الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

المثنى بن حارثة الشيبانى إلى أهل فارس قبل صلاة الصبح ، من الليلة التي مات فيها أبو بكر ، رضي‌الله‌عنه ، ثم أصبح فبايع الناس ، وعاد فندب الناس إلى فارس ، وتتابع الناس على البيعة ففزعوا فى ثلاث ، كل يوم يندبهم فلا ينتدب أحد ، وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم ، وأثقلها عليهم ، لشدة سلطانهم وشوكتهم وعزهم وقهرهم الأمم.

قالوا : فلما كان فى اليوم الرابع عاد ينتدب الناس إلى العراق ، فكان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود ، وسعد بن عبيد القارى ، حليف الأنصار ، وتتابع الناس.

قال القاسم بن محمد : وتكلم المثنى بن حارثة ، فقال : يا أيها الناس ، لا يعظمن عليكم هذا الوجه ، فإنا قد تبجحنا ريف فارس ، وغلبناهم على خير شقى السواد ، وشاطرناهم ونلنا منهم ، واجترأ من قبلنا عليهم ، ولها إن شاء الله ما بعدها.

وقام عمر ، رضي‌الله‌عنه ، فى الناس ، وقال : إن الحجاز ليس لكم بدار إلا على النجعة ، ولا يقوى عليه أهله إلا بذلك ، أين المهاجرين عن موعود الله ، عزوجل ، سيروا فى الأرض التي وعدكم الله فى كتاب بأن يورثكموها ، فإنه قال : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ، والله مظهر دينه ، ومعز ناصره ، ومولى أهله مواريث الأمم. أين عابد الله الصالحون!.

فلما اجتمع ذلك البعث ، وكان أولهم ، كما تقدم أبو عبيد ، ثم ثنى سعد بن عبيد أو سليط بن قيس ، قيل لعمر ، رحمه‌الله : أمر عليهم رجلا من السابقين من المهاجرين والأنصار. فقال : لا والله لا أفعل ، إن الله تعالى إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو ، فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء ، فأولوا الرئاسة منكم من سبق إلى الدفع وأجاب الدعاء ، لا والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتدابا.

ثم دعا أبا عبيد ، ودعا سليطا وسعدا ، فقال لهما : أما إنكما لو سبقتماه لوليتكما ولأدركتكما بها إلى ما لكما من القدمة. فأمر أبا عبيد على الجيش ، وقال له : اسمع من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأشركهم فى الأمر ، ولا تجيبن مسرعا حتى تتبين ، فإنها الحرب ، لا يصلحها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة والكف ، ثم قال له : إنه لم يمنعنى أن أؤمر سليطا إلا تسرعه إلى الحرب ، وفى التسرع إليها إلا عن بيان ضياع ، والله لو لا ذلك لأمرته ، ولكن الحرب لا يصلحها إلا المكيث.

ويروى أن عمر انتخب من أهل المدينة ومن حولها ألف رجل ، أمر عليهم أبا عبيد ، فقيل له : استعمل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : لا ها الله ذا يا أصحاب النبيّ ، لا

٤٠١

أندبكم فتبطئون ، وينتدب غيركم فأؤمركم عليهم إنما فضلتم بتسرعكم ، فإن نكلتم فضلوكم.

وعجل عمر ، رضي‌الله‌عنه ، المثنى ، وقال : النجاء حتى يقدم عليك أصحابك. فخرج المثنى ، وقدم الحيرة فى عشر ، ولحقه أبو عبيد بعد شهر.

وفى كتاب المدائنى أن تحرك عمر لهذا البعث إنما كان بكتاب المثنى إليه ، يستمده ويحرضه على أرض فارس ، فذكر بإسناد له إلى جماعة من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض : أن عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، قال حين ولى : والله لأعزلن خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة ليعلما أن الله إنما ينصر دينه وليس ينصر إياهما ، فكتب إليه المثنى وهو بالحيرة : أنا بأرض فارس ، وقد عرفناهم وغازيناهم وغلبناهم على بعض ما فى أيديهم ، ومعى رجال من قومى لهم صلاح ونجدة وصدق بلاء عند الناس وجرأة على البلاد ، فإن رميتنا بجماعة من قبلك رجوت أن يفتح الله عليهم ، قالوا : ولم تكن لعمر ، رحمه‌الله ، همة حين قام بأمر المسلمين إلا الروم وفارس ، فلما أتاه كتاب المثنى بن حارثة خطب الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، وحثهم على الجهاد ، ورغبهم فيه ، وأنبأهم بما أعد الله للمجاهدين فى سبيله ، وقال : أنتم بين فتح عاجل وذخر آجل ، وقد أصبحتم بالحجاز بغير دار مقام ، وقد وعدكم الله كنوز كسرى وقيصر ، وأنزل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الفتح : ٢٨] ، وقال : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [التوبة : ٣٣] ، فانهضوا لجهاد عدوكم من أهل فارس ، فإن لكم بها إخوانا ليسوا مثلكم فى السابقة ، وقد لقوهم وقاتلوهم فاستعدوا للمسير إليهم رحمكم الله (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال : ٦٠] ، ولا تركنوا إلى الدنيا ، واستعينوا بالله واصبروا.

فتثاقل الناس حين ذكر فارس. فقال عمر : (ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ) [التوبة : ٣٨] ، فقام أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة الثقفى ، فقال : أنا أول من انتدب ، ثم قام سليط بن قيس بن عمرو فقال : يا أمير المؤمنين ، أنا ثان ، ثم قام رهط من الأنصار ، فسمى منهم نفرا. قال : ثم تتابع الناس وكثروا وقالوا : يا أمير المؤمنين ، أمر علينا رجلا ، فقال : أؤمر عليكم أول من انتدب ، فاستعمل عليهم أبا عبيد ، وقال : لم يمنعنى من استعمال سليط بن قيس ، وهو من أهل بدر إلا عجلة فيه ، فخشيت أن يلقى المسلمين ملقى يهلكون فيه ، وكان فيمن

٤٠٢

انتدب سعد بن عبيد القارى ، ففر يوم الجسر ، فكان بعد ذلك يقول : إن الله اعتد علىّ بغرة فى أرض فارس ، فعسى أن يعيد لى فيها كرة.

وفى حديث غير المدائنى : فكانت الوجوه تعرض عليه بعد ذلك فيأبى إلا العراق ، ويقول : إن الله اعتد علىّ فيها بغرة ، وذكر نحو ما تقدم.

واختلف ما ذكره سيف فيمن كان إليه أمر فارس عند قدوم أبى عبيد بحسب اختلاف أهل الأخبار عليه فى ذلك.

فمما ذكره أن بوران بنت كسرى كانت ، كلما اختلف الناس بالمدائن ، عدلا بينهم حتى يصطلحوا ، فلما قتل الفرخزاد وقدم رستم فقتل آزرميدخت ، كانت بوران عدلا إلى أن استخرجوا يزدجرد.

قال : فقدم أبو عبيد والعدل بوران ، وصاحب الحرب رستم.

وذكر من طريق آخر : أن بوران هى التي استحثت رستم فى السير ، وكان على فرج خراسان ، لما قتل الفرخزاد ، فأقبل رستم فى الناس حتى نزل المدائن ، لا يلقى جيشا لأرزميدخت إلا هزمه ، واقتتلوا بالمدائن ، فهزمهم سياوخش وهو قاتل الفرخزاد ، وحصر آزرميدخت ثم افتتح المدائن ، فقتل سياوخش ، وفقأ عين آزرميدخت ، ونصب بوران ، فدعته إلى القيام بأمر فارس ، وشكت إليه تضعضعهم وإدبار أمرهم ، على أن تملكه عشر حجج ، ثم يكون الملك فى آل كسرى إن وجدوا من غلمانهم أحدا ، وإلا ففى نسائهم. فقال رستم : أما أنا فسامع مطيع ، غير طالب عوضا ولا ثوابا ، فإن شرفتمونى وصنعتم إلىّ شيئا فأنتم أولياء ما صنعتم ، إنما أنا سهمكم وطوع أيديكم. فقالت بوران : اغد علىّ ، فغدا عليها ، ودعت مرازبة فارس ، فكتبت له : بأنك على حرب فارس ، ليس عليك إلا الله عن رضا منا وتسليم لحكمك ، وحكمك جائز فيهم ما كان حكمك فى منع أرضهم وجمعهم عن فرقتهم ، وتوجته وأمرت أهل فارس أن يسمعوا له ويطيعوا ، ودانت له فارس بعد قدوم أبى عبيد.

