الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

وأيضا أظنكم والله لهم وضعتموها وأنتم لا تشعرون ، فالآن فأطيعونى وسموها ؛ فإن كانت لنا فأهون هالك ، وإن كانت علينا كنا قد صنعنا شيئا ، وأبلينا عذرا. فقالوا : لا ، إلا اقتدارا عليهم.

وجعل جابان على مجنبتيه عبد الأسود وأبجر ، وخالد على تعبئته فى الأيام التي قبلها ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، والمشركون يزيدهم كلبا وشدة ما يتوقعون من قدوم بهمن ، فصابروا المسلمين للذى كان فى علم الله أن يصيرهم إليه ، وحرب المسلمون عليهم ، وقال خالد : اللهم لك علىّ إن منحتنا أكتافهم أن لا استبقى منهم أحدا قدرنا عليه حتى أجرى نهرهم بدمائهم! ثم إن الله ، عزوجل ، كشفهم للمسلمين ، ومنحهم أكتافهم ، فأمر خالد مناديه ، فنادى فى الناس : الأسر الأسر! لا تقتلوا إلا من امتنع ، فأقبلت الخيول بهم أفواجا مستأسرين يساقون سوقا ، وقد وكل بهم رجالا يضربون أعناقهم فى النهر ، ففعل ذلك بهم يوما وليلة وطلبوهم الغد وبعد الغد ؛ حتى انتهوا إلى النهرين ، ومقدار ذلك من كل جوانب أليس. فضرب أعناقهم ، وكانت على النهر أرحاء فطحنت بالماء وهو أحمر قوت العسكر ثلاثة أيام وهم ثمانية عشر ألفا أو يزيدون.

ولما رجع المسلمون من طلبهم ، ودخلوا عسكرهم ، وقف خالد على الطعام الذي كان المشركون قدموه لغدائهم فأعجلوا عنه ، فقال للمسلمين : قد نفلتكموه فهو لكم ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتى على طعام مصنوع نفله ، فقعد الناس على ذلك لعشائهم بالليل ، وجعل من لا يرد الأرياف ولا يعرف الرقاق يقول : ما هذه الرقاع البيض! وجعل من قد عرفها يجيبهم ، ويقول لهم مازحا : هل سمعتم برقيق العيش؟ فيقولون : نعم ، فيقول : هو هذا ؛ فسمى الرقاق.

وعن خالد بن الوليد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفل الناس يوم خيبر الخبز والطبيخ والشواء وما أكلوا غير ذلك فى بطونهم غير متأثليه.

وبعث خالد بالخبر مع رجل يدعى جندلا من بنى عجل ، وكان دليلا صارما ، فقدم على أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، بالخبر ، وبفتح أليس ، وبقدر الفيء ، وبعدة السبى ، وبما حصل من الأخماس ، وبأهل البلاء من الناس ، فلما رأى أبو بكر صرامته وثبات خبره ، قال : ما اسمك؟ قال : جندل. فقال أبو بكر : ويها جندل :

نفس عصام سودت عصاما

وعلمته الكرّ والإقداما

وأمر له بجارية من السبى فولدت له.

٣٨١

وكان خالد وجنده هم جند المسلمين ، وكتيبة الإسلام ، بهم فض الله أهل فارس ورعبهم ، وما زالت بعدها مرعوبة منتشرة لم يأتوا فى وقعة بمثل ذلك الجد والصبر إلى أن فارقهم خالد إلى الشام.

وبلغت قتلاهم يوم أليس سبعين ألفا جلهم من أمغيشيا ، وفى ذلك يقول الأسود بن قطبة :

قتلنا منهم سبعين ألفا

بقية خربهم غبّ الإسار

سوى من ليس يحصى من قتيل

ومن قد غال جولان الغبار

وقال خالد بن الوليد لما افتتح الحيرة : لقد قاتلت يوم مؤتة فانقطع فى يدى تسعة أسياف ، وما لقيت قوما كقوم لقيتهم من أهل فارس ، وما لقيت من أهل فارس قوما كأهل أليس.

حديث أمغيشيا وكيف أفاءها الله بغير

قتال (١)

ولما فرغ خالد من وقعة أليس ، نهض فأتى على أمغيشيا وقد أعجلهم عما فيها ، وقد جلا أهلها ، وتفرقوا فى السواد ، فأمر خالد بهدمها وهدم كل شيء كان فى حيزها وكانت مصرا كالحيرة ؛ وكان فرات بادقلى ينتهى إليها ، وكان أليس من مسالحها ، فأصابوا فيها ما لم يصيبوا قط قبله مثله.

وبلغ سهم الفارس ألفا وخمسمائة ، سوى الأنفال التي نفلها أهل البلاء.

ولما بلغ ذلك أبا بكر قال : يا معشر قريش ، عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله ، أعجز النساء أن ينسأن بمثل خالد.

حديث يوم المقر وفم فرات بادقلى مع ما يتصل

به من حديث الحيرة (٢)

ذكر أن الآزادبه كان مرزبان الحيرة من زمان كسرى إلى ذلك اليوم ، وكانوا لا يمد

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٣٥٨ ، ٣٥٩) ، الروض المعطار (ص ٣١).

(٢) انظر : الطبرى (٣ / ٣٥٩ ـ ٣٧٣) ، الكامل لابن الأثير (٣ / ٢٦٥ ـ ٢٦٨) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١١١ ، ١١٢) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٤٧ ، ٣٤٨).

٣٨٢

بعضهم بعضا إلا بإذن الملك ، فلما أخرب خالد أمغيشيا علم أنه غير متروك ، فتهيأ لحرب خالد ، وقدم ابنه ، ثم خرج فى أثره ، فعسكر خارجا من الحيرة ، وأمر ابنه بسد الفرات.

ولما استقبل خالد من أمر أمغيشيا وحمل الرجل فى السفن مع الأثقال والأنفال ، لم يفجأ خالدا إلا والسفن جوانح فارتاعوا لذلك ، فقال الملاحون : إن أهل فارس فجروا النهار ، فسلك الماء على غير طريقه ، فلا يأتينا الماء إلا بسد الأنهار ، فتعجل خالد فى خيل نحو الآزادبه ، فلقى على فم العتيق خيلا من خيلهم ، فجأهم وهم آمنون غارته تلك الساعة ، فأنامهم بالمقر ، ثم سار من فوره ، وسبق الأخبار إلى ابن الآزادبه حتى يلقاه وجنوده بفم فرات بادقلى ، فاقتتلوا ، فأنامهم خالد ، وفجر الفرات وسد الأنهار فسلك الماء سبيله.

ثم قصد خالد للحيرة ، واستلحق أصحابه ، وسار حتى ينزل بين الخورنق والنجف ، فقدم خالد الخورنق ، وقد قطع الآزادبه الفرات هربا من غير قتال ، وإنما جرأه على الهرب أن الخبر وقع إليه بموت أردشير وبمصاب ابنه ، وكان عسكره بين الغربين والقصر الأبيض. ولما تتام أصحاب خالد إليه بالخورنق خرج منه حتى يعسكر فى موضع عسكر الآزادبه بين الغربين والقصر الأبيض ، وأهل الحيرة متحصنون ، فأدخل خالد الحيرة الخيل من عسكره ، وأمر بكل قصر رجلا من قواده يحاصر أهله ويقاتلهم ، فكان ضرار بن الأزور محاصرا للقصر الأبيض ، وفيه إياس بن قبيصة الطائى ، وكان ضرار بن الخطاب محاصرا قصر الغربين وفيه عدى بن عدى المقتول ، وكان ضرار بن مقرن المزنى ، عاشر عشرة إخوة له ، محاصرا قصر بنى مازن وفيه ابن أكال ، وكان المثنى محاصرا قصر بنى بقيلة وفيه عمرو بن عبد المسيح ، فدعوهم جميعا ، وأجلوهم يوما ، فأبى أهل الحيرة ولجوا ، فناوشهم المسلمون.

