، وجئتم بأمكم عجوزا كبيرة فوضعتموها بين يدي أهل فارس ، فقاتلوا عن دينكم وأمكم ، فو الله إنكم لبنو رجل واحد ، كما أنكم بنو امرأة واحدة ، فاشهدوا أشد القتال ، فحملوا ، فقالت : اللهم احفظ فىّ بنى.

وروى الشعبى أن هذه المرأة كانت من النخع ، وذكر حديثها بنحو ما تقدم إلى قولها : كما أنكم بنو امرأة واحدة ، وزاد هاهنا : ما خنت أباكم ، ولا فضحت خالكم ، انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره ، فأقبلوا يشتدون ، فلما غابوا عنها رفعت يديها إلى السماء وهى تقول : اللهم ادفع عن بنى ، فرجعوا إليها وقد أحسنوا القتال ، فما كلم رجل منهم كلما.

قال الشعبى : فرأيتهم بعد ذلك يأخذون ألفين ألفين من العطاء ، فيأتون أمهم فيلقونه فى حجرها ، فترده عليهم ، وتقسمه فيهم على ما يصلحهم.

وقد ذكر الزبير بن بكار نحو هذا عن الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية فى بنين لها أربعة شهدت معهم حرب القادسية ، فقالت لهم من أول الليل : يا بنى ، إنكم أسلمتم طائعين ، وهاجرتم مختارين ، وذكرت من صونها لنسبهم نحو ما ذكر قبل ، ثم قالت لهم : وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل فى حرب الكافرين ، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية ، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين ، وبالله على أعدائه مستنصرين ، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظاها على سباقها وجللت نارا على أرواقها ، فتيمموا وطيسها ، وجالدوا رئيسها عند احتدام حميسها (١) ، تظفروا بالغنم والكرامة فى دار الخلد والمقامة ، فخرج بنوها قابلين لنصحها ، فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم ، وأنشأ أولهم يقول :

__________________

(١) الحميس : أى التنور.

٤٧٥

يا إخوتى إن العجوز الناصحه

قد نصحتنا إذ دعتنا البارحه

مقالة ذات بيان واضحه

فباكروا الحرب الضروس الكالحة

وإنما تلقون عند الصالحة

من آل ساسان كلابا نابحه

قد أيقنوا منكم بوقع الجائحه

وأنتم بين حياة صالحه

أو موتة تورث غنما رابحه

وتقدم فقاتل حتى قتل ، رحمه‌الله ، ثم حمل الثانى وهو يقول :

إن العجوز ذات حزم وجلد

والنظر الأوفق والرأى السدد

قد أمرتنا بالسداد والرشد

نصيحة منها وبرا بالولد

فباكروا الحرب حماة فى العدد

إما لفوز بارد على الكبد

أو ميتة تورثكم عز الأبد

فى جنة الفردوس والعيش الرغد

فقاتل حتى استشهد ، رحمه‌الله ، ثم حمل الثالث وهو يقول :

والله لا نعصى العجوز حرفا

قد أمرتنا حدبا وعطفا

نصحا وبرا صادقا ولطفا

فبادروا الحرب الضروس زحفا

حتى تلفوا آل كسرى لفّا

وتكشفوهم عن حمالكم كشفا

فقاتل حتى استشهد ، رحمه‌الله ، وحمل الرابع وهو يقول :

لست لخنساء ولا لاخزم

ولا لعمر وذى السناء الأقدم

إن لم أرد فى الجيش جيش العجم

ماض على الهول خضم خضرم

إما لفوز عاجل ومغنم

أو لوفاة فى السبيل الأكرم

فقاتل حتى قتل ، رحمة الله عليه وعلى إخوته ، فبلغ الخبر أمهم ، فقالت : الحمد لله الذي شرفنى بقتلهم ، وأرجو من ربى أن يجمعنى بهم فى مستقر رحمته ، فكان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، يعطى الخنساء بعد ذلك أرزاق أولادها الأربعة ، لكل واحد مائتى درهم ، حتى قبض ، رحمه‌الله.

فهذا ما ذكره الزبير بن بكار ، والذي قبله ذكره المدائنى ، رحمهما‌الله ، ولعل الخبرين صحيحان ، والله أعلم أى ذلك كان. ثم ذكر المدائنى ، بعد ، من حسن بلاء بنى أسد وانطواء الفرس عليهم فى مجال الفيلة ما قد ذكرناه قبل فى موضعه.

وذكر ، أيضا ، أن الأشعث بن قيس قال عند ما اشتد قتالهم : لله در بنى أسد ، أى فرى يفرون ، وأنتم تنظرون ، يا معشر كندة.

٤٧٦

وقال زهرة بن جوية : يا بنى تميم ، قد صبر إخوانكم من بنى أسد ، وأحسنوا فذودوا عنهم الفيلة وحماتها ، فحمل زهرة فى بنى تميم ، وجرير فى بجيلة ، فكشفوا المشركين عن بنى أسد ، وقد استشهد منهم خمسون رجلا ، وتحاجزوا قريبا من العصر ، فجمعوا بين الصلاتين ثم عاودوا القتال مطاردة ومشاولة حتى غابت الشمس.

والتقى حنظلة بن الربيع الأسيدى ذو الحاجب فاختلفا طعنتين ، فصارا جميعا إلى الأرض ، فضرب حنظلة ذا الحاجب على رأسه فصرعه ، فحامت عنه الأساورة ، حتى ركب ، وحامى عن حنظلة القعقاع بن عمرو ، أحد بنى يربوع ، وذريح ، أحد بنى تيم اللات ، حتى ركب ، فقال ذريح :

لما رأيت الخيل شك نحورها

رماح ونشاب صبرت جناحا

على الموت حتى أنزل الله نصره

وود جناح لو قضى فأراحا

كأن سيوف الهند حول لبانه

بوارق غيث من تهامة لاحا

قال : وأصيبت يومئذ عين المغيرة بن شعبة ، وتحاجزوا حين أمسوا ، فرجع المسلمون إلى عسكرهم ، ورجع رستم إلى عسكره. هذا ما ذكره المدائنى.

ويقال : إن القعقاع لم يشهد يوم أرماث هذا ، وإنما قدم من الشام بعد انقضائه ، فشهد سائر الأيام وأبلى فيها ، وسيأتى ذكر ذلك إن شاء الله.

وذكر سيف عن بعض رجاله أن سعدا كان قد تزوج سلمى بنت خصيفة ، امرأة المثنى بن حارثة ، كما تقدم ، فنزل بها القادسية ، فلما كان يوم أرماث ، وجال الناس ، جعل سعد يتململ ويجول فوق القصر ، وكان لا يطيق جلوسا إلا على بطنه ، فلما رأت سلمى ما يصنع أهل فارس قالت : وا مثنياه ولا مثنى للخيل اليوم ، وهى عند رجل قد أضجر ما يرى من أصحابه ومن نفسه ، فلطم وجهها ، وقال : أين المثنى من هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحى! ، يعنى أسدا ، وعاصما ، فقالت : أغيرة وجبنا؟ قال : والله لا يعذرنى أحد اليوم إذا أنت لم تعذرينى وأنت ترين ما بى ، فالناس أحق ألا يعذرونى!.

فلما ظهر المسلمون لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه ، وكان غير جبان ولا ملوم ، رضي‌الله‌عنه.

وكانت القادسية فى شوال سنة خمس عشرة ، وابتداء أيامها يوم الاثنين لثلاث ليال خلون من شوال أو لأيام بقين منه ، وقيل كانت فى المحرم سنة أربع عشرة ، والأول أصح وأولى بالصواب إن شاء الله تعالى.

٤٧٧

ذكر اليوم الثانى من أيام القادسية ، وهو يوم أغواث

قالوا (١) : ولما أصبح الناس من الغد ، يعنون الغد من يوم أرماث ، أصبحوا على تعبئة ، وقد وكل سعد رجالا بنقل الشهداء إلى العذيب ونقل الرثيث. فأما الرثيث فأسلموا إلى النساء يقمن عليهم حتى يقضى الله فيهم قضاءه ، وأما الشهداء فليدفنوهم هنالك على مشرق ، واد بين العذيب وبين عين شمس فى عدوتيه جميعا ، وفى ذلك يقول سعد ، رحمه‌الله :

جزى الله أقواما بجنب مشرق

غداة دعا الرحمن من كان داعيا

جنانا من الفردوس والمنزل الذي

يحل به ذو الخير ما كان باقيا

وانتظر الناس بالقتال حمل الرثيث والأموال ، فلما استقلت بهم الإبل موجهة نحو العذيب طلعت عليهم نواصى الخيل من نحو الشأم ، وكان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، قد أمر أبا عبيدة بن الجراح لما انقضى شأن اليرموك وفتح دمشق بصرف أهل العراق أصحاب خالد الذين قدم بهم عليه إلى العراق ، ولم يذكر له عمر خالدا ، فضن أبو عبيدة بخالد فحبسه ، وقد قيل إن عمر أمر بحبسه ، فأمسكه وسرح الجيش وهم ستة آلاف ، ألف من أبناء العرب من أهل الحجاز ، وسائرهم من ربيعة ومضر ، وأمر عليهم هاشم بن عتبة بن أبى وقاص (٢) ، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو ، أى التميمى ، فجعله أمامه ، وجعل على إحدى مجنبتيه قيس بن مكشوح المرادى (٣) ، ولم يكن شهد الأيام ، وإنما أتاهم وهم باليرموك حين صرف أهل العراق فصرف معهم ، وعلى المجنبة الأخرى الهزهاز بن عدى العجلى ، فطوى القعقاع وتعجل ، فقدم على الناس صبيحة يوم أغواث ، وقد عهد إلى أصحابه أن ينقطعوا أعشارا ، وهم ألف ، فكلما بلغ عشرة مد البصر سرح فى آثارهم عشرة ، وتقدم هو فى عشرة ، فأتى الناس فسلم عليهم ، وبشرهم بالجنود ، وقال : يا أيها الناس ، إنى قد جئتكم فى قوم ، والله لو كانوا بمكانكم ، ثم أحسوكم لحسدوكم حظوتها ، وحاولوا أن يطيروا بها دونكم ، فاصنعوا كما أصنع ، فتقدم ثم نادى : من يبارز؟ فسكن الناس إليه ، وقالوا لقول أبى بكر الصديق ، رضي‌الله‌عنه : لا يهزم جيش

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٤٢).

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٨٩٣٤) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٥٣٢٨) ، العبر (١ / ٣٩) ، طبقات خليفة (٨٣١) ، مروج الذهب (٣ / ١٣٠) ، تاريخ بغداد (١ / ١٩٦) ، مرآة الجنان (١ / ١٠١) ، العقد الثمين (٧ / ٣٥٩) ، شذرات الذهب (١ / ٤٦).

(٣) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٧٣٢٩) ، طبقات ابن سعد (٥ / ٥٢٥) ، المحبر (٢٦١) ، معجم الشعراء (١٩٨) ، تهذيب الأسماء واللغات (٢ / ٦٤) ، شذرات الذهب (١ / ٤٦).

٤٧٨

فيهم مثل القعقاع ، فخرج إليه ذو الحاجب ، فقال له القعقاع : من أنت؟ فقال : أنا بهمن جاذويه ، فنادى : يا لثارات أبى عبيد وسليط وأصحاب يوم الجسر. فاجتلدا ، فقتله القعقاع ، وجعلت خيله ترد قطعا ، وما زالت ترد إلى الليل وتنشط الناس ، وكأن لم تكن بالناس مصيبة ، كأنما استقبلوا قتالهم بقتل الحاجبى وبلحاق القطع ، وانكسرت الأعاجم لذلك.

وكان أول القتال قبل أن يقدم القعقاع المطاردة ، فلما قدم قال : أيها الناس اصنعوا كما أصنع ، فنادى : من يبارز؟ فبرز له ذو الحاجب فقتله ، وآخر فقتله ، وخرج الناس من كل ناحية ، وبدأ الضرب والطعان ، ونادى القعقاع ، أيضا : من يبارز؟ فخرج إليه رجلان ، أحدهما البيزران والآخر البندوان ، فانضم إلى القعقاع الحارث بن ظبيان ، أحد بنى تيم اللات ، فبارز القعقاع البيزران ، فضربه فأذرى رأسه ، وبارز ابن ظبيان البندوان ، فضربه فأذرى رأسه ، وحمل بنو عم القعقاع ، يومئذ ، عشرة عشرة من الرجال ، على إبل قد ألبسوها ، فهى مجللة مبرقعة ، وأطافت بهم خيولهم ، وأمروا أن تحمل تلك الإبل على خيل الفرس يشبهون بالفيلة التي أرسلت عليهم الفرس بالأمس ، فجعلت تلك الإبل لا تصمد لقليل ولا لكثير إلا نفرت بهم خيلهم ، وركبتهم خيول المسلمين. فاستنوا بهم ، فلقى أهل فارس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقى المسلمون من الفيلة يوم أرماث.

ولم يقاتلوا فى هذا اليوم على فيل ، كانت توابيتها قد تكسرت بالأمس ، واستأنفوا علاجها حين أصبحوا فلم ترتفع حتى كان من الغد ، ولم ير أهل فارس فى هذا اليوم شيئا يعجبهم ، وأكثر المسلمون فيهم القتل.

وقالوا : قتل القعقاع يوم أغواث ثلاثين جملة ، كلما حمل حملة قتل فيها ، وآزر القعقاع ، يومئذ ، ثلاثة من بنى يربوع ، وجعل القعقاع كلما طلعت قطعة كبر وكبر المسلمون ويحمل ويحملون ، وقدم ذلك اليوم رسول لعمر ، رضي‌الله‌عنه ، بأربعة أفراس ، وأربعة أسياف ليقسمها سعد فيمن انتهى إليه البلاء ، إن كان لقى حربا ، فدعا حمال بن مالك والرفيل بن عمرو بن ربيعة الوالبيين وطليحة بن خويلد الفقعسى (١) ، وكلهم من بنى أسد ، وعاصم بن عمرو التميمى (٢) ، فأعطاهم الأسياف ، ودعا القعقاع بن عمرو

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٤٣٠٩) ، تاريخ خليفة (١٠٢ ، ١٠٣ ، ١٠٤) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٢٦٤١) ، تهذيب الأسماء واللغات (١ / ٢٥٤ ، ٢٥٥) ، دول الإسلام (١ / ١٧) ، تاريخ الإسلام (٢ / ٤١) ، العبر (١ / ٢٦) ، شذرات الذهب (١ / ٣٢).

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٤٣٧٤).

٤٧٩

التميمى واليربوعيين وهم : نعيم بن عمرو بن عتبان وعتاب بن نعيم بن عتاب ، وعمرو ابن شبيب بن زنباع ، أحد بنى زيد ، فحملهم على الأفراس ، فأصاب ثلاثة من بنى يربوع ثلاثة أرباعها ، وأصاب ثلاثة من بنى أسد ثلاثة أرباع السيوف ، فقال الرفيل فى قطعة يذكر السيوف :

لقد علم الأقوام أنى أحقهم

إذا حصلوا بالمرهفات البواتر

وقال القعقاع فى شأن الخيل :

ولم تعرف الخيل العرب سواءنا

عشية أغواث بجنب القوادس

وذكر المدائنى حرب هذا اليوم فخالف بعض ما تقدم ، وقال : إن الناس لما أصبحوا غداة الثلاثاء عبر رستم إلى المسلمين بجنوده وفيلته من حين طلعت الشمس إلى قريب من نصف النهار ، وأخذوا عدة الحرب ، وصافهم المسلمون ، وعلى الميمنة عبد الله بن المعتم ، وعلى الميسرة هاشم بن عتبة ، وعلى الخيل المغيرة بن شعبة ، وعلى الرجالة سلمة بن حديم ، فقال سعد بن عبيد الأنصاري : يا أيها الناس ، إن الدنيا دار زوال وفتنة ، وأنتم منقلبون إلى دار الجزاء ، فلا يكونن شيء أحب إليكم من فراقها ، فإن ما عند الله خير للأبرار ، وتقدم أمام الناس ، فبرز له شهريار السجستانى ، فقتل كل واحد منهما صاحبه ، ثم طاردت الفرسان واقتتلوا حتى زالت الشمس ، وتحاجزوا ، وصلى المسلمون ثم عادوا إلى مصافهم ، فنصل من عسكر المشركين رجل يسأل المبارزة ، فبرز له زهرة بن جوية فقتله ، وحمل فوارس من المشركين على زهرة فعقروا به ، وندر سيفه من يده ، فقاتلهم راجلا يحثو فى وجوههم التراب حتى توافت إليه خيل المسلمين ، فكشفوهم عنه ، وقد ذهبوا بسيفه ، فقال :

فإن تأخذوا سيفى فإنى محرب

خروج من الغماء محتضر النصر

وإنى لحام من وراء عشيرتى

أطاعن فيهم بالمثقفة السمر

وقد روى غير المدائنى هذا الشعر والخبر للأعرف بن الأعلم العقلى فى هذا اليوم.

وقال عمرو بن معدى كرب لقومه : يا بنى زبيد ، إنى مخالط الجمع ، فانظرونى قدر نحر جزور وتعسيرها ، ثم اطلبونى ، فإنكم تجدونى وسيفى فى يدى أقاتل به قدما لا أزول ، وفى رواية : فإن تأخرتم عنى فقد فقدتم أبا ثور ، وأين لكم مثل أبى ثور ، وحمل حتى خالطهم ، فستره الغبار ، فقال بعض الزبيديين : أيا بنى زبيد ، علام تدعون صاحبكم وقد توسط جمع المشركين ، والله ما أرى أن تدركوه حيا ، وإن فقدتموه فقد المسلمون

٤٨٠