فهذا ما ذكره سيف فى شأن مملكة فارس إذ ذاك.

قال : وكتب رستم إلى دهاقنة السواد أن يثوروا بالمسلمين ، ودس إلى كل رستاق رجلا ليثور بأهله ، فبعث جابان إلى البهقباذ الأسفل ، وبعث نرسى إلى كسكر ، وبعث المصادمة إلى المثنى ، وبلغ المثنى ذلك ، فضم إليه مسالحه وحذر ، وعجل جابان فنزل

٤٠٣

النمارق ، وتوالوا على الخروج ، فخرج نرسى ، فنزل زندورد ، وثار أهل الرساتيق من أعلى الفرات إلى أسفله ، وخرج المثنى بن حارثة فى جماعة حتى ينزل خفان ، لئلا يؤتى من خلفه بشيء يكرهه ، فأقام حتى قدم عليه أبو عبيد.

وأما المدائنى فلم يعرض لما عرض له سيف فى شأن مملكة فارس ، بل بنى على أن يزدجرد هو كان الملك عليهم حينئذ ، فإنه قال بعقب ما نسب إليه قبل : وبلغ يزدجرد أن ملك العرب يسير إليه ، فشاور أهل بيته ومرازبته ، فقالوا له : وجه إلى أطرافك فحصنها وأخرج من فيها من العرب ، فوجه جالينوس ورستم وليس بالأزدى ومردان شاه ونرسى ابن خال أبرويز ، وكل واحد فى خمسة آلاف ، وأمرهم أن ينزلوا متفرقين ، ويكون بعضهم قريبا من بعض كل رجل فى أصحابه ، ويمد بعضهم بعضا إن احتاجوا إلى ذلك ، وأمرهم أن يقتلوا من قدروا عليه من العرب ، فخرجوا والمثنى بالحيرة ، فبلغه مسيرهم ، فخرج لينزل على البلاد ، فلقى على قنطرة النهرين خرزاذبه فقتله.

ومضى المثنى فنزل من وراء أليس ، ونزل العجم متفرقين ، فنزل نرسى كسكر ، ونزل مردان شاه فيما بين سورا وقبين ، ونزل رستم بابل ، ونزل جالينوس بارسمى ، ووجه جالينوس جابان فى ألف إلى أليس ، ووجه أزاذبه إلى الحيرة فى ألف ، وفصل أبو عبيد بن مسعود من المدينة فى ألف وثمانمائة من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فيهم من ثقيف أربعمائة معهم أبو محجن ، كان مع خالد بن الوليد بالشام فلما.

أتتهم وفاة أبى بكر رجع إلى المدينة ، فخرج مع أبى عبيد ، وانضم إلى أبى عبيد فى الطريق مائة من بنى أسد ، ومائتان من طيئ ، ومائة من بنى ذبيان بن بغيض ، ومائة من بنى عبس ، معهم خمسة وعشرون فرسا ، وخرج المثنى بن حارثة فى ثلاثمائة وسبعين من بكر بن وائل ، وثلاثمائة من بنى تميم حنظلة وعمرو وسعد والرباب ، فتلقى أبا عبيد ثم أقبل معه حتى نزل عسكره الذي كان فيه ، ووضع عيونا على المسلحة التي بأليس فأتوه فأعلموه فأخبر أبا عبيد ، فقال له : إن أذنت لى سرت إليهم ، فأذن له وضم إليه ابنه جبر بن أبى عبيد ، وقال لابنه جبر : لا تخالفه ، فسار المثنى فصبح أليس وهم آمنون فلم يكن بينهم كبير قتال حتى انهزموا ، فأصاب المسلمون سلاحا ومتاعا ليس بالكثير ، ورجع إلى أبى عبيد ، ونزل جابان فيما بين الحيرة والقادسية ، وكتب أبو عبيد إلى عمر ، رضي‌الله‌عنه ، بخبر أليس ، فسر المسلمون ونشطوا ، وخرج قوم من المدينة إلى أبى عبيد ، وتقدم أبو عبيد فلقى جابان فيما بين الحيرة والقادسية ، وجابان فى ألفين معه ازاذبه ، فلم يطل القتال بينهم حتى انهزم المشركون.

٤٠٤

وفيما ذكره سيف من الأحاديث أن أبا عبيد لما نزل خفان مع المثنى أقام بها أياما ليستجم أصحابه ، وقد اجتمع إلى جابان بشر كثير ، وخرج أبو عبيد بعد ما جم الناس وطهرهم ، وجعل المثنى على الخيل ، فنزلوا على جابان بالنمارق فاقتتلوا قتالا شديدا ، فهزم الله أهل فارس ، وأسر جابان ، أسره مطر بن فضة أحد بنى تيم الله ، وأسر مردان شاه ، أسره أكتل بن شماخ العكلى ، فأما أكتل فإنه ضرب عنق مردان شاه ، وذلك أنه سأله : ما اسمك؟ ، فيما ذكره المدائنى ، فقال له : مردان شاه. قال : وما مردان شاه؟ قال : ملك الرجال. قال : لا جرم والله لأقتلنك ، فقتله. وأما مطر بن فضة فإن جابان خدعه وهو لا يعرفه ، وكان جابان شيخا كبيرا ، فقال لمطر : إنكم معشر العرب أهل وفاء ، فهل لك أن تؤمننى وأعطيك غلامين أمردين خفيفين فى عملك وكذا وكذا ، قال : نعم ، قال : فأدخلنى على ملككم حتى يكون ذلك بمشهد منه ، فأدخله على أبى عبيد ، فتم له على ذلك وأجاز ذلك أبو عبيد ، فعرفه ناس فقالوا لأبى عبيد : هذا الملك جابان ، وهو الذي لقينا بهذا الجمع ، فقال أبو عبيد : فما تأمروننى ، أيؤمنه صاحبكم وأقتله أنا ، معاذ الله من ذلك.

وفى رواية : إنى أخاف الله إن قتلته ، وقد أمنه رجل من المسلمين فى الذمة والتود والتناصر كالجسد ، ما لزم بعضهم لزم كلهم. فقالوا : إنه الملك ، قال : وإن كان لا أعذر به ، فتركه ، وقال له : اذهب حيث شئت.

وهرب أصحاب جابان حين أسر إلى كسكر ونرسى بأسفلها. وكانت كسكر قطيعة له ، وكان النرسيان له ، يحميه لا يأكله بشر ، إلا ملك فارس ، أو من أكرموه فيه بشيء ، ولا يغرسه غيرهم ، فكان ذلك مذكورا من فعلهم فى الناس ، وأن ثمرهم هذا حمى ، فقال رستم وبوران لنرسى : أشخص إلىّ قطيعتك فأحمها من عدوك وعدونا وكونن رجلا ، فلما انهزم الناس يوم النمارق ، ووجهت الفالة نحو نرسى ، ونرسى فى عسكره ، نادى أبو عبيد بالرحيل ، وقال للمجردة : اتبعوهم حتى تدخلوهم عسكر نرسى ، أو تبيدوهم فيما بين النمارق إلى بارق درونى (١).

ومضى أبو عبيد حين ارتحل من النمارق حتى ينزل على نرسى بكسكر ، والمثنى فى تعبئته التي قاتل فيها جابان ، وقد أتى الخبر رستم وبوران بهزيمة جابان ، فبعثوا إليه الجالينوس ، وبلغ ذلك نرسى وأهل كسكر وباروسما ونهر جوبر والزوابى ، فرجوا أن يلحق قبل الوقعة ، وعالجهم أبو عبيد ، فالتقوا أسفل من كسكر بمكان يدعى السقاطية ،

__________________

(١) بارق : ماء بالعراق من أعمال الكوفة. انظر : معجم البلدان (١ / ٣١٩).