وعهد خالد إلى أمرائه أن يبدءوا بالدعاء ، فإن قبلوا قبلوا منهم ، وإن أبوا أجلوهم يوما ، وقال : لا تمكنوا عدوكم من آذانكم فيتربصوا بكم الدوائر ، ولكن ناجزوهم ولا ترددوا المسلمين عن قتال عدوهم.

فكان أول القواد أنشب القتال بعد يوم أجلوهم فيه ضرار بن الأزور ، وكان على قتال القصر الأبيض ، فأصبحوا وهم مشرفون ، فدعاهم إلى إحدى ثلاث : الإسلام ، أو الجزاء ، أو المنابذة ، فاختاروا المنابذة ، فقال ضرار : ارشقوهم ، فدنوا منهم فرشقوهم بالنبل ، فأعروا رءوس الحيطان ، ثم بثوا غارتهم فيمن يليهم ، وصبح أمير كل قوم أصحابه

٣٨٣

بمثل ذلك ، فافتتحوا الدور والديران ، وأكثروا القتل ، فنادى القسيسون والرهبان : يا أهل القصور ، ما يقتلنا غيركم. فنادى أهل القصور : يا معشر العرب ، قد قبلنا واحدة من ثلاث فدعونا وكفوا عنا حتى تبلغونا خالدا.

وكان أول من طلب الصلح عمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن الحارث وهو بقيلة ، وإنما سمى بقيلة لأنه خرج على قومه فى بردين أخضرين ، فقالوا له : يا حار ما أنت إلا بقيلة خضراء ، ثم تتابعوا على ذلك. فخرج وجوه كل قصر إلى من كان عليه من أمراء خالد ، فأرسلوهم إليه مع كل رجل منهم ثقة من قبل مرسله ، فخلا خالد بأهل كل قصر منهم دون الآخرين ، وبدأ بأصحاب عدى بن عدى وقال : ويحكم ما أنتم؟ أعرب؟ فما تنقمون من العرب؟ أو عجم؟ فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟ فقال له عدى : بل عرب عاربة وأخرى متعربة ، فقال : لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا؟! فقال له عدى : ليدلك على ما تقول أنه ليس لنا لسان إلا بالعربية ، فقال : صدقت. اختاروا واحدة من ثلاث : إما أن تدخلوا فى ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا إن نهضتم وهاجرتم أو أقمتم فى دياركم ، أو الجزية ، أو المنابذة والمناجزة ، فقد والله أتيتكم بقوم هم أحرى على الموت منكم على الحياة. فقال : بل نعطيكم الجزية ، فقال خالد : تبا لكم ، ويحكم إن الكفر فلاة مضلة ، فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان : أحدهما عربى فتركه واستدل الأعجمى. فصالحوه على مائة ألف وتسعين ألفا ، وتتابعوا على ذلك ، وأهدوا له الهدايا ، وبعث بالفتح والهدايا إلى أبى بكر الصديق ، فقبلها أبو بكر ، رضي‌الله‌عنه ، من الجزاء ، وكتب إلى خالد : أن احسب لهم هديتهم من الجزاء ، إلا أن تكون من الجزاء وخذ بقية ما عليهم فقو بها أصحابك.

وفى حديث مثله أو نحوه عن رجل من كنانة وغيره : أن أهل الحيرة لما انتهوا إلى خالد كانوا يختلفون إليه ويقدمون فى حوائجهم عمرو بن عبد المسيح ، فقال له خالد : كم أتت عليك؟ قال : مئو سنين ، قال : فما أعجب ما رأيت؟ قال : رأيت القرى منظومة ما بين دمشق والحيرة ، وتخرج المرأة من الحيرة فلا تزود إلا رغيفا ، فتبسم خالد ، قال :

هل لك من شيخك إلا عقله

خرفت والله يا عمرو

ثم أقبل على أهل الحيرة وقال : ألم يبلغنى أنكم خبثة خدعة مكرة؟ فما لكم تتناولون حوائجكم بخرف لا يدرى من أين جاء؟ فتجاهل له عمرو ، وأحب أن يريه من نفسه ما يعرف به عقله ، ويستدل به على صحة ما حدثه به ، فقال : وحقك أيها الأمير ، إنى لأعرف من أين جئت؟ قال : فمن أين جئت؟ قال : أقرب أم أباعد؟ قال : ما شئت ، قال :

٣٨٤

من بطن أمى ، قال : فأين تريد؟ قال : ما أمامى ، قال : وما هو؟ قال : الآخرة. قال : فمن أين أقصى أثرك؟ قال : صلب أبى ، قال : ففيم أنت؟ قال : فى ثيابى ، فقال خالد : إنه ليعقل! قال : أى والله وأفيد ، فوجده حين فره عضا وكان أهل قريته أعلم به.

وقال خالد : قتلت أرض جاهلها ، وقتل أرضا عالمها ، القوم أعلم بما فيهم! فقال عمرو : والنملة أعلم بما فى بيتها من الجمل بما فى بيت النملة!.

قالوا : وكان مع ابن بقيلة منصف له متعلقا كيسا فى حقوه ، فتناول خالد الكيس ونثر ما فيه فى راحته ، وقال : ما هذا يا عمرو؟ قال : هذا وأمنة الله سمّ ساعة ، قال : ولم تحتقبه؟ قال : خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت ، وقد أتيت على أجلى ، والموت أحب إلىّ من مكروه أدخله على قومى. فقال خالد : إنه لن تموت نفس حتى تأتى على أجلها ، وقال : بسم الله خير الأسماء ، ورب الأرض والسماء ، الذي ليس يضر مع اسمه داء ، فأهووا إليه ليمنعوه ، فبادرهم وابتلع السم ، فقال عمرو : والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد أيها القرن.

وأقبل على أهل الحيرة ، وقال : لم أر كاليوم أمرا أوضح إقبالا.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ذكر الحيرة وأنه أريها ورفعت له ، وكأن شرف قصورها أضراس الكلاب ، وأنها ستفتح على المسلمين. فسأله رجل يقال له : شويل ، كرامة بنت عبد المسيح ، فقال له : «هى لك إذا فتحت عنوة» ، يعنى الحيرة ، فلما راوض أهل الحيرة خالدا على الصلح وأداء الجزية قام إليه شويل فذكر له ذلك وشهد له به ، فأبى خالد أن يكاتبهم إلا على إسلام كرامة إلى شويل ، فثقل ذلك عليهم ، فقالت : هونوا عليكم وأسلمونى ، فإنى سأفتدى ، ففعلوا ، وكتب خالد بينه وبينهم كتابا :

«بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عديا وعمرا ابنى عدى ، وعمرو بن عبد المسيح ، وإياس بن قبيصة ، وحيرى بن أكال ، وهم نقباء أهل الحيرة ، ورضى بذلك أهل الحيرة وأمروهم به ، وعاهدوهم على تسعين ومائة ألف درهم ، تقبل فى كل سنة جزاء عن أيديهم فى الدنيا ، رهبانهم وقسيسيهم ، وجماعتهم ، إلا من كان غير ذى يد ، حبيسا عن الدنيا ، تاركا لها ، وسائحا تاركا للدنيا ، وعلى المنعة ، فإن لم يمنعهم فلا شيء عليهم حتى يمنعهم ، وإن غدروا بقول أو فعل فالذمة منهم بريئة. وكتب فى شهر ربيع الأول سنة اثنتى عشرة».

