الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

الله علينا الصبر ، ثم أنزل علينا النصر ، ففتحناها من آخر النهار ، فأصبنا غنائم كثيرة ، فبلغ فيها الخمس خمسمائة ألف دينار ، وتركت المسلمين قد قرت أعينهم ، وقد أغناهم النفل ، ووسعهم الحق ، وأنا رسولهم إلى أمير المؤمنين وإلى المسلمين ، أبشره وإياهم بما فتح الله من البلاد وأذل من المشركين. فأحمد الله على آلائه ، وما أحل بأعدائه من بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين (١).

ثم صمت ، ونهض إليه الزبير فقبل بين عينيه وقال : يا بنى ، إذا نكحت المرأة فانكحها على شبه أبيها أو أخيها تأتك بأحدهما ، والله ما زلت تنطق بلسان أبى بكر الصديق حتى صمت.

ويروى عن الزبير لما أمر عثمان ، رحمه‌الله ، ابنه عبد الله بالقيام ليخبر الناس بما شهد من فتح إفريقية أنه قال : وجدت فى نفسى على عثمان وقلت : يقيم غلاما من الغلمان لا يبلغ الذي يحق عليه والذي يجمل به! فقام فتكلم فأبلغ وأصاب ، فما فرغ حتى ملأهم عجبا.

وفى كتاب سيف (٢) : أن عثمان لما وجه عبد الله بن سعد إلى إفريقية قال له : إن فتح الله عليك إفريقية فلك مما أفاء الله عليك خمس الخمس ، فلما انتهى إلى إفريقية فيمن معه لقيهم صاحبها ، فقاتلهم فقتله الله ، قتله عبد الله بن سعد ، وفتح الله إفريقية سهلها وجبلها ، واجتمعوا على الإسلام وحسنت طاعتهم ، وقسم عبد الله على الجند ما أفاء الله عليهم بعد أن أخرج الخمس ، فعزل منه لنفسه خمسه ، وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان ، وضرب فسطاطا فى موضع القيروان.

ووفد وفد إلى عثمان فشكوه فيما أخذ من الخمس ، فقال عثمان : أنا نفلته ، وإنما النفل تبصرة وتدريب للرجال. ثم كتب إلى عبد الله بن سعد باستصلاحهم.

قال : وكان عثمان قد أرسل معه عبد الله بن نافع بن عبد القيس ، وعبد الله بن نافع ابن الحصين الفهريين ، وأمرهما بالمسير إلى الأندلس فيمن ندبه معهما من الرجال ، وأمرهما بالاجتماع مع عبد الله بن سعد على صاحب إفريقية ، وبعد ذلك يسيران إلى الأندلس ، فلما كان الاستيلاء على صاحب إفريقية سارا من فورهما إلى الأندلس ، وأتياها من قبل البحر.

__________________

(١) انظر : تاريخ دمشق لابن عساكر (٤٢٠ ، ٤٢١).

(٢) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ٢٥٤ ، ٢٥٥).

٣٦١

وكان عثمان ، رحمه‌الله قد كتب إلى من انتدب إلى الأندلس : «أما بعد : فإن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس ، وإنكم إن لم تفتحوها كنتم شركاء من يفتحها فى الأجر ، والسلام».

وقال كعب : يعبر البحر إلى الأندلس أقوام يفتحونها ، يعرفون بنورهم يوم القيامة.

ذكر صلح النوبة(١)

قال ابن عبد الحكم (٢) : ثم غزا عبد الله بن سعد بن أبى سرح الأساود وهم النوبة سنة إحدى وثلاثين ، فقاتلته النوبة قتالا شديدا ، وأصيبت يومئذ عين معاوية بن حديج ، وأبى شمر بن أبرهة ، وحيويل بن ناشرة ، فيومئذ سموا رماة الحدق ، فهادنهم عبد الله بن سعد إذ لم يطقهم. وفى ذلك اليوم يقول بعض من حضره :

لم تر عينى مثل يوم دمقله

والخيل تغدو بالدروع مثقله

قال : وكان الذي صولح عليه النوبة ، فيما ذكر بعض المشايخ المصريين ، ثلاثمائة رأس وستين رأسا فى كل سنة. ويقال : بل على أربعمائة فى كل سنة ، منها لفيء المسلمين ثلاثمائة وستون ، ولوالى البلد أربعون ، منها ، فيما زعم بعض المشايخ ، سبعة عشر مرضعا. ثم انصرف عبد الله بن سعد عنهم.

قال : وذكر بعض المتقدمين أنه وقف بالفسطاط فى بعض الدواوين ، يعنى على عهد لهم قرأه قبل أن يحرق ، فإذا هو يحفظ منه :

إنا عاهدناكم وعاقدناكم أو توفونا فى كل سنة ثلاثمائة رأس وستين رأسا ، وتدخلون بلادنا مجتازين غير مقيمين ، وكذلك ندخل بلادكم ، على أنكم إن قتلتم من المسلمين قتيلا فقد برئت منكم الهدنة ، وإن آويتم للمسلمين عبدا فقد برئت منكم الهدنة ، وعليكم رد أباق المسلمين ومن لجأ إليكم من أهل الذمة.

وقال يزيد بن أبى حبيب : وليس بينهم وبين أهل مصر عهد ولا ميثاق ، وإنما هى هدنة أمان بعضنا من بعض.

قال ابن لهيعة : وأبو حبيب والد يزيد واسمه سويد منهم.

__________________

(١) انظر : مراصد الاطلاع (٢ / ٥٣٤) ، تهذيب التهذيب لابن حجر (١٠ / ٢٠٣).

(٢) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٨٨ ، ١٨٩).

٣٦٢

وقال الليث بن سعد وذكر له قول مالك بن أنس : لا يشترى رقيق النوبة ولا يباعون. فقال الليث : لا علم لمالك بهذا ، نحن أعلم به منه ، إنما صولحوا على أن نكف عنهم حربنا فقط ، وعلى أنهم يعطونا منهم رقيقا فى كل سنة ، وعلى أنا لا نمنع غزو غيرنا ، فبذلك نشتريهم ، إنما علينا الوفاء بأن لا نحاربهم فقط.

قال ابن عبد الحكم : ولم أر أحدا من أصحاب مالك يقول بقوله فى النوبة ، وكلهم كان يشتريهم.