٤٠٥

فاقتتلوا فى صحار ملس هناك قتالا شديدا ، ثم إن الله ، عزوجل ، هزم فارس ، وهرب نرسى ، وغلب المسلمون على عسكره وأرضه ، وأخذ أبو عبيد ما حوى معسكرهم ، وجمع الغنائم ، فرأى من الأطعمة شيئا عظيما ، فبعث فيمن يليه من العرب فانتفلوا ما شاءوا ، لا يؤثرون فيه ، وأخذت خزائن نرسى ، فلم يكونوا بشيء مما خزن أفرح منهم بالنرسيان ؛ لأنه كان يحميه ويمالئه عليه ملوكهم ، فاقتسمه المسلمون ، فجعلوا يطعمونه الفلاحين.

قال المدائنى : وسار أبو عبيد إلى الجالينوس فلقيه بباروسما فهزمه ، فلحق بالمدائن ، وبلغ الذين كانوا ببابل هزيمة نرسى وجالينوس ، فرجعوا إلى المدائن ، ودخل أبو عبيد باروسما ، فصالحه ابن الأنذرزعر عن كل رأس بأربعة دراهم ، وهيئوا له طعاما فأتوه به ، فقال : لا آكل إلا ما يأكل مثله المسلمون. فقالوا : كل ، فكل أصحابك يأكل مثل ما تؤتون به ، فأكل ، فلما راح المسلمون سألهم عن طعامهم فأخبروه ، فإذا الذي أكلوا مثل طعامه.

وفى بعض ما أورده سيف من الأخبار أن ابن الأنذرزعر لما أعلم أبا عبيد بالطعام الذي صنعوا له ، وأتوا به قال لهم : هل أكرمتم الجند بمثله وقريتموهم؟ قالوا : لا ، قال : فردوه فلا حاجة لنا فيه ، بئس المرء أبو عبيد إن صحب قوما من بلادهم اهراقوا دماءهم دونه ، أو لم يهريقوها فاستأثر عليهم بشيء يصيبه! لا والله لا يأكل مما أفاء الله عليهم إلا مثل ما يأكل أوساطهم!.

قال المدائنى : وبعث أبو عبيد من باروسما المثنى بن حارثة إلى زندورد ، وعاصم بن عمرو الأسدي إلى نهر جوير ، وعروة بن زيد الخيل إلى الزوابى ، فأما المثنى فإن أهل زندورد حاربوه فظفر بهم فقتل وسبى ، وأما أهل الزوابى ونهر جوبر فصالحوا على صلح باروسما ، فبعث أبو عبيد بخمس ما أصاب من أليس وخفان وكسكر وزندورد ، وما صالح عليه إلى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، ونزل أبو عبيد والمسلمون الحيرة.

وذكر سيف ، أيضا ، أنهم بعثوا بخمس ما أصابوا من النرسيان إلى عمر ، رحمه‌الله ، وكتبوا إليه : إن الله ، عزوجل ، أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة يحمونها الناس ، فأحببنا أن تروها لتذكروا أنعم الله وأفضاله.

وقال فى ذلك عاصم بن عمرو :

ضربنا حماة النرسيان بكسكر

غداة لقيناهم ببيض بواتر

٤٠٦

وفزنا على الأيام والحرب لاقح

بجرد حسان أو برود غرائر

وظلت فلال النرسيان وتمره

مباحا لمن بين الدبا والأصافر

أبحنا حمى قوم وكان حماهم

حراما على من رامه بالعساكر

وقال ، أيضا ، يذكر ملتقى القوم بالنمارق :

لعمرى وما عمرى علىّ بهين

لقد صبحت بالخزى أهل النمارق

نجوسهم ما بين أليس غدوة

وبين قديس فى طريق البرارق

بأيدى رجال هاجروا نحو ربهم

يجوسونهم ما بين درتا وبارق

وبين الرواة فيما تقدم من الأخبار اختلاف فى أسماء الأعاجم والأماكن ، وفى التقديم والتأخير لم أر لذكر أكثر ذلك وجها إلا ما كان منه زائدا فى الإمتاع ومحسنا انتظام الحديث.

ومما ذكروا أن عمرا ، رضي‌الله‌عنه ، تقدم به إلى أبى عبيد حين بعثه فى هذا الوجه وأوصاه بجنده ، أن قال له : إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجبرية ، وتقدم على قوم جرءوا على الشر فعلموه ، وتناسوا الخير فجهلوه ، فانظر كيف تكون! واخزن لسانك ، ولا يفشون لك سر ؛ فإن صاحب السر ما ضبطه متحصن لا يؤتى من وجه يكرهه ، وإذا ضيعه كان بمضيعة.

حديث وقعة الجسر (١)

ويقال لها : وقعة القس ، قس الناطف ، ويقال لها : المروحة.

وقد جمعت الذي أوردت هنا من الحديث عن هذه الوقعة من أحاديث متفرقة أوردها الخطيب أبو القاسم ، رحمه‌الله ، فى كتابه عن سيف بن عمر وغيره ، يزيد بعضها على بعض ومما وقع إلىّ ، أيضا ، عن أبى الحسن المدائنى فى فتوح العراق ، وحديثه أطول افتضاضا وأشد اتصالا ، وقد جعلت هذه الأحاديث كلها على اختلافها حديثا واحدا ، إلا أن يعرض فيها ما يتناقض ، فإما أن أسقط ، حينئذ ، أحد النقيضين بعد الاجتهاد فيه وفى الذي أوثر إثباته منهما ، وإما أن أذكرهما معا وأبين ذلك ، وأنسبه إلى من وقع ذكره فى حديثه ، وكثيرا ما مضى عملى فى هذا الكتاب على هذا النحو ، وعليه يستمر ، إن

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٥٤ ـ ٤٥٩) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٣٠١ ـ ٣٠٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٢٧ ـ ٢٩) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١٨٢ ـ ١٨٤).

٤٠٧

شاء الله ، قصدا للتهذيب وحرصا على الجمع بين الإمتاع والإيجاز بحول الله سبحانه.

وأفتتح بما افتتح به المدائنى هذه القصة للذى ذكرته من حسن اتصال حديثه.

قال : ولما فتح أبو عبيد ما فتح ، وهزم تلك الجنود ، ونزل الحيرة ، ورجعت المرازبة إلى يزدجرد منهزمين ، شمتهم ، وأقصاهم ، ودعا بهمن ذا الحاجب فعقد له على اثنى عشر ألفا ، وقال له : قدم هؤلاء الذين انهزموا ، فإن انهزموا فاضرب أعناقهم ، ودفع إليه درفش كايبان ، راية كانت لكسرى فكانوا يتيمنون بها ، وكانت من جلود النمور ، عرضها ثمانية أذرع فى طول اثنى عشر ذراعا ، وأعطاه سلاحا كثيرا ، وحمل معه من أداة القتال وآله الحرب أوقارا من الإبل ، ودفع إليه الفيل الأبيض ، فخرج فى عدة لم ير مثلها.

وفى كتاب سيف أن رستم هو صاحب ذلك ، وأنه الذي رجع إليه الجالينوس ومن أفلت من جنده بناء على ما قدمنا من الاختلاف فى ملك فارس إلى من كان حينئذ. قال : فقال رستم : أى العجم أشد على العرب فيما ترون؟ قالوا : بهمن جاذويه ، وهو ذو الحاجب ، فوجهه ومعه الفيلة ، ورد جالينوس معه. وذكر بعض ما تقدم.