فاستخف أهل الحيرة بهذا الكتاب وضيعوه ، فلما نقض أهل السواد بعد موت أبى

٣٨٥

بكر وكفروا فيمن كفر ، وغلب عليهم أهل فارس ، ثم افتتحها المثنى بن حارثة ثانية ، أدلوا بمقتضى ذلك الكتاب ، فلم يجبهم إليه ، ودعا بشرط آخر ، فلما غلب المثنى على البلاد كفروا فيمن كفر ، وأعانوا ، واستخفوا وأضاعوا الكتاب ، فلما افتتحها سعد ، أدلوا بذلك فسألهم واحدا من الشرطين ، فلم يجيبوا به ، فوضع عليهم وتحرى ما يرى أنهم يطيقون ، فوضع عليهم أربعمائة ألف سوى الخزرة ، وهو رسم كان عليهم لكسرى فى كل سنة أربعة دراهم على كل رأس.

وفيما حكاه ابن الكلبى من حديث الحيرة أن الذي خرج منهم إلى خالد هو عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة وهانئ بن قبيصة الطائى ، مع من خرج إليه من أشرافهم ، وأن خالدا سأل عبد المسيح فذكر نحوا مما تقدم عن عمرو بن عبد المسيح إلى أن قال له : ويحك تعقل قال : نعم ، وأفيد. قال خالد : وأنا أسألك ، قال عبد المسيح : وأنا أجيبك. قال : أسلم أنت أم حرب؟ قال : بل سلم. قال : فما هذه الحصون التي أرى؟ قال : بنيناها للسفيه تمنعه حتى يأتى الحليم فينهاه. ثم ذكر من مصالحته إياهم على الجزية نحوا مما تقدم.

قال : فكانت أول جزية حملت إلى المدينة ، من العراق ، ثم نزل على بانقيا فصالحهم بصهير بن صلوبا على ألف درهم وطيلسان ، وكتب لهم كتابا.

وعن ابن إسحاق أن أول شيء صالح عليه خالد حين سار يريد العراق قريات من السواد ، يقال لها : بانقيا ، وباروسما ، وألّيس ، نزل عليها خالد فصالحه عليها ابن صلوبا ، فقبل منهم خالد الجزية ، وكتب لهم كتابا.

قال : ثم أقبل خالد بمن معه حتى نزل الحيرة فجعل ابن إسحاق شأن تلك القريات مقدما على أمر الحيرة ، والأكثرون يقولون إنها كانت بعدها ، وإن أهلها وسائر دهاقين الملطاطين إنما كانوا يتربصون وينظرون ما يصنع أهل الحيرة. فلما استقام ما بين أهل الحيرة وبين خالد على الصلح طلب جميعهم الصلح وسمحوا بالجزية واكتتبوا بها من خالد كتبا.

وبين الرواة خلاف كثير فى أسماء الرجال والأماكن ومقادير الجزاء ، فرأيت اختصار ذلك أولى.

وعن الشعبى فى حديث كرامة بنت عبد المسيح لما اشتد على قومها دفعها إلى شويل وأعظم الخطر ، قالت لهم : لا تخطروه ، ولكن اصبروا ، ما تخافون على امرأة بلغت ثمانين

٣٨٦

سنة؟ إنما هذا رجل أحمق رآنى فى شبيبتى فظن أن الشباب يدوم. فدفعوها إلى خالد ، فدفعها خالد إليه ، فقالت : ما أربك إلى عجوز كما قد ترى؟ فأدنى قال : لا ، إلا على حكمى ، قالت : فلك حكمك مرسلا ، فقال : لست لأم شويل إن نقصتك من ألف درهم! فاستكثرت ذلك لتخدعه ، ثم أتته بها. فرجعت إلى أهلها ، فتسامع الناس بذلك ، فعنفوه ، فقال : ما كنت أرى أن عددا يزيد على ألف ، وخاصمهم إلى خالد ، وقال : كانت نيتى غاية العدد ، وقد ذكروا أن العدد يزيد على ألف ، فقال خالد : أردت أمرا وأراد الله غيره ، ونأخذ بما ظهر وندعك ونيتك ، كاذبا كنت أو صادقا.

ومما يروى من شعر ابن بقيلة :

أبعد المنذرين أرى سواما

تروح بالخورنق والسدير

وبعد فوارس النعمان أرعى

قلوصا بين مرة والحفير

فصرنا بعد ملك أبى قبيس

كجرب المعز فى اليوم المطير

تقسمنا القبائل من معد

علانية كأيسار الجزور

وكنا لا يرام لنا حريم

فنحن كضرة الضرع الفجور

نودى الخرج بعد خراج كسرى

وخرج من قريظة والنضير

كذاك الدهر دولته سجال

فيوم فى مساءة أو سرور

وقال القعقاع بن عمرو فى أيام الحيرة (١) :

سقى الله قتلى بالفرات مقيمة

وأخرى بأثباج النجاف الكوانف

فنحن وطئنا بالكواظم هرمزا

وبالثنى قرنى قارن بالجوارف

ويوم أحطنا بالقصور تتابعت

على الحيرة الروحاء إحدى المصارف

حططناهم منها وقد كاد عرشهم

يميل به فعل الجبان المخالف

مننا عليهم بالقبول وقد رأوا

عيون المنايا حول تلك المحارف

صبيحة قالوا نحن قوم تنزلوا

إلى الريف من أرض العريب النفانف

وقال أخوه عاصم بن عمرو فى ذلك :

صبحنا الحيرة الروحاء خيلا

ورجلا فوق أثباج الركاب

حصرنا فى نواحيها قصورا

مشرفة كأضراس الكلاب

فبادوا بالعريب ولم يحاموا

فقلنا دونكم فعل العراب

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٣٦٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٤٨).

٣٨٧

فقالوا بل نؤدى الخرج حتى

تزل الراسيات من الضراب

صدفنا عنهم لما اتقونا

وأبنا حيث أبنا بالنهاب

وبعث خالد بن الوليد عماله ومسالحه ، لجباية الخراج وحماية البلاد ، وأمر أمراءه على الثغور بالغارة والإلحاح ، فنزلوا على السيب فى عرض سلطانه ، وهناك كانت الثغور فى زمانه ، فمهدوا له ما وراء ذلك إلى شاطئ دجلة ، وليس لأهل فارس فيما بين الحيرة ودجلة أمر ، وليس لأحدهم ذمة إلا الذين كاتبوا خالدا واكتتبوا منه ، وسائر أهل السواد جلاء ومتحصنون ومحاربون ، وجنى الخراج إلى خالد فى خمسين ليلة ، وكان الذين ضمنوه رءوس الرساتيق رهنا فى يديه ، فأعطى ذلك كله المسلمين ، فقووا به على أمرهم.

وقال أبو مفزر الأسود بن قطبة فيما فتح بعد الحيرة :

ألا أبلغا عنا الخليفة أننا

غلبنا على نصف السواد الأكاسرا

غلبنا على ماء الفرات وأرضه

عشية حزنا بالسيوف الأكابرا

فدرت علينا جزية القوم بعد ما

ضربناهم ضربا يقط البواترا

ولما غلب خالد على أحد جانبى السواد ، دعا برجلين ، أحدهما حيرى والآخر نبطى ، وكتب معهما كتابين إلى أهل فارس ، أحدهما إلى الخاصة والآخر إلى العامة. وهذا أحدهما:

«بسم الله الرحمن الرحيم ، من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس ، أما بعد ، فالحمد لله الذي حل نظامكم ، ووهن كيدكم ، وفرق كلمتكم ، ولو لم يفعل ذلك بكم لكان شرا لكم ، فادخلوا فى أمرنا ندعكم وأرضكم ، ونجزكم إلى غيركم ، وإلا كان ذلك على غلب وأنتم كارهون ، على أيدى قوم يحبون الموت كحبكم الحياة».

والكتاب الآخر :

«بسم الله الرحمن الرحيم ، من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس ، أما بعد ، فالحمد لله الذي فض حرمتكم ، وفرق كلمتكم ، وفل حدكم ، وكسر شوكتكم ، فأسلموا تسلموا ، وإلا فاعتقدوا منى الذمة ، وأدوا الجزية ، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة».