قال : واجتمعت لعبد الله بن سعد البجة فى انصرافه من بلاد النوبة على شاطئ النيل ، فسأل عنهم ، فأخبر بشأنهم ، فهان عليه أمرهم ، فنفذ وتركهم ، ولم يكن لهم عقد ولا صلح ، وأول من صالحهم عبيد الله بن أبى الحبحاب.

ذكر البحر والغزو فيه

ذكر الطبرى (١) عن سيف عن أشياخه قالوا : ألح معاوية على عمر بن الخطاب فى غزو البحر وقرب الروم من حمص ، وقال : إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم ، حتى إذا كاد ذلك يأخذ بقلب عمر أحب أن يزود عنه ، فكتب إلى عمرو بن العاص : صف لى البحر وراكبه ، فإن نفسى تنازعنى إليه ، وإنى أشتهى خلافها ، فكتب إليه عمرو بن العاص : إنى رأيت خلقا كبيرا يركبه خلق صغير ، إن سكن خوف القلوب وإن تحرك راع العقول ، يزداد فيه اليقين قلة ، والشك كثرة ، هم فيه كدود على عود ، إن مال غرق وإن نحا فرق.

فلما جاءه كتاب عمرو كتب إلى معاوية : لا والذي بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا لا أحمل فيه مسلما أبدا.

وفى رواية أنه كتب إليه :

إنا قد سمعنا أن بحر الشام يشرف على أطول شيء فى الأرض ، يستأذن الله فى كل يوم وليلة أن يفيض على الأرض فيغرقها ، فكيف أحمل الجنود فى هذا البحر الكافر المستصعب؟ والله لمسلم واحد أحب إلىّ مما حوت الروم فإياك أن تتعرض لى ، وقد تقدمت إليك.

__________________

(١) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ٢٥٨ ـ ٢٦١).

٣٦٣

فلما ولى عثمان بن عفان لم يزل به معاوية ، حتى عزم على ذلك ، وقال له : لا تنتخب الناس ، ولا تقرع بينهم ، خيرهم ، فمن اختار الغزو طائعا فاحمله وأعنه.

ففعل ذلك معاوية ، واستعمل على البحر عبد الله بن قيس الجاسى حليف بنى فزارة ، فغزا خمسين غزاة من بين صائفة وشاتية فى البر والبحر ، ولم يغرق معه أحد فى البحر ولا نكب ، وكان يدعو الله أن يرزقه العافية فى جنده ، ولا يبتليه بمصاب أحد منهم ، ففعل الله ذلك له ، حتى إذا أراد الله أن يصيبه وحده ، خرج فى قارب طليعة ، فانتهى إلى البر من أرض الروم ، وعليه سؤال يعبرون ذلك المكان ، فتصدق عليهم ، فرجعت امرأة من السؤال إلى قريتها ، فقالت للرجال : هل لكم فى عبد الله بن قيس؟ قالوا : وأين هو؟ قالت : فى المرفأ ، قالوا : أى عدوة الله ، ومن أين تعرفين عبد الله بن قيس؟ فوبختهم ، وقالت : أنتم أعجز منى! أو يخفى عبد الله على أحد؟ فبادروا فهجموا عليه ، فقاتلوه وقاتلهم ، فأصيب وحده ، وأفلت الملاح حتى أتى أصحابه ، فجاءوا حتى أرفوا ، والخليفة فيهم سفيان بن عوف الأودى ، فخرج فقاتلهم ، فضجر وجعل يعبث بأصحابه ويشتمهم ، فقالت جارية عبد الله : واعبد الله ، ما هكذا كان يقول حين تقاتل! فقال سفيان : وكيف كان يقول؟ قالت : «الغمرات ثم ينجلين» ؛ فجعل سفيان يقول ذلك وترك ما كان يقول ، وأصيب فى المسلمين يومئذ. وقيل لتلك المرأة : بأى شيء عرفته؟ فقالت : بصدقته ، أعطى كما يعطى الملوك ، ولم يقبض قبض التجار.

غزو معاوية بن أبى سفيان قبرس

وغزا معاوية بن أبى سفيان قبرس سنة ثمان وعشرين فيما ذكر الواقدى.

قال : وهو أول من غزا الروم ، وغزاها أهل مصر وعليهم عبد الله بن سعد بن أبى سرح ، حتى لقوا معاوية فكان على الناس.

قال ابن عفير : ومع معاوية امرأته فاختة بنت قرظة ، وكان معه ، أيضا ، فى غزاته أبو الدرداء ، وشداد بن أوس ، وأبو ذر ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، فى عدة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأم حرام الأنصارية فتوفيت هناك ، فقبرها يستسقى به أهل قبرس ويسمونه قبر المرأة الصالحة.

وأم حرام (١) هذه هى خالة أنس بن مالك ، رضى الله ، وحديثها مشهور فى نوم النبيّ

__________________

(١) انظر ترجمتها فى : الإصابة ترجمة رقم (١١٩٧١) ، الثقات (٣ / ٤٦٢) ، تجريد أسماء الصحابة (٢ / ٣١٦) ، تقريب التهذيب (١٢ / ٦٢٠) ، تهذيب التهذيب (١٢ / ٤٦٢).

٣٦٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بيتها ثم استيقظ وهو يضحك ، فسألته : ما يضحكه؟ فقال : «ناس من أمتى عرضوا علىّ غزاة فى سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة» ، فقالت : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلنى منهم! فدعا لها ، ثم وضع رأسه فنام ثم استيقظ يضحك ، فسألته فقال : «ناس من أمتى عرضوا علىّ» (١) ، مثل مقالته الأولى. فقالت : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلنى منهم. قال : «أنت من الأولين» (٢) ، فكانت هذه الغزوة هى التي عرضت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا. وخرجت أم حرام فيها ، فصرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت.

قال ابن عمير : وذلك العام بالشام عام قبرس الأول.

وقيل : إن معاوية توجه إليها من حصن عكا فى مائتى مركب ، قال : وظفر معاوية فى هذه الغزاة ، وأخذ من الأموال والحلى ما لا يحصى.