وبلغ المسلمون مسيرهم ، فقال المثنى لأبى عبيد : إنك لم تلق مثل هذا الجمع ولا مثل هذه العدة ، ولمثل ما أتوك به روعة لا تثبت لها القلوب ، فارتحل من منزلك هذا حتى نعبر الفرات ونقطع الجسر وتصير الفرات بينك وبينهم فتراهم ، فإن عبروا إليك قاتلتهم ، واستعنت الله ، قال : إنى لأرى هذا وهنا ، ثم أخذ برأى المثنى فعبر الفرات ونزل المروحة وقطع الجسر ، وأقبل بهمن فنزل قس الناطف ، بينه وبين أبى عبيد الفرات ، وأرسل إلى أبى عبيد : إما أن تعبر إلينا ، وإما أن نعبر إليك. فقال أبو عبيد : نعبر إليكم. فقال المثنى أذكرك الله والإسلام أن لا تعبر إليهم ، فحلف ليعبرن إليهم ، ودعا ابن صلوبا فعقد له الجسر فقال سليط بن قيس الأنصاري : يا أبا عبيد أذكرك الله أن لا تركت للمسلمين مجالا ، فإن العرب من شأنها أن تفر ثم تكر ، فاقطع هذا الجسر وتحول عن منزلك وانزل أدنى منزل من البر وتكتب إلى أمير المؤمنين فتعلمه ما قد أجلبوا به علينا ، ونقيم فإذا كثر عددنا وجاء مددنا رجعنا إليهم وبنا قوة ، وأرجو أن يظهرنا الله عليهم. قال : جبنت والله يا سليط. قال : والله إنى لأشد منك بأسا ، وأشجع منك قلبا ، ثم تقدم فعبر ، فقال المثنى لأبى عبيد : والله ما جبن ، ولكن أشار بالرأى ، وأنا أعلم بقتال هؤلاء منك ، لئن عبرت إليهم فى ضيق هذا المطرد ليجزرن المسلمين هذا العدو. وقال : والله لأعبرن إليهم ، وكان رسول بهمن قد قال : إن أهل فارس قد عيروهم ، يعنى المسلمين ، بالجبن

٤٠٨

عن العبور إليهم ، فازداد أبو عبيد محكا ، فقال المثنى للناس : اجعلوا جبنها بى ولا تعبروا فقالوا : كيف نصنع وقد عبر أميرنا وسليط فى الأنصار وعبر الناس فقال المثنى : إنى لأرى ما تصنعون ولو لا أن خذلانكم يقبح ولا أراه يحل ما صحبتكم ، ثم عبر ، فالتقى الناس فى موضع ضيق المطرد.

قال : وكانت دومة امرأة أبى عبيد رأت وهى بالطائف كأن رجلا نزل من السماء معه إناء فيه شراب ، فشرب منه أبو عبيد ورجال من أهل بيته يأتى ذكرهم ، فقصتها على أبى عبيد ، فقال : هذه الشهادة إن شاء الله.

فلما التقوا قال أبو عبيد : إن قتلت فأميركم عبد الله بن مسعود بن عمرو ، يعنى أخاه ، فإن قتل فأميركم جبر بن أبى عبيد ، يعنى ولده ، فإن قتل فأميركم حبيب بن ربيعة ابن عمرو بن عمير ، فإن قتل فأميركم أبو الحكم بن حبيب بن ربيعة بن عمرو بن عمير ، فإن قتل فأميركم أبو قيس بن حبيب ، وهؤلاء الإخوة الثلاثة بنو عمه ، حتى عدّ كل من شرب الإناء ، ثم قال : فإن قتل فأميركم المثنى بن حارثة ، وسير على ميمنته سليط بن قيس ، وعلى ميسرته المثنى.

وقدم ذو الحاجب جالينوس معه الفيل الأبيض وراية كسرى وقد أطافت به حماة المشركين ، معلمين أمامهم رجال يمشون على العمد ، فكانت بين الناس مشاولة ، يخرج العشرة والعشرون فيقتتلون مليا من النهار ، ثم حمل المشركون على المسلمين فنضحوهم بالنبل ، وجثت رجالهم فاستقبلوا بالرماح ، ولم يقدروا من المسلمين على شيء فانصرفوا عنهم ، ثم حملوا عليهم الثانية ففعلوا مثلها ، ثم انصرفوا ، وحملوا عليهم الثالثة فصبروا ، فلما رأوا أنهم لا يقدرون على ما يريدون من المسلمين جاءوا بالنشاب فوضعوه كأنه آكام وتفرقوا ثلاث فرق ، فقصدت فرقة لأبى عبيد فى القلب ، وفرقة لسليط فى الميمنة ، وفرقة للمثنى فى الميسرة ، ثم صاروا كراديس ، فجعل الكردوس يمر بهم معرضا بالمسلمين ويرميهم حتى كثرت الجراحات فيهم ، وعضلت الأرض بأهلها.

وأقبلت الفيلة عليها النخل ، والخيول عليها التجافيف ، والفرسان عليهم الشعر ، فلما نظرت إلى ذلك خيول المسلمين رأت شيئا منكرا لم تكن ترى مثله ، فجعل المسلمون إذا حملوا عليهم لم تقدم خيولهم ، وإذا حملوا على المسلمين بالفيلة والجلاجل فرقت بين كراديسهم ، لا تقوى لهم الخيل إلا على نفار ، وخزقهم الفرس بالنشاب ، وعض المسلمين الألم ، وجعلوا لا يصلون إليهم ، فنادى سليط بن قيس : يا أبا عبيد أرأيى أم رأيك أما

٤٠٩

والله لتعلمن أنك قد أضررت برأيك نفسك والمسلمين ، ثم قال : يا معشر المسلمين علام نستهدف لهؤلاء المشركين من أراد الجنة فليحمل معى ، فحمل فى جماعة أكثرهم من الأنصار ، فقتل وقتلوا ، وترجل أبو عبيد وترجل الناس ومشوا إليهم ، فتكافحوا وصافحوهم بالسيوف وحمى البأس حتى كثرت القتلى من الطائفتين جميعا ، وجعلت الفيلة لا تحمل على جماعة إلا دفعتهم ، فنادى أبو عبيد : احتوشوا الفيلة فقطعوا بطنها واقلبوا عنها أهلها ؛ وواثب هو الفيل الأبيض ، فتعلق ببطانه فقطعه ، ووقع الذين عليه ، وفعل القوم مثل ذلك ؛ فما تركوا فيلا إلا حطوا رحله وقتلوا أصحابه ، وقال أبو عبيد : ما لهذه الدابة من مقتل؟ قالوا : بلى ، مشفرها إن قطع ، فضرب مشفره فقطعه وبرك عليه فاستدبره أبو محجن فضرب عرقوبيه فاستدار وسقط لجنبه ، وتعاور أبا عبيد المشركون فقتلوه ، وقيل : بل اتقاه الفيل بيده لم نفح مشفره بالسيف فأصابه بيده فوقع فخبطه الفيل وقام عليه.

فلما بصر الناس بأبى عبيد تحت الفيل خشعت أنفس بعضهم ، وأخذ اللواء الذي كان أمره من بعده فقاتل الفيل حتى تنحى عن أبى عبيد فاجتره إلى المسلمين وأخذوا شلوه ، ثم تجر ثم الفيل فاتقاه الفيل بيده دأب أبى عبيد ، وخبطه الفيل ، وقام عليه ، وتتابع أمراء أبى عبيد الذين عهد إليهم بأخذ اللواء ، فيقاتل حتى يموت ، وصبر الناس حتى قتلوا ، وصارت الراية إلى المثنى بن حارثة ، فجاش بها ساعة ثم انهزم الناس وركبهم المشركون واقتطعوا زر بن خطم أو ابن حصن بن جوين الطائى فجماعة من المسلمين ، فنادى زر : يا معشر المسلمين ، أنا زر ، إنه ليس بعار أن يقتل الرجل وهو مقبل على عدوه معه سيف يضرب به سبالهم وأنفهم ، وإنما العار أن يقتل الرجل وهو غير مقبل على عدوه ، فاثبتوا فرب قوم قد فروا ثم كروا ففتح الله عليهم ، فثاب إليه ناس من أهل الحفاظ حتى صاروا نحوا من ثلاثمائة ، وأحاط بهم المشركون حتى خافوا الهلاك ، ونظر إليهم المثنى بن حارثة ، فقال لناس من بكر بن وائل : أى إخوانكم قد أحسنوا القتال وصبروا لعدوهم ، فإن أمسكتم عنهم هلكوا ، وإن كررتم رجوت أن تفرجوا عنهم وأن يكشف الله لهم السبيل إلى الجسر ، فحمل على المشركين فى سبعين من بكر بن وائل أصحاب خيل مقدحة ، كان يعدها للطلب والغارة فى بلاد العدو فقاتلهم حتى ارتفع عنهم المشركون وانضموا إلى إخوانهم من المسلمين.