ودعا خالد الرجل الحيرى فقال له : ما اسمك؟ قال : مرة. قال : خذ الكتاب ، لأحد الكتابين ، فأت به أهل فارس لعل الله يمر عليهم عيشهم ، أو يسلموا ، وينيبوا. وقال للنبطى : ما اسمك؟ قال : هزقيل. قال : خذ الكتاب ، اللهم ازهق نفوسهم.

٣٨٨

وكان أهل فارس إذ ذاك لموت أردشير مختلفين فى الملك مجتمعين على قتال خالد متساندين ، إلا أنهم قد أنزلوا بهمن جاذويه ببهرسير ، ومعه الآزادبه ، فى أشباه له.

ولما وقعت كتب خالد إلى أهل المدائن تكلم نساء آل كسرى ، فولى الفرخزاد بن البندوان إلى أن يجتمع آل كسرى على رجل إن وجدوه ، وأقام خالد فى عمله سنة ومنزله الحيرة ، يصعد ويصوب قبل خروجه إلى الشام ، وأهل فارس يخلعون ويملكون ، ليس إلا للدفع عن بهرسير ، وكان شيرى بن كسرى قد قتل كل من يناسب إلى كسرى ابن قباذ ، ووثب أهل فارس بعده وبعد أردشير ابنه ، وقتلوا كل من بين كسرى بن قباذ وبين بهرام جور ، فبقوا لا يقدرون على من يملكونه ممن يجتمعون عليه.

وعن الشعبى قال : أقام خالد فيما بين فتح الحيرة إلى خروجه إلى الشام أكثر من سنة ، يعالج عمل عياض الذي سمى له ، فقال خالد للمسلمين : لو لا ما عهد إلى الخليفة ما كان دون فتح فارس شيء ، وكان عهد إليه وإلى عياض إذ وجههما أن يستبقا إلى الحيرة فأيهما سبق إليها فهو أمير على صاحبه ، وقال : فإذا اجتمعتما بالحيرة وفضضتما مسالح فارس ، وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم فليكن أحدكما ردءا للمسلمين ولصاحبه بالحيرة وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم المدائن ، حسب ما تقدم من كتاب أبى بكر إليهما بذلك قبل هذا.

فكان خالد لا يستطيع أن يفارق مكانه للاقتحام على فارس ولا لإغاثة عياض وكان بدومة قد شجى وأشجى؟ ، لأجل ما عهد إليه أبو بكر أن لا يقتحم عليهم ، وخلفه نظام لهم. وكان بالعين عسكر لفارس وبالأنبار آخر وبالفراض آخر ، ثم إن خالدا لما استقام له ما بين الفلاليج إلى أسفل السواد فرق سواد الحيرة على رجال ممن كان معه ، وفعل فى سواد الأبلة مثل ذلك ، وأقر أمر المسالح على ثغورهم ، واستخلف على الحيرة القعقاع بن عمرو. وخرج خالد فى عمل عياض ليقضى ما بينه وبينه ولإغاثته ، فسار حتى نزل بكربلاء ، وأقام عليها أياما ، وشكا إليه عبد الله بن وثيمة الذباب ، فقال له : اصبر فإنى إنما أريد أن أستفرغ المسالح التي أمر بها عياض فتسكنها العرب ، فتأمن جنود المسلمين أن يؤتوا من خلفهم ، وتجيئنا العرب آمنة وغير متعتعة ، وبذلك أمرنا الخليفة ، ورأيه يعدل نجدة الأمة.

وقال رجل من أشجع فى مثل ما شكاه ابن وثيمة النضرى من أمر الذباب :

لقد حبست بكربلاء مطيتى

وبالعين حتى عاد غثّا سمينها

٣٨٩

إذا رحلت من منزل رجعت له

لعمر أبيها إننى لا أهينها

ويمنعها من ماء كل شريعة

رفاق من الذبان زرق عيونها

حديث الأنبار (١) وهى ذات العيون (٢)

وخرج خالد فى تعبيته التي خرج فيها من الحيرة ، على مقدمته الأقرع بن حابس. فلما نزل الأقرع المنزل الذي يسلمه إلى الأنبار نتج قوم من المسلمين إبلهم ، فلم يستطيعوا العرجة ، ولم يجدوا بدا من الإقدام ، ومعهم بنات مخاض تتبعهم. فلما نودى بالرحيل صروا الأمهات ، واحتقبوا المنتوجات ؛ لأنها لم تطق السير ، فانتهوا ركبانا إلى الأنبار ، وقد تحصن أهلها ، وخندقوا عليها ، فأشرفوا من حصنهم ، وعلى الجنود التي قبلهم شيرزاد صاحب ساباط (٣) ، وكان أعقل أعجمى يومئذ وأسوده ، فتصايح عرب الأنبار وقالوا : صبح الأنبار شر ، جمل يحمل جميلة وجمل تربه عوذ. فقال شيرزاد ، وقد سأل عن ما يقولون ، فأخبر به : أما هؤلاء فقد قضوا على أنفسهم ، والله لئن لم يكن خالد مجتازا لأصالحنه ، فبينما هم كذلك قدم خالد على المقدمة ، فأطاف بالخندق ، وأنشب القتال ، وكان قليل الصبر عنه إذا رآه أو سمع به ، وتقدم إلى رماته ، فأوصاهم وقال : إنى أرى أقواما لا علم لهم بالحرب ، فارموا عيونهم ولا توخوا غيرها ، فرموا رشقا واحدا ، ففقئت ألف عين يومئذ ، فسميت تلك الوقعة ذات العيون ، وتصايح القوم : عيون أهل الأنبار فراسل شيرزاد خالدا فى الصلح على أمر لم يرضه خالد ، فرد رسله ، وأتى خالد أضيق مكان فى الخندق فنحر رذايا الجيش ثم رمى فيه فأفعمه ، ثم اقتحموا الخندق والرذايا جسورهم ، فاجتمع المسلمون والمشركون فى الخندق ، وأرز القوم إلى حصنهم ، وراسل شيرزاد فى الصلح على مراد خالد ، فقبل منه خالد على أن يخليه ويلحقه بمأمنه فى جريدة خيل ، ليس معهم من المتاع والمال شيء ، فخرج شيرزاد ، فلما قدم على بهمهن جاذويه وأخبره الخبر لامه ، فقال له شيرزاد : إنى كنت فى قوم ليست لهم عقول ، وأصلهم من العرب ، فسمعتهم مقدمهم علينا يقضون على أنفسهم ، وقلما قضى قوم على أنفسهم قضاء إلا وجب عليهم. ثم قاتلهم الجند ، ففقئوا فيهم وفى أهل الأرض ألف عين ، فعرفت أن المسألة أسلم ، وأن قرة العين لهم ، وأن العيون لا تقر منهم بشيء.

__________________

(١) الأنبار : مدينة بالقرب من بلخ. انظر : معجم البلدان (١ / ٢٥٧ ، ٢٥٨).

(٢) انظر : الطبرى (٣ / ٣٧٣ ـ ٣٧٥) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٦٩) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١١٢ ، ١١٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٤٩) ، تاريخ ابن خلدون (٢ / ٨١).

(٣) سابط : هى سابط كسرى ، موضع بالمدائن. انظر : معجم البلدان (٣ / ١٦٦ ، ١٦٧).

٣٩٠

ولما اطمأن خالد بالأنبار والمسلمون ، وأمن أهل الأنبار وظهروا ، رآهم يكتبون بالعربية ويتعلمونها ، فسألهم : ما أنتم؟ فقالوا : قوم من العرب ، نزلنا إلى قوم من العرب كانت أوائلهم نزلوا أيام بختنصر حين أباح العرب ، فلم نزل عنها. فقال : ممن تعلمتم الكتابة؟ فقالوا : تعلمنا الخط من إياد ، وأنشدوا قول الشاعر :

قوم إياد لو أنهم أمم

أو لو أقاموا فتهزل النعم

قوم لهم باحة العراق إذا

ساروا جميعا والخط والقلم

(١) فصالح خالد من حولهم ، وبدأ بأهل البوازيج ، فبعث إليه أهل كلواذة (٢) ليعقد لهم ، وكاتبهم عيبته من وراء دجلة.

ثم إن الأنبار وما حولها نقضوا فيما كان يكون بين المسلمين والمشركين الدول ما خلا أهل البوازيج فإنهم ثبتوا كما ثبت أهل بانقيا.

حديث عين التمر (٣)

ولما فرغ خالد من الأنبار ، واستحكمت له ، استخلف عليها الزبرقان بن بدر ، وقصد لعين التمر ، وبها يومئذ مهران بن سوسن فى جمع عظيم من العجم ، وعقة بن أبى عقة فى جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب وإياد ومن لاقاهم. فلما سمعوا بخالد قال عقة لمهران : إن العرب أعلم بقتال العرب ، فدعنا وخالدا. قال : صدقت ، لعمرى لأنتم أعلم بقتال العرب ، وإنكم لمثلنا فى قتال العجم. فخدعه واتقى به ، وقال : دونكموهم وإن احتجتم إلينا جئناكم.

فلما مضى عقة نحو خالد قالت الأعاجم لمهران : ما حملك على أن تقول هذا القول لهذا الكلب فقال : دعونى فإنى لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر له ، إنه قد جاءكم من قتل ملوككم ، وفل حدكم ، ما اتقيته بهم ، فإن كانت لهم على خالد فهى لكم ، وإن كانت الأخرى لم يبلغوا منهم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم ضعفاء ، فاعترفوا له بفضل الرأى ، فلزم مهران العين ونزل عقة لخالد على الطريق ، وبينه وبين مهران روحة أو غدوة ، فقدم عليه خالد وهو فى تعبئة جنده ، فعبأ خالد جنده وقال لمجنبتيه : اكفونا ما

__________________

(١) انظر الأبيات فى : الطبرى (٣ / ٣٧٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٤٩).

(٢) كلواذة : موضع بين الكوفة وواسط. انظر معجم البلدان (٤ / ٤٧٧).

(٣) انظر : الطبرى (٣ / ٣٧٦ ، ٣٧٧) ، الأخبار الطوال للدينورى (ص ١١٢) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٦٩ ، ٢٧٠) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٤٩ ، ٣٥٠).

٣٩١

عندكم فإنى حامل ، ووكل بنفسه حوامى ، ثم حمل وعقة يقيم صفوفه ، فاحتضنه فأخذه أسيرا ، وانهزم صفه من غير قتال ، فاتبعهم المسلمون وأكثروا فيهم القتل والأسر.

ولما جاء الخبر مهران هرب فى جنده ، وتركوا الحصن. فلما انتهى فلال عقة من العرب والعجم إلى الحصن اقتحموه واعتصموا به ، وأقبل خالد فى الناس حتى نزل عليه ومعه عقة أسيرا وعمرو بن الصعق ، وهم يرجون أن يكون خالد كمن كان يغير عليهم من العرب ، فلما رأوه يحاولهم سألوه الأمان. فأبى إلا حكمه ، فسكنوا إليه.

فلما فتحوا دفعهم إلى المسلمين أسارى ، وأمر بعنقه فضربت عنقه ليؤيس الأسرى من الحياة ، فلما رأوه مطروحا على الجسر يئسوا ثم دعا بعمرو بن الصعق فضربت عنقه ، وضرب أعناق أهل الحصن أجمعين ، وسبى كل من حوى حصنهم ، وغنم ما فيه ، ووجد فى بيعتهم أربعين غلاما يتعلمون الإنجيل ، عليهم باب مغلق ، فكسره عنهم ، وقال : ما أنتم؟ قالوا : رهن ، فقسمهم فى أهل البلاء ، فمن أولئك الغلمان أبو زياد مولى ثقيف ، وحمران مولى عثمان ، ونصير أبو موسى بن نصير ، وسيرين والد محمد بن سيرين ، وأبو عمرة جد عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر.

وقال عاصم بن عمرو فى ذلك يعير عقة :

ألا أبلغا الوركاء أن عميدها

رهينة جيش من جيوش الزعافر

فبهلا لمن غرت كفالة عتقه

بنى عامر أخرى الليالى الغوابر

أتيح له ضرغامة لا يفله

قراع الكماة والليوث المساعر

أتيحت له نار تسيح وتلتوى

وترمى بأمثال النجوم العناهر

حديث دومة الجندل وما بعدها من الأيام بحصيد

والخنافس ومصيخ والبشر والفراض (١)

قالوا : ولما قدم الوليد بن عقبة من عند خالد إلى أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، بما بعثه به إليه من الأخماس ، وجهه أبو بكر إلى عياض وأمده به ، فقدم عليه الوليد وهو يحاصر أهل دومة ، وهم محاصروه ، وقد أخذوا عليه الطريق ، فقال له الوليد : الرأى فى بعض الحالات

__________________

(١) انظر : المغازى للواقدى (١ / ٤٠٢) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (٢ / ٦٢ ، ٦٣) ، معجم البلدان (٢ / ٤٨٧) ، الطبرى (٣ / ٣٧٨ ـ ٣٨٥) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٧٠ ـ ٢٧٥) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٥٠ ـ ٣٥٢).

٣٩٢

خير من جند كثيف ، ابعث إلى خالد واستمده ، ففعل ، فقدم رسوله على خالد غب وقعة العين مستغيثا ، فعجل به خالد إلى عياض وكتب إليه معه : إياك أريد.

لبث قليلا تأتك الجلائب

يحملن آسادا عليها القاشب

كتائب يتبعها كتائب

ولما فرغ خالد من عين التمر خلف فيها عويمر بن الكاهل الأسلمى ، وخرج فى تعبئته التي دخل فيها العين يريد عياضا ، ولما بلغ أهل دومة مسير خالد إليهم بعثوا إلى أحزابهم من بهراء وكلب وغسان وتنوخ والضجاعم ، وقبل ما أتتهم منهم طوائف فيهم وديعة الكلبى ، وابن الأيهم التنوخى ، وابن الحدرجان ، فأشجوا عياضا وأشجوا به ، فلما بلغهم دنو خالد وهم على رئيسين : أكيدر بن عبد الملك ، والجودى بن ربيعة ، اختلفوا ، فقال أكيدر : أنا أعلم الناس بخالد ، لا أحد أيمن طائرا منه ، ولا أحد فى حرب ، ولا يرى وجه خالد قوم قلوا أو كثروا إلا انهزموا عنه ، فأطيعونى وصالحوا القوم ، فأبوا عليه ، فقال : لن أمالئكم على حرب خالد ، فشأنكم.

فخرج لطيته ، وبلغ ذلك خالدا فبعث عاصم بن عمرو معارضا له ، فأخذه وقال : إنما تلقيت الأمير خالدا ، فلما أتى به خالدا أمر به فضربت عنقه ، وأخذ ما كان معه من شيء ، ومضى خالد حتى ينزل على أهل دومة ، وعليهم الجودى بن ربيعة ، فجعل خالد دموة بين عسكره وعسكر عياض ، وكان النصارى الذين أمدوا أهل دومة من العرب محيطين بحصن دومة لم يحملهم الحصن ، فلما اطمأن خالد خرج الجودى فنهض بوديعة فزحفا لخالد ، وخرج ابن الحدرجان وابن الأيهم إلى عياض ، فاقتتلوا فهزم الله الجودى ووديعة على يدى خالد ، وهزم عياض من يليه ، وركبهم المسلمون ، فأما خالد فإنه أخذ الجودى أخذا ، وأخذ الأقرع بن حابس وديعة ، وأرز بقية الناس إلى الحصن ، فلم يحملهم ، فلما امتلأ الحصن ، أغلق من فى الحصن الحصن دون أصحابهم ، فبقوا حوله ، وقال عاصم ابن عمرو : يا بنى تميم ، حلفاؤكم كلب آسوهم وأجيروهم ، فإنكم لا تقدرون لهم على مثلها ، ففعلوا ، وكان سبب نجاتهم يومئذ وصية عاصم بهم ، وأقبل خالد إلى الذين أرزوا إلى الحصن فقتلهم حتى سد بهم باب الحصن ، ودعا بالجودى فضرب عنقه ، وضرب أعناق الأسرى إلا أسير كلب ، فإن عاصما والأقرع وبنى تميم قالوا : قد أمناهم ، فأطلقهم لهم خالد ، وقال : ما لى ولكم أتحوطون أمر الجاهلية وتضيعون أمر الإسلام؟ فقال له عاصم : لا تحسدهم العافية ، ولا تحرزهم الشيطان. ثم أطاف خالد بباب الحصن ، فلم يزل عنه حتى اقتلعه ، واقتحموا عليهم ، فقتلوا المقاتلة وسبوا الشرخ فأقاموهم فيمن يزيد ،

٣٩٣

فاشترى خالد ابنة الجودى ، وكانت موصوفة بالجمال ، ثم إن خالدا رد الأقرع إلى الأنبار ، وثبت بدومة قليلا ، ثم ارتحل منها إلى الحيرة ، فلما كان قريبا منها حيث يصحبها أخذ القعقاع أهلها بالتغليس فخرجوا يتلقونه وهم مغلسون ، وجعل بعضهم يقول لبعض : مروا بنا فهذا فرج الشر.

قالوا : وقد كان خالد عند ما أقام بدومة كاتب عرب الجزيرة الأعاجم غضبا لعقة ، فخرج زرمهر من بغداد ومعه روزبه يريدان الأنبار ، واتعدا حصيدا والخنافس ، فكتب بذلك الزبرقان وهو على الأنبار إلى القعقاع بن عمرو وهو يومئذ خليفة خالد على الحيرة ، فبعث القعقاع أبا ليلى بن فدكى السعدى وأمره بحصيد ، وبعث عروة بن الجعد البارقى وأمره بالخنافس ، وقال لهما : إن رأيتما مقدما فأقدما. فخرجا فحالا بينهما وبين الريف ، وانتظر روزبه وزرمهر بالمسلمين اجتماع من كاتبهما من ربيعة ، وقد كانوا تكاتبوا واتعدوا.

فلما رجع خالد من دومة إلى الحيرة على الظهر وبلغه ذلك وقد عزم على مصادمة أهل المدائن كره خلاف أبى بكر ، وأن يتعلق عليه بشيء ، فعجل القعقاع وابن عمرو ، وأبا ليلى بن فدكى إلى روزبه وزرمهر ، فسبقاه إلى عين التمر ، وقدم على خالد كتاب امرئ القيس الكلبى ، أن الهذيل بن عمران قد عسكر بالمصيخ ، ونزل ربيعة بن بجير بالثنى فى عسكر غضبا لعقة ، يريدان زرمهر وروزبه. فخرج خالد وعلى مقدمته الأقرع ابن حابس ، واستخلف على الحيرة عياض بن غنم ، وأخذ خالد طريق القعقاع وأبى ليلى حتى قدم عليهما بالعين ، فبعث القعقاع إلى حصيد ، وأمره على الناس ، وبعث أبا ليلى إلى الخنافس ، وأمره على الناس ، وقال : زجياهم ليجتمعوا ومن استشارهم ، وإلا فواقعاهم ، فأبى روزبه وزرمهر إلا المقام.

فلما رآهما القعقاع لا يتحركان سار نحو حصيد ، وعلى من به من العرب والعجم روزبه. ولما رأى روزبه أن القعقاع قد قصد له استمد زرمهر ، فأمده بنفسه ، واستخلف على عسكره المهبوذان ، فالتقوا حينئذ فاقتتلوا ، فقتل الله العجم مقتلة عظيمة ، وقتل القعقاع زرمهر وقتل ، أيضا ، روزبه ، قتله عصمة بن عبد الله ، أحد بنى الحارث بن طريف ، من بنى ضبة ، وكان عصمة من البررة ، وكل فخذ هاجرت بأسرها تدعى البررة ، وكل قوم هاجروا من بطن يدعون الخيرة ، فكان المسلمون خيرة بررة ، وغنم المسلمون يوم حصيد غنائم كثيرة ، وأرز فلّال حصيد إلى الخنافس فاجتمعوا بها.

٣٩٤

وقال القعقاع فى ذلك اليوم :

ألم ينه عنا غى فارس أننا

منعناهم من ريفهم بالصوارم

وأنا أناس قد تعود خيلنا

لقاء العادى بالحتوف القواصم

وروزا قتلنا حيث أرهف حده

وكل رئيس زاريا بالعظائم

تركنا حصيدا لا أنيس بجوه

وقد شقيت أربابه بالأعاجم

وإنى لراج أن تلاقى جموعهم

غديّا بإحدى المنكرات الصوادم

ألا أبلغا أسماء أن خليلها

قضى وطرا من روزمهر الأعاجم

وسار أبو ليلى ابن فدكى بمن معه ومن قدم عليه نحو الخنافس وبها المهبوذان ، فلما أحس بهم هرب هو ومن معه إلى المصيخ (١) وبه الهذيل بن عمران ، فلما انتهى الخبر إلى خالد بمصاب أهل الحصيد (٢) وهرب أهل الخنافس كتب إلى القعقاع وأبى ليلى وعروة وواعدهم ليلة وساعة يجتمعون فيها على المصيخ ، وهو بين حوران والقلت ، وخرج خالد من العين قاصدا للمصيخ على الإبل يجنب الخيل ، فلما كان فى تلك الساعة من ليلة الموعد اتفقوا جميعا معه بالمصيخ ، فأغاروا على الهذيل ومن معه ومن أوى إليهم ، وهم نائمون ، أتوهم بالغارة من ثلاثة أوجه ، فقتلوهم ، وامتلأ الفضاء قتلى ، فما شبهوا إلا غنما مصرعة ، وأفلت الهذيل فى أناس قليل ، وقد كان حرقوص بن النعمان بن النمر بن قاسط محضهم النصح ، وأجاد الرأى ، فلم ينتفعوا بتحذيره ، وذلك أن حرقوصا قال قبل الغارة :

ألا فاسقيانى قبل خيل أبى بكر

لعل منايانا قريب ولا ندرى

ألا فاسقيانى بالزجاج وكررا

علينا كميت اللون صافية تجرى

أظن خيول المسلمين وخالدا

ستطرقكم عند الصباح إلى البشر

فهل لكم فى السير قبل قتالهم

وقبل خروج المعصرات من الخدر

أرينى سلاحى يا أميمة إننى

أخاف بيات القوم مطلع الفجر (٣)

وكان حرقوص معرسا بامرأة من بنى هلال تدعى أم تغلب ، فقتلت تلك الليلة ، وقد تقدم من حديث عدى بن حاتم فيما مضى من هذا الكتاب ، قال : أغرنا على المصيخ ، وإذا رجل يدعى حرقوص بن النعمان بن النمر ، وإذا حوله بنوه وامرأته ، وبينهم جفنة من

__________________

(١) المصيخ : موضع بين حوران والقلت. انظر : معجم البلدان (٢ / ٣٩١).

(٢) حصيد : واد بين الكوفة والشام. انظر : معجم البلدان (٢ / ٢٢٦).

(٣) انظر الأبيات فى : الطبرى (٣ / ٤١٦ ، ٤١٧) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٨٠) ، معجم البلدان لياقوت (١ / ٤٢٧ ، ٥ / ١٤٤).

٣٩٥

خمر ، وهم عليها عكوف ، فقال : اشربوا شرب وداع ، فما أرى أن تشربوا خمرا بعدها ، خالد بالعين وجنوده بحصيد ، وقد بلغه جمعنا وليس بتاركنا.

ألا فاشربوا من قبل قاصمة الظهر

بعيد انتفاخ القوم بالعكر الدثر

وقبل منايانا المصيبة بالقدر

لحين لعمرى لا يزيد ولا يحرى

فسبق إليه وهو فى ذلك بعض الخيل ، فضرب رأسه ، فإذا هو فى جفنته ، وأخذنا بناته وقتلنا بنيه.

وأصاب جرير بن عبد الله بالمصيخ عبد العزى بن أبى رهم من النمر ، وإنما حضر جرير مما كان بالعراق ما كان بعد الحيرة ، وذلك أنه كان ممن خرج مع خالد بن سعيد ابن العاص إلى الشام ، فاستأذن جرير فى القدوم على أبى بكر ليكلمه فى قومه بجيلة ، وكانوا أوزاعا فى العرب ، ليجمعهم ويتخلصهم ، فأذن له ، فقدم على أبى بكر فذكر له عدة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأتاه عليها بشهود ، وسأله إنجازها ، فغضب أبو بكر وقال : ترى شغلنا وما نحن فيه ، من بعوث المسلمين لمن بإزائهم من الأشدين : فارس والروم ثم أنت تكلفنى التشاغل بما لا يغنى عنى عما هو أرضى لله ولرسوله ، دعنى وسر نحو خالد بن الوليد حتى أنظر ما يحكم الله فى هذين الوجهين. فسار جرير حتى قدم على خالد وهو بالحيرة ، فشهد معه ما كان بعدها من الأيام ، وأصاب يوم المصيخ ، كما ذكرنا ، عبد العزى بن أبى رهم ، وكان معه ومع رجل آخر من قومه يقال له لبيد بن جرير كتاب من أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، بإسلامهم ، وسمى عبد العزى عبد الله ، وبلغ أبا بكر مع ذلك أن عبد العزى قال ليلة الغارة:

وأقول إذ طرق الصباح بغارة

سبحانك اللهم رب محمد

سبحان ربى لا إله غيره

رب العباد ورب من يتودد

فوداه أبو بكر لما بلغه هذا ، وودى لبيدا ، وقال : أما إن ذلك ليس على إذ نازلا أهل حرب. وأوصى بأولادهما.

وكان عمر ، رضي‌الله‌عنه ، يعتد على خالد بقتلهما إلى قتل مالك بن نويرة ، فيقول أبو بكر ، رضي‌الله‌عنه : كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب فى ديارهم.

وقد كان ربيعة بن بجير التغلبى نزل الثنى والبشر غضبا لعقة ، وواعد لذلك روزبه وزرمهر والهذيل قبل أن يصيبهم ما أصابهم بالمصيخ ، فلما أصاب خالد أهل المصيخ بما أصابهم به ، تقدم إلى القعقاع وإلى أبى ليلى ، بأن يرتحلا أمامه ، وواعدهما ليلة ليفترقوا

٣٩٦

فيها للغارة على ربيعة ومن معه من ثلاثة أوجه ، كما فعل بأهل المصيخ ، ثم خرج خالد من المصيخ فنزل حوران (١) ، ثم الرنق ، ثم الحماة (٢) ، ثم الزميل (٣) ، وهو البشر (٤) والثنى معه ، وهما شرقى الرصافة ، فبدأ بالثنى ، واجتمع هو وأصحابه ، فبيت من ثلاثة أوجه ربيعة بن بجير ومن اجتمع له وإليه ، ومن ناشب لذلك من الشبان لذلك من الشبان ، فجرد خالد فيهم السيوف بياتا ، فلم يفلت من ذلك الجيش مخبر ، واستبقى الشيوخ ، وبعث بخمس الله ، عزوجل ، إلى أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، مع النعمان بن عوف الشيبانى ، وقسم النهب والسبايا ، فاشترى على بن أبى طالب ، رضى الله ، من ذلك السبى ابنة ربيعة التغلبى ، فاتخذها ، فولدت له عمر ورقية.

وقال أبو مقرز فى ذلك :

لعمر بنى بجير حيث صاروا

ومن آذاهم يوم الثنى

لقد لاقت سراتهم فضاحا

وفينا بالنساء على المطى

وكان الهذيل حيث نجا من المصيخ أوى إلى الزميل ، إلى عتاب بن فلان ، وهو بالبشر فى عسكر ضخم ، فبيتهم خالد بمثلها غارة شعواء من ثلاثة أوجه ، سبقت إليهم الخبر عن ربيعة ، وكانت على خالد يمين : ليبغتن تغلب فى دارها ، فقتل فيهم مقتلة لم يقتلوا قبلها مثلها ، وأصابوا منهم ما شاءوا ، وقسم خالد فى الناس فيئهم ، وبعث الأخماس إلى أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، مع الصباح بن فلان المزنى ، ثم عطف خالد من البشر إلى الرضاب (٥) وبها هلال بن عقة وقد أرفض عنه أصحابه حين سمعوا بدنو خالد ، فانقشع عنها هلال ولم يلق كيدا ، ثم قصد خالد بعدها إلى الفراض ، والفراض تخوم الشام والعراق والجزيرة ، فأفطر فيها فى رمضان فى تلك السفرة التي اتصلت له فيها هذه الغزوات والأيام ، ونظمن نظما إلى ما كان قبل ذلك منه.

__________________

(١) حوران : كانت كورة واسعة من أعمال دمشق من جهة القبلة ومزارع وحرار. انظر : معجم البلدان (٢ / ٣١٧).

(٢) من المدن المشهورة بالشام ، كانت مدينة عظيمة وكبيرة. انظر : معجم البلدان (٢ / ٣١٧ ، ٣١٨).

(٣) الزميل : موضع شرقى الرصافة. انظر معجم البلدان (٣ / ١٥١).

(٤) البشر : اسم جبل يمتد من عرض إلى الفرات من أرض الشام من جهة البادية. انظر : معجم البلدان (١ / ٤٢٦ ـ ٤٢٨).

(٥) الرضاب : موضع الرصافة قبل بناء هاشم إياه. انظر : معجم البلدان (٣ / ٥٠).

٣٩٧

قالوا : ولما اجتمع المسلمون بالفراض حميت الروم واغتاظت ، واستعانوا بمن يليهم من مسالح أهل فارس ، وقد حموا واغتاظوا واستمدوا تغلب وإياد والنمر ، فأمدوهم بأجمعهم ، واجتمعوا كلهم على كلمة واحدة ، ثم ناهدوا خالدا حتى إذا صار الفرات بينه وبينهم قالوا : إما أن تعبروا إلينا ، وإما أن نعبر إليكم قال خالد : اعبروا إلينا ، قالوا : فتنحوا حتى نعبر ، قال خالد : لا نفعل ، ولكن اعبروا أسفل منا. فقال الروم وفارس بعضهم لبعض : احتسبوا ملككم ، هذا رجل يقاتل عن دين ، وله عقل وعلم ، وو الله لينصرن ولتخذلن ، ثم لم ينتفعوا بذلك ، فعبروا أسفل من خالد ، فلما تتاموا قالت الروم : امتازوا حتى يعرف اليوم ما كان من حسن أو قبح ، من أينا يجىء ففعلوا ، ثم اقتتلوا قتالا شديدا طويلا ، ثم هزمهم الله تعالى.

وقال خالد للمسلمين : ألحوا عليهم ، فجعل صاحب الخيل يحشر منهم الزمرة برماح أصحابه ، فإذا جمعوهم قتلوهم ، فقتل يوم الفراض فى المعركة وفى الطلب مائة ألف ، وأقام خالد على الفراض بعد الوقعة عشرا ، ثم أذن فى القفل إلى الحيرة ، وأمر عاصم بن عمرو أن يسير بهم ، وأمر شجرة بن الأعز أن يسوقهم.

وأظهر خالد أنه فى الساقة ، وخرج من الفراض حاجا لخمس بقين من ذى القعدة مكتتما بحجه ، ومعه عدة من أصحابه ، يعتسف البلاد حتى أتى مكة بالسمت ، فقضى حجه ، ثم أتى الحيرة ، فوافاه بها كتاب أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، يأمره فيه بالمسير إلى الشام ويعاتبه على ما فعل ، إذ لم يعلم أبو بكر بحجته هذه إلا بعد انصرافه إلى الحيرة.

وقد تقدم هذا كله فيما رسم قبل من فتوح الشام مستوفى فى بيانه ، وكيف كان مسيره إلى الشام وتركه المثنى بن حارثة بعده على العراق ، ومشاطرته إياه فى الناس ، كل ذلك بأمر أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، حسب ما تقدم ذكره.

حديث المثنى بعد خالد (١)

ولما انفصل خالد ، رحمه‌الله ، إلى الشام شيعه المثنى إلى قراقر ، ورجع من تشييعه إلى الحيرة ، فأقام بها فى سلطانه ، ووضع فى المسلحة التي كان فيها على السيب أخاه ، وسد أماكن كل من خرج مع خالد من الأمراء برجال أمثالهم من أهل الغناء ، ووضع مذعور ابن عدى فى بعض تلك الأماكن.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤١١ ـ ٤١٥) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٨٤ ـ ٢٨٦) ، تاريخ ابن خلدون (٢ / ٨٧ ـ ٩١).

٣٩٨

واستقام أهل فارس على رأس سنة من مقدم خالد على الحيرة ، بعد خروجه إلى الشام بقليل ، وذلك سنة ثلاث عشرة ، على شهربراز بن أردشير بن شهريار ممن يناسب إلى كسرى ، ثم إلى سابور. فوجه إلى المثنى جندا عظيما عليهم هرمز جاذويه فى عشرة آلاف ، ومعه فيل ، وكتبت المسالح إلى المثنى بإقباله ، فخرج المثنى من الحيرة نحوه ، وضم إليه أصحاب المسالح ، وجعل على مجنبتيه أخويه : المعنّى ومسعودا ، وأقام له ببابل ، وأقبل هرمز جاذويه ، وقد كتب شهر براز إلى المثنى بن حارثة : «من شهربراز إلى المثنى : إنى قد بعثت إليك جندا من وخش أهل فارس ، إنما رعاة الدجاج والخنازير ، ولست أقاتلك إلا بهم».

فكتب إليه المثنى : «من المثنى إلى شهربراز ، إنما أنت أحد رجلين. إما صادق ، فذلك شر لك وخير لنا ، وإما كاذب ، فأعظم الكذابين عقوبة وفضيحة عند الله وفى الناس الملوك ، وأما الذي يدلنا عليه الرأى ، فإنكم إنما اضطررتم إليهم ، فالحمد لله الذي رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير».

فجزع أهل فارس من كتابه ، وقالوا : إنما أتى شهربراز من شؤم مولده ولؤم منشئه ، وكان يسكن ميسان (١) ، وأن بعض البلدان شين على من يسكنه. وقالوا له : جرأت عدونا بالذى كتبت إليهم ، فإذا كاتبت أحدا فاستشر. ثم التقوا ببابل ، فاقتتلوا بعدوة الصراة الدنيا ، على الطريق الأول ، قتالا شديدا.

ثم إن المثنى وفرسان من المسلمين اعتمدوا الفيل ، وكان يفرق بين الصفوف والكراديس ، فأصابوا مقتله ، فقتلوه وهزموا أهل فارس ، واتبعهم المسلمون يقتلونهم ، حتى جازوا بهم مسالحهم ، فأقاموا فيها ، وتتبع الطلب الفالة ، حتى انتهوا إلى المدائن ، ومات شهربراز منهزم هرمز جاذويه ، واختلف أهل فارس ، وبقى ما دون دجلة وبرس من السواد فى يد المثنى وأيدى المسلمين.

ثم إن أهل فارس اجتمعوا بعد شهربراز على دخت زنان ابنة كسرى ، فلم ينفذ لها أمر ، وخلعت ، وملك سابور بن شهربراز ، وقام بأمره الفرخزاد بن البندوان ، فقاتلا جميعا ، وملكت آزرميدخت ، وتشاغلوا بذلك ، وأبطأ خبر أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، على المسلمين ، فخلف المثنى على المسلمين بشير بن الخصاصية ، ووضع مكانه فى المسالح سعيد بن مرة العجلى ، وخرج المثنى نحو أبى بكر ليخبره خبر المسلمين والمشركين ،

__________________

(١) ميسان : كورة واسعة كثيرة القرى والنخيل بين البصرة وواسط. انظر : معجم البلدان (٥ / ٢٤٢).

٣٩٩

ولكى يستأذنه فى الاستعانة بمن قد ظهرت توبته من أهل الردة ممن يستطعمه الغزو ، وليخبره أنه لم يخلف أحدا أنشط إلى قتال فارس وحربها ومعونة المهاجرين منهم ، إذ كان أبو بكر ، رضي‌الله‌عنه ، قد منع من الاستعانة بهم رأسا ، وقال لأمرائه : لا تستعينوا فى حربكم بأحد ممن ارتد ، فإنى لم أكن لأستنصر بجيش فيهم أحد ممن ارتد ، وبالجزاء إن فعلت أن لا تنصروا.

وقال عروة بن الزبير : أمران يعرف بهما حال من شهد الفتوح ، من ذكر أن أبا بكر ، رضي‌الله‌عنه ، استعان فى حربه بأحد ممن ارتد فقد كذب ، وذكر من قول أبى بكر فى ذلك ما بدأنا به.

قال : ومن زعم أن عمر ، رضي‌الله‌عنه ، حين أذن لمن ارتد فى الجهاد أمر أحدا منهم فقد كذب ، وإنما تألف من تألف بالإمارة منهم عثمان بن عفان ، رضي‌الله‌عنه ، رجاء ما رجاه منهم عمر حين استعان بهم ، فمن قبلهم ابتدأت الفتنة ، وعلق عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، عند الذي بدا منهم يتمثل بقول الأول :

وكنت وعمرا كالمسمّن كلبه

فخدشه أنيابه وأظافره

فقدم المثنى بن حارثة المدينة ، وأبو بكر مريض مرضه الذي توفاه الله تعالى ، منه ، وذلك بعد مخرج خالد إلى الشام ، وقد تقدم ذكر وفاة أبى بكر واستخلافه عمر ، رضي‌الله‌عنهما ، فى أول موضع احتيج إلى ذكر ذلك فيه من فتح الشام ، وتوفى أبو بكر وأحد شقى السواد فى سلطانه ، والجمهور من جند أهل العراق بالحيرة ، والمسالح بالسيب ، والغارات تنتهى بهم إلى شاطئ دجلة ، ودجلة حجاز بين العرب والعجم.

فهذا حديث العراق فى خلافة أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه ، من مبتدئه إلى منتهاه.

ذكر ما كان من خبر العراق فى خلافة عمر بن الخطاب

رضي‌الله‌عنه ، وما كان من أمر المثنى بن حارثة معه ، وذكر

أبى عبيد بن مسعود ، على ما فى ذلك كله من الاختلاف بين

رواة الآثار (١)

ذكر سيف عن شيوخه قالوا : أول ما عمل به عمر ، رحمه‌الله ، أن ندب الناس مع

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٤٤٤ ـ ٤٥٤) ، الأخبار الطوال للدينورى (ص ١١٣) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٩٧ ـ ٣٠١) ، كنز الدرر للدوادارى (٣ / ١٩٣ ، ١٩٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٢٦ ، ٢٧).

٤٠٠