وقال جبير بن نفير (٣) : لما سبيناهم ، يعنى أهل قبرس ، نظرت إلى أبى الدرداء يبكى ، فقلت : ما يبكيك فى يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله ، وأذل الكفر وأهله؟ فضرب بيده على منكبى ، وقال : ثكلتك أمك يا جبير ، ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره! بينا هى أمة ظاهرة قاهرة للناس لهم الملك ، إذ تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى ، فسلط عليهم السباء ، وإذا سلط السباء على قوم فليس لله ، عزوجل ، بهم حاجة.

وذكر الطبرى (٤) أن معاوية لما غزا قبرس صالح أهلها على جزية سبعة آلاف دينار ، يؤدونها إلى المسلمين فى كل سنة ، ويؤدون إلى الروم مثلها ، ليس للمسلمين أن يحولوا بينهم وبين ذلك ، على أن لا يغزوهم المسلمون ، ولا يقاتلوا هم من غزا من خلفهم يريد

__________________

(١) انظر الحديث فى : سنن الترمذى (١٦٤٥) ، سنن ابن ماجه (٢٧٧٦) ، التمهيد لابن عبد البر (١ / ٢٢٥) ، الترغيب والترهيب للمنذرى (٢ / ٣٠٥) ، موطأ مالك (٤٦٤) ، فتح البارى لابن حجر (١١ / ٧١ ، ١٢ / ٣٩١) ، الأذكار النووية (١٨٥).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٤ / ١٩ ، ٢٢ ، ٤٠ ، ٤٤ ، ٨ / ٧٨ ، ٩ / ٤٤) ، صحيح مسلم فى كتاب الإمارة (١٦٠ ، ١٦١) ، سنن النسائى فى كتاب الجهاد ، باب (٣٧) ، سنن أبى داود فى كتاب الجهاد ، باب (١٠) ، سنن ابن ماجه (٢٧٧٦) ، مسند الإمام أحمد (٦ / ٣٦١ ـ ٤٢٣) ، فتح البارى لابن حجر (١١ / ٧١) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (٧ / ١٨٤) ، موطأ مالك (٤٦٥) ، التمهيد لابن عبد البر (١ / ٢٢٥ ، ٢٤١).

(٣) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ٢٦٢ ، ٢٦٣).

(٤) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ٢٦٢).

٣٦٥

الخروج إلى أرض المسلمين ، وعليهم أن يؤذنوا المسلمين بمسير عدوهم من الروم إليهم ، وعلى أن يطرق إمام المسلمين عليهم منهم.

وذكر الواقدى (١) ، أيضا ، مصالحة معاوية أهل قبرس فى ولاية عثمان ، رحمه‌الله ، وأن فى العهد الذي بيننا وبينهم ألا يتزوجوا فى عدونا من الروم إلا بإذننا.

قال : وفى هذه السنة ، يعنى سنة ثمان وعشرين ، غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم.

غزوة ذات الصوارى(٢)

ذكر الواقدى (٣) أن أهل الشام خرجوا ، وعليهم معاوية بن أبى سفيان ، وعلى أهل البحر عبد الله بن سعد بن أبى سرح ، وخرج عامئذ قسطنطين بن هرقل لما أصاب المسلمون منهم بإفريقية ، فخرجوا فى جمع لم ير الروم مثله قط منذ كان الإسلام ، فخرجوا فى خمسمائة مركب ، فالتقوا هم وعبد الله بن سعد ، فأمن بعضهم بعضا حتى قرنوا بين سفن المسلمين وأهل الشرك.

قال مالك بن أوس بن الحدثان (٤) : كنت معهم ، فالتقينا فى البحر ، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط ، وكانت الريح علينا ، فأرسينا ساعة ، وأرسوا قريبا منا وسكنت الريح عنا ، فقلنا : الأمن بيننا وبينكم. قالوا : ذلك لكم منا ولنا منكم. قلنا : إن أحببتم فالساحل حتى يموت الأعجل ، وإن شئتم فالبحر ، فنخروا نخرة واحدة ، وقالوا : الماء فدنونا منهم ، فربطنا السفن بعضها ببعض ، حتى كنا بحيث يضرب بعضنا بعضا ، فقاتلنا أشد القتال ، ووثب الرجال على الرجال يضطربون بالسيوف ويتواجئون بالخناجر ، حتى رجعت الدماء إلى الساحل تضربها الأمواج ، وطرحت الأمواج جثث الرجال ركاما.

وقال بعض من حضر ذلك اليوم ، أيضا : رأيت الساحل وإن عليه لمثل الظرب العظيم من جثث الرجال ، وإن الدم للغالب على الماء.

__________________

(١) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ٢٦٣).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٤ / ٢٨٨) ، المنتظم لابن الجوزى (٥ / ١٢).

(٣) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ٢٩٠).

(٤) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٧٦١١) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٥٦٥) ، طبقات ابن سعد (٥ / ٥٦) ، المعارف (٤٢٧) ، الجرح والتعديل (٤ / ٢٠٣) ، تاريخ ابن عساكر (٨٤١٦) ، تهذيب الأسماء واللغات (١ / ٢ / ٧٩) ، تهذيب التهذيب (١٠ / ١٠) ، شذرات الذهب (١ / ٩٩).

٣٦٦

ولقد قتل يومئذ من المسلمين بشر كثير ، وقتل من الكفار ما لا يحصى ، وصبروا يومئذ صبرا لم يصبروا فى موطن قط مثله ، ثم أنزل الله نصره على أهل الإسلام ، وانهزم القسطنطين مدبرا ، وأصابته يومئذ جراحات مكث فيها حينا جريحا.

وعن حنش الصنعانى (١) قال (٢) : ركب الناس البحر سنة إحدى وثلاثين مع عبد الله ابن سعد ، فلما بلغوا ذات الصوارى (٣) لقوا جموع الروم فى خمسمائة مركب أو ستمائة ، فيها القسطنطين بن هرقل ، فقال : أشيروا علىّ ، قالوا : انتظر الليلة فباتوا يضربون بالنواقيس ، وبات المسلمون يصلون ويدعون الله ، ثم أصبحوا وقد أجمع القسطنطين فقربوا سفنهم ، وقرب المسلمون فربطوا بعضها إلى بعض ، وصف عبد الله المسلمين على نواحى السفن ، وأمرهم بقراءة القرآن وبالصبر ، وو ثبت الروم فى سفن المسلمين على صفوفهم حتى نقضوها ، واقتتلوا على غير صفوف قتالا شديدا ، ثم إن الله نصر المؤمنين ، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة لم ينج من الروم إلا الشريد ، وأقام عبد الله بذات الصوارى أياما بعد هزيمة القوم ، ثم أقبل راجعا.