ونظر عروة بن زيد الخيل وقد أحيط به وهو فى عشرين فرسا ، إلى خيل المسلمين تطارد المشركين فقال لمن معه : أرى فى المسلمين بقية ، فاحملوا على من بيننا وبين

٤١٠

أصحابنا ، فحملوا وأفرجوا لهم حتى وصلوا إلى المسلمين ، وكان عروة يومئذ على فرس كميت أغر الذنوب ، فأبلى أحسن بلاء ، كان يشد عليه المنسر من مناسر العجم وهو وحده فإذا غشوه كر عليهم فيتصدعون حتى عرف مكانه ، وتعجب الناس يومئذ من عروة لما رأوا من بلائه ، فقال المثنى : إن البأس ليس له بمستنكر ، ومضى الناس نحو الجسر ، وحماهم المثنى وعروة بن زيد الخيل والكلح الضبى وعاصم بن عمرو الأسدي وعامر بن الصلت السلمى ونادى المثنى : أيها الناس ، أنا دونكم فاعبروا على هيئتكم ولا تدهشوا فإنا لن نزول حتى نراكم من ذلك الجانب ، ولا تفرقوا أنفسكم. فانتهى الناس إلى الجسر وقد سبق إليه عبد الله بن مرثد الثقفى أو غيره فقطعه وقال : قاتلوا عن دينكم ، فخشع الناس واقتحموا الفرات فغرق من لم يصبروا ، وأسرع المشركون فيمن صبروا ، وأتاهم المثنى بن حارثة فأمر بالسفينة التي قطعت فوصلت بالجسر وعبر الناس ، وقال المثنى للرجل الذي قطع الجسر : ما حملك على ما صنعت؟ قال : أردت أن يصبر الناس ، ويقال إن سليط بن قيس كان من آخر من قتل عند الجسر.

وأصيب يومئذ من المسلمين ألف وثمانمائة منهم ثلاثمائة من ثقيف فيهم ثمانون خاضبا ، واستحر القتل يومئذ ببنى عوف بن عقدة رهط أبى عبيد فابيد منهم : أبو عبيد وأمراؤه الذين أمر ، وغيرهم. ويقال : قتل يومئذ معه اثنان وعشرون رجلا ممن هاجر ، وقتل من المشركين ألفان.

وقتل أكثر من ذلك فيما ذكره سيف ، قال : خبط الفيل أبا عبيد ، وقد أسرعت السيوف فى أهل فارس ، وأصيب منهم ستة آلاف فى المعركة ، ولم يبق إلا الهزيمة ، فلما خبط أبو عبيد ، وقام عليه الفيل جال المسلمون جولة ، ثم تموا عليها ، وركبهم أهل فارس.

وقال عثمان النهدى : هلك يومئذ ، يعنى من المسلمين ، أربعة آلاف بين قتيل وغريق ، وهرب ألفان ، وبقى ثلاثة آلاف.

ولما فرغ الناس بالعبور عبر المثنى وحمى جانبه ، واضطرب عسكره ورماهم ذو الحاجب فلم يقدر عليهم ، وقطع المسلمون الجسر بعد عبورهم ، فعبره المشركون.

قالوا (١) : وخرج جابان ، ومردانشاه فى ألف من الأساورة منتخبين ليسبقوا المسلمين إلى الطريق ، وبلغ ذلك المثنى ، فاستخلف على الناس عاصم بن عمرو ، وخرج يريدهما

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٥٨ ، ٤٥٩).

٤١١

فى جريدة خيل ، فاعترضاه يظنانه هاربا ، فأخذهما أسيرين فضرب أعناقهما ، وقال : أنتما كذبتما أميرنا واستفززتماه.

وخرج أهل أليس على أصحابها ، فأخذوهم فجاءوا بهم إلى المثنى ، فضرب أعناقهم ، وعقد بذلك لأهل أليس ذمة ثم رجع إلى عسكره.

وقيل : بل لقيهم المثنى فقتل مردانشاه فى المعركة وأسر جابان فضرب المثنى رقبته ، وقد تقدم فى ذكر ملتقى أبى عبيد بجابان بين الحيرة والقادسية أن أكتل بن شماخ العكلى أسر مردانشاه ثم ضرب عنقه ، وأسر مطر بن فضة جابان فخدعه وافتدى منه ، وأحد الأمرين هو الصحيح فى قتل مردانشاه ، فالله أعلم.

وانهزم المشركون ، ومضى المثنى إلى أليس ، وتفرق بنو تميم إلى بواديهم ، ومضى أهل المدينة وأسد غطفان فنزلوا الثعلبية. وكان لعروة بن زيد الخيل من حسن الغناء فى يوم الجسر ما تقدم ذكره ، فقال له المثنى : يا عروة ، أما والله لو أن معى مثلك ألف فارس من العرب ما تهيبت أن أصبح ابن كسرى فى مدائنه وما كنت أكره أن ألقى مثل هذا الجمع الذي فل المسلمين مصحرا ولرجوت أن يظفرنى الله بهم ، فهل لك فى المقام معى لا أوثر عليك نفسى ولا أحدا من قومى؟ قال : لا ، إنى كنت مع هذا الرجل ، يعنى أبا عبيد ، وقد أصيب ، فأرجع إلى عمر فيرى رأيه.

فلما نزل الناس التعلبية سألوا عروة أن يأتى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، بكتابهم ، فكتبوا إليه : إنا لقينا عدو الإسلام من أهل فارس بمكان يقال له قس الناطف فقتل أميرنا أبو عبيد وأمراء أمرهم أبو عبيد ، وسليط بن قيس ورجال من المسلمين منهم من تعرف ، ومنهم من تنكر ، وتولى أمر الناس المثنى بن حارثة أخو بنى شيبان فحماهم فى فوارس ، جزاهم الله عن الإسلام خيرا ، فكتبنا إليك وقد نزلنا الثعلبية فرارا من الزحف لا نرى إلا إنّا قد هلكنا ، وقد بعثنا إليك فارس المسلمين عروة يخبرك عنا ويأتينا بأمرك.

فلما قرأ عمر الكتاب فانتهى إلى قوله : منهم من تعرف ومنهم من تنكر بكى وقال : ما ضر قوما عرفهم الله أن ينكرهم عمر ، لكن الله لا يخفى عليه من عباده المحسنون ، يا عروة ارجع إليهم فأعلمهم أنهم ليسوا بفرار ، وإنما انحازوا إلىّ ، وأنا لهم فئة ، وسيفتح الله عليهم تلك البلاد إن شاء الله ، يرحم الله أبا عبيد لو انحاز إلينا واعتصم بالحيف لكنا له فئة.

٤١٢

وكتب عمر مع عروة إلى المثنى بن حارثة : أما بعد ، فإن الله كتب القتل على قوم فلم يكن مماتهم ليكون إلا قتلا ، وكتب على قوم الموت فهم يموتون موتا ، فطوبى لمن قتل فى سبيل الله محتسبا نفسه صابرا ، وقد بلغنى عنك ما كنت أحب أن تكون عليه ، فالزم مكانك الذي أنت به ، وادع من حولك من العرب ، ولا تعجل إلى قتال إلا أن تقاتل ، أو ترى فرصة حتى تأتيك أمداد المسلمين ، وكأن قد أتتك على الصعبة والذلول.

فقدم عروة بن زيد على المثنى بكتاب عمر ، ورجع أهل الحجاز وأسد وغطفان إلى بلادهم ، وأقام المثنى حتى قدمت الأمداد.

