الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

وكانت هزيمة المشركون ، فاتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى نهر بنى سليم ، ثم كروا على المسلمين وركدت الحرب بينهم مليا ، فلا يسمع إلا هرير الرجال ، وقد كان أنس بن هلال النمرى قدم ممدا للمثنى فى أناس من النمر نصارى ، وابن مردى الفهرى الثعلبى فى ناس من قومه كذلك ، وقالوا حين رأوا نزول العجم بالعرب : نقاتل مع قومنا ، فلما طال القتال يومئذ واشتد عمد المثنى إلى أنس بن هلال ، فقال : يا أنس ، إنك امرؤ عربى ، وإن لم تكن على ديننا ، فإذا رأيتنى قد حملت على مهران فاحمل معى ، وقال لابن مردى الفهرى مثل ذلك ، فأجاباه ، فحمل المثنى على مهران فأزاله حتى دخل فى ميمنته ، ثم خالطوهم ، واجتمع القلبان ، وارتفع الغبار والمجنبات تقتتل ، لا يستطيعون أن يفزعوا لنصر أميرهم ، لا المسلمون ولا المشركون ، وقد كان المثنى قال لهم : إذا رأيتمونا أصبنا فلا تدعوا ما أنتم فيه ، فإن الجيش ينكشف ثم ينصرف ، فالزموا مصافكم وأغنوا عنا من يليكم ، وأوجع قلب المسلمين قلب المشركون ، ووقف المثنى حتى أسفر الغبار وقد فنى قلب المشركين ، والمجنبات قد هز بعضها بعضا ، فلما رآه المسلمون وقد أزال القلب وأفنى أهله قويت مجنبات المسلمين على المشركين وجعلوا يردون الأعاجم على أدبارهم ، وجعل المسلمون والمثنى فى القلب يدعون لهم بالنصر ، ويرسل إليهم من يذمرهم ويقول لهم : إن المثنى يقول لكم عادتكم فى أمثالهم ، انصروا الله ينصركم ، حتى هزم القوم.

وكانت راية الأزد مع عبد الله بن سليم ، فجعل بتقدم بها ، فقال له رجل : لو تأخرت قليلا ، فقال :

أقسمت بالرحمن أن لا أبرحا

أو يصنع الله لنا فيفتحا

وقاتل حتى قتل ، وتقدم أبو أمية عبد الله بن كعب الأزدى وهو يقول : اللهم إليك أسعى لترضى ، وإياك أرجو فاغفر ذنبى ، ثم تقدم فقاتل حتى قتل ، رحمه‌الله ، فحمل أبو رملة بن عبد الله بن سليم ، وكانت عنده الرباب ابنة عبد الله بن كعب ، فقتل قاتل عبد الله بن كعب واحتز رأسه ، فأتى به ابنه ، وهو غلام مراهق ، فقال : دونك رأس قاتل أبيك ، فعض الفتى بأنفه ، ومر به رجل من بكر بن وائل يقال له عجل ، فقال : يا فتى ما أشجعك على الأموات فحمى الفتى واعترض العدو ، فاتبعه عمه جندب وهو يقول : يا عجل ، قتلت ابن أخى ، فلحقه وقد قتل رجلا ، فرده ، وقتل حصين بن القعقاع بن معبد ابن زرارة ، فأخذ الراية مولى لهم أو مولى للأزد يقال له خصفة ، فقاتل حتى قتل ، ودارت بينهم رحى الحرب ، وأخذت جرير الرماح فنادى : وا قوماه ، أنا جرير ، فقاتلت عنه جماعة من قيس ليس معهم غيرهم حتى خلص ، وشدت جماعة على مسعود بن

٤٢١

حارثة وهو معلم بعصابة خضراء وهو يفرى فريا ، فطعن رجلا فقتله ، وطعن آخر فانكسر رمحه فاختلفا بسيفيهما ضربتين فقتل كل واحد منهما صاحبه ، فوقف عليه أخوه المثنى فقال : هكذا مصارع خياركم ، وقيل : إنه ارتث يومئذ فمات بعد فى أناس من الجرحى من أعلام المسلمين ماتوا كذلك ، منهم خالد بن هلال ، فصلى عليهم المثنى وقدمهم على الأسنان والقرآن ، وقال : والله إنه ليهون علىّ وجدى أن شهدوا البويب ، أقدموا وصبروا ، ولم يجزعوا ولم يتكلموا ، وإن كان فى الشهادة لكفارة لبحور الذنوب ، ولما ارتث مسعود بن حارثة يومئذ فتضعضع من معه رأى ذلك وهو دنف فقال : يا معشر كعب بن وائل ، ارفعوا رايتكم رفعكم الله ، لا يهولنكم مصرعى ، وقتل جرير وغالب بن عبد الله الليثى وحنظلة بن ربيعة الأسدي وعروة بن زيد الخيل كل واحد منهم عشرة.

وقال ربعى بن عامر ، وشهدها يومئذ مع أبيه : احصى مائة رجل من المسلمين قتل كل واحد منهم عشرة فى المعركة. وذكر أن غالبا وعروة وعرفجة فى الأزد كانوا من أصحاب التسعة ، فالله أعلم.

وقال يومئذ لعروة رجل من قومه ، ورآه يقدم : أهلكت قومك يا عروة ، فقال :

يا قوم لا تعنفونى قومى

لا تكثروا عدلى ولا من لومى

لا تعدونى النصر بعد اليوم

وسمع رجل يومئذ من مهران يرتجز وهو يقول :

إن تسألوا عنى فإنى مهران

أنا لمن أنكرنى ابن باذان

فعجب من أن يتكلم بالعربية ، فقيل له : إنه ولد باليمن ، ويقال : إنه عربى نشأ مع أبيه باليمن ، وكان أبوه عاملا لكسرى.

وأبصر جرير بن عبد الله ، مهران يقاتل ، فحمل عليه جرير والمنذر بن حسان فقاتلاه ، طعنه المنذر فأداره عن دابته وقد وقذه فنزل إليه جرير فاحتز رأسه وتنازعا سلبه ثم أخذ جرير سلاحه ، وأخذ المنذر حليته وثيابه وبرذونه ، وقيل فى قتله غير هذا ، وهو مما حدثت به أم ولد لزيد بن صوحان أن زيدا أخرجها معه إلى العسكر حتى لقوا مهران صاحب كسرى ، فجعل الناس يحيدون عن مهران ، فقال زيد : ما شأن الناس يحيدون عن هذا؟ قيل : كرهوه ، فنزل زيد فمشى إليه فاختلفا ضربتين ، فأطن مهران يده ، فرجع فأخذ عمامتى فشقها ثم لفها على يده ثم عاوده فنسف ساقيه بالسيف فقتله ، فابتدر المسلمون

٤٢٢

سلبه ، فلم يأخذ زيد من سلبه إلا السيف ، نفله إياه الأمير ، فكان زيد يقول : من يشترى سيفا وهذا أثره ، ويخرج يده الجذماء فيريها ، وقد قيل إن غلاما نصرانيا من بنى تغلب هو الذي قتل مهران ، فالله أعلم.

وهزم المشركون فأتوا الفرات ، واتبعهم المسلمون ، فانتهوا إلى الجسر ، وقد عبرت طائفة من المشركين الجسر ، فحالوا بين الباقين وبينه ، فأخذوا يمينا وشمالا ، فقاتلهم المسلمون حتى أمسوا ، واقتحم طائفة الفرات فغرق بعضهم ونجا بعض ، ورجع المسلمون عنهم حين أمسوا ، فعبر من بقى منهم الجسر ، ثم قطعوه فأصبح المسلمون فعقدوه واتبعوهم حتى بلغوا بيوت ساباط ، ثم انصرفوا وصلبوا مهران على الجسر.

ويقال : إن المثنى قطع الجسر أولا ليمنع أهل فارس العبور ، ثم ندم على ذلك وقال : لقد عجزت عجزة وقى الله شرها بمسابقتى إياهم إلى الجسر وقطعه حتى أحرجتهم ، فإنى غير عائد فلا تعودوا ولا تعتدوا بى أيها الناس ، فإنما كانت زلة ، لا ينبغى إخراج أحد إلا من لا يقوى على الامتناع.