وذكر ابن عبد الحكم (٤) أن عبد الله بن سعد لما نزل ذات الصوارى أنزل نصف الناس مع بسر بن أبى أرطأة سرية فى البر ، فلما مضوا أتى آت إلى عبد الله فقال : ما كنت فاعلا حين ينزل بك ابن هرقل فى ألف مركب فافعله الساعة.

قال : وإنما مراكب المسلمين مائتا مركب ونيف. فقام فقال : أشيروا علىّ ، فما كلمه رجل من المسلمين ، فجلس قليلا لترجع إليهم أفئدتهم ، ثم استشارهم فما كلمه أحد ثم قال الثالثة : إنه لم يبق شيء فأشيروا علىّ ، فقال رجل من أهل المدينة كان متطوعا : أيها الأمير ، إن الله تعالى يقول : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ٢٤٩] ، فقال عبد الله : اركبوا باسم الله ، فركبوا ، وإنما فى كل مركب نصف شحنته ، قد خرج النصف الآخر مع بسر فى البر ، فلقوهم فاقتتلوا بالنبل والنشاب ، وتأخر ابن هرقل لئلا تصيبه الهزيمة ، وجعل تختلف القوارب إليه بالأخبار. فقال : ما فعلوا؟.

__________________

(١) هو : حنش بن عبد الله الصنعانى.

(٢) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ٢٩٢).

(٣) الصوارى : جمع صار ، وهو الخشبة المعترضة وسط السفينة. انظر : القاموس المحيط للفيروزآباديّ (٤ / ٣٥٢).

(٤) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (١٩٠ ، ١٩١).

٣٦٧

قالوا : اقتتلوا بالنبل والنشاب ، قال : غلبت الروم. ثم أتوه فقال : ما فعلوا؟ قالوا : قد نفدت النبل والنشاب فهم يرتمون بالحجارة ، قال : غلبت الروم : ثم أتوه فقال : ما فعلوا؟قالوا : نفدت الحجارة وربطوا المراكب بعضها ببعض يقتتلون بالسيوف. قال : غلبت الروم.

قال يزيد بن أبى حبيب : وكانت السفن إذ ذاك تقرن بالسلاسل عند القتال ، فقرن مركب عبد الله يومئذ وهو الأمير بمركب من مراكب العدو ، فكاد مركب العدو يجر مركب عبد الله إليهم ، فقام علقمة بن يزيد العطيفى وكان فى المركب مع عبد الله فضرب السلسلة بسيفه فقطعها ، فسأل عبد الله بعد ذلك امرأته بسيسة ابنة جمرة بن ليشرح بن عبد كلال ، وكانت معه يومئذ ، وكان الناس فيما خلا يغزون بنسائهم : من رأيت أشد الناس قتالا؟ قالت علقمة صاحب السلسلة. وكان عبد الله حين خطبها إلى أبيها قال : إن علقمة قد خطبها وله علىّ فيها رأى فإن يتركها أفعل. فكلم عبد الله علقمة فتركها ، فتزوجها عبد الله ثم هلك عنها ، فتزوجها بعده علقمة ، ثم هلك عنها ، فتزوجها كريب بن أبرهة.

وقال محمد بن الربيع : إنما سميت غزوة ذات الصوارى لكثرة المراكب التي اجتمعت فيها : ابن هرقل فى ألف مركب ، والمسلمون فى مائتى مركب ونيف فكثرت الصوارى فى البحر فسميت ذات الصوارى.

وفى بعض ما تقدم من الأخبار ما يقتضى أن ذات الصوارى موضع يسمى هكذا ، فالله تعالى أعلم.

ذكر فتح العراق

وما والاه على ما ذكره سيف بن عمر وأورده أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى

عنه وعن غيره

ذكروا عن على بن أبى طالب وعبد الله بن عباس ، رضي‌الله‌عنهما ، قالا : حض الله المسلمين على عهد نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الاستقامة على الدين وندبهم إلى فارس ، ووعدهم ، فتقدم إليهم فى ذلك من قبل غزوهم ، ليحثهم وليدربهم ، فبدأ بالردة فقال : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ

٣٦٨

يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران : ١٤٤] ، فسمى من ثبت على دينه بعد موت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشاكرين. ثم عاد فى وصف من ناهض منهم أهل الردة ، والمنافقون حشر فى المؤمنين ، وإنما يكلم الله عزوجل ، المؤمنين بما يعنى به المنافقين ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة :٥٤] ، فسماهم أحباء وأثابهم ، حيث كانوا أذلة أرقة على المؤمنين ، أعزة على الكافرين ، يجاهدون ، يعنى جهادا بعد جهادهم أهل الردة ، يقاتلون من بعدهم أهل فارس ، ولا يخافون تخويف من يخوفهم ، هذا فضل الله يخص به من يشاء ، (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) عالم بهذا ، فهم الشاكرون ، وهم الفاضلون ، وهم المقربون ، وهم أحباء الله.

وعن على وابن عباس ، رضي‌الله‌عنهما ، فى قوله عزوجل : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ) الآيتين إلى قوله : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) [الفتح : ٢٠ ، ٢١] ، «مغانم» فتوحا من لدن خيبر ، تلونها وتضمون ما فيها «فعجل لكم هذه» أى عجل لكم من ذلك خيبر «وكف أيدى الناس عنكم» أيدى قريش بالصلح يوم الحديبية «ولتكون آية للمؤمنين» شاهدا على ما بعدها ودليلا على إنجازها «وأخرى لم تقدروا عليها» أى على علم وقتها ، أفيئها عليكم : فارس والروم «قد أحاط الله بها» قضى الله بها أنها لكم ، منها : الأيام ، والقوادس ، والواقوصة ، والمدائن الحمر بالشام ، ومصر ، والضواحى ، فاجتمعت هذه الصفات فيمن قاتل فارس والروم وسائر الأعاجم ذلك الزمان.