ويقال : إن أول خبر تحدث به عن أهل الجسر بالمدينة أن رجلا قدمها من الطائف فجلس إلى حذاء فقال : ما لى لا أسمع أهل المدينة يبكون قتلاهم؟ فقال له الحذاء : ومن قتل؟ قال :

قتل أبو عبيد بن مسعود ، وسليط بن قيس ، فأخذ الحذاء بتلابيبه حتى أتى به عمر فأخبره بما قال ، فقال له عمر : ما تقول ويلك! قال : يا أمير المؤمنين إنّا منذ ليال بفناء من أفنية الطائف إذ سمعنا أصوات نساء من ناحية باب شهار يقلن : يا أبا عبيداه ، ويا سليطاه ، وسمعنا قائلا يقول :

إن بالجسر فتية سعداء

صبرا صادقين يوم اللقاء

كم تقى مجاهد كان فيهم

خاشع القلب مستجاب الدعاء

يجأر الليل كله بعويل

ونجيب وزفرة وبكاء

قال : فما انقضى حديثه حتى قدم عبد الله بن زيد الخطمى ، وكان أول من قدم بخبر الجسر ممن شهده فمر بباب حجر عائشة ، ويقال : أتى عمر وهو على المنبر فلما دخل المسجد ورآه عمر قال : ما عندك يا ابن زيد؟ قال : أتاك الخبر يا أمير المؤمنين ، ثم صعد إليه فأخبره ، فقالت عائشة : ما رأينا رجلا حضر أمرا فحدث عنه كان أثبت حديثا من عبد الله بن زيد ولا أخفى فزعا.

ولما قدم أهل المدينة المدينة وأخبروا عمن سار منهم إلى البادية استحياء من الهزيمة ، اشتد ذلك على عمر ، رحمه‌الله ، فرق للناس ورحمهم ، وقال : اللهم إن كل مسلم فى حل منى ، أنا فئة كل مسلم ، من لقى العدو ففزع بشيء من أمره فأنا له فئة ؛ يرحم الله أبا عبيد ، لو كان انحاز إلىّ لكنت له فئة.

وكان معاذ القارئ ممن شهدها وفر يومئذ ، وكان يصلى بالناس فى شهر رمضان على

٤١٣

عهد عمر ، فكان بعد إذا قرأ : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) [الأنفال : ١٦] ، خنقته العبرة وبكى ، فكان عمر يقول : أنا لكم فئة.

وكان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، قد رأى فى النوم أن أبا عبيد وأصحابه انتهوا إلى ضرس من الحيرة فتحيروا ولم يجدوا مخرجا ، فرجعوا فلم يجدوا طريقا ، فرفعوا إلى السماء ، فقال عمر : هذه شهادة ، فليت شعرى ما فعل عدوهم؟ فكان يتوقع الخبر حتى قدم عبد الله بن زيد الخطمى فأخبره ، فبكى وقال : ما وجهت أحدا وجها أكره إلىّ من الوجه الذي توجه إليه أبو عبيد.

وقال أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عبيد يرثى أبا عبيد ومن أصيب معه ، وهو ابن عم أبى عبيد وأخو بنى حبيب الثلاثة المقتولين معه من أمرائه :

أنى تهدت نحونا أم يوسف

ومن دون مسراها فياف مجاهل

إلى فتية بالطف نيلت سراتهم

وغرى أفراس بها ورواحل

وأضحى بنو عمرو لدى الجسر منهم

إلى جانب الأبيات حزم ونابل

وأضحى أبو جبر خلا ببيوته

بما كان تعدوه الضعاف الأرامل

ألا قد علت قلب الهموم الشواغل

وراجعت النفس الأمور القواتل

سيعلم أهل الغىّ كيف عزيمتى

ويعلم ودادى الذين أواكل

غناى وأخذى بالذى أنا أهله

إذا نزلت بى المعضلات العضائل

فما رمت حتى خرقوا برماحهم

ثيابى وجادت بالدماء الأباجل

وما رمت حتى كنت آخر راجع

وصرع حولى الصالحون الأماثل

وقد غادرونى فى مكر جيادهم

كأنى غادتنى من الراح شامل

وأمسى على سيفى نزيف ومهرتى

لدى الفيل تدمى نحرها والشواكل

فما لمت نفسى فيهم غير أنها

إلى أجل لم يأتها وهو عاجل

مررت على الأنصار وسط رحالهم

فقلت لهم هل منكم اليوم قافل

ألا لعن الله الذين يسرهم

رداى وما يدرون ما الله فاعل

وقال أبو محجن أيضا :

يا عين جودى على جبر ووالده

إذا تحطمت الرايات والحلق

يوم بيوم أتى جبر وإخوته

والنفس نفسان منها الهول والشفق

٤١٤

يا خل سل المنايا ما تركن لنا

عزا ننوء به ما هدهد الورق

وقال حسان بن ثابت يرثى سليط بن قيس ومن أصيب من قومه :

لقد عظمت فينا الرزية أننا

جلاد على ريب الحوادث والدهر

لدى الجسر يوم الجسر لهفى عليهم

غداة إذا ما قد لقينا على الجسر

يقول رجال ما لحسان باكيا

وحق لى التبكاء بالنحب والغزر

أبعد أبى قيس سليط تلومنى

سفاها أبى الأيتام فى العسر واليسر

فقل للألى أمسوا أسروا شماتة

به كنتم يوم النزال على بدر

وقالت امرأة من ثقيف :

أضحت منازل آل عمرو قفرة

بعد الجزيل ونائل مبذول

وكأنما كانوا لموقف ساعة

قردا زفته الريح كل سبيل

حديث البويب ووقعة مهران (١)

ولما بلغ عمر ، رضي‌الله‌عنه ، أمر الجسر ، وأتاه كتاب المسلمين بالخبر استخلف على المدينة على بن أبى طالب وخرج فنزل بصرار يريد أرض فارس ، وقدم طلحة بن عبيد الله فنزل الأعوص ، فدخل عليه العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف فأشاروا عليه بالمقام ، وقالوا : شاور الناس ، فكتب إلى على وطلحة فقدما عليه ، فجمع الناس فقال : إنى نزلت منزلى هذا وأنا أريد العراق فصرفنى عن ذلك قوم من ذوى الرأى منكم ، وقد أحضرت هذا الأمر من خلفت ومن قدمت ، فأشيروا علىّ ، فقال على بن أبى طالب ، رضي‌الله‌عنه ، أرى أن ترجع إلى المدينة وتكتب إلى من هناك من المسلمين أن يدعوا من حولهم ويحذروا على أنفسهم ، وقد قدم قوم من العرب يريدون الهجرة فوجههم إليهم فتكون دار هجرة حتى إذا كثروا وليت أمرهم رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أهل السابقة والقدم فى الإسلام ، فانصرف عمر إلى المدينة وكتب إلى المثنى بأن يدعو من حوله ولا يقاتل أحدا حتى يأتيه المدد ، وقدم من الأسد وبارق وغامد وكنانة سبعمائة أهل بيت ، فقال لهم عمر : أين تريدون؟ فقالوا : سلفنا بالشام. قال : أو غير ذلك ، أرضا تبتذونها إن شاء الله ويغنمكم الله كنوزها ، أخوار فارس. فقال مخنف بن سليم الغامدى : مرنا بأحب الوجهين إليك. قال : العراق. قال :

__________________

(١) انظر : فتوح البلدان للبلاذرى (ص ٣١٠ ـ ٣١٢) ، الكامل فى التاريخ لابن الأثير (٢ / ٣٠٣ ـ ٣٠٦) ، الطبرى (٣ / ٤٦٠ ـ ٤٧٢) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٢٩ ، ٣٠).

٤١٥

فامضوا على بركة الله ، فأمر عمر على الأزد رجلا منهم ، وعلى كنانة غالب بن عبد الله الليثى فشخصوا إلى أرض الكوفة ، فقدموا على المثنى بن حارثة ، فأقبل بهم حتى نزلوا العذيب.