ولما افترق الأعاجم على شاطئ الفرات مصعدين ومصوبين واعتورتهم خيول المسلمين أكثروا القتل فيهم حتى جعلوهم جثاء ، فما كانت بين العرب والعجم وقعة كانت أقوى رمة منها.

حدث أبو روق قال : والله إن كنا لنأتى البويب ، يعنى بعد ذلك بزمان ، فنرى ما بين السكون وبنى سليم عظاما بيضاء تلولا تلوح من هامهم وأوصالهم نعتبر بها. قال : وحدثني بعض من شهدها أنهم كانوا يحرزونها مائة ألف.

واقتسم المسلمون ما أفاء الله عليهم ، ونفلت بجيلة وجرير ما جعل لهم عمر بن الخطاب وحمل الخمس أو باقى الخمس ، وجلس المثنى للناس يحدثهم ويحدثونه لما فرغوا ، وكلما جاء رجل فتحدث قال له المثنى : أخبرنى عنك ، فقال قرط بن جماح العبدرى : قتلت رجلا فوجدت منه رائحة المسك فقلت : مهران ، ورجوت أن يكون إياه ، فإذا هو شهريرار صاحب الخيل فو الله ما رأيته إذ لم يكن مهران شيئا. وكان قرط قد قاتل يومئذ حتى دق قنى وقطع أسيافا.

وقال ربعى وهو يحدث المثنى : لما رأيت ركود الحرب واحتدامها قلت : تترسوا بالمجان فإنهم شادّون عليكم فاصبروا لشدتين وأنا زعيم لكم بالظفر فى الثالثة ، فأجابونى فولى الله كفالتى.

٤٢٣

وقال ابن ذى السهمين محدثا : قلت لأصحابى إنى سمعت الأمير يقرأ ويذكر فى قراءته الزحف ، فما ذكره إلا لفضل فيه ، فاقتدوا برايتكم ولتحمى خيلكم رجلكم ، وازحفوا فما لقول الله من خلف ، فأنجز الله لهم وعده كما رجوت.

وقال عرفجة محدثا : حزنا كتيبة منهم إلى الفرات ، ورجوت أن يكون الله قد أذن فى غرقهم وأن يسلينا بها عن مصيبة الجسر ، فلما حصلوا فى حد الإحراج كروا علينا فقتلناهم قتالا شديدا حتى قال بعض قومى : لو أخذت رايتك ، فقلت علىّ إقدامها ، وحملت بها على حاميتهم فقتلته فولوا نحو الفرات فما بلغوه ومنهم أحد فيه الروح.

وقد كان المثنى قال يومئذ : من يتبع آثار المنهزمة حتى يبلغ السيب؟ فقام جرير فى قومه فقال : يا معشر بجيلة إنكم وجميع المسلمين ممن شهد هذا اليوم فى السابقة والفضيلة سواء ، وليس لأحد منهم فى هذا الخمس غدا من النفل مثل الذي لكم منه ، نفلا من أمير المؤمنين ، فلا يكونن أحد أسرع إلى هذا العدو ولا أشد عليه منكم للذى لكم منه إلى ما ترجون ، فإنما تنتظرون إحدى الحسنيين الشهادة والجنة أو الظفر والغنيمة والجنة.

ومال المثنى على الذين أرادوا أن يستنثلوا بالأمس من منهزمة يوم الجسر فقال : أين المستنثل بالأمس وأصحابه؟ انتدبوا فى آثار هؤلاء القوم إلى السيب وأبلغوا من عدوكم ما تغيظونهم به فهو خير لكم وأعظم أجرا ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.

وكان هذا المستنثل ، أو هو إن شاء الله سعد بن عبيد الأنصاري ، قد أراد الخروج بالأمس من صف المسلمين إلى العدو ، فقيل للمثنى : ألا ترى إلى هذا الرجل الذي يريد أن يستنثل ، فركض إليه ، فقال : يا أبا عبد الله ، ما تريد أن تصنع؟ قال : فررت يوم أبى عبيد ، فأردت أن تكون توبتى وانتصارى أن أمشى إليهم فأقاتل حتى أقتل ، قال : إذن لا تضر عدوك ولا تنفع وليك ، ولكن أدلك على ما هو خير لك ، تثبت على صفك وتجزى قرنك وتواسى أخاك بنفسك وتنصره وينصرك فتكون قد نفعت المسلم وضررت العدو ، فأطاعه وثبت مكانه ، فكان يومئذ أول منتدب.

فأمر المثنى أن يعقد لهم الجسر ثم أخرجهم فى أثر القوم ، واتبعتهم بجيلة وخيول المسلمين بعد من كل فارس ، ولم يبق فى العسكر جسرى إلا خرج فى الخيل ، فانطلقوا فى طلب العدو حتى بلغوا السيب ، فأصابوا من البقر والسبى وسائر الغنائم شيئا كثيرا فقسمه المثنى عليهم ، وفضل أهل البلاء من جميع القبائل ، ونفل بجيلة يومئذ ربع الخمس بينهم بالسوية وبعث بثلاثة أرباعه إلى عمر ، رضي‌الله‌عنه ، وألقى الله الرعب فى قلوب

٤٢٤

أهل فارس ، وكتب القواد الذين قادوا الناس فى الطلب إلى المثنى ، وكتب إليه عاصم وعصمة وجرير : إن الله قد كفى رستم ووجه لنا ما رأيت ، وليس دون القوم شيء ، فأذن لنا فى الإقدام ، فأذن لهم فأغاروا حتى بلغوا ساباط ، وتحصن أهلها منهم ، واستباحوا القريات دونها وراماهم أهل الحصن عن حصنهم بساباط ثم انطفئوا راجعين إلى المثنى.

قالوا : وكان المثنى وعصمة وجرير أصابوا فى أيام البويب على الظهر نزل مهران غنما ودقيقا وبقرا ، فبعثوا بها إلى عيالات من قدم من المدينة وقد خلفوهن بالقوادس ، وإلى عيالات أهل الأيام قبلهم وهن بالحيرة ، وكان دليل الذين ذهبوا بنصيب العيالات اللواتى بالقوادس عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة ، فلما رفعوا للنسوة فرأين الخيل تصايحن وحسبنها غارة فقمن دون الصبيان بالحجارة والعمد ، فقال عمرو : هكذا ينبغى لنساء هذا الجيش ، وبشروهن بالفتح.

ولما أهلك الله ، عزوجل ، مهران استكمن المسلمون من الغارة على السواد فيما بينهم وبين دجلة ، فمخروها لا يخافون كيدا ولا يلقون فيها مانعا ، وانتفضت مسالح العجم فرجعت إليهم واعتصموا بالساباط ، وسرهم أن يتركوا ما وراء دجلة ، ونزل جرير والمثنى الحيرة وبثا المسالح فيما بين الأنبار وعين التمر إلى الطف ، فمن كان أقام على صلحه قبلوا ذلك منه ، ومن نقض أغاروا عليه ، فكان أهل الحيرة وبانيقيا وغيرهم على صلحهم.

وكانت وقعة البويب فى رمضان من سنة ثلاث عشرة.

وتنازع ، أيضا ، المثنى وجرير الإمارة ، وكان المثنى أحب إلى نزار ، وجرير أحب إلى اليمانية ، فكتب إلى عمر ، رحمه‌الله ، فى ذلك ، فكان من مشورته فيه وعمله ما سيأتى بعد ذكره.

وشخص المثنى عند ذلك فنزل أليس ، ويقال شراف ، وهو وجع من جراحات به ، وارتحل معه عامة النزارية ، فلما رأى ذلك جرير تحول فنزل العذيب مع العيال ، ومعه أخلاط الناس وهو الأمير عليهم فى قول بعضهم ، وفى هذه الإمارات كلها اضطراب من نقلة الأخبار واختلاف بين القبائل ، فبنو شيبان تقول : كان جرير الأمير يوم قتل مهران المثنى ، وبجيلة تقول : كان الأمير يوم ذلك وقبل وبعد ، والأظهر مما تقدم من الأخبار أن المثنى كان الأمير فى تلك الحرب ، إلا أن يكون جرير على من معه كما قد قيل ، فالله تعالى أعلم.