ذكر سيف قال : كان أول ملوك فارس قاتله المسلمون شيرى بن كسرى ، وذلك أن أبا بكر الصديق ، رضي‌الله‌عنه ، حيث فرغ من أهل الردة ، وأقامت جنود المسلمين فى بلدان من ارتد ، كتب إلى خالد بن الوليد وهو باليمامة : أن ائذن للمسلمين فى القفل إلا من أحب المقام معك ، ولا تكرهن أحدا على القيام ، ولا تستعن فى شيء من حربك بمتكاره ، وادع من يليك من تميم وقيس وبكر إلى موتان اليمامة ، فإن موات ما أفاء الله على رسوله لله ولرسوله ، فمن أحيا شيئا من ذلك فهو له ، لا يدخل ذلك فى شيء من موات كل بلد أسلم عليه أهله.

ففعل خالد ، فأنزل اليمامة من هؤلاء الأحياء من أقرن ببنى حنيفة ، ولما أذن خالد فى القفل قفل الناس ، أهل المدينة ومن حولها ، وسائر من كان معه من أهل القبائل ، وبقى

٣٦٩

خالد فى ألفين من القبائل التي حول المدينة ، من مزينة ، وجهينة ، وأسلم ، وغفار ، وضمرة ، وأناس من غوث طيئ ، ونبذ من عبد القيس.

ولما قفل من قفل ، وجه المثنى بن حارثة الشيبانى ، ومذعور بن عدى العجلى ، وحرملة ابن مريطة ، وسلمى بن القين الحنظليين وهما من المهاجرين ، والمثنى ومذعور ممن وفد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقدموا على أبى بكر ، رحمه‌الله ، فقال له حرملة وسلمى : إنا معاشر بنى تميم وبكر بن وائل قد دربنا بقتال فارس ، وأشجيناهم حتى اتخذوا الخنادق ، وغبقوا المياه ، واتخذوا المسالح فى القصور المشيدة وتحصنوا بها ، فأذن لنا فى حربهم ، فأذن لهما فولاهما على من تابعهما ، واستعملهما على ما غلبا عليه ، وكانا أول من قدم أرض فارس لقتال أهل فارس ، وكانا من المهاجرين ومن صالحى الصحابة ، فنزلا أطد (١) ونعمان والجعرانة فى أربعة آلاف من تميم والرباب ، وكان بإزائهما النوشجان والفيرمان بالوركاء (٢) فزحفوا إليهما فغلبوهما على الوركاء ، وغلبا على هرمزجرد إلى فرات بادقلى (٣).

وذكر سيف من طريق آخر أن المثنى ومذعورا لما قدما على أبى بكر استأذناه فى غزو أهل فارس وقالا : إنا وإخواننا من بنى تميم قد دربنا بقتالهم ، وأخذنا النصف من أحد وثنى كل موسم ، فأذن لهما ، وولاهما على من تابعهما ، واستعملهما على ما غلبا عليه ، فجمعا جموعهما ثم سارا بهم حتى قدما بلاد فارس ، وكانا أول من قدمها لقتالهم هما وحرملة وسلمى ، وقدم المثنى ومذعور فى أربعة آلاف من بكر بن وائل وعنزة وضبيعة ، فنزل أحدهما بخفان (٤) ، ونزل الآخر بالمهارق ، وعلى فرج الفرس مما يليهما شهربراز بن بندا ، فنفياه وغلبا على فرات بادقلى إلى السيلحين (٥) واتصل ما غلبا عليه وما غلب عليه سلمى وحرملة ، وفى ذلك يقول مذعور بن عدى :

غلبنا على خفان بندا وشيحة

إلى النخلات السحق فوق المهارق

وإنا لنرجو أن تجول خيولنا

بشاطى الفرات بالسيوف البوارق

وقال المثنى فى ذلك :

__________________

(١) أطد : أرض قرب الكوفة من جهة البر. انظر : معجم البلدان (١ / ٢١٦).

(٢) انظر : معجم البلدان (٥ / ٣٧٢ ، ٣٧٣).

(٣) الخبر عن سيف بن عمر فى معجم البلدان (٥ / ٣٧٢ ، ٣٧٣).

(٤) خفان : موضع قرب الكوفة. انظر : معجم البلدان (٢ / ٣٧٩).

(٥) موضع بين الكوفة والقادسية. انظر : معجم البلدان (٣ / ٢٩٨ ، ٢٩٩).

٣٧٠

ألا أبلغا شهرا وشهر مهاجر

بأنا سنلقاه على الحدثان

فنحن سللنا شيحة يوم بارق

إلى شرّ دار تنتوى ومكان

ويروى أن أبا بكر ، رحمه‌الله ، لما بلغه ما كان من فتح حرملة وسلمى ومثنى ومذعور ما بين السيلحين إلى أسفل الفرات تمثل بقول الآخر :

ومتى تسلف فى قبيل خطة

تلق المنال مضاعفا أو موعبا

وإذا عقدت بحبل قوم مرة

ذربوا عليك فلم تجد لك مقضبا

حيان لا خطما بحبل هضيمة

أنفا الزمام فلم يقرأ مركبا

وحكى عمر بن شبة عن شيوخه من أهل الأخبار : أن المثنى بن حارثة كان يغير على أهل فارس بالسواد ، فبلغ أبا بكر والمسلمين خبره ، فقال عمر : من هذا الذي تأتينا وقائعه قبل معرفة نسبه ، فقال له قيس بن عاصم : أما إنه غير خامل الذكر ، ولا مجهول النسب ، ولا قليل العدد ، ولا ذليل العمارة ، ذلك المثنى بن حارثة الشيبانى (١).

ثم إن المثنى قدم على أبى بكر فقال له : يا خليفة رسول الله ، ابعثنى فى قومى ، فإن فيهم إسلاما ، أقاتل بهم أهل فارس ، وأكفك أهل ناحيتى من العدو. ففعل ذلك أبو بكر ، فقدم المثنى العراق ، فقاتل وأغار على أهل فارس ونواحى السواد حولا مجرّما ، ثم بعث أخاه مسعود بن حارثة إلى أبى بكر يسأله المدد ، ويقول : إنك إن أمددتنى وسمعت بذلك العرب أسرعوا إلىّ وأذل الله المشركين ، مع أنى أخبرك يا خليفة رسول الله ، أن الأعاجم تخافنا وتتقينا. فقال له عمر : يا خليفة رسول الله أبعث خالد بن الوليد مددا للمثنى بن حارثة ، يكون قريبا من أهل الشام ، فإن استغنى عنه أهل الشام ألح على أهل العراق حتى يفتح الله عليه. قال : فهذا الذي هاج أبا بكر ، رحمه‌الله ، على أن يبعث خالد بن الوليد إلى العراق (٢).