وفيما ذكره سيف (١) أن الأزد وكنانة لما سألوا الشام قال لهم عمر : ذلك وجه قد كفيتموه ، العراق العراق اذروا بلدة قد فل الله شوكتها وعدوها ، واستقبلوا جهاد قوم قد حووا فنون العيش ، لعل الله أن يرث بكم قسطكم من ذلك فتعيشوا مع من عاش من الناس ، فقال غالب الليثى وعرفطة البارقى ، كل واحد منهما لقومه : يا عشيرتاه أجيبوا أمير المؤمنين إلى ما أراد ، فقال كل فريق لصاحبهم : إنا قد أطعناك وأجبنا أمير المؤمنين إلى ما أراد ، فدعا لهم عمر بخير ، وأمر على كنانة غالبا وسرحه فيهم ، وأمر على الأزد عرفجة بن هرثمة البارقى وعامتهم من بارق ، وفرحوا برجوع عرفجة إليهم. فخرج هذا فى قومه وهذا فى قومه حتى قدما على المثنى ، وكان عرفجة هذا حليفا فى بجيلة لأمر عرض له فى قومه أخرجه عنهم ، ومن قدمته هذه رجع إلى قومه ونسبه حسب ما يذكر بعد إن شاء الله تعالى.

وقدم بعدهم أربعمائة أهل بيت من كندة والسكون ، فيهم الأشعث بن قيس ومعاوية بن حديج وشرحبيل بن السمط ، فقالوا : يا أمير المؤمنين قدمنا نريد سلفنا بالشام ، فنظر إليهم وعليهم الحلل فأعرض عنهم ، فكلموه ، أيضا ، فلم يأمرهم بشيء ، فقيل له : ما يمنعك؟ قال : إنى لمتردد فيهم منقبض عنهم ، لا ينزل هؤلاء بلدا إلا فتنوا أهله ، وما قدم أحد المدينة أكره إلىّ منهم ، فأمضى نصفهم إلى الشام ، عليهم معاوية بن حديج ، ونصفهم إلى العراق عليهم شرحبيل بن السمط.

وقدم من مذحج المدينة ألف بيت فيهم ثلاثمائة أهل بيت من النخع ، فقال عمر : سيروا إلى أرض فارس ، قالوا : لا ، ولكنا نسير إلى الشام ، فقال يزيد بن كعب النخعي : أنا أخرج فيمن أطاعنى ، فخرج فى ثلاثمائة أهل بيت من النخع ، وقال هند الجملى : أنا أخرج فيمن أطاعنى ، فخرج فى خمسمائة أهل بيت من مراد ، فكان عمر يقول بعد ذلك: سيد أهل الكوفة سمى المرأة هند الجملى.

ثم قدم المدينة أهل ألف بيت من همدان ، فقالوا لعمر : خر لنا. قال : أرض العراق.

قالوا : بل الشام ، قال : بل العراق ، فصرفوا ركابهم إلى العراق.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٦٣).

٤١٦

وقد كانت قدمت بجيلة فيهم جرير بن عبد الله ، وسيدهم عرفجة بن هرثمة البارقى ، حليف لهم ، فقال عمر : اخرجوا إلى العراق ، وأمر عليهم عرفجة ، فقال جرير لبجيلة : أخبروا عمر أنه ولى عليكم رجلا ليس منكم ، وكانت بجيلة قد غضبت على عرفجة فى أمر عرض بينهم وبينه ، فكلموا عمر فى ذلك واستعفوه منه ، فقال : لا أعفيكم من أقدمكم هجرة وإسلاما ، وأعظمكم بلاء وإحسانا ، فلما أعلموه أنه ليس منهم ، قال لعرفجة : إن هؤلاء استعفونى منك ، وزعموا أنك لست منهم ، فما عندك؟ قال : صدقوا ، لست منهم وما يسرنى أننى منهم ، أنا امرؤ من الأزد من بارق فى كثف لا يحصى عدده ، وحسب غير مؤتشب. فقال عمر : نعم الحى الأزد ، يأخذون نصيبهم من الخير والشر.

وقال عرفجة : إنه كان من شأنى أن الشر تفاقم فينا ، ودارنا واحدة ، وأصبنا الدماء ، ووتر بعضنا بعضا فاعتزلتهم لما خفتهم ، فكنت فى هؤلاء أسودهم وأقودهم ، فحفظوا علىّ لأمر دار بينى وبين دهاقنتهم ، فحسدونى وكفرونى ، فقال : لا يضرك فاعتزلهم إذ كرهوك.

وقيل : إن عمر قال : اثبت على منزلتك ودافعهم ، قال : لست فاعلا ، ولا سائرا ، فأمر عليهم جرير بن عبد الله ، وقيل : إن جريرا كان إليه من بجيلة بعضها ، فجمعها إليه عمر ، وقال له جرير : يا أمير المؤمنين إن قومى متفرقون فى العرب ، فأخرجهم وأنا أغزو بهم أرض فارس ، وكانوا متفرقين فى هوزان وغطفان وتميم وفى أزد شنوءة والطائف وجرش ، فكتب عمر إلى القبائل التي فيها بجيلة : أى نسب تواصل عليه الناس قبل الإسلام فهو النسب ليس لأحد أن يدعه ، وليس له أن ينتقل إلى غير ما كان يعرف به ، فمن كان من بجيلة لم ينتسب إلى غيرهم حتى جاء الإسلام فلا تحولوا بينهم وبين الرجوع إلى قومهم ، فخرج قيس كبة وشحمة وعرينة من هوازن وغيرها من القبائل ، وخرج العتيل والفتيان من بنى الحارث وخرج على وذبيان من الأزد بالسراة ، ولما أعطى عمر ، رضي‌الله‌عنه ، جريرا حاجته فى استخراج بجيلة من الناس فأخرجهم ، أمرهم بالموعد بين مكة والمدينة ، ولما تتاموا قال لجرير : اخرج حتى تلحق بالمثنى ، فكره ذلك جرير ومال إلى الشام ، فقال له عمر : قد علمتم ما لقى إخوانكم بأرض فارس ، فاخرجوا فإنى أرجو أن يورثكم الله أرضهم وديارهم ، ولك الربع من كل شيء بعد الخمس ، وقيل : بل جعل له ولقومه ربع الخمس مما أفاء الله عليه فى غزاتهم هذه ، له ولمن اجتمع إليه ومن أخرج له من القبائل ، استصلحهم عمر ، رضي‌الله‌عنه ، بذلك ، إذ كان هواهم

٤١٧

الشام ، فأبى هو عليهم إلا العراق ، وقال لهم : اتخذونا طريقا ، فقدموا المدينة وهم أربعة آلاف ، وقيل : ألفان ، ثم فصلوا منها إلى العراق ممدين للمثنى ، فقال عمر : لو ضممت إلى هؤلاء من الجبين من ابنى نزار ، يعنى تميما وبكرا فوجه معهم قوما منهم ، ثم تتابعت الأمداد.

وكان أول من نزل العذيب بالعيال من قبائل اليمن والحجاز الأزد ثم حضرموت وكندة ثم النخع ومراد ثم همدان ثم بجيلة ، ثم جاءت قبائل الحجاز وأهل البوادى من تميم وبكر ، وجاءت طيئ عليها عدى بن حاتم ، وجاءت أسد ، وجاءت قيس عليهم عبد الله بن المعتم العبسى ، وجاءت الرباب وعلى تيم وعدى هلال بن علفة ، وعلى ضبة المنذر بن حسان ، وجاءت حنظلة وعمرو ، وطوائف من سعد ، وجاءت النمر بن قاسط عليهم أنس بن هلال بن عقة ، وبعث عمر أيضا ، عصمة بن عبد الله الضبى فيمن تبعه من بنى ضبة ، وكان قد كتب إلى أهل الردة يأذن لهم فى الجهاد ويستنفرهم إليه ، فلم يوافقه أحد منهم إلا رمى به المثنى.

وذكر المدائنى أن يزدجرد وجه مهران بعد وقعة الجسر وأمره أن يبث المسالح إلى أدانى أرض العرب ، ويقتل كل عربى قدر عليه.

وفيما ذكره الطبرى عن سيف أن رستم والفيرزان هما اللذان رأيا إنفاذ مهران بعد أن طالعا برأيهما فى ذلك بوران ابنة كسرى ، وذلك عند ما علما بتوافى أمداد العرب إلى المثنى ، فخرج مهران فى الخيول وجاء يريد الحيرة ، وبلغ المثنى الخبر وهو معسكر بمرج السباخ ، ما بين القادسية وخفان ، فاستبطن فرات بادقلى ، وأرسل إلى جرير ومن معه : أنه جاءنا أمر لن نستطيع معه المقام حتى تقدموا علينا ، فعجلوا اللحاق بنا ، وموعدكم البويب.