٤٢٥

وقد قال الأعور الشنى فلم يذكر لغير المثنى يومئذ إمارة :

هاجت عليك ديار الحرب أحزانا

واستبدلت بعد عبد القيس همذانا

وقد أرانا بها والشمل مجتمع

أدنى النخيلة قتلى جند مهرانا

كأن الأمير المثنى يوم راجفة

مهران أشجع من ليث بخفانا

أزمان سار المثنى بالخيول لهم

فقتل الزحف من رجلى وركبانا

سما لمهران والجيش الذي معه

حتى أبادهم مثنى ووحدانا

إذ لا أمير أراه بالعراق لنا

مثل المثنى الذي من آل شيبانا

حديث غارة المثنى على سوقى الخنافس وبغداد (١)

ذكر سيف عن شيوخه أن المثنى لما نزل أليس ، قرية من قرى الأنبار ، وهذه الغزاة تدعى غزاة الأنبار الآخرة ، وغزاة أليس الآخرة ، وقد مخر السواد وخلف بالحيرة بشير بن الخصاصية ، وأرسل جريرا إلى ميسان ، وهلال بن علقمة إلى دست ميسان وأذكى المسالح بعصمة بن فلان الضبى ، وبالكلح الضبى ، وبعرفجة البارقى وأمثالهم من قواد المسلمين ، ألزّ به رجلان : أحدهما أنبارى والآخر حيرى ، يدله كل واحد منهما على سوق ، فأما الأنبارى فدله على سوق الخنافس ، وأما الحيرى فدله على بغداد. فقال المثنى : أيتهما قبل صاحبتهما؟ فقالوا : بينهما أيام ، فقال : أيهما أعجل؟ قالوا : سوق الخنافس يتوافى إليها الناس ، ويجتمع إليها ربيعة وقضاعة يخفرونهم. فاستعد لها المثنى ، حتى إذا ظن أنه يوافيهم يوم سوقها ركب نحوهم ، فأغار على الخنافس يوم سوقها ، وبها خيلان من ربيعة وقضاعة وهم الخفراء ، فانتسف السوق وما فيها ، وسلب الخفراء ، ثم رجع عوده على دبئه حتى تطرق دهاقين الأنبار طروقا فى أول يومه فتحصنوا منه ، فلما عرفوه نزلوا إليه فأتوه بالأعلاف والزاد ، وأتوا بالأدلاء على بغداد ، وكان وجهه إلى سوق بغداد فصبحهم.

وقال المثنى فى غارته على خنافس :

صبحنا فى الخنافس جمع بكر

وحيا من قضاعة غير ميل

بفتيان الوغى من كل حى

تبارى فى الحوادث كل جيل

نسفنا سوقهم والخيل زور

من التطواف والشد البجيل

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٧٢ ـ ٤٧٦) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (١ / ٢٥ ـ ٢٧) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٠٦ ، ٣٠٧) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١٨٧ ـ ١٨٩).

٤٢٦

وذكر الخطيب أبو بكر بن ثابت البغدادى فى تاريخه (١) أن بغداد كانت فى أيام مملكة العجم قرية يجتمع فيها رأس كل سنة التجار ، ويقوم بها للفرس سوق عظيمة ، فلما توجه المسلمون إلى العراق وفتحوا أول السواد ، ذكر للمثنى بن حارثة أمر سوق بغداد ، ثم أورد بإسناد له عن ابن إسحاق أن أهل الحيرة قالوا للمثنى ، وذكره سيف من طريق آخر أن رجلا من أهل الحيرة قال للمثنى ، واللفظ فى الحديثين متقارب ، وقد دخل حديث أحدهما فى حديث الآخر ، قالوا : ألا ندلك على قرية يأتيها تجار مدائن كسرى وتجار السواد ويجتمع بها فى كل سنة من الناس مثل خراج العراق ، وهذه أيام سوقهم التي يجتمعون فيها ، فإن أنت قدرت على أن تعبر إليهم وهم لا يشعرون أصبت بها ما لا يكون غناء للمسلمين وقوة على عدوهم ، وبينها وبين مدائن كسرى عامة يوم ، فقال لهم : فكيف لى بها؟ قالوا : إن أردتها فخذ طريق البر ، حتى تنتهى إلى الأنبار ، ثم تأخذ رءوس الدهاقين ، فيبعثون معك الأدلاء ، فتسير سواد ليلة من الأنبار حتى تأتيهم ضحى.

قال : فخرج من النخيلة ومعه أدلاء الحيرة ، حتى دخل الأنبار ، فنزل بصاحبها فتحصن منه ، فأرسل إليه : ما يمنعك من النزول؟ فأرسل إليه : إنى أخاف ، فأرسل إليه : انزل فإنك آمن على دمك وقريتك ، وترجع سالما إلى حصنك ، فتوثق عليه ثم نزل ، فأطعمه المثنى ، وخوفه واستكتمه ، وقال : إنى أريد أن أعبر فابعث معى الأدلاء إلى بغداد ، حتى أغير منها إلى المدائن ، قال : أنا أجئ معك ، قال المثنى : لا أريد أن تجيء معى ، ولكن ابعث معى من يعرف الطريق ، ففعل وأمر لهم بزاد وطعام وعلف ، وبعث معهم دليلا ، فأقبل حتى إذا بلغ المنصف قال له المثنى : كم بيننا وبين هذه القرية؟ قال : أربعة فراسخ أو خمسة ، وقد بقى عليك ليل ، فقال لأصحابه : من ينتدب للحرس ، فانتدب له قوم ، فقال لهم : اذكروا حرسكم ، ثم نزل وقال للناس : أنزلوا فاقضوا واطمعوا وتوضئوا وتهيئوا وابعثوا الطلائع فلا يلقون أحدا إلا حبسوه ، ثم سار بهم فصبحهم فى أسواقهم ، فوضع فيهم السيف ، فقتل وأخذ الأموال ، وقال لأصحابه : لا تأخذوا إلا الذهب والفضة ، ومن المتاع ما يقدر الرجل منكم على حمله على دابته ، وهرب الناس ، وتركوا أمتعتهم وأموالهم ، وملأ المسلمون أيديهم من الصفراء والبيضاء والحرّ من كل شيء.

ثم كر راجعا ، ثم نزل بنهر السيلحيين من الأنبار ، فقال للمسلمين : احمدوا الله الذي سلمكم وغنمكم ، وانزلوا فاعلفوا خيلكم من هذا القصب ، وعلقوا عليها ، وأصيبوا من

__________________

(١) انظر : تاريخ بغداد (١ / ٢٥ ـ ٢٧).

٤٢٧

أزوادكم ، فسمع القوم يهمس بعضهم إلى بعض أن القوم سراع الآن فى طلبنا ، فقال : تناجوا بالبر والتقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان ، قبح الله من يتناجون به ، انظروا فى الأمور وقدروها ثم تكلموا ، تحسبونهم الآن فى طلبكم ، فو الله لو كان الصريخ قد بلغهم الآن إنه لكبير ، ولو كان الصريخ عندهم لبلغهم من رعب غارتنا عليهم إلى جنب مدائنهم ما يشغلهم عن طلبنا حتى نلحق معسكرنا وجماعتنا ، إن للغارات روعات تنتشر عليها يوما إلى الليل ، ولو كان بهم من القوة ما يحملهم على طلبنا ثم جهدوا وجهدهم ما أدركونا ، نحن على الجياد العراب وهم على المقارف البطاء ، ولو أنهم طلبونا فأدركونا لم نقاتلهم إلا التماس الثواب ورجاء النصر ، فثقوا بالله وأحسنوا به الظن ، فقد نصركم الله عليهم وهم أكثر منكم وأعز ، وسأخبركم عنى وعن انكماشى والذي أريد من ذلك ، إن خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أبا بكر أوصانا أن نقل العرجة ونسرع الكرة فى الغارات ، ونسرع فى غير ذلك الأوبة ، فأقبلوا ومعهم دليلهم حتى انتهوا إلى الأنبار ، فاستقبلهم صاحبها بالكرامة ، فوعده المثنى بالإحسان إليه لو استقام أمرهم ، ورجع المثنى إلى عسكره.

حديث السرايا من الأنبار (١)

قالوا : لما رجع المثنى من بغداد إلى الأنبار ، سرح المضارب العجلى وزيدا إلى الكباث ، ثم خرج فى أثرهم ، فقدم الرجلان الكباث ، وقد ارفض عنه أهله وأخلوه ، وكانوا كلهم من بنى تغلب ، وكان عليهم فارس العناب التغلبى يحميهم ، فركب المسلمون آثارهم يتبعونهم ، فأدركوا أخرياتهم ، فحماهم فارس العناب ساعة ثم هرب ، وقتلوا فى أخرياتهم فأكثروا ، ورجع المثنى إلى عسكره بالأنبار ، فسرح فرات بن حيان ، وكان خلفه فى عسكره ، وسرح معه عتبة بن النهاس ، وأمرهما بالغارة على أحياء من تغلب والنمر بصفين ، ثم اتبعهما وخلف على الناس عمرو بن أبى سلمى الهجيمى.

فلما دنوا من صفين ، فر أهلها فعبروا الفرات إلى الجزيرة وتحصنوا ، وفارق المثنى فراتا وعتبة ، فأرمل المثنى وأصحابه من الزاد ، حتى نحروا رحلهم إلا ما لا بد لهم منه فأكلوها حتى أخفافها وعظامها وجلودها ، ثم أدركوا عيرا من أهل دياف وحوران ، فقتلوا العلوج وأصابوا ثلاثة نفر من بنى تغلب خفراء ، فأخذوا العير ، وكان ظهرا فاضلا ، وقال

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٧٥ ، ٤٧٦) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٣٠٧) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١٨٨ ، ١٨٩).

٤٢٨

لهم : دلونى ، فقال له أحدهم : أمنونى على أهلى ومالى ، وأدلكم على حى من بنى تغلب غدوت من عندهم اليوم ، فآمنه المثنى وسار معه يومه ، حتى إذا كان العشى هجم عليهم ، فإذا النعم صادرة عن الماء ، والقوم جلوس بأفنية البيوت ، فبعث غارته فقتلوا المقاتلة ، وسبوا الذرية ، وانتسفوا الأموال ، وإذا هم بنو ذى الرويحلة ، فاشترى من كان من ربيعة السبايا بنصيبهم من الفيء ، فأعتقوا سبيهم ، وكانت ربيعة لا تسبى ، إذا العرب يتسابون فى جاهليتهم.

وأخبر المثنى أن جمهور من سلك البلاد قد انتجعوا شاطئ دجلة ، فسرح فى آثارهم حذيفة بن محصن ، وكان على مقدمته فى غزواته كلها بعد البويب ، ثم اتبعه فأدركوهم دون تكريت يخوضون الماء ، فأصابوا ما شاءوا من النعم ، حتى أصاب الرجل خمسا من السبى وخمسا من النعم ، وجاء المثنى بذلك حتى نزل على الناس بالأنبار ، ومضى فرات وعتيبة فى وجههما ، حتى أغارا على صفين وبها النمر وتغلب متساندين ، فأغاروا عليهم ونقبوهم ، فرموا بطائفة فى الماء ، فناشدوهم وجعلوا ينادون : الغرق الغرق ، فلم يقلعوا عنهم ، وجعل عتيبة والفرات يذمرون الناس وينادونهم : تغريق بتحريق ، يذكرونهم يوما من أيام الجاهلية أحرقوا فيه قوما من بكر بن وائل فى غيضة من الغياض ، ثم انطلق المسلمون راجعين إلى المثنى وقد غرقوهم.

فلما تراجع الناس إلى عسكرهم بالأنبار وتوافت بها البعوث والسرايا ، انحدر بهم المثنى إلى الحيرة فنزل بها ، وكانت لعمر ، رحمه‌الله ، فى كل جيش عيون يتعرفون الأخبار من قبلهم ، فكتب إليه بما كان فى تلك الغزاة ، وأبلغ الذي قال عتيبة والفرات ، يوم بنى تغلب والماء ، فبعث إليهما فسألهما ، فأخبراه أنهما قالا ذلك على وجه المثل ، وأنهما لم يفعلا ذلك على وجه طلب بذحل فى الجاهلية ، فاستحلفهما ، فحلفا ما أرادا بذلك إلا المثل ، وإعزاز الإسلام ، فصدقهم وردهما إلى المثنى.

ذكر ما هيج حرب القادسية على ما ذكره سيف عن أشياخه (١)

قالوا : قال أهل فارس لرستم والفيزران ، وهما عميدا أهل فارس : أين يذهب بكما لم يبرح بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس ، وأطمعتما فيهم عدوهم وإن لم يبلغ من خطركما أن تقركما فارس على هذا الرأى ، وأن تعرضاها للهلكة ، ما تنتظرون ، والله ما

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٧٧ ـ ٤٧٩) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٣٠٨ ، ٣٠٩).

٤٢٩

تنتظرون إلا أن ينزل بنا ونهلك ، ما بعد ساباط وبغداد وتكريت إلا المدائن ، والله ما جرأ علينا هذا غيركم ، ولو لا أن فى قتلكم هلاكنا لعجلنا لكم القتل الساعة ، ولئن لم تنتهوا لنهلكنكم ثم نهلك وقد اشتفينا منكم.

قالوا : فقال الفيرزان ورستم لبوران ابنة كسرى : اكتبى لنا نساء كسرى وسراريه ونساء آل كسرى وسراريهم ، ففعلت ، وأخرجت ذلك إليهم فى كتاب ، فأرسلوا فى طلبهن فلم تبق امرأة منهن إلا أتوا بها ، فوضعوا عليهن العذاب يستدلونهن على ذكر من آل كسرى ، فلم يوجد عند واحدة منهن أحد منهم ، وقلن ، أو من قال منهن : لم يبق منهم إلا غلام يدعى يزدجرد من ولد شهريار بن كسرى ، وأمه من أهل داريا ، فأرسلوا إليها فأخذوها به ، فدلتهم عليه ، وكانت قد دفعته إلى أخواله فى أيام شيرى حين جمعهن فى القصر الأبيض ، فقتل الذكور ، واعدتهم ثم دلته إليهم فى زبيل ، فأرسلوا إليه ، فجاءوا به وهو ابن إحدى وعشرين سنة فملكوه ، واجتمعوا عليه ، واطمأنت فارس واستوثقوا ، وتبارى الرؤساء فى طاعته ومناصحته ، فسمى الجنود لكل مسلحة كانت لكسرى ، أو موضع ثغر ، وبلغ ذلك من أمرهم واجتماعهم على يزدجرد المثنى والمسلمين ، فكتبوا بذلك إلى عمر ، رحمه‌الله ، بما ينتظرون ممن بين ظهرانيهم ، فلم يصل الكتاب إلى عمر حتى كفر أهل السواد ، من كان له منهم عهد ومن لم يكن له ، فخرج المثنى على حاميته حتى ينزل بذى قار ، وينزل الناس بذى الطف فى عسكر واحد ، فكتب إليهم عمر :

أما بعد ، فاخرجوا من بين ظهرانى الأعاجم ، وتفرقوا فى المياه التي تليهم على حدود أرضكم وأرضهم ، ولا تدعوا فى ربيعة ومضر أحدا من أهل النجدات ، ولا فارسا إلا أجلبتموه ، فإن جاء طائعا وإلا حشدتموه ، احملوا العرب على الجد إذا جد العجم ، لتلقوا جدهم بجدكم.

فنزل المثنى بذى قار ، ونزل الناس بالجل وشراف إلى غضى ، وغضى جبال البصرة ، وكان جرير بن عبد الله بغضى وسبرة بن عمرو العنبرى ومن أخذ أخذهم فيمن معهم إلى سلمى ، فكنوا فى أمواه العراق من أولها إلى آخرها مسالح ينظر بعضهم إلى بعض ، ويغيث بعضهم بعضا إن كان كون ، وذلك فى ذى القعدة سنة ثلاث عشرة.

وعادت مسالح كسرى وثغوره وهم فى ملك فارس هائبون مشفقون ، والمسلمون يتدفقون قد ضروا بهم كالأسد يثأر عن فريسته ، ثم يعاود الكر وأمراؤهم يكفكفونهم ؛

٤٣٠

لأن عمر ، رحمه‌الله ، كان أمرهم أن لا يقاتلوا إلا أن يقاتلوا حتى يأتيهم أمره وتصلهم أمداد المسلمين.

تأمير عمر ، رضي‌الله‌عنه ، سعد بن أبى وقاص

على العراق وذكر الخبر عن حرب القادسية (١)

ذكر المدائنى بإسناده إلى رجال من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض أن عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، كان يخير من قدم عليه من العرب بين الشام وبين العراق ، فكانت مضر تختار العراق وتختار أهل اليمن الشام ، فقال عمر : اليمن أشد تعاطفا يحنون إلى سلفهم ، ونزار كلهم سلف نفسه ، ومضر لا تحن إلا سلفها ، ولم يكن أحد من العرب أشد إقداما على أرض فارس من ربيعة ، فبلغ عمر اختلاف المثنى بن حارثة وجرير ابن عبد الله فى الإمارة ، فاستشار الناس ، فقال المغيرة بن شعبة : يا أمير المؤمنين ، تداركهم برجل من المهاجرين واجعله بدريا ، فقال : أشيروا علىّ برجل ، فقال عبد الرحمن ابن عوف : قد وجدته ، قال : من هو؟ قال : سعد بن أبى وقاص ، قال : هو لها ، فكتب عمر إلى المثنى : لم أكن لأستعملك على رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكتب إلى جرير والمثنى : إنى موجه سعدا إليكما ، فاسمعا له وأطيعا.

وذكر الطبرى وغيره فى هذا الموضع من تحرك عمر ، رضي‌الله‌عنه ، للخروج إلى العراق بنفسه واستدعائه وجوه المهاجرين والأنصار للمشورة عليه فيه ، بعد أن خرج بذلك الرسم فنزل صرارا ، وقدم بين يديه طلحة بن عبيد الله فنزل الأعوص ، وخلف بالمدينة على بن أبى طالب واليا عليها ، وإشارة أولى الرأى عليه بالرجوع إلى المدينة ، والاستخلاف على ذلك الوجه ، واستنفار العرب له ، ما قد فرغنا من ذكره فى صدر وقعة البويب من خبر الجسر ، حيث ذكره المدائنى ، ولعل ذلك الموضع أولى به ، فإن يكن كذلك فقد ذكرناه حيث ينبغى ، وإن يكن موضعه هذا ، فقد نبهنا عليه ليعرف ما وقع من الاختلاف بين المؤلفين فى هذا الشأن بحسب ما تأذى إليهم من جهة النقل ، والأمر فى ذلك قريب ، والاختلاف فى المنقولات غير مستنكر ، والله تعالى أعلم.

وقد كان أبو بكر الصديق ، رضي‌الله‌عنه ، استعمل سعد بن أبى وقاص على

__________________

(١) انظر : فتوح البلدان (ص ٣٠٣ ـ ٣٢٠) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٠٩ ـ ٣٣٨) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٣٧ ـ ٤٧) ، تاريخ ابن خلدون (٣ / ٣١٣ ـ ٣٢١).

٤٣١

صدقات هوازن بنجد ، فأقره عمر عليها ، فلما أتاه اجتماع فارس ، وقيام يزدجرد فى قول من جعل قيامه بعد وقعة البويب ، خلافا لما ذكره المدائنى وآخرون معه ، من قيامه قبل ذلك حسب ما قدمناه ، كتب عمر إلى المسلمين بما عملوا به قبل انتهاء كتابه إليهم من الوقوف على حدود أرضهم ، وأن يستخرجوا كل ذى سلاح وفرس ممن له رأى ونجدة فيضموه إليهم حتى يأتيهم أمره ، وكتب إلى عمال العرب على الكور والقبائل ، وذلك فى ذى الحجة سنة ثلاث عشرة مخرجه إلى الحج يأمرهم أيضا بانتخاب الناس أولى الخيل والسلاح والنجدة والرأى ، ويستعجلهم فى توجيههم إليه ، وكتب بمثل ذلك إلى سعد بن أبى وقاص ، فجاءه كتاب سعد :

إنى قد انتخبت لك ألف فارس مرد ، كلهم له نجدة ورأى ، يحوط حريم قومه ، ويمنع زمارهم ، إليهم انتهت أحسابهم وآراؤهم ، فشأنك بهم.

فوافق وصول كتاب سعد بهذا مشاورة عمر الناس فى رجل يوجهه إلى العراق ، فقالوا : قد وجدته ، قال : من؟ قالوا : الأسد عاديا ، سعد بن مالك ، فانتهى إلى رأيهم ، وأرسل إليه ، فقدم عليه ، فأمّره على حرب العراق وأوصاه ، فقال : يا سعد ، سعد بنى وهيب ، عليك بتقوى الله ، فإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ ، ولكن يمحو السيئ بالحسن ، ولا يغرنك أن يقال : صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الله عزوجل ليس بينه وبين أحد سبب إلا طاعته ، فالناس شريفهم ووضيعهم فى ذات الله سواء ، الله ربهم وهم عباده ، يتفاضلون بالعاقبة ، ويدركون ما عنده بالطاعة ، ألم تسمع لقول الله تبارك وتعالى : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) [القصص : ٨٤] ، و: (مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [النمل : ٩٠] ، وقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذ بعثه الله حتى قبض إليه ، فالزم ما رأيته عليه ، وإنى موجهك إلى أرض فارس ، فسر على بركة الله ، فقد استعملتك على من مررت به من القبائل ممن سقط إليكم من العرب ، فاندبهم إلى الجهاد ورغبهم فيه ، وأعلمهم ما أعد الله لأهله ، فمن تبعك منهم فأحسن إليه وارفق بهم ، واجعل كل قبيلة على منزلها ، ومن لم يبلغ أن تستنفره بمن معه من قبيلة ، فاجعله مع من أحب ، وانزل فيدا حتى يأتيك أمرى.

وفى رواية أنه قال لما أراد أن يسرحه :

إنى قد وليتك حرب العراق فاحفظ وصيتي ، فإنك تقدم على أمر شديد كريه لا يخلص منه إلا الحق ، فعود نفسك ومن معك الخير ، واستفتح به ، واعلم أن لكل عادة

٤٣٢

عتادا ، وعتاد الخير الصبر ، فالصبر الصبر تجتمع لك به خشية الله ، واعلم أن خشية الله تجتمع لك فى أمرين : فى طاعته واجتناب معصيته ، وإنما أطاعه من أطاعه بحب الآخرة وبغض الدنيا ، وعصاه من عصاه بحب الدنيا وبغض الآخرة ، وللقلوب حقائق ينشئها الله عزوجل إنشاء ، منها السر والعلانية ، فأما العلانية فأن يكون حامده وذامه فى الحق سواء ، وأما السر فيعرف بظهور الحكمة من قبله على لسانه ، وبمحبة الناس إليه ، فلا تزهد فى التحبب فإن النبيين قد سألوا محبتهم ، وإن الله تعالى إذا أحب عبدا حببه إلى خلقه ، وإذا أبغض عبدا بغضه إليهم ، فاعتبر منزلتك عند الله عزوجل بمنزلتك عند الناس ، ممن يسرع معك فى أمرك.

وذكر المدائنى أن عمر ، رضي‌الله‌عنه ، كتب لسعد مع ما أوصاه به عهدا يقول له فيه :

أوصيك بتقوى الله والرغبة فيما عنده ، فادع الناس إلى الله ، فمن أجابك فهو أولى بماله وأهله وولده ، وليس لك منه إلا زاد بلاغ إن احتجت ، وعظ نفسك وأصحابك ولا تكثر عليهم فيملوا ، واجعلهم رفقاء إخوانا ، وألن لهم جناحك ، وحطهم بنفسك كنفسك ، واعلم أن المسلمين فى جوار الله ، وأن المسلم أعظم الخلق عند الله حرمة ، ولا يطلبنك الله بخفرته فى أحد منهم ، واحذر عليهم واحفظ قاصيتهم ، وعد مريضهم ، وانصف مظلومهم ، وخذ لضعيفهم من قويهم ، واصلح بينهم ، وألزمهم القرآن وخوفهم بالله ، وامنعهم من ذكر الجاهلية وما كان فيها ، فإنها تورث الضغينة وتذكرهم الذحول ، واعلم أن الله قد توكل من هذا الأمر بما لا خلف فيه ، فاحذر أن يصرف الله ذلك عنك بذنب ويستبدل بكم غيركم ، واحذر من الله ما حذركم من نفسه ، فإنك تجد ما قدمت يداك من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا.

ثم سرحه فيمن اجتمع إليه بالمدينة من نفير المسلمين ، فخرج سعد بن أبى وقاص من المدينة قاصدا للعراق فى أربعة آلاف ، ثلاثة آلاف من أهل اليمن والسراة ، وألف من سائر الناس.

قالوا : وشيعهم عمر ، رحمه‌الله ، من صرار إلى الأعواص ، ثم قام فى الناس خطيبا ، فقال:إن الله تعالى إنما ضرب لكم الأمثال ، وصرف لكم القول ليحيى بذلك القلوب ، فإن القلوب ميتة فى صدورها حتى يحييها الله تعالى ، من علم شيئا فلينتفع به ، وإن للعدل

٤٣٣

أمارات وتباشير ، فأما الأمارات : فالحياء والسخاء والهين واللين ، وأما التباشير : فالرحمة ، وقد جعل الله لكل أمر بابا ، ويسر لكل باب مفتاحا ، فباب العدل الاعتبار ومفتاحه الزهد ، والاعتبار ذكر الموت بتذكر الأموات ، والاستعداد له بتقديم الأعمال ، والزهد أخذ الحق إلى كل أحد له حق ، ولا يصانع فى ذلك أحدا ، ويكتفى بما يكفيه من الكفاف ، فإن لم يكفه الكفاف لم يغنه شيء ، إنى بينكم وبين الله ، وليس بينى وبين الله أحد ، وإن الله عزوجل قد ألزمنى دفع الدعاء عنه ، فأنهوا شكاتكم إلينا ، فمن لم يستطع فإلى من يبلغناها نأخذ له الحق غير متعتع.

فسار سعد فى عام غيداق خصيب ، حتى نزل فيدا فأقام بها أشهرا ، وجعل عمر لا يأتيه أحد من العرب إلا وجهه إليه ، ثم كتب إليه أن يرتفع بالناس إلى زرود ، فأتاها وأقام بها ، وأتاه من حولها من بنى تميم من حنظلة ، وأتته سعد والرباب وعمرو ، فكان ممن أتاه عطارد ولبيد بن عطارد والزبرقان بن بدر وحنظلة بن ربيعة الأسدي وربعى الرياحى وهلال بن علقمة التميمى والمنذر بن حسان الضبى ، فقالت رؤساء حنظلة : يا بنى تميم ، قد نزل بكم الناس ، وهم قبائل الحجاز واليمن وأهل العالية ، وقد لزمكم قراهم ، فشاطروهم الرسل ، ففعلوا ، فمن كان له منحتان قصر إحداهما عليهم ، ومن كان له أكثر ، فعلى حساب ذلك ، فقروهم شتوة بزرود.

وكان عمر أمد سعدا بعد خروجه ، فيما ذكر سيف ، عن أشياخه ، بألفى يمانى وألفى نجدى مرد من غطفان وسائر الناس ، فنزلوا معه زرود فى أول الشتاء ، وتفرقوا فيما حولها ، وأقام سعد ينتظر اجتماع الناس وأمر عمر ، وانتخب من بنى تميم والرباب أربعة آلاف ، منهم ألف من الرباب ، وانتخب من بنى أسد ثلاثة آلاف ، وأمرهم أن ينزلوا على حد أرضهم بين الحزن والبسيطة ، فأقاموا هنالك بين سعد بن أبى وقاص وبين المثنى بن حارثة ، والمثنى بذى قار ، ويقال : بأليس ، وقال بعضهم : بشراف ، وجرير ومن معه من أخلاط الناس متفرقون فيما بين العذيب إلى خصى ، ويقال : غضى.

وكان المثنى فى ثمانية آلاف من ربيعة ، منهم ستة آلاف من بكر بن وائل ، وألفان من سائر ربيعة ، منهم أربعة آلاف ممن كان المثنى انتخبه بعد فصول خالد عنه إلى الشام ، وأربعة آلاف كانوا معه ممن بقى يوم الجسر ، وكان معه من أهل اليمن ألفان من بجيلة ، وألفان من قضاعة وطيئ ممن انتخب إلى ما كان قبل ذلك ، على طيئ عدى بن حاتم ، وعلى قضاعة عمرو بن وبرة ، وعلى بجيلة جرير بن عبد الله ، فبينا الناس كذلك ، سعد يرجو أن يقدم عليه المثنى ، والمثنى أن يقدم عليه سعد ، انتقضت بالمثنى جراحاته

٤٣٤

التي كان أصيب بها يوم الجسر ، فمات رحمه‌الله ، ولما أحس بالموت استخلف على الناس بشير بن الخصاصية ، وكتب إلى سعد :

كتبت إليك وأنا لا أرانى إلا لما بى ، فإن أهلك أو أسلم فإنى أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن الجنة مأوى المتقين ، وأن النار مثوى الكافرين ، ولا أخال العجم إلا سيجمعون على حربك ، فهم لاقوك بجمع لم يلقونا بمثله ، وقد أرانى الله إن كان قضى بينك وبينهم حربا أن تقاتلهم على أدنى حجر من بلادك ، على حد أرضهم ، فإن ظفرتم فلكم ما وراءهم ، وإن كانت الأخرى ، ولا أراها الله المسلمين ، كنتم أعلم بسبيلكم وأجرأ على طريقكم وأجرأ على أرضكم ، وانحزتم إلى فئتكم إلى أن يرد الله لكم الكرة عليهم.

وكان مع بشير بن الخصاصية عند ما استخلفه المثنى وجوه أهل العراق ، ومع سعد وجوه أهل العراق الذين قدموا على عمر ، رحمه‌الله ، فيهم فرات بن حيان العجلى وعتيبة ابن النهاس ، فردهم مع سعد.

فمن أجل ذلك اختلف الناس فى عدد أهل القادسية ، فمن قال : هم أربعة آلاف ، فلمخرجهم مع سعد من المدينة ، ومن قال : ثمانية آلاف ، فلاجتماعهم بزرود ، ومن قال : تسعة آلاف ، فللحاق القيسيين ، ومن قال : اثنا عشر ألفا ، فلدفوف بنى أسد من فروع الحزن بثلاثة آلاف ، وقدم عليه بعد ذاك ناس كثير مع الأشعث بن قيس وغيره.

قالوا : فجميع من شهد القادسية بضعة وثلاثون ألفا.

وكتب سعد إلى عمر ، رحمه‌الله ، بموت المثنى ، فكتب إليه : أن سر حتى تنزل بشراف ، واحذر على من معك من المسلمين ، وعليك بالإصلاح ما استطعت.

فارتحل سعد عن زرود ومعه تميم وقيس واليمن وغيرهم ، وفيهم رجالة فحمل بنو تميم ضعفاءهم حتى قدموا شراف فنزلها ، فأتاهم بشير بن الخصاصية وجرير ومن كان معه بفروع الحزن ، وقدم عليه المعنى بن حارثة ، أخو المثنى ، وقدمت معه زوج المثنى ، سلمى بنت خصفة من بنى تميم اللات بوصيته إلى سعد ، وكان قد أوصى بها وأمرهم أن يعجلوها عليه بزرود ، فلم يفرغوا لذلك ، وشغلهم عنه قابوس بن قابوس بن المنذر إلى أن انقضى ذلك ، كما نذكره بعد ذكر مقتل قابوس على ما ذكره المدائنى ، فقدم حينئذ المعنى وسلمى على سعد بوصية المثنى ورأيه ، فترحم عليه سعد عند ما انتهى ذلك إليه ، وأمّر أخاه المعنى على عمله ، وأوصى بأهل بيته خيرا ، وخطب سلمى فتزوجها وبنى بها ،

٤٣٥

وبنى مسجدا بشراف ، فقال بعض التميميين يذكر نفيرهم إلى سعد وقراهم له وحملانهم :

فنفرنا إليهم باحتساب

لم نعرج ولم نذق تغميضا

وقريناهم ربيعا من الرسل

حقينا مثملا وغريضا

وحملنا رجالهم من زرود

إذ تعايوا فلم يطيقوا النهوضا

وكتب سعد إلى عمر حين نزل شراف يخبره بمكانه ، فقال : لأرمين فارس وأبناءها بالمهاجرين وأبناء المهاجرين ، فوجه ألفا ومائة منهم ممن شهد بدرا نيف وأربعون رجلا وسائرهم ممن شهد بيعة الرضوان إلى الفتح ، وحضهم عمر ، رحمه‌الله ، فقال : إن أحب عباد الله إلى الله وأعظمهم عنده منزلة أتقاهم له وأشدهم منه رجلا ، فعليكم بتقوى الله والإصلاح ما استطعتم ، وما التوفيق إلا بالله ، الزموا الطاعة يجمع الله لكم ما تحبون من دينكم ودنياكم ، وأوفوا بالعهد لمن عاهدتم ، وإياكم والغدر والغلول ، فإنه من يغلل يأت بما غل يوم القيامة ، ومن غدر أدال الله منه عدوه ، ووهن كيده ، فافهموا ما توعظون به ، واعقلوا على الله أمره ، ولا تكونوا كالجفاة الجاهلية.

وعن سيف (١) : أن عمر ، رحمه‌الله ، قال : والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب ، فلم يدع رئيسا ، ولا ذا رأى ، ولا ذا شرف ، ولا ذا سلطة ، ولا خطيبا ولا شاعرا إلا رماهم به ، فرماهم بوجوه الناس وغررهم.

وكتب عمر ، رضي‌الله‌عنه ، إلى عبيدة وهو بالشام أن يمد سعدا بمن كان عنده من أهل العراق ، وكانوا ستة آلاف ، ومن اشتهى أن يلحق بهم ، وكتب إلى المغيرة بن شعبة أن يسير إلى سعد من البصرة ، وكتب إلى سعد بمثل رأى المثنى الذي أشار به على سعد :

أما بعد ، فسر من شراف نحو فارس بمن معك من المسلمين ، وتوكل على الله ، واستعن به على أمرك كله ، واعلم أنك تقدم على أمة عددهم كثير ، وعدتهم فاضلة ، وبأسهم شديد ، وعلى بلد وإن كان سهلا كئود لبحوره وفيوضه ودآدئه ، فإذا لقيتم القوم أو أحدا منهم فابدءوهم الضرب والشد ، وإياكم والمناظرة لجموعهم ، ولا يخدعنكم ، فإنهم خدعة مكرة ، أمركم غير أمرهم ، إلا أن تجادوهم ، فإذا انتهيت إلى القادسية ، والقادسية باب فارس فى الجاهلية ، وهى أجمع تلك الأبواب لما تريد ويريدون ، وهو منزل رحيب خصيب حصين دونه قناطر وأنهار ممتنعة ، فتكون مسالحك على

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٨٧).

٤٣٦

أنقابها ، ويكون الناس بين الحجر والمدر على أقصى حجر من أرض العرب ، وأدنى مدرة من أرض العجم ، ثم الزم مكانك فلا تبرحه ، فإنهم إذا أحسوك أنقضتهم ورموك بجمعهم الذي يأتى على خيلهم ورجلهم وحدهم وجدهم ، فإن أنتم صبرتم لعدوكم واحتسبتم بقتالهم ، رجوت أن تنصروا عليهم ، ثم لا يجمع لكم مثلهم أبدا إلا أن يجتمعوا ، وليست معهم قلوبهم ، وأن تكن الأخرى كان الحجر فى أدباركم ، فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم ، ثم كنتم عليها أجرأ وبها أعلم ، وكانوا عنها أجبن وبها أجهل ، حتى يأتيكم الله بالفتح ، ويرد لكم الكرة ، وليكن منزلك الذي تنزله رحيبا خصيبا ، وإذا نزلت منزلا فلا تستأخر عنه ، فإن ذلك وهن عليك وجرأة لعدوك ، وأذك العيون واتبع الغرض ولا تأمنن قريبا ولا بعيدا ، وصف لى منزلك الذي تنزله ، وكم بينك وبين أول عدوك وآخره ، وكيف مأتاهم ، وسم لى المنزل ، فإنه ألقى فى روعى أنكم ستفتحون فارس ، وأنكم الأعلون.

وفى رواية أنه كتب إليه باليوم الذي يرتحل فيه من شراف ، وأين ينزل بالناس فيما بين عذيب والهجانات ، وعذيب والقوادس ، وأن يشرف بالناس ويغرب بهم. فارتحل سعد عن شراف يريد أن ينزل منزلا على ما كتب به إليه عمر ، فانتهى إلى المغيثة ، فأقام وبنى مسجدا بين الفرعاء والمغيثة ، وقدم بين يديه زهرة بن عبد الله بن قتادة بن الجوية يرتاد له منزلا ، فأقبل زهرة حتى انتهى إلى العذيب ، وكتب إلى سعد فأقبل فى أثره ، فنزل المسلمون ما بين العذيب إلى القادسية ، وهى أحساء ، فقال فى ذلك النعمان بن مقرن المزنى ، وتروى لغيره :

نزلنا بأحساء العذيب ولم تكن

لنا همة إلا اختيار المنازل

لنحوى أرضا أو نناهب غارة

يضج لها ما بين بصرى وبابل

ونزل زهرة القادسية بين العتيق والخندق بحيال القنطرة وقديس ، وهى يومئذ أسفل منها بميل ، وكتب سعد إلى عمر : إنا نزلنا من القادسية والعذيب منزلا خصيبا رحيبا على أقصى حجر من أرضنا وأدنى مدرة من أرض عدونا ، فأما عن يسار القادسية فبحر أخضر لاج إلى الحيرة بين طرفين ، أما أحدهما فعلى الظهر ، وأما الآخر فعلى شاطئ نهر يطلع بمن سلكه على ما بين الخورنق والحيرة ، وأما عن يمين القادسية ففيض من فيوض مياههم ، وبيننا وبين أدنى عدونا منا خمسة عشر ميلا ، ولم يبلغنى من الذي أسندوا إليه أمرهم إلى أن كتبت إليك ، ومتى يبلغنى ذلك أكتب به إليك إن شاء الله ، ونحن متوكلون على الله راجعون له.

٤٣٧

ولما بلغ أهل فارس اجتماع العرب لهم ، وكثرة من انثال على سعد من رؤسائهم ووجوههم ، عظم ذلك عليهم ، ورعبهم وزادهم نزولهم القادسية رعبا وضيقا ، فعج أهل السواد إلى يزدجرد بن شهريار ، وأرسلوا إليه : إن العرب قد نزلوا القادسية بأمر ليس يشبه إلا الحرب ، وأن فعلهم منذ نزلوها لا يبقى عليه شيء ، وقد أخربوا ما بينهم وبين الفرات ، فليس هنالك أنيس إلا فى الحصون ، وقد ذهبت الدواب وكل شيء لم تحمله الحصون من الأطعمة ، ولم يبق إلا أن يستنزلونا ، فإن أبطأ عنا الغياث أعطيناهم بأيدينا. وكتب إليه بذلك الملوك الذين لهم الضياع بالطّفّ ، وأعانوهم عليه.

ولما كثرت الاستغاثة من أهل السواد على يزدجرد ، خشعت نفسه واتقى الحرب برستم فأرسل إليه ، فدخل عليه ، فقال : إنى أريد أن أوجهك فى هذا الوجه ، وإنما يعد للأمور على قدرها ، وأنت رجل أهل فارس اليوم ، وأنت لها ، وقد ترى ما جاء أهل فارس من أمر لم يأتهم منذ ولى آل أردشير.

فأراه رستم أن قد قبل منه وأثنى عليه ، فقال له الملك : قد أحببت أن أنظر فيما لديك لأعلم ما عندك ، فصف لى العرب وفعلهم ، وصف لى العجم وما يلقون منهم ، فقال رستم : صفة ذئاب صادفت غرة من رعاء فأفسدت ، فقال : ليس كذلك ، إنما سألتك رجاء أن تعرف صفتهم فأقويك لتعمل على قدر ذلك فلم تصب ، فافهم عنى ، إنما مثلهم ومثل أهل فارس كمثل عقاب أوفت على مرقب عند جبل تأوى فى ذراة الطير تبيت فى أوكارها ، فإذا أصبحت الطير تجلت ، فأبصرت العقاب ترقبها ، فخافتها فلم تنهض ، وطمعت العقاب ، فلم ترم ، وجعلت كلما شذ منها طائر انقضت عليه فاختطفتها حتى أفنتها ، فلو نهضت بأجمعها نهضة واحدة لنجت ، وأشد شيء يكون فى ذلك أن تنجو كلها إلا واحدا ، فهذا مثلهم ومثل الأعاجم ، فاعمل على قدر ذلك ، فإنى أريد أن أوجه إلى هؤلاء القوم جمعا أستأصلهم به.

فسجد له رستم ، وقال : الملك أفضل رأيا ، وأيمن أمرا ، وأسعد جدا ، وإن أذن لى تكلمت.

قال : قل ، قال : هزيمة جيش بعد جيش أمثل وأبقى من هزيمة الجماعة التي ليس بعدها مثلها ، فأبى عليه يزدجرد إلا أن يجمع له الناس ويوجهه بهم إلى العرب ، فقال له رستم : أيها الملك ، دعنى فإن العرب لا تزال تهاب العجم ما لم تضربهم بى ، ولعل دولة تكون فيكون الله قد كفى ، ونكون قد أصبنا المكيدة ورأى الحرب ، فإن الرأى فيها والمكيدة

٤٣٨

أنفع من بعض الظفر ، فألح يزدجرد وترك الرأى ، وكان ضيقا لجوجا ، وقال لرستم : امض حتى يأتيك أمرى ، فخرج حتى ضرب عسكره بساباط ووجه إليه الملك المرازبة والقواد والأساورة واستحثه فى المسير ، فأعاد عليه رستم كلامه ، وقال : أيها الملك ، إن هزيمتى لهم دونها ما بعدها وعليكم دونها ما بعدها ، ولقد اضطرنى تضييع الرأى إلى إعظام نفسى وتزكيتها ، ولو أجد من ذلك بدا لم أتكلم به ، فأنشدك الله فى أهلك ونفسك وملكك ، دعنى أقم بعسكرى وأسرج الجالينوس ، فإن تكن لنا فذاك ، وإلا فأنا على رجل وأبعث غيره ، حتى إذا لم نجد بدا ولا حيلة صبرنا لهم ، وقد وهناهم وحسرناهم ونحن جامون ، موفورون ، فأبى إلا أن يسير.

ولما نزل رستم بساباط وجمع أداة الحرب وآلاتها ، بعث على مقدمته الجالينوس فى أربعين ألفا ، وخرج هو فى ستين ألفا ، وساقته فى عشرين ألفا ، وعليها الفيرزان ، وعلى ميمنته الهرمزان ، وعلى الميسرة مهران بن بهرام الرازى ، وقال رستم : ليشجع الملك إن فتح الله علينا هؤلاء القوم فهو وجهنا إلى ملكهم فى داره حتى نشغلهم فى أهلهم وبلادهم ، إلا أن يقبلوا المسالمة ويرضوا بما كانوا يرضون به.

وقال سيف عن أشياخه (١) : خرج رستم فى عشرين ومائة ألف كلهم متبوع ، فكانوا بأتباعهم أكثر من مائتى ألف ، ثم إن رستم رأى رؤيا فكرهها ، وأحس لها الشر ، وكره لها الخروج ولقاء القوم ، واختلف عليه رأيه واضطرب ، وسأل الملك أن يمضى الجالينوس ، ويقيم حتى ينظر ما يصنعون ، وقال : إن غناء الجالينوس كغنائى ، وإن كان اسمى أشد عليهم من اسمه ، فإن ظفر فهو الذي نريد ، وإن تكن الأخرى وجهنا مثله ، ودافعنا هؤلاء القوم إلى يوم ما ، فإنى لا أزال مرجوا فى أهل فارس ما لم أهزم ، ولا أزال مهيبا فى صدور العرب ، ولا يزالون يهابون الإقدام ما لم أباشرهم ، وإن باشرتهم اجترءوا آخر دهرهم ، وانكسر أهل فارس آخر دهرهم.

قالوا : ولما أبى الملك إلا مسير رستم ، كتب رستم إلى أخيه وإلى رءوس بلاده : من رستم بن البندوان إلى مرزبان الباب وسهم أهل فارس ، الذي كان يعد لكل عظيمة ، فيفض الله به الجموع ، ويفتح به الحصون ، ومن قبله من عظماء أهل فارس والمرازبة والأساورة ، فرموا حصونكم ، وأعدوا واستعدوا ، فكأنكم بالعرب هذه الأمة الذليلة كانت عندكم الخسيسة المنزلة الضيقة المعيشة قد وردوا بلادكم ، وقارعوكم على

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٥٠٥).

٤٣٩

أرضكم وأبنائكم ، وانتزعوا ما فى أيديكم ، وكان من رأيى مدافعتهم ومطاولتهم حتى تعود نجومنا فأبى الملك.

ويقال : إن رستم عند ما أمر يزدجرد بالنهوض إلى ساباط كتب إلى أخيه بنحو الكتاب الأول ، وزاد فيه : أن السمكة قد كدرت الماء ، وأن النعائم قد حبست ، وحسنت الزهرة ، واعتدل الميزان ، وذهب بهرام ، ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون علينا ، ويستولون على ما قبلنا ، وإن أشد ما رأيت أن الملك قال : لتسيرن إليهم أو لأسيرن إليهم بنفسى ، وأنا سائر إليهم.

وكان الذي جرأ يزدجرد على إرسال رستم غلام جابان منجم كسرى ، وكان من أهل فرات بادقلى ، فأرسل إليه وقال : ما ترى فى مسير رستم وحرب العرب اليوم؟ فخافه على الصدق فكذبه ، وكان رستم يعلم نحوا من عمله ، فثقل عليه مسيره لأجل ذلك ، وخف على الملك لما غره منه ، وقال الملك للغلام : إنى أحب أن تخبرنى بشيء أراه أطمئن به إلى قولك ، فقال الغلام لزرنا الهندى : أخبره ، فقال : سلنى ، فسأله ، فقال : أيها الملك ، يقبل طائر فيقع على إيوانك ، فيقع منه شيء فى فيه هاهنا ، وخط دائرة ، فقال الغلام : صدق ، والطائر غراب ، والذي فى فيه درهم ، فيقع منه على هذا المكان.

وبلغ جابان أن الملك طلبه ، فأقبل حتى دخل عليه ، فسأله عما قال غلامه ، فحسب ، فقال : صدق ولم يصب ، إنما الطائر عقعق ، والذي فى فيه درهم ، فيقع منه على هذا المكان ، وكذب زرنا ، يندر الدرهم من هاهنا فيستقر هاهنا ، ودور دائرة أخرى ، فما قاموا حتى وقع على الشرفات عقعق ، فسقط منه درهم فى الخط الأول ، فنزا فسقط فى الخط الآخر ، ونافر الهندى جابان حيث خطأه ، فأتيا ببقرة نتوج ، فقال الهندى : سخلتها غراء سوداء ، فقال جابان : كذبت ، بل سوداء صبغاء ، فنحرت البقرة فاستخرجت سخلتها ، فإذا ذنبها أبيض ، وهو بين عينيها ، فقال جابان : من هاهنا أتى ، وشجعاه على إخراج رستم ، فأمضاه.

ولما فصل رستم من ساباط ، لقيه جابان على القنطرة ، فشكا إليه ، وقال : ألا ترى ما أرى؟ فقال رستم : أما أنا فأقاد بخشاش وزمام ، ولا بد من الانقياد وأمر الجالينوس بالتقدم إلى الحيرة ، فمضى نحوها حتى اضطرب عسكره بالنجف ، وخرج رستم بعده حيث ينزل بكوثى ، وأمر الجالينوس عند ما قدمه أن يصيب له رجلا من العرب من جند سعد ، فخرج هو والآزاذمرد ، مرزبان الحيرة ، فى سرية حتى انتهيا إلى القادسية فأصابا دون قنطرتها

٤٤٠