وفى حديث آخر : أنه ولاه حرب العراق لما قضى ما أراد قضاءه من اليمامة ، وكتب إلى المثنى ومذعور وسلمى وحرملة بأن يسمعوا له ويطيعوا.

__________________

(١) انظر : الفتوح لابن أعثم الكوفى (١ / ٨٩) ، الاستيعاب لابن عبد البر (ص ١٤٥٧) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١٠٦).

(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام للأزدى (ص ٥٣ ، ٥٤) ، الاستيعاب لابن عبد البر (ص ١٤٥٧) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١٠٦ ، ١٠٧).

٣٧١

أخبار الأيام فى زمان خالد بن الوليد

رضي‌الله‌عنه (١)

وكانت لمن وليها الفضيلة والسابقة والقدمة ؛ لأنهم شركوا أهل القادسية والبويب وفضلوهم بولايتهم هذه.

وهذا كما اجتمعت للمهاجرين النصرة مع الهجرة ، وفضلوا الأنصار بالهجرة ، فروى الشعبى وهشام بن عروة قالا : لما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة كتب إليه أبو بكر : إنى قد وليتك حرب العراق ، فاحشد من ثبت على الإسلام ، وقاتل أهل الردة ممن بينك وبين العراق ، من تميم وقيس وأسد وبكر بن وائل وعبد القيس ، ثم سر نحو فارس ، واستنصر الله عزوجل ، وادخل العراق من أسفل العراق ، فابدأ بفرج الهند ، وهو يومئذ الأبلة (٢) ، وكان صاحبها يساجل أهل الهند والسند فى البحر ، ويساجل العرب فى البر.

وقال له : تألف أهل فارس ، ومن كان فى مملكتهم من الأمم ، وأنصفوا من أنفسكم فإنكم كنتم خير أمة أخرجت للناس. نسأل الله أن يجعل من ألحقه بنا وصيره منا خير متبع بإحسان. وإن فتح الله عليك فعارق حتى تلقى عياضا.

وكتب إلى عياض بن غنم وهو بين الحجاز والنباج (٣) : أن سر حتى تأتى المصيخ فاحشد من بينك وبينها على إسلامه ، وقاتل أهل الردة فابدأ بهم ، ثم ادخل العراق من أعلاها فعارق حتى تلقى خالدا.

فاستمد خالد أبا بكر قبل خروجه من اليمامة ، فأمده بالقعقاع بن عمرو التميمى ، واستمده عياض قبل تحركه ، فأمده أبو بكر بعبد بن عوف الحميرى ، وقيل لأبى بكر : أتمد خالدا برجل قد أرفض عنه الناس؟ فقال : لا يهزم جيش فيه مثل القعقاع ، وسيحشر من بينه وبين أهل العراق.

وكتب خالد إلى حرملة وسلمى والمثنى ومذعور ليلحقوا به ، وأمرهم أن يغزوا جنودهم الأبلة ليوم سماه ، ثم حشد من بينه وبين العراق ، فحشد ثمانية آلاف من مصر

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٣٤٣ ـ ٣٥٠) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٦١ ، ٢٦٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٤٢ ، ٣٤٣) ، تاريخ ابن خلدون (٢ / ٧٨).

(٢) الأبلة : بلدة على شاطئ دجلة فى زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة البصرة. انظر : معجم البلدان (١ / ٧٧).

(٣) النباح : موضع بين البصرة ومكة. انظر : معجم البلدان : (٥ / ٢٥٥ ، ٢٥٦).

٣٧٢

وربيعة إلى ألفين كانا معه ، فقدم فى عشرة آلاف إلى ثمانية آلاف ممن كان مع الأمراء الأربعة ، فلقى هرمز فى ثمانية عشر ألفا.

وفيما ذكره سيف من مسير خالد وعياض إلى العراق : أن أبا بكر أمرهما أن يستبقا إلى الحيرة ، فأيهما سبق إليها فهو أمير على صاحبه. وقال : فإذا اجتمعتما بالحيرة ، وفضضتما مسالح فارس ، وأمنتما أن يؤتى المسلمون من خلفهم ، فليكن أحد كما ردءا لصاحبه وللمسلمين بالحيرة ، وليقتحم الآخر على عدو الله وعدوكم من أهل فارس دارهم ومستقر عزهم بالمدائن.

وكتب إليهما : استعينوا بالله واتقوه ، وآثروا أمر الآخرة على الدنيا ، يجمع الله لكم بطاعته الدنيا إلى الآخرة ، ولا تؤثروا الدنيا فتعجزكم ، ويسلبكم الله بمعصيته الدنيا والآخرة ، فما أهون العباد على الله إذا عصوه.

قال : ولما عزم خالد على المسير من اليمامة إلى العراق سأل عن الأدلة ، فأتى بنفر ، فسأل عن أسمائهم ، فتفاءل منهم إلى ثلاثة بأسمائهم : ظفر بن عمرو السعدى ورافع بن عميرة الطائى ، ومالك بن عباد الأسدي.

وجدد خالد التعبئة ، فعبأ الناس تعبئة مستأنفة غير التي دخل بها اليمامة ، ونصب لجنده أعلاما غير الذين كانوا أعلامهم ، وذلك أن أعلامهم الذين دخل بهم اليمامة قفلوا. فوضع رجالا مكانهم ، وتوخى الصحابة ، ثم توخى منهم الكماة ، فاستعمل على مضر القعقاع بن عمرو (١) ، وعلى ربيعة فرات بن حيان (٢) ، وعلى قضاعة وضم إليهم أهل اليمن جرير بن عبد الله الحميرى أخا الأقرع بن عبد الله رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اليمن ، وجعل على القبائل دون ذلك ، على نصف خندق ، فارس أطلال بكير بن عبد الله الليثى ، وعلى النصف الآخر معقل بن مقرن المزنى ، وعلى قيس عيلان وعلى غطفان ومن يلاقيهم إلى سعد بن قيس ، سعد بن عمارة التغلبى ، وعلى هوازن ومن يلاقيهم إلى خصفة أبا حنش بن ذى اللحية العامرى ، وضم جديلة إليهم ، وهم عمرو بن قيس بن عيلان وعلى اللهازم من بكر بن وائل عتيبة بن النهاس ، واللهازم عجل ، وتيم اللات ، وقيس بن ثعلبة ، وعنزة ، وعلى الدعائم وهم : شيبان بن ثعلبة ، وذهل بن ثعلبة ، وضبيعة

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٧١٤٢) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٣١٥).