وكتب إلى عصمة وإلى كل قائد أظله بمثل ذلك ، وقال : خذوا على الجوف ، فسلكوا القادسية وسلك المثنى وسط السواد ، فطلع على النهرين ثم على الخورنق ، وطلع عصمة ومن سلك معه طريقه على النجف ، وطلع جرير ومن سلك معه على الجوف ، فانتهوا إلى المثنى وهو البويب ، ومهران من وراء الفرات بإزائه ، فاجتمع عسكر المسلمين على البويب مما يلى موضع الكوفة اليوم ، وعليهم المثنى ، وهم بإزاء مهران وعسكره ، فقال المثنى لرجل من أهل السواد : ما يقال لهذه الرقعة التي فيها مهران وعسكره؟ فقال : بسوسا ، فقال : أكدى مهران وهلك ، ونزل منزلا هو البسوس ، وأقام بمكانه حتى كاتبه

٤١٨

مهران : إما أن تعبروا إلينا ، وإما أن نعبر إليكم ، فقال المثنى : اعبروا فعبر مهران ، فنزل على شاطئ الفرات معهم فى الملطاط ، فقال المثنى لذلك السوادى : ما يقال لهذه الرقعة التي نزلها مهران وعسكره؟ فقال : شوميا ، وذلك فى رمضان ، فنادى المثنى فى الناس :انهدوا لعدوكم ، فتناهدوا ، ومهران فى ثلاثة عشر ألفا معه ثلاثة فيلة ، فقدموا فيلتهم واستعدوا للحرب ، فأقبلوا إلى المسلمين فى ثلاثة صفوف ، مع كل صف فيل ، ورجلهم أما فيلهم ، وجاءوا ولهم زجل. فقال المثنى للمسلمين : إن الذي تسمعون فشل ، فالزموا الصمت وائتمروا همسا ، والمسلمون أربعة آلاف ، ألفان وثمانمائة من اليمن ، وألف ومائتان من سائر الناس ، ويقال : كانوا ستة آلاف ، وألف ومائتان من تميم وقيس وبكر ، وسائرهم من اليمن.

وتنازع جرير والمثنى الإمارة يومئذ ، فقال له المثنى : إنما بعثك أمير المؤمنين مددا لى ، وقال جرير : بل استعملنى ، فقيل : صار الأمر بينهما إلى ما قال المثنى ، فكان هو الأمير ، وقيل : صار جرير أميرا على من قدم معه والمثنى أميرا على من قدم قبل ذلك ، ومن قال هذا زعم أن المثنى قال لجرير عند ما نهدوا للعدو : خلنى وتعبئة الناس ، ففعل جرير وعبأ المثنى الجيش فصير مضر وربيعة فى القلب ، وصير اليمن ميمنة ، وميسرة ، وقال المثنى : يا معشر المسلمين ، إنى قد قاتلت العرب والعجم ، فمائة من العرب كانوا أشد علىّ من ألف من العجم ، ويقال : إنه قال لهم : قاتلت العرب والعجم فى الجاهلية والإسلام والله لمائة من العجم فى الجاهلية كانوا أشد علىّ من ألف من العرب ، ولمائة من العرب اليوم أشد علىّ من ألف من العجم ، إن الله قد أذهب مصدوقتهم ، ووهن كيدهم ، فلا يهولنكم سوادهم ، إن للعجم قسيّا لجا ، وسهاما طوالا هى أغنى سلاحهم عندهم فلو قد لقوكم رموكم بها ، وإذا أعجلوا عنها أو فقدوها ، فهم كالبهائم أينما وجهتموها توجهت ، فتترسوا والزموا مصافكم واصبروا لشدة أو شدتين ، ثم أنتم الظاهرون إن شاء الله تعالى.

وركب يومئذ فرسا ذنوبا أدهم يدعى الشموس للين عريكته وطهارته ، وكان لا يركبه إلا لقتال ويدعه ما لم يكن قتال ، ومر على الرايات يحض القبائل ، فقال له شرحبيل بن السمط : ما أنصفتنا يا مثنى ، جعلت معدك وسطا وجعلتنا ميمنة وميسرة ، قال : إذا أنصفكم ، الله ما أريد لهم شيئا من الخير إلا وأنا أريد لكم مثله ، وما عهدى بمعد يدرى بالناس من البأس ، ثم صير تميما مع الأزد فى الميمنة ، وصير ربيعة مع كندة فى الميسرة ، وصفوا صفوفهم ، وقال : الزموا الصمت فإنى مكبر ثلاث تكبيرات ، فإذا

٤١٩

كبرت الثالثة فاحملوا ، فنظر إلى سعد بن عبيد الأنصاري قد نصل من الصف ، فقال : من أنت؟ قال : سعد بن عبيد ، فررت يوم الجسر من الزحف ، فأردت أن أجعل توبتى من فرتى أن أشرى نفسى لله. فقال له : إن خيرا مما تريد أن تقف مع المسلمين فتناضل عن دينك.

وقال جرير : يا معشر بجيلة ، إن لكم فى هذه البلاد إن فتحها الله لكم حظا ليس لغيركم ، فاصبروا التماس إحدى الحسنيين : الشهادة فثوابها الجنة أو النصر ففيه الغنى من العيلة ، ولا تقاتلوا رياء ولا سمعة ، بحسب امرئ من خساسته حظا أن يريد بجهاده وعدوه حمد أحد من الخلق.

ومر المثنى على الرايات راية راية يحرضهم ويهزهم بأحسن ما فيهم ، ولكلهم يقول : إنى لأرجو أن لا تؤتى العرب اليوم من قبلكم ، والله ، ما يسرنى اليوم لنفسى شيء إلا وهو يسرنى لعامتكم ، فيجيبونه بمثل ذلك ، وأنصفهم المثنى فى القول والفعل ، وخالط الناس فى المكروه والمحبوب ، فلم يستطع أحد منهم أن يعيب له قولا ولا عملا ، ووقف على أهل الميمنة فنظر إلى رجل من العنبر على فرس عتيق رائع ، فقال : يا أخا بنى العنبر ، إنك لمن قوم صدق فى اللقاء ، أما والله يا بنى تميم إنكم لميامين فى الحرب ، صبر عند البأس ، إنى لأرجو أن يعز الله بكم دينه.

وقال للأزد : اللهم صبحهم برضوانك ، وادفع عنهم عين الحاسد ، أنتم والله الأنجاد الأمجاد الحسان الوجوه ، وإنى لأرجو أن يأتى العرب اليوم منكم ما تقر به أعينهم ، ونظر إلى فوارس من قيس فى القلب فقال : نعم فتيان الصباح أنتم ، اللهم جللهم عافيتك وافرغ عليهم الصبر ، يوما كبعض أيامكم ، ونظر إلى ناس من طيئ فى القلب ، فقال : جزاكم الله خيرا ، فنعم الحى أنتم فى اللقاء وعند العطاء ، فإنه ليحضهم إذ شدت كتيبة من العجم على الميسرة وفيها بكر وكندة فصبروا لهم ، ثم شدت عليهم الثانية فانكشفت بكر وكندة ، فقال المثنى : إن الخيل تنكشف ثم تكر ، يا معشر طيئ الزموا مصافكم وأغنوا ما يليكم ، واعترض الكتيبة التي كشفتهم بخيل كانت معه فمنعهم من اتباعهم وقاتلهم ، فثارت عجاجة بينهم ورجع أهل الميسرة ، وأقبلت الميمنة نحو المثنى وقد انكشف العدو عنه ، وسيفه بيده وقد جرح جراحات وهو يقول : اللهم عليك تمام النصر ، هذا منك ، فلك الحمد ، فقال له مخنف بن سليم الغامدى : الحمد لله الذي عافاك ، فقد كنت أشفقت عليك. قال : كم من كربة قد فرجها الله ، هل منعم عليه يكافئ ربه بنعمة من نعمه!!.

٤٢٠