أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي
المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
الصفحات: ٦٣٢
هو يصنعه والذي صنعه. وأما الذي ذكرت به نفسك وأهل بلادك من الظهور على الأعداء والتمكين فى البلاد وعظم السلطان فى الدنيا ، فنحن نعرفه ولا ننكره ، والله صنعه لكم ، ووضعه فيكم ، وهو له دونكم ، وأما ما ذكرت فينا من سوء الحال ، وضيق المعيشة ، واختلاف القلوب ، فنحن نعرفه ، والله ابتلانا بذلك ، وصيرنا إليه ، والدنيا دول ، ولم يزل أهل شدائدها يتوقعون الرخاء حتى يصيروا إليه ، وأهل رخائها يتوقعون الشدة حتى تنزل بهم ، ويصيروا إليها ، ولو كنتم فيما آتاكم الله دوننا أهل شكر ، لكان شكركم يقصر عما أوتيتم ، ولأسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال ، ولو كنا فيما ابتلينا به أهل كفر ، كان عظيم ما تتابع علينا مستجلبا من الله رحمة يرفه بها عنا ، ولكن الشأن غير ما تذهبون إليه ، إن الله تعالى بعث فينا رسولا ، فكذبه مكذبون وصدقه منا آخرون ، وأظهر الله دعوته ، وأعز دينه على كره ممن كذبه وحاده ، حتى دخلوا فى الإسلام طوعا وكرها ، فأمرنا أن ندعو من خالفنا إلى ديننا ، فمن أباه قاتلناه.
وذكر نحو ما تقدم من الكلام فى الأحاديث المتقدمة من دعائه إلى الإسلام ، وقال له:فإن أبيت فكن لنا عبدا تؤدى الجزية عن يد وأنت صاغر ، وإلا السيف إن أبيت.
فنخر رستم عند ذلك نخرة واستشاط غضبا ، ثم حلف بالشمس لا يرتفع لكم الضحى غدا حتى أقتلكم أجمعين.
فانصرف المغيرة ، وخلص رستم بأشراف فارس ، فقال : أين هؤلاء منكم؟ ما بعد هذا؟ ألم يأتكم الأولان فجسراكم واستخرجاكم ، ثم جاءكم هذا فلم يختلفوا ، وسلكوا طريقا واحدا ، ولزموا أمرا واحدا ، هؤلاء والله الرجال ، صادقين أو كاذبين ، والله لئن كان بلغ من رأيهم وصونهم أمرهم أن لا يختلفوا ، ما قوم أبلغ فيما أرادوا منهم ، وإن كانوا صادقين ما يقوم لهؤلاء شيء فلجوا وتجلدوا ، فقال : والله إنى لأعلم أنكم تصغون إلى ما أقول لكم ، وإن هذا منكم رياء ، فازدادوا لجاجا.
وفى بعض الروايات أن مما قال المغيرة لرستم وقد توعد المسلمين بأنهم مقتولون ، قال : هو الذي نتمنى ، أن المقتول منا صائر فى الجنة ، والهارب فى النار ، وللباقى الصابر الظفر بحديث صادق ووعد لا خلف له ، وقد أصبنا فى بلادكم حبة كأنها قطع الأوتار ، فأكلنا منها وأطعمنا أهلينا ، فقالوا : لا صبر لنا حتى تنزلونا هذه البلاد.
قال رستم : أما لنقرننكم فى الجبال.
قال المغيرة : أما وبنا حياة فلا.
قال رستم : ارجع إلى أصحابك واستعدوا للحرب ، فليس بيننا وبينكم صلح ، ولنفقأن عينك غدا.
فقال المغيرة : وأنت ستقتل غدا إن شاء الله ، وإن ما قلت لى ليسرنى ، لو لا أن أجاهدكم بعد اليوم لسرنى أن تذهبا جميعا.
ورجع المغيرة فتعجبوا من قوله. فقال رستم : ما أظن هذا الملك إلا قد انقضى ، وأن أجمل بنا ألا يكون هؤلاء أصبر منا ، ولقد وعدوا وعدا ليموتن أو ليدركنه ، ولقد حذروا وخوفوا من الفرار خوفا لا يأتونه ، وقد رأيت ليلتى هذه كأن القوس التي فى السماء خرت ، وكأن الحيتان خرجن من البحر ، وأن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم ، فهل لكم أن تقبلوا بعض ما عرضوا عليكم؟ قالوا : لا.
قال : فأنا رجل منكم ، وكتب إلى يزدجرد بما كلمه به المغيرة ، فقال شاهين الأزدى : لو لم يكن إلا ساسة دوابنا لأخذناهم بهم. فكتب إليه أمره بقتالهم ، وقال : إذا لقيتهم فضع الرجال فيما بينى وبينك ، على كل ربوة رجلا ، فكلما حدث أمر نادى به بعضهم بعضا حتى يفضى الخبر إلىّ.
وحدث سيف (١) عن رجاله ، قالوا : أرسل إليهم سعد بقية ذوى الرأى جميعا ، وحبس الثلاثة ، فخرجوا حتى أتوه ، فقالوا له : إن أميرنا يقول لك : إن الحرب تحفظ الولاة ، وإنى أدعوك إلى ما هو خير لنا ولك ، وهى العاقبة بأن تقبل منا ما دعاك الله ، عزوجل ، إليه ، ونرجع إلى أرضنا ، وترجع إلى أرضك وبعضنا من بعض ، إلا أن داركم لكم ، وأمركم فيكم ، وما أصبتم مما وراءكم كان زيادة لكم دوننا ، وكنا لكم عونا على أحد إن أرادكم أو قوى عليكم. واتق الله يا رستم ، ولا يكونن هلاك قومك على يديك ، فإنه ليس بينك وبين أن تغتبط إلا أن تدخل فيه وتطرد به الشيطان عنك.
فقال رستم : إنى قد كلمت منكم نفرا ، ولو أنهم فهموا عنى رجوت أن تكونوا قد فهمتم ، وإن الأمثال أوضح من كثير من الكلام ، وسأضرب لكم مثلكم. إنكم كنتم أهل جهد فى المعيشة ، وقشف فى الهيئة ، لا تمتنعون ولا تنتصفون ، فلم نسئ جواركم ، ولم ندع مواساتكم ، تقتحمون المرة بعد المرة ، فنميركم ثم نردكم ، وتأتوننا أجراء وتجارا فنحسن إليكم ، فلما تطعمتم طعامنا ، وشربتم شرابنا ، وأظلكم ظلنا ، وصفتم ذلك لقومكم ، ثم دعوتموهم فأتيتمونا بهم ، وإنما مثلكم فى ذلك ومثلنا كمثل رجل كان له
__________________
(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٢٥ ـ ٥٢٨).
كرم ، فرأى فيه ثعلبا ، فقال : وما ثعلب فانطلق الثعلب ، فدعا الثعالب إلى ذلك الكرم ، فلما اجتمعت عليه سد عليها صاحب الكرم مدخلها فقتلها ، وقد علمت أن الذي حملكم على هذا الحرص والطمع مع الجهد ، فارجعوا عنا عامكم هذا ، وامتاروا حاجتكم ، ولكم العود كلما احتجتم ، فإنى لا أشتهى أن أقتلكم ، وقد أصاب أناس كثير منكم ما أرادوا من أرضنا ، ثم كان مصيرهم القتل والمهرب ، ومن سن هذا لكم خير منكم وأقوى ، وقد رأيتم أنتم كلما أصابوا شيئا أصيب بعضهم ونجا بعضهم ، وخرج مما كان أصاب ، ومن أمثالكم فيما تصنعون مثل جرذان ألفت جرة فيها حب ، وفى الجرة ثقب ، فدخل الأول فأقام فيها ، وجعلت الأخر ينقلن منها ويرجعون ويكلمنه فى الرجوع ، فيأبى ، فانتهى سمن الذي فى الجرة ، فاشتاق إلى أهله ليريهم حسن حاله ، فضاق عليه الجحر ، ولم يطق الخروج ، فشكى القلق إلى أصحابه ، وسألهم المخرج ، فقالوا : ما أنت بخارج منها حتى تعود كما كنت قبل أن تدخل ، فكف وجوع نفسه ، وبقى فى الجرة ، حتى إذا عاد كما كان أتى عليه صاحب الجرة فقتله ، فاخرجوا أو ليكونن هذا لكم مثلا.
وقال لهم ، أيضا ، فيما قال : لم يخلق الله خلقا أولع من ذباب ، ما خلاكم يا معشر العرب ، ترون الهلاك ويدليكم فيه الطمع ، ومثلكم فى هذا مثل الذباب إذا رأى العسل طار ، وقال : من يوصلنى إليه وله درهمان حتى يدخله؟ لا ينهاه أحد إلا عصاه ، فإذا دخله غرق ونشب ، وقال : من يخرجنى وله أربعة دراهم؟ وضرب للقوم أمثالا غير هذه نحوا منها.
قالوا : فتكلم القوم ، فقالوا : أما ما ذكرت من سوء حالنا فيما مضى ، وانتشار أمرنا ، فلم نبلغ كنهه يموت الميت منا إلى النار ، ويبقى الباقى منا فى بؤس ، فبينا نحن فى أسواء ذلك ، فبعث الله ، عزوجل ، فينا رسولا من أنفسنا إلى الإنس والجن ، رحمة رحم بها من أراد رحمته ، ونقمة ينتقم بها ممن رد كرامته ، فبدأ بنا قبيلة قبيلة ، فلم يكن أحد أشد عليه ولا أشد إنكارا لما جاء به ، ولا أجهد على قتله ورد ما جاء به من قومه ، ثم الذين يلونهم ، حتى طابقناه على ذلك كلنا ، فنصبنا له جميعا ، وهو وحده فرد ليس معه إلا الله تعالى فأعطى الظفر علينا ، فدخل بعضنا طوعا وبعضنا كرها ، ثم عرفنا جميعا الحق والصدق لما أتى به من الآيات المعجزة ، وكان مما أتى به من عند ربنا ، عزوجل ، جهاد الأدنى فالأدنى ، فصرنا فى ذلك فيما بيننا ، نرى أن الذي قال لنا ووعدنا لا نخرج عنه ولا ننقص منه ، حتى اجتمعت العرب على هذا ، وكانوا من الاختلاف فيما لا يطيق
الخلائق بالتفهم معه ، ثم أتيناكم بأمر ربنا ، نجاهد فى سبيله ، وننفذ لأمره ، ونستنجز موعوده ، وندعوكم إلى الإسلام وأحكامه ، فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا ، وخلفنا فيكم كتاب الله ، عزوجل ، وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا بالجزاء ، فإن فعلتم وإلا فإن الله ، عزوجل ، قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم. فاقبلوا نصيحتنا ، فو الله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم ، ولقتالكم بعد أحب إلينا من صلحكم ، وأما ما ذكرت من رثاثتنا وقلتنا فإن إرادتنا الطاعة ، وقتالنا الصبر وأما ما ضربتم لنا من الأمثال ، فإنكم ضربتم للرجال وللأمور الجسام وللجد الهزل ، ولكنا سنضرب لكم مثلا ، وإن مثلكم مثل رجل غرس أرضا ، واختار لها الشجر والحب ، وأجرى لها الأنهار ، وزينها بالقصور ، وأقام فيها فلاحين يسكنون قصورها ، ويقومون على جناتها ، فخلفه الفلاحون فى القصور بما لا يحب ، وفى الجنان بمثل ذلك ، فأطال نظرتهم ، فلما لم يستحيوا من تلقاء أنفسهم ، استعتبهم فكابروه ، فدعا إليهم غيرهم ، فأخرجهم منها ، فإن ذهبوا عنها تخطفهم الناس ، وإن أقاموا صاروا خولا لهم يملكونهم ويسومونهم الخسف أبدا ، والله لو لم يكن ما نقول لكم حقا ، ولم تكن إلا الدنيا ، لما كان لنا عما ضربنا به من لذيذ عيشكم ، ورأينا من زبرجكم من صبر ، ولقارعناكم أو نغلبكم عليه.
فقال رستم : أتعبرون إلينا أو نعبر إليكم؟ فقالوا : بل اعبروا إلينا ، فخرجوا من عنده عشيا ، فأرسل سعد إلى الناس أن يقفوا مواقفهم ، وأرسل إليهم : شأنكم والعبور ، فأرادوا القنطرة ، فأرسل إليهم : لا ولا كرامة أما شيء قد غلبناكم عليه فلن نرده عليكم ، تكلفوا معبرا غير القناطر ، فباتوا يسكرون العتيق حتى الصباح بأمتعتهم.
وذكر المدائنى أن رستم وجه الجالينوس ليعبر القنطرة ، فوقف بحيال زهرة بن جوية ، وكان عليها ، وقال : ليخرجن إلىّ الموكل بهذا الموضع ، فخرج زهرة على فرس كميت أغر ذنوب ، معه رمح معلوب ، وسيف رث الجفن ، فقال له الفارسى : إنك لم توضع هذا الموضع إلا وأنت ركن من أركان أصحابك ، وأرى سيفك رث الجفن ، قال : إن يكن رث المنظر فإنه حديد الضربة ، وقرب إليه الفارسى بالصلح ولم يصرح ، ومناه ، وقال : نحسن جواركم ونرفقكم فى معايشكم. فقال زهرة : إنا لم نأتكم نطلب الدنيا بغير آخرة ، إنما أتيناكم ندعوكم إلى ديننا ، فإن أبيتموه فدنياكم التي تعرضون علينا لنا إن شاء الله ، فقال له الفارسى : فخلوا لنا الطريق فنعبر إليكم فنناجزكم ، قال : لا ، قال : ولم وأنتم تمنون لقاءنا قال : نكره أن نرد عليكم شيئا قد غلبناكم عليه ، فرجع إلى رستم فأخبره ، فأعظم ذلك ، فانصرف الجالينوس ، فجلس رستم يفكر فيما أخبره ، وغلبته عيناه فنام
فانتبه ويده فى كتف جارية قاعدة بين يدى فراشه ، فقال : ما لك؟ قالت : مالت يدك فرفعتها ، فقال : أشفقت أن سقطت من فراش ديباج على بساط ديباج؟ فكيف بها غدا إذا انعفرت فى التراب ووطئتها الخيل؟ قالت : وما يضطرك إلى ذلك؟ وقد أعطوك ما لك فيه نصف ونجاة : إما أن تدخل فى دينهم فتكون مثلهم ، وإما أن تفتدى منهم بشيء تعطيهم ويبقى لك أمرك ، وإما أن تذهب إلى مأمنك من الأرض؟ فقال : إن فى عنقى حبلا أقاد به إلى مصرعى ، لا أقدر على الامتناع.
وبات العاجم ليلتهم يسكرون العتيق بالقصب والتراب والبراذع حتى جعلوه طريقا ، واستتم بعد ما ارتفع النهار من الغد.
قالوا : ورأى رستم من الليل أن ملكا نزل من السماء فأخذ قسى أصحابه فختم عليها ، ثم صعد بها إلى السماء ، فاستيقظ مهموما حزينا ، فدعا خاصته وقصها عليهم ، وقال : إن الله ، عزوجل ، ليعظنا ، لو أن فارس تركونى أتعظ ، أما ترى النصر قد رفع عنا وترى الريح مع عدونا وأنا لا نقوم لهم فى فعل ولا منطق؟.
يوم أرماث
ولما تم السكر عبروا بأثقالهم حتى نزلوا على ضفة العتيق ، ولما عبر أهل فارس أخذوا مصافهم ، وجلس رستم على سريره ، وضربت عليه طيارة ، وعبأ فى القلب ثمانية عشر فيلا ، عليها الصناديق والرجال ، وفى المجنبتين ثمانية وسبعة عليها الصناديق والرجال ، وأقام الجالينوس بينه وبين ميمنته والبيزران بينه وبين ميسرته ، وبقيت القنطرة بين خيلين من خيول المسلمين والمشركين.
وأخذ المسلمون ، أيضا ، مصافهم ، وكانت التعبئة التي تقدم بها سعد قبل انفصاله عن شراف بإذن عمر ، رضياللهعنه ، أن جعل على المقدمة زهرة بن الجوية ، وعلى الميمنة عبد الله بن المعتم ، وكان من أصحاب النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، وأحد التسعة الذين قاموا عليه فتممهم طلحة بن عبيد الله عشرة فى العرافة ، وعلى الميسرة شرحبيل بن السمط الكندى ، وكان شابا قد قاتل أهل الردة على الردة ، ووفى الله عزوجل ، فعرف ذلك له ، وعلى الساقة عاصم بن عمرو السعدى ، وعلى الطلائع سواد بن مالك التميمى ، وعلى المجردة سلمان بن ربيعة الباهلى ، وعلى الرجال حمال بن مالك الأسدي ، وعلى الركبان عبد الله بن ذى السهمين الخثعمى ، فلما تصافوا يومئذ جعل سعد زهرة وعاصما بين عبد الله بن المعتم ،
وبين شرحبيل بن السمط ، ووكل صاحب الطلائع بالطرد ، وخلط بين الناس فى القلب والمجنبات ، ونادى مناديه : ألا إن الحسد لا يحل إلا على الاجتهاد فى أمر الله تعالى يا أيها الناس ، فتحاسدوا وتغايروا على الاجتهاد.
وذكر المدائنى أنه كان على الميمنة يوم القادسية شرحبيل بن السمط ، وعلى الميسرة هاشم بن عتبة ، وعلى الخيل قيس بن مكشوح ، وعلى الرجل المغيرة بن شعبة ، فالله تعالى أعلم.
وكان سعد يومئذ لا يستطيع أن يركب ولا يجلس ، كان به عرق النسا ودماميل ، وإنما هو على وجهه وفى صدره وسادة ، وهو مكب عليها ، مشرف على الناس من القصر ، يرمى بالرقاع فيها أمره ونهيه إلى خالد بن عرفطة ، وهو أسفل منه ، وكان الصف إلى جانب القصر ، وكان خالد كالخليفة لسعد لو لم يكن سعد شاهدا مشرفا.
وقيل : بل استخلفه على الناس لأجل شكواه ، فاختلف عليه الناس ، فقال سعد : احملونى ، فأشرفوا به على الناس ، فارتقوا به ، فأكب مطلعا عليهم ، والصف فى أصل حائط قديس ، حيث كان سعد يأمر خالدا فيأمر خالد الناس ، وكان ممن شغب عليه وجوه من وجوه الناس ، فهم بهم سعد وشتمهم ، وقال : أما والله لو لا أن عدوكم بحضرتكم لجعلكم نكالا لغيركم فحبسهم فى القصر وقيدهم ، منهم أبو محجن الثقفى.
وقال جرير يومئذ : أما أنى بايعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، على أن أسمع وأطيع لمن ولى الأمر وإن كان عبدا حبشيا.
وقال سعد : والله لا يعود أحد بعدها يحبس المسلمين عن عدوهم ويساغبهم وهم بإزائهم إلا سننت فيه سنة يؤخذ بها من بعدى.
وذكر المدائنى أنه أتى رستما رجل من أهل الحيرة ليلا ، فقال له : أمير المسلمين وجع ، وهو فى قصر العذيب مع العيال ، ولو طرقته خيل لقتل لا يشعر به أصحابه ، فانتخب رستم خمسمائة فارس ، فوجههم ، إليه ، فترفعوا عن العسكرين وقطعوا الوادى ، وأخذوا فى خفض من الأرض ، وجاء رجل من العجم إلى المسلمين مستأمنا ، فأخبرهم ، فانتدب حنظلة بن الربيع الأسيدى فى خمسمائة من تحت الليل ، فسار إلى العذيب ، وقال لأصحابه : إنه ليطيب نفسى أن عبد الله بن سبرة عند سعد ، فانتهى إلى سعد عند طلوع الفجر ولم تصل إليهم الفرس ، فأنذروه وأصبحوا فإذا الأساورة متحدرون من ناحية وادى السباع ، فتلقاهم عبد الله بن سبرة الواقفى ، أحد بنى حرملة بن سعد بن مالك بن
ضبيعة بن قيس بن ثعلبة ، فى سرعان الناس ، معه عشرة فوارس وغلام له روى يقال له يزيد ، كان أصابه يوم اليرموك ، واتبعهم حنظلة فى أصحابه ، فقتل عبد الله بن سبرة قبل أن تتام إليه الخيل أسوارين.
وقال مرة الهمدانيّ ، وكان مع حنظلة : لما دنونا من معتركهم سمعنا صوتا منكرا شديدا ، فقال حنظلة : صوت ابن الكندية ورب الكعبة ، بعض هنات أبى قيس ، فانتهينا إليهم فإذا عبد الله بن سبرة يذمر أصحابه وهو يقول لغلامه : يا يزيد ثكلتك أمك إن فاتك أحد ، وقد انكسر رمحه ، وهو يضربهم بعمود ما يضرب به رجلا إلا قتله ، ولا دابة إلا عقرها ، وإن غلامه ليذودهم عليه بالرمح ، فلما غشيهم حنظلة وأصحابه انهزموا ، فما تشاء أن تجد الخمسة والستة من المسلمين يخفقون أسوارا بأسيافهم إلا وجدته ، فقتل منهم ثلاثون ، ويقال مائة ، وأفلت الآخرون أكثرهم جريح ، فرجعوا إلى رستم ، فطلب الحيرى ليقتله وظن أنه عين دس له فلم يقدر عليه ، وتحول سعد فنزل مع جماعة الناس.
وفيما حكاه سيف عن رجاله (١) : أن سعدا ، رحمهالله ، بعد ما تهدم على الذين اعترضوا على خالد بن عرفطة خطب من يليه يومئذ فحمد الله وأثنى عليه. وقال : إن الله وهو الحق ، وقوله الحق ، لا شريك له فى الملك ، وليس لقوله خلف ، قال : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] ، إن هذا ميراثكم وهو موعد ربكم ، وقد أباحها لكم منذ ثلاث حجج ، وأنتم تطعمون منها وتأكلون ، وتقتلون أهلها ، وتجبونهم وتسبونهم إلى هذا اليوم ، بما نال منه أصحاب الأيام منكم ، وقد جاءكم منهم هذا الجمع ، وأنتم وجوه العرب ، وأعيانهم ، وخيار كل قبيلة ، وعز من وراءكم ، فإن تزهدوا فى الدنيا وترغبوا فى الآخرة يجمع الله لكم الدنيا والآخرة ، ولا يقرب ذلك أحدا إلى أجله ، وأن تفشلوا وتهنوا وتضعفوا تذهب ريحكم وتوبقوا آخرتكم.
وكتب سعد إلى أهل الرايات : إنى قد استخلفت عليكم خالد بن عرفطة ، وليس يمنعنى أن أكون مكانه إلا وجعى الذي كان يعودنى ، وما بى من جبون ، وإنى مكب على وجهى وشخصى لكم باد ، فاسمعوا له وأطيعوا ، فإنه إنما يأمركم بأمرى ، ويعمل برأيى. فقرئ على الناس فزادهم خيرا ، فانتهوا إلى رأيه ، وقبلوا منه ، وتحاثوا على السمع والطاعة ، وأجمعوا على عذر سعد والرضا بما صنع.
__________________
(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٣١ ، ٥٣٢).
قالوا : وأرسل سعد للذين انتهى إليهم رأى الناس ، والذين انتهت إليهم نجدتهم ، وأصناف الفضل منهم إلى الناس ، فقال : انطلقوا فقوموا فى الناس بما يحق عليكم وعليهم عند مواطن البأس ، فإنكم من العرب بالمكان الذي أنتم به ، وأنتم شعراء العرب وخطباؤهم وذوو رأيهم ونجدتهم وسادتهم ، فسيروا فيهم ، وحرضوهم على القتال. فساروا فيهم.
فقال قيس بن هبيرة : أيها الناس ، احمدوا الله على ما هداكم له وأبلاكم يزدكم ، واذكروا آلاء الله ، وارغبوا إليه فى عادته ، فإن الجنة والغنيمة أمامكم ، وإنه ليس وراء هذا القصر إلا العراء ، والأرض القفر ، والظراب الخشن ، والفلوات التي لا تقطعها الأدلة.
وقال غالب بن عبد الله الليثى : أيها الناس ، احمدوا الله على ما أبلاكم ، وسلوه يزدكم ، وادعوه يجبكم ، يا معشر معد ، ما علتكم اليوم وأنتم فى حصونكم ، يعنى الخيل ، ومن لا يعصيكم معكم ، يعنى السيوف؟ فاذكروا حديث الناس فى غد ، فإنه بكم غدا يبدأ ، وبمن بعدكم يثنى.
وقال ابن الهذيل الأسدي : يا معشر معد ، اجعلوا حصونكم السيوف ، وكروا عليهم كأسود الجم ، وتربدوا إليهم تربد النمور ، وادرعوا العجاج ، وثقوا بالله تعالى وغضوا الأبصار ، فإذا كلت السيوف فإنها يؤذن لها فيما لا يؤذن للحديد فيه.
وقال بسر بن أبى رهم : احمدوا الله ، وصدقوا قولكم بفعل ، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، انصروا الله ينصركم ، ولا يكونن شيء بأهون عليكم من الدنيا ، فإنها تأتى من تهاون بها ، ولا تميلوا إليها فتهرب منكم.
وقال عاصم بن عمرو : يا معشر العرب ، إنكم أعيان العرب ، وقد صمدتم لأعيان العجم ، إنما تخاطرون بالجنة ، ويخاطرون بالدنيا ، فلا يكونن على دنياهم أحوط منكم على آخرتكم. لا تحدثن اليوم أمرا تكونون به شينا على العرب غدا.
وقال ربيع السعدى : يا معشر العرب ، قاتلوا للدين والدنيا ، (سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران : ١٣٣] ، فإن عظم الشيطان عليكم الأمر ، فاذكروا الأخبار عنكم بالمواسم ما دام للأخبار أهل.
وتقدم كل واحد من أولئك الذين بعثهم سعد من وجوه الناس بمثل هذا الكلام ، وتواثق الناس ، وتعاهدوا ، واهتاجوا لكل ما ينبغى لهم.
وفعل أهل فارس ، فيما بينهم ، مثل ذلك ، وتعاهدوا وتواصوا ، واقترنوا بالسلاسل ، وكان المقترنون ثلاثين ألفا.
وقال سعد للناس : الزموا مواقفكم ، لا تحركوا شيئا حتى نصلى الظهر ، فإذا صليتم الظهر فإنى مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا ، واعلموا أن التكبير لم يعطه أحد قبلكم ، وإنما أعطيتموه تأييدا ، فإذا سمعتم الثانية فكبروا ، ولتستتموا عدتكم ، فإذا كبرت الثالثة فكبروا ، ولينشط فرسانكم الناس ليبرزوا ويطاردوا ، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعا حتى تخالطوا عدوكم ، وقولوا : لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
ويروى أنه لما نادى منادى سعد بالظهر ، نادى رستم : أكل عمر كبدى أحرق الله كبده علم هؤلاء حتى علموا.
وقيل : إن رستم قال نحوا من هذا عند ما نزل بين الحصن والعتيق ، وقد أذن مؤذن سعد الغداة ، وراى الناس يتخشخشون ، فنادى فى أهل فارس : أن اركبوا ، فقيل له : ولم؟
قال : أما ترون إلى عدوكم قد نودى فيهم فتخشخشوا لكم؟ فقال له رجل قد كان رستم بعثه قبل ذلك عينا إلى عسكر المسلمين فانغمس فيهم وعرف حالهم ، وانصرف إليه : فأخبره أن ذلك تخشخشهم للصلاة. فقال رستم بالفارسية ما تفسيره : أتانى صوت عند الغداة ، وإنما هو عمر الذي يعلم الكلاب العقل ، فلما سمع الأذان بالصلاة قال : أكل عمر كبدى.
قالوا : ولما صلى سعد الظهر أمر غلاما كان عمر ، رحمهالله ، ألزمه إياه ، وكان من القراء ، بقراءة سورة الجهاد ، وكان المسلمون كلهم إذ ذاك يتعلمونها ، فقرأها على الكتيبة التي تليه ، وقرئت فى كل كتيبة ، فهشت قلوب الناس وعرفوا السكينة مع قراءتها.
قال مصعب بن سعد : وكانت قراءتها سنة ، يقرأها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، عند الزحف ، ويستقرئها ، فعمل الناس بذلك.
قالوا : ولما فرغ القراء ، كبر سعد فكبر الذين يلونه ، وكبر بعض الناس بتكبير بعض ، فتخشخش الناس ، ثم ثنى فاستتم الناس ، ثم ثلث فبرز أهل النجدات فأنشبوا القتال ، وخرج أمثالهم من فارس ، فاعتوروا الطعن والضرب ، وخرج غالب بن عبد الله الليثى وهو يقول :
قد علمت واردة المسالح |
|
ذات البنان واللبان الواضح |
أنى سمام البطل المشايح |
|
وفارج الأمر المهم الفادح |
فخرج إليه هرمز ، وكان من ملوك الباب ، وكان متوجا ، فأسره غالب أسرا ، فجاء به فأدخل إلى سعد ، وانصرف غالب للمطاردة.
وذكر المدائنى أن رستم أمر هرمز فتقدم فى كتيبة ، فشد عليه غالب وزهرة بن جوية ، فسبق إليه غالب فى خيل فقتله.
قالوا : وخرج عاصم بن عمرو وهو يقول :
قد علمت صفراء بيضاء اللبب |
|
مثل اللجين يتغشاه الذهب |
أنى أمر إمرار السبب |
|
مثلى على مثلك يعديه الكثب |
فطارد رجلا من أهل فارس ، فهرب منه واتبعه ، حتى إذا خالط صفهم والتقى بفارس معه بغل ، فترك الفارس البغل ، واعتصم بأصحابه فحموه ، واستاق عاصم البغل والرحل ، حتى آوى إلى الصف ، وإذا الفارس خباز الملك ، وإذا الذي كان معه لطف الملك : الأخبصة والعسل المعقد ، فنفل ذلك سعد أهل موقف عاصم ، وبعث إليهم ليأكلوه وهم فى موقفهم.
وجال عمرو بن معدى كرب بين الصفين يحرض الناس ، ويقول : إن الرجل من هذه الأعاجم إذا ألقى من فرسه فإنما هو تيس.
قال قيس بن أبى حازم : فبينا هو كذلك يحرضنا إذ خرج إليه رجل من الأعاجم ، فوقف بين الصفين فرماه بنشابة فما أخطأت سية قوسه وهو متنكبها ، فالتفت إليه ثم حمل عليه ، فاعتنقه ، ثم أخذ بمنطقته فاحتمله فوضعه بين يديه ، فجاء به حتى إذا دنا منا كسر عنقه ، ثم وضع سيفه على حلقه فذبحه ، ثم ألقاه. وقال : هكذا فافعلوا بهم. فقلنا : من يستطيع يا أبا ثور أن يصنع كما تصنع؟.
وقال بعضهم : وأخذ سواريه ومنطقته ويلمق ديباج كانت عليه. ثم كتبت الكتائب من هؤلاء وهؤلاء.
وذكر المدائنى أن رستم ظاهر يومئذ بين درعين ، وقرب له فرس فنزا عليه ، ولم يمسه بيده ، وقال : اليوم ندق العرب دقا. فقال له رجل : قل إن شاء الله. قال : إن شاء وإن لم يشأ ، وقدم كتيبة عليها الدروع والمغافر والأداة الكاملة ، فدفعوا إلى جعفى ، وهم حديثو عهد بالشرك ، فنازلوهم فلم تحك سيوفهم فى جنبهم ، فظنوا أن الحديد لا يحك فيهم ،
حتى حمل رجل منهم على أسوار فطعنه فقتله ، ونادى : يا آل جعفى ، السلاح تنفد فيهم فشأنكم بهم ، ونحو هذا قول عمرو بن معدى كرب فى ذلك اليوم ، وقد رماه رجل من أهل العجم بنشابة ، فوقعت فى كتفه ، وعليه درع حصينة ، فلم تنفد ، وحمل هو على الرجل فعانقه ثم صرعه فقتله ، وقال :
أنا أبو ثور وسيفى ذو النون |
|
أضربهم ضرب غلام مجنون |
يا زيد إنهم يموتون |
ولم يكن عمرو ولا قومه يجهلون أن القوم يموتون ، ولكنه الشعر تحسن فيه هذه المآخذ ، ويملح بهذه المقاصد.
ومثله قول الآخر :
القوم أمثالكم لهم شعر |
|
فى الرأس لا ينشرون إن قتلوا |
ويفوق هذا كله قول الله سبحانه ، ولكتابه المثل الأعلى : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) [النساء : ١٠٤]. وقد بعدنا عما كنا بسبيله ، فلنعد إليه.
قالوا : لما كتبت الكتائب بعد الطراد ، وتزاحف الناس ، صرفت الأعاجم فيولها نحو المسلمين ، فوجهت إلى الوجه الذي فيه بجيلة ثلاثة عشر فيلا ، وصفوا على سائر الناس سبعة عشر ، ولما حمل أصحاب الفيلة تفرقت الكتائب ، وابذعرّت الخيل ، وكادت بجيلة تؤكل ، فرت خيلها نفارا ، فأرسل سعد إلى بنى أسد : يا بنى أسد ذببوا على بجيلة ومن لافها من الناس ، فخرج طليحة بن خويلد ، وحمال بن مالك الأسدي وغالب بن عبد الله والرفيل بن عمرو فى كتائبهم فباشروا الفيلة ، حتى عزلها ركبانها ، وإن على كل فيل يومئذ عشرين رجلا.
وقال موسى بن طريف : قام طليحة فى قومه حين استصرخهم سعد ، فقال : يا عشيرتاه ، إن المنوه باسمه ، الموثوق به ، أنتم ، وإن هذا ، يعنى سعدا ، لو علم أن أحدا أحق بإغاثة هؤلاء منكم لاستغاثتهم ، ابدءوهم الشدة ، وأقدموا عليهم إقدام الليوث الحربة ، فإنما سميتم أسدا لتفعلوا فعلهم ، شدوا ولا تصدوا ، وكروا ولا تفروا ، لله در ربيعة أى فرى يفرون وأى قرن يغنون هل يوصل إلى مواقفهم فأغنوا عن مواقفكم أعانكم الله ، شدوا عليهم باسم الله. فقام المعرور بن سويد وشقيق ، فشدوا والله عليهم فما زالوا يضربونهم
ويطعنونهم حتى حبسنا الفيلة عنهم ، وخرج إلى طليحة عظيم منهم فبارزه ، فما ألبثه طليحة أن قتله.
قالوا : وقام الأشعث بن قيس ، فقال : يا معشر كندة ، لله در بنى أسد أى فرى يفرون وأى هذ يهذون عن موقفهم منذ اليوم أغنى كل قوم ما يليهم ، وأنتم تنظرون من يكفيكم البأس ، أشهد ما أحسنتم أسوة إخوانكم من العرب ، وأنهم ليقتلون ويقتلون ، وأنتم جثاة على الركب ، فوثب إليه منهم عشرة ، فقالوا : عثر جدك إنك لتؤيسنا يا هذا ، نحن أحسن الناس موقفا! فمن أين خذلنا قومنا العرب وأسأنا أسوتهم؟ فها نحن معك ، فنهد ونهدوا ، فأزالوا الذين بإزائهم.
ولما رأى أهل فارس ما تلقى من كتيبة بنى أسد رموهم بحدهم ؛ وبدر المسلمون الشدة عليهم ، وهم ينتظرون التكبيرة الرابعة من سعد ، فاجتمعت حلبة فارس ، فيهم ذو الحاجب والجالينوس ، على بنى أسد ومعهم تلك الفيلة ، وقد ثبتوا لهم ، وكبر سعد التكبيرة الرابعة ، فزحف إليهم المسلمون ورحى الحرب تدور على بنى أسد ، وحملت الفيول فى الميمنة والميسرة على الخيول ، فكانت الخيول تحجم عنها وتحيد ، وألح فرسانهم على الرجل ، وجد المقاتلة مع الفيلة ، فقال بعض الأسديين : والله لأموتن أو لأطعنن عينى بعض هذه الفيلة ، فقصد لأعظمها فيلا فقاتل حتى وصل إليه ، وعلى كل فيل قوم يقاتلون ، فطعن فى عين ذلك الفيل بسيفه ، وضربه سائس الفيل بعمود فهشم وجهه ، وأدبر الفيل فخبط من حوله ، واشتد القتال عند فيل منها ، فقال حبيش الأسدي لبشر بن أبى العوجاء الطائى : أرى القتال قد اشتد عند هذا الفيل ، فتبايعنى على الموت فنحمل على حماته فنكشفهم أو نقتل دونه. قال : نعم ، فحملا فضرب حبيش رجلا من الفرس من حماة الفيل فقتله ، ودنوا من الفيل ، فضرب حبيش مشفره فرمى به وضرب الطائى ساقه فبرك الفيل ، وانطوت الفرس على بنى أسد ، فقتل حبيش.
وأرسل سعد إلى عاصم بن عمرو ، فقال : يا معشر بنى تميم ، ألستم أصحاب الإبل والخيل؟ أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة ، قالوا : بلى والله ، ثم نادى عاصم فى رجال من قومه رماة وأخر أهل ثقافة ، فقال : يا معشر الرماة ، ذبوا ركبان الفيلة عنا ، ويا معشر أهل الثقافة ، استدبروا الفيلة فقطعوا وضنها ، وخرج يحميهم والرحى دائرة على بنى أسد ، وقد جالت الميمنة والميسرة غير بعيد ، وأقدم أصحاب عاصم على الفيلة ، فأخذوا بأذنابها وذباب توابيتها فقطعوا وضنها ، فما بقى لهم يومئذ فيل إلا أعرى ، وقتل أصحابها ، وتقاتل الناس ونفس عن بنى أسد ، وردوا عنهم الفرس إلى مواقفهم ، فاقتتلوا حتى غربت
الشمس. ثم حتى ذهبت هدأة من الليل ، ثم رجع هؤلاء وهؤلاء ، وأصيب من بنى أسد تلك العشية خمسمائة ، وكانوا ردءا للناس ، وكان عاصم عادية الناس وحاميتهم ، فهذا يوم القادسية الأول ، وهو يوم أرماث.
وقال عاصم بن عمرو التميمى فى ذلك :
ألم يأتيك والأنباء تسرى |
|
بما لاقيت فى يوم النزال |
ولما أن تزايل مقرفوهم |
|
عصينا القوم بالأسل الطوال |
وعريت الفيول من التوابى |
|
وعطلت الخيول من الرجال |
ولو لا ذبنا عمن يلينا |
|
للج الجمع فى فعل الضلال |
حمينا يوم أرماث حمانا |
|
وبعض القوم أولى بالحمال |
وقال عمرو بن ساس الأسدي :
فلا وأبيك لا ينفك فينا |
|
من السادات حظ ما بقينا |
ألسنا المانحين لدى قديس |
|
جموع الفرس مرداة طحونا |
ولسنا مثل من لا طرق فيه |
|
ولكن غثنا يلفى سمينا |
ونحن إذا يريح الليل أمرا |
|
يهم الناس عصمة من يلينا |
ومرقصة منعناها إذا ما |
|
رأت دون المحافظة التقينا |
نذكرها إذا ولهت بنيها |
|
ونحميها إذا نحمى بنينا |
إذا افترش النواحى بالنواحى |
|
وكان القوم فى الأبدان جونا |
إذا ثار الغبار كأن فيه |
|
إذا اصطفت عجاجته طحينا |
وقد علمت بنو أسد بأنا |
|
نضارب بالسيوف إذا غشينا |
ونحن فوارس الهيجا إذا ما |
|
رأيت الخيل مسندة عرينا |
وذكر المدائنى خبر هذا اليوم ، وقد أورد كثيرا مما أورده ، فى تضاعيف الأخبار المتقدمة وفى بعض ما ذكره أن المسلمين هم الذين عبروا إلى الفرس ، خلافا لما تقدم ذكره : أنه لما عزم الفريقان على اللقاء أرسل سعد إلى جرير والمغيرة وحنظلة ، فقال : إنكم قد أصبحتم فى دار قد أذل الله لكم أهلها ، فأنتم تطئونهم منذ سنين ، وقد أتوكم فى جمع لا أظنهم يريدون أن يزايلوكم حتى يفصل بينكم ، ولستم وهم سواء فى دنيا تقاتلون عنها ، وقد خلفوا مثلها ، فإن فروا فروا إلى مثلها وأنتم تقاتلون عن دينكم ، فإن فررتم فررتم عنه إلى فيافى لا خير فيها ، وأنتم غرر قومكم ، إنكم إن ظهرتم عليهم كان لكم أبناؤهم ونساؤهم ، وإن تواكلتم لم يبقوا منكم باقية مخافة أن تعودوا عليهم ،
والأرض من وراءكم قفر بسابس ، ليس لكم فيها معقل ولا ملجأ ، فاتقوا الله واصبروا ، وحضوا المسلمين وواسوهم وتنجزوا موعود الله ، فإنه قال : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] ، وقد وليت الحرب خالد بن عرفطة ، فالزموا السمع والطاعة ، ولا تهنوا ولا تفشلوا فتذهب ريحكم ، فخرجوا من عند سعد وقد استعد المشركون لقتالهم ، وهم وقوف يهابون العبور والإقدام ، فأرسل سعد إلى الناس : لا تعبروا حتى آذن لكم ، وقد أخذ الناس العدة للقتال ، فوقفوا ينتظرون الإذن من سعد ، وحض رؤساء القبائل عشائرهم ، فلما طال وقوفهم ولم يأتهم إذن سعد ، قال جرير بن عبد الله : أيها الناس ، ما تنتظرون ، أما تريدون أن تقاتلوهم إن لم يقاتلوكم ، وعبر النهر فى بجيلة ، فقال قيس بن مكشوح : يا معشر مذحج ، قد تقدمكم إخوانكم فسابقوهم ، فو الله لا يسبق أحد اليوم إلا أعطاه الله غدا على قدر سبقه فى الدنيا ، وعبر قيس ، وعبر بعده عمرو بن معدى كرب ، وقال زهرة بن جوية : يا بنى تميم ، ما تنتظرون وقد مضى إخوانكم ، وعبروا ، واتبع الناس بعضهم بعضا. فقال سعد : اللهم إنهم عبروا ولم يستأمرونى فاقض لهم بالنصر ، فصف المسلمون ، على ميمنتهم شرحبيل بن السمط ، وعلى ميسرتهم هاشم بن عتبة ، وعلى الخيل قيس بن مكشوح ، وعلى الرجالة المغيرة بن شعبة ، والمسلمون عشرة آلاف ، ويقال ما بين السبعة آلاف إلى الثمانية ، عامة جثهم براذع الرحال ، قد عرضوا فيها الجريد يتسترون بها ، وعلى رءوسهم أنساع الرجال ، يطوى الرجل نسعة رحله على رأسه ، والمشركون ستون ألفا ، وقيل أكثر.
وظاهر رستم بين درعين ، وقدم كتيبة عليهم الدروع والمغافر والأداة الكاملة ، فدفعوا إلى جعفى ، وقد تقدم خبرهم ، وأخرج رستم بعد ذلك كتيبة فيها الجالينوس ، فتقدم وقد اعتصب بعصابة ديباج ، معه ترس مذهب ، فتلقاه طليحة ، واختلفا ضربتين ، فوقعت ضربة الجالينوس فى جحفة طليحة ، ووقع سيف طليحة فى رأس الجالينوس ، فهشم البيضة وندرت عن رأسه وقد جرحه ، فولوا منهزمين إلى رستم ، فعظموا أمر العرب ليعذرهم ، وأخذ طليحة البيضة فنفلها ، فكانت قيمتها أربعمائة مثقال ، وأقبل قيس بن مكشوح ، يومئذ ، فوقف على المغيرة فقال : ما رأيت كاليوم عديدا ولا حديدا ، فقال المغيرة : إن هذا زبد من زبد الشيطان ، والله جاعل بعضه على بعض ، وحض المغيرة الناس وقال : إن الكلام عند القتال فشل ، فالزموا الصمت ، ولا يزولن أحد منكم عن مركزه ، فإذا حركت رايتى فاحملوا ، فقال له رجل : ما تنتظر؟ قال : اجلس ، فقال رجل من بنى
مجاشع : الله أكبر ، إنى لأرى الأرض من خلل صفهم ، فكبروا واحملوا ، فقال له المغيرة : اجلس ، وأقبل المغيرة على قيس بن مكشوح فقال : احمل يا قيس فإنى حامل ، ونكبنى خيلك ، لا أعرفنك إذا غلبت رجالى فيهم إن تجاوزها خيلك ، فإذا عضك السلاح رددتها على أعقابها فى وجوه رجالى ، فيكون أشد عليهم من عدوهم ، وهز المغيرة رايته ، وحمل ، واتبعه قيس ، فما وصلوا كتيبته حتى رجع فيهم طعنتين ، فقال طليحة : يا بنى أسد ، ما تستحيون ، الناس يقاتلون وأنتم وقوف ، فحمل فقالت امرأة من بنى أسد لبنيها وهم أربعة : يا بنى ، والله ما نبت بكم دار ولا أفحمتكم سنة ، ولقد أسلمتم طائعين ، وهاجرتم راغبين ، وجئتم بأمكم عجوزا كبيرة فوضعتموها بين يدي أهل فارس ، فقاتلوا عن دينكم وأمكم ، فو الله إنكم لبنو رجل واحد ، كما أنكم بنو امرأة واحدة ، فاشهدوا أشد القتال ، فحملوا ، فقالت : اللهم احفظ فىّ بنى.
وروى الشعبى أن هذه المرأة كانت من النخع ، وذكر حديثها بنحو ما تقدم إلى قولها : كما أنكم بنو امرأة واحدة ، وزاد هاهنا : ما خنت أباكم ، ولا فضحت خالكم ، انطلقوا فاشهدوا أول القتال وآخره ، فأقبلوا يشتدون ، فلما غابوا عنها رفعت يديها إلى السماء وهى تقول : اللهم ادفع عن بنى ، فرجعوا إليها وقد أحسنوا القتال ، فما كلم رجل منهم كلما.
قال الشعبى : فرأيتهم بعد ذلك يأخذون ألفين ألفين من العطاء ، فيأتون أمهم فيلقونه فى حجرها ، فترده عليهم ، وتقسمه فيهم على ما يصلحهم.
وقد ذكر الزبير بن بكار نحو هذا عن الخنساء بنت عمرو بن الشريد السلمية فى بنين لها أربعة شهدت معهم حرب القادسية ، فقالت لهم من أول الليل : يا بنى ، إنكم أسلمتم طائعين ، وهاجرتم مختارين ، وذكرت من صونها لنسبهم نحو ما ذكر قبل ، ثم قالت لهم : وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل فى حرب الكافرين ، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية ، فإذا أصبحتم غدا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين ، وبالله على أعدائه مستنصرين ، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظاها على سباقها وجللت نارا على أرواقها ، فتيمموا وطيسها ، وجالدوا رئيسها عند احتدام حميسها (١) ، تظفروا بالغنم والكرامة فى دار الخلد والمقامة ، فخرج بنوها قابلين لنصحها ، فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم ، وأنشأ أولهم يقول :
__________________
(١) الحميس : أى التنور.
يا إخوتى إن العجوز الناصحه |
|
قد نصحتنا إذ دعتنا البارحه |
مقالة ذات بيان واضحه |
|
فباكروا الحرب الضروس الكالحة |
وإنما تلقون عند الصالحة |
|
من آل ساسان كلابا نابحه |
قد أيقنوا منكم بوقع الجائحه |
|
وأنتم بين حياة صالحه |
أو موتة تورث غنما رابحه |
وتقدم فقاتل حتى قتل ، رحمهالله ، ثم حمل الثانى وهو يقول :
إن العجوز ذات حزم وجلد |
|
والنظر الأوفق والرأى السدد |
قد أمرتنا بالسداد والرشد |
|
نصيحة منها وبرا بالولد |
فباكروا الحرب حماة فى العدد |
|
إما لفوز بارد على الكبد |
أو ميتة تورثكم عز الأبد |
|
فى جنة الفردوس والعيش الرغد |
فقاتل حتى استشهد ، رحمهالله ، ثم حمل الثالث وهو يقول :
والله لا نعصى العجوز حرفا |
|
قد أمرتنا حدبا وعطفا |
نصحا وبرا صادقا ولطفا |
|
فبادروا الحرب الضروس زحفا |
حتى تلفوا آل كسرى لفّا |
|
وتكشفوهم عن حمالكم كشفا |
فقاتل حتى استشهد ، رحمهالله ، وحمل الرابع وهو يقول :
لست لخنساء ولا لاخزم |
|
ولا لعمر وذى السناء الأقدم |
إن لم أرد فى الجيش جيش العجم |
|
ماض على الهول خضم خضرم |
إما لفوز عاجل ومغنم |
|
أو لوفاة فى السبيل الأكرم |
فقاتل حتى قتل ، رحمة الله عليه وعلى إخوته ، فبلغ الخبر أمهم ، فقالت : الحمد لله الذي شرفنى بقتلهم ، وأرجو من ربى أن يجمعنى بهم فى مستقر رحمته ، فكان عمر ، رضياللهعنه ، يعطى الخنساء بعد ذلك أرزاق أولادها الأربعة ، لكل واحد مائتى درهم ، حتى قبض ، رحمهالله.
فهذا ما ذكره الزبير بن بكار ، والذي قبله ذكره المدائنى ، رحمهماالله ، ولعل الخبرين صحيحان ، والله أعلم أى ذلك كان. ثم ذكر المدائنى ، بعد ، من حسن بلاء بنى أسد وانطواء الفرس عليهم فى مجال الفيلة ما قد ذكرناه قبل فى موضعه.
وذكر ، أيضا ، أن الأشعث بن قيس قال عند ما اشتد قتالهم : لله در بنى أسد ، أى فرى يفرون ، وأنتم تنظرون ، يا معشر كندة.
وقال زهرة بن جوية : يا بنى تميم ، قد صبر إخوانكم من بنى أسد ، وأحسنوا فذودوا عنهم الفيلة وحماتها ، فحمل زهرة فى بنى تميم ، وجرير فى بجيلة ، فكشفوا المشركين عن بنى أسد ، وقد استشهد منهم خمسون رجلا ، وتحاجزوا قريبا من العصر ، فجمعوا بين الصلاتين ثم عاودوا القتال مطاردة ومشاولة حتى غابت الشمس.
والتقى حنظلة بن الربيع الأسيدى ذو الحاجب فاختلفا طعنتين ، فصارا جميعا إلى الأرض ، فضرب حنظلة ذا الحاجب على رأسه فصرعه ، فحامت عنه الأساورة ، حتى ركب ، وحامى عن حنظلة القعقاع بن عمرو ، أحد بنى يربوع ، وذريح ، أحد بنى تيم اللات ، حتى ركب ، فقال ذريح :
لما رأيت الخيل شك نحورها |
|
رماح ونشاب صبرت جناحا |
على الموت حتى أنزل الله نصره |
|
وود جناح لو قضى فأراحا |
كأن سيوف الهند حول لبانه |
|
بوارق غيث من تهامة لاحا |
قال : وأصيبت يومئذ عين المغيرة بن شعبة ، وتحاجزوا حين أمسوا ، فرجع المسلمون إلى عسكرهم ، ورجع رستم إلى عسكره. هذا ما ذكره المدائنى.
ويقال : إن القعقاع لم يشهد يوم أرماث هذا ، وإنما قدم من الشام بعد انقضائه ، فشهد سائر الأيام وأبلى فيها ، وسيأتى ذكر ذلك إن شاء الله.
وذكر سيف عن بعض رجاله أن سعدا كان قد تزوج سلمى بنت خصيفة ، امرأة المثنى بن حارثة ، كما تقدم ، فنزل بها القادسية ، فلما كان يوم أرماث ، وجال الناس ، جعل سعد يتململ ويجول فوق القصر ، وكان لا يطيق جلوسا إلا على بطنه ، فلما رأت سلمى ما يصنع أهل فارس قالت : وا مثنياه ولا مثنى للخيل اليوم ، وهى عند رجل قد أضجر ما يرى من أصحابه ومن نفسه ، فلطم وجهها ، وقال : أين المثنى من هذه الكتيبة التي تدور عليها الرحى! ، يعنى أسدا ، وعاصما ، فقالت : أغيرة وجبنا؟ قال : والله لا يعذرنى أحد اليوم إذا أنت لم تعذرينى وأنت ترين ما بى ، فالناس أحق ألا يعذرونى!.
فلما ظهر المسلمون لم يبق شاعر إلا اعتد بها عليه ، وكان غير جبان ولا ملوم ، رضياللهعنه.
وكانت القادسية فى شوال سنة خمس عشرة ، وابتداء أيامها يوم الاثنين لثلاث ليال خلون من شوال أو لأيام بقين منه ، وقيل كانت فى المحرم سنة أربع عشرة ، والأول أصح وأولى بالصواب إن شاء الله تعالى.
ذكر اليوم الثانى من أيام القادسية ، وهو يوم أغواث
قالوا (١) : ولما أصبح الناس من الغد ، يعنون الغد من يوم أرماث ، أصبحوا على تعبئة ، وقد وكل سعد رجالا بنقل الشهداء إلى العذيب ونقل الرثيث. فأما الرثيث فأسلموا إلى النساء يقمن عليهم حتى يقضى الله فيهم قضاءه ، وأما الشهداء فليدفنوهم هنالك على مشرق ، واد بين العذيب وبين عين شمس فى عدوتيه جميعا ، وفى ذلك يقول سعد ، رحمهالله :
جزى الله أقواما بجنب مشرق |
|
غداة دعا الرحمن من كان داعيا |
جنانا من الفردوس والمنزل الذي |
|
يحل به ذو الخير ما كان باقيا |
وانتظر الناس بالقتال حمل الرثيث والأموال ، فلما استقلت بهم الإبل موجهة نحو العذيب طلعت عليهم نواصى الخيل من نحو الشأم ، وكان عمر ، رضياللهعنه ، قد أمر أبا عبيدة بن الجراح لما انقضى شأن اليرموك وفتح دمشق بصرف أهل العراق أصحاب خالد الذين قدم بهم عليه إلى العراق ، ولم يذكر له عمر خالدا ، فضن أبو عبيدة بخالد فحبسه ، وقد قيل إن عمر أمر بحبسه ، فأمسكه وسرح الجيش وهم ستة آلاف ، ألف من أبناء العرب من أهل الحجاز ، وسائرهم من ربيعة ومضر ، وأمر عليهم هاشم بن عتبة بن أبى وقاص (٢) ، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو ، أى التميمى ، فجعله أمامه ، وجعل على إحدى مجنبتيه قيس بن مكشوح المرادى (٣) ، ولم يكن شهد الأيام ، وإنما أتاهم وهم باليرموك حين صرف أهل العراق فصرف معهم ، وعلى المجنبة الأخرى الهزهاز بن عدى العجلى ، فطوى القعقاع وتعجل ، فقدم على الناس صبيحة يوم أغواث ، وقد عهد إلى أصحابه أن ينقطعوا أعشارا ، وهم ألف ، فكلما بلغ عشرة مد البصر سرح فى آثارهم عشرة ، وتقدم هو فى عشرة ، فأتى الناس فسلم عليهم ، وبشرهم بالجنود ، وقال : يا أيها الناس ، إنى قد جئتكم فى قوم ، والله لو كانوا بمكانكم ، ثم أحسوكم لحسدوكم حظوتها ، وحاولوا أن يطيروا بها دونكم ، فاصنعوا كما أصنع ، فتقدم ثم نادى : من يبارز؟ فسكن الناس إليه ، وقالوا لقول أبى بكر الصديق ، رضياللهعنه : لا يهزم جيش
__________________
(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٤٢).
(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٨٩٣٤) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٥٣٢٨) ، العبر (١ / ٣٩) ، طبقات خليفة (٨٣١) ، مروج الذهب (٣ / ١٣٠) ، تاريخ بغداد (١ / ١٩٦) ، مرآة الجنان (١ / ١٠١) ، العقد الثمين (٧ / ٣٥٩) ، شذرات الذهب (١ / ٤٦).
(٣) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٧٣٢٩) ، طبقات ابن سعد (٥ / ٥٢٥) ، المحبر (٢٦١) ، معجم الشعراء (١٩٨) ، تهذيب الأسماء واللغات (٢ / ٦٤) ، شذرات الذهب (١ / ٤٦).
فيهم مثل القعقاع ، فخرج إليه ذو الحاجب ، فقال له القعقاع : من أنت؟ فقال : أنا بهمن جاذويه ، فنادى : يا لثارات أبى عبيد وسليط وأصحاب يوم الجسر. فاجتلدا ، فقتله القعقاع ، وجعلت خيله ترد قطعا ، وما زالت ترد إلى الليل وتنشط الناس ، وكأن لم تكن بالناس مصيبة ، كأنما استقبلوا قتالهم بقتل الحاجبى وبلحاق القطع ، وانكسرت الأعاجم لذلك.
وكان أول القتال قبل أن يقدم القعقاع المطاردة ، فلما قدم قال : أيها الناس اصنعوا كما أصنع ، فنادى : من يبارز؟ فبرز له ذو الحاجب فقتله ، وآخر فقتله ، وخرج الناس من كل ناحية ، وبدأ الضرب والطعان ، ونادى القعقاع ، أيضا : من يبارز؟ فخرج إليه رجلان ، أحدهما البيزران والآخر البندوان ، فانضم إلى القعقاع الحارث بن ظبيان ، أحد بنى تيم اللات ، فبارز القعقاع البيزران ، فضربه فأذرى رأسه ، وبارز ابن ظبيان البندوان ، فضربه فأذرى رأسه ، وحمل بنو عم القعقاع ، يومئذ ، عشرة عشرة من الرجال ، على إبل قد ألبسوها ، فهى مجللة مبرقعة ، وأطافت بهم خيولهم ، وأمروا أن تحمل تلك الإبل على خيل الفرس يشبهون بالفيلة التي أرسلت عليهم الفرس بالأمس ، فجعلت تلك الإبل لا تصمد لقليل ولا لكثير إلا نفرت بهم خيلهم ، وركبتهم خيول المسلمين. فاستنوا بهم ، فلقى أهل فارس من الإبل يوم أغواث أعظم مما لقى المسلمون من الفيلة يوم أرماث.
ولم يقاتلوا فى هذا اليوم على فيل ، كانت توابيتها قد تكسرت بالأمس ، واستأنفوا علاجها حين أصبحوا فلم ترتفع حتى كان من الغد ، ولم ير أهل فارس فى هذا اليوم شيئا يعجبهم ، وأكثر المسلمون فيهم القتل.
وقالوا : قتل القعقاع يوم أغواث ثلاثين جملة ، كلما حمل حملة قتل فيها ، وآزر القعقاع ، يومئذ ، ثلاثة من بنى يربوع ، وجعل القعقاع كلما طلعت قطعة كبر وكبر المسلمون ويحمل ويحملون ، وقدم ذلك اليوم رسول لعمر ، رضياللهعنه ، بأربعة أفراس ، وأربعة أسياف ليقسمها سعد فيمن انتهى إليه البلاء ، إن كان لقى حربا ، فدعا حمال بن مالك والرفيل بن عمرو بن ربيعة الوالبيين وطليحة بن خويلد الفقعسى (١) ، وكلهم من بنى أسد ، وعاصم بن عمرو التميمى (٢) ، فأعطاهم الأسياف ، ودعا القعقاع بن عمرو
__________________
(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٤٣٠٩) ، تاريخ خليفة (١٠٢ ، ١٠٣ ، ١٠٤) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٢٦٤١) ، تهذيب الأسماء واللغات (١ / ٢٥٤ ، ٢٥٥) ، دول الإسلام (١ / ١٧) ، تاريخ الإسلام (٢ / ٤١) ، العبر (١ / ٢٦) ، شذرات الذهب (١ / ٣٢).
(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٤٣٧٤).
التميمى واليربوعيين وهم : نعيم بن عمرو بن عتبان وعتاب بن نعيم بن عتاب ، وعمرو ابن شبيب بن زنباع ، أحد بنى زيد ، فحملهم على الأفراس ، فأصاب ثلاثة من بنى يربوع ثلاثة أرباعها ، وأصاب ثلاثة من بنى أسد ثلاثة أرباع السيوف ، فقال الرفيل فى قطعة يذكر السيوف :
لقد علم الأقوام أنى أحقهم |
|
إذا حصلوا بالمرهفات البواتر |
وقال القعقاع فى شأن الخيل :
ولم تعرف الخيل العرب سواءنا |
|
عشية أغواث بجنب القوادس |
وذكر المدائنى حرب هذا اليوم فخالف بعض ما تقدم ، وقال : إن الناس لما أصبحوا غداة الثلاثاء عبر رستم إلى المسلمين بجنوده وفيلته من حين طلعت الشمس إلى قريب من نصف النهار ، وأخذوا عدة الحرب ، وصافهم المسلمون ، وعلى الميمنة عبد الله بن المعتم ، وعلى الميسرة هاشم بن عتبة ، وعلى الخيل المغيرة بن شعبة ، وعلى الرجالة سلمة بن حديم ، فقال سعد بن عبيد الأنصاري : يا أيها الناس ، إن الدنيا دار زوال وفتنة ، وأنتم منقلبون إلى دار الجزاء ، فلا يكونن شيء أحب إليكم من فراقها ، فإن ما عند الله خير للأبرار ، وتقدم أمام الناس ، فبرز له شهريار السجستانى ، فقتل كل واحد منهما صاحبه ، ثم طاردت الفرسان واقتتلوا حتى زالت الشمس ، وتحاجزوا ، وصلى المسلمون ثم عادوا إلى مصافهم ، فنصل من عسكر المشركين رجل يسأل المبارزة ، فبرز له زهرة بن جوية فقتله ، وحمل فوارس من المشركين على زهرة فعقروا به ، وندر سيفه من يده ، فقاتلهم راجلا يحثو فى وجوههم التراب حتى توافت إليه خيل المسلمين ، فكشفوهم عنه ، وقد ذهبوا بسيفه ، فقال :
فإن تأخذوا سيفى فإنى محرب |
|
خروج من الغماء محتضر النصر |
وإنى لحام من وراء عشيرتى |
|
أطاعن فيهم بالمثقفة السمر |
وقد روى غير المدائنى هذا الشعر والخبر للأعرف بن الأعلم العقلى فى هذا اليوم.
وقال عمرو بن معدى كرب لقومه : يا بنى زبيد ، إنى مخالط الجمع ، فانظرونى قدر نحر جزور وتعسيرها ، ثم اطلبونى ، فإنكم تجدونى وسيفى فى يدى أقاتل به قدما لا أزول ، وفى رواية : فإن تأخرتم عنى فقد فقدتم أبا ثور ، وأين لكم مثل أبى ثور ، وحمل حتى خالطهم ، فستره الغبار ، فقال بعض الزبيديين : أيا بنى زبيد ، علام تدعون صاحبكم وقد توسط جمع المشركين ، والله ما أرى أن تدركوه حيا ، وإن فقدتموه فقد المسلمون