(٢) انظر ترجمته فى : الثقات (٣ / ٣٣٣) ، تقريب التهذيب (٢ / ١٠٧) ، الكاشف (٢ / ٣٧٩) ، الجرح والتعديل (٧ / ٤٤٩ ، ٤٥٠) ، تهذيب التهذيب (٨ / ٢٥٩) ، الطبقات (٦٥ ، ١٣٢) ، الإصابة ترجمة رقم (٦٩٨٩) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٢١٣).

٣٧٣

ابن ربيعة ، ويشكر بن ربيعة ، يشكر بن بكر بن مطر بن عامر الشيبانى ، وعلى قضاعة الحارث بن مرة الجهنى ، وعلى اليمن مالك بن مرة الرهاوى ، وابن زيد الخيل بن مهلهل ، وهؤلاء تحت أيدى أولئك الثلاثة.

واستعمل على المقدمات : المثنى بن حارثة ، وعلى المجنبات : عدى بن حاتم وعاصم ابن عمرو أخا القعقاع ، وعلى الساقة : بسر بن أبى رهم الجهنى صاحب جبانة بسر ، واستخلف على اليمامة وهوافى قيس وتميم سبرة بن عمرو العنزى ، وكل من أمر له صحبة وقدمة. وخرج قاصدا الهرمز والأبلة.

وقال المغيرة بن عتبة قاضى الكوفة : فرق خالد مخرجه من اليمامة جنده ثلاث فرق ، ولم يحملهم على طريقة واحدة ، فسرح المثنى قبله بيومين ودليله ظفر ، وسرح عديا وعاصما ودليلاهما مالك بن عباد وسالم بن نصر ، أحدهما قبل صاحبه بيوم ، وخرج خالد ودليله رافع ، فواعدهم جميعا الحفير ليجتمعوا فيه وليصادموا به عدوهم.

وكان فرج الهند أعظم فروج فارس شأنا وأشده شوكة ، وكان صاحبه يحارب العرب فى البر والهند فى البحر.

وعن الشعبى قال : كتب خالد إلى هرمز قبل خروجه ، وهرمز صاحب الثغر يومئذ : أما بعد ، أسلم تسلم ، أو اعقد لنفسك وقومك الذمة وأقر بالجزية ، وإلا فلا تلومن إلا نفسك ، فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.

ولما قدم كتاب خالد على هرمز كتب بالخبر إلى شيرى بن كسرى ، وإلى أردشير بن شيرى ، وجمع جموعه ثم تعجل إلى الكواظم فى سرعان أصحابه ليتلقى خالدا ، وسبق حلبته فلم يجد طريق خالد ، وبلغه أنهم تواعدوا الحفير ، فاعج يبادر خالدا إليه ، فنزله فعبأ به ، وجعل على مجنبتيه أخوين يلاقيان أردشير وشيرى آل أردشير الأكبر ، يقال لهما : قباذ وأنوشجان ، فاقترنوا فى السلاسل ، فقال من لم ير ذلك لمن رآه : قيدتم أنفسكم لعدوكم ، فلا تفعلوا فإن هذا طائر سوء. فأجابوهم : أما أنتم فتحدثوننا أنكم تريدون الهرب. فلما أتى الخبر خالدا بمنزل هرمز أمال الناس إلى كاظمة ، وبلغ ذلك هرمز ، فبادره إليها فنزلها وهو حسير.

وكان من أسوإ أمراء ذلك الفرج جوارا للعرب ، فكل العرب عليه مغيظ ، وقد كانوا يضربونه مثلا فى الخبث والمكر حتى قالوا : «أخبث من هرمز ، وأمكر من هرمز». وتعبأ هو وأصحابه والماء فى أيديهم.

٣٧٤

وقدم خالد فنزل على غير ماء ، فقالوا له فى ذلك ، فأمر مناديه فنادى : ألا انزلوا وحطوا أثقالكم ، ثم جالدوهم على الماء ، فلعمرى ليصيرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين. فحطت الأثقال والخيل وقوف ، وتقدم الرجل ثم زحف إليهم حتى لاقاهم ، فاقتتلوا ، وأرسل الله سبحانه سحابة فأغدرت ماء وراء صف المسلمين فقواهم بها ، وما ارتفع النهار وفى الغائط مقترن.

وأرسل هرمز أصحابه ليغدروا بخالد ، ثم خرج فنادى رجل : أين خالد؟ وقد عهد إلى فرسانه عهده. فلما برز خالد نزل هرمز ودعاه إلى البراز ، فبرز خالد يمشى إليه ، فالتقيا فاختلفا ضربتين واحتضنه خالد ، وحملت حامية هرمز وغدرت ، فاستلحموا خالدا فما شغله ذلك عن قتله.

وحمل القعقاع بن عمرو ، واستلحم حماة هرمز ، فأتاهم وخالد يماصعهم ، فانهزم أهل فارس ، وركب المسلمون أكتافهم إلى الليل ، وجمع خالد الرثاث والسلاسل ، فكان وقر بعير ، ألف رطل ، فسميت ذات السلاسل.

قال : وكان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم فى عشائرهم ، فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مائة ألف ، وتمام شرف أحدهم أن يكون من البيوتات السبعة ، فكان هرمز ممن تم شرفه ، فكانت قيمة قلنسوته مائة ألف ، فنفلها أبو بكر ، رحمه‌الله ، خالدا ، وكانت مفصلة بالجوهر.

وقال حنظلة بن زياد بن حنظلة : فلما تراجع الطلب من ذلك اليوم ، نادى منادى خالد بالرحيل ، وسار بالناس ، واتبعته الأثقال حتى نزل موضع الجسر الأعظم من البصرة اليوم ، وقد أفلت قباذ وأنوشجان ، وبعث خالد بالفتح وما بقى من الأخماس وبالفيل ، وقرئ الفتح على الناس ، فلما قرئ فيه : «خرجت من اليمامة فى ألفين ، وحشرت من ربيعة ومضر ثمانية آلاف ، فقدمت فى عشرة آلاف على ثمانية آلاف مع الأمراء الأربعة : المثنى ومذعور وحرملة وسلمى» تمثل أبو بكر ، رضي‌الله‌عنه :

تمنانا ليلقانا بقوم

تخال بياض لامهم السرابا

فقد لاقيتنا فأريت يوما

عماسا يمنع الشيخ الشرابا

تبدل علقما منا بحلو

ينسيك الغنيمة والإيابا

إذا خرجت سوالفهن زورا

كأن على حواركهن غابا

عليها كل متصل بمجد

من الجهتين يلتهب التهابا

٣٧٥

ولما قدم زر بن كليب بالفيل مع الأخماس فطيف به فى المدينة ليراه الناس ، جعلت ضعيفات النساء يقلن : أمن خلق الله ما نرى؟ ورأينه مصنوعا ، فرده أبو بكر ، رضي‌الله‌عنه ، مع زر.

وعن زياد بن حنظلة قال : إنى لبالمدينة وقد قدمتها وافدا من البحرين ، إذ أرسل إلىّ أبو بكر وقد قدم عليه الخبر بوقعة ذات السلاسل ، فقال لى : ألم تعلم أنه كان من الشأن ذيت وذيت ، وأن خالدا ألقى هرمز فاستلحم ، وأن القعقاع استلحم فقتلهم وتنفل؟.

قال زياد : فأقبلت على نفسى أحدثها فقلت : الخليفة وفراسته ، وذكرت قوله : «ولا يهزم جيش فيهم مثل هذا» ، فما راعنى إلا وأبو بكر يقول : أين أنت يا زياد؟ أما إن خالدا سيتغير له ويتنكر ، ثم يراجع ويعرف الحق. فاستنكره القعقاع بعد ذلك ، ووقع بينهما ما يقع بين الناس حتى قال القعقاع يعاتبه ولم يكن إلا ذلك :

منعتك من قرنى قباذ وليتنى

تركتك فاستذكت عليك المعاتب

عطفت عليك المهر حتى تفرجت

وملت من الطعن الدراك الرواجب

أجالدهم والخيل تنحط فى القنا

وأنت وحيد قد حوتك الكتائب

وكائن هزمنا من كتيبة قاهر

وكم عجمتنا فى الحروب العجائب

ولما نزل خالد موضع الجسر الأعظم اليوم بالبصرة بعث المثنى بن حارثة فى آثار القوم ، فمضى حتى انتهى إلى نهر المرأة وإلى الحصن الذي فيه المرأة ، فخلف المثنى بن حارثة عليها من حاصرها فى قصرها ، ومضى المثنى ، وأسلمت فتزوجها المثنى ، ولم يحرك خالد وأمراؤه الفلاحين فى شيء من فتوحهم لتقدم أبى بكر فيهم ، وسبى أولاد المقاتلة الذين كانوا يقومون بأمور الأعاجم ، وأقر من لم ينهض من الفلاحين وجعل لهم الذمة.

وبلغ سهم الفارس يوم ذات السلاسل والثنى ألف درهم ، والراجل على الثلث من ذلك.

حديث الثّنى والمذار (١)

وكانت وقعة المذار فى صفر سنة اثنتى عشرة ، ويومئذ قال الناس : صفر الأصفار ، فيه يقتل كل جبار ، على مجمع الأنهار.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٣٥١ ، ٣٥٢) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٦٣) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١٠٨ ، ١٠٩).

٣٧٦

ولما كتب هرمز إلى ملكهم بكتاب خالد إليه بمسيره من اليمامة نحوه ، أمده بقارن بن قربانس ، فخرج من المدائن ممدّا لهرمز ؛ حتى إذا انتهى إلى المذار بلغته الهزيمة ؛ وانتهى إليه الفلال فتذامروا ، وقال فلال الأهواز وفارس لفلال السواد والجبل : إن افترقتم لم تجتمعوا بعدها أبدا ؛ فاجتمعوا على العدو مرة واحدة ، فهذا مدد الملك وهذا قارن ، لعل الله يديلنا ويشفينا من عدونا وندرك بعض ما أصابوا منّا. ففعلوا وعسكروا بالمذار ، واستعمل قارن على مجنبتيه قباذ وأنوشجان ، فأرسل المثنى إلى خالد بالخبر ؛ فعند ذلك قسم خالد الفيء على من أفاء الله عليه ، ونفل من الخمس ما شاء الله ، وبعث مع الوليد ابن عقبة ببقيته ، وبالفتح إلى أبى بكر ، وبالخبر عن القوم ، وباجتماع المغيث منهم والمغاث إلى الثنى ، وهو النهر ، وخرج خالدا سائرا إليهم حتى ينزل المذار ، فالتقوا وخالد على تعبئته ، فاقتتلوا على حنق وحفيظة ، وخرج قارن يدعو للبراز ، فبرز له خالد وأبيض الركبان معقل بن الأعشى بن النباش ، فابتدراه ، فسبقه إليه معقل فقتله ، وقتل عاصم أنوشجان ، وقتل عدى قباذ. وكان شرف قارن قد انتهى ؛ ثم لم يقاتل المسلمون بعده أحدا انتهى شرفه فى الأعاجم.

وقتلت فارس مقتلة عظيمة ؛ فضموا السفن ومنعت المياه المسلمين من طلبهم. وأقام خالد بالمذار ، وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت وقسم الفيء ونفل من الأخماس ما نفل فى أهل البلاء ، وبعث ببقيتها إلى أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه.

وعن الشعبى قال : دفع خالد إلى أبيض الركبان سلب قارن وقيمته مائة ألف ، وإلى عاصم وعدى سلب أنوشجان وقباذ ، وقيمة سلب كل واحد منهما ثلاثة أرباع الشرف.

وعن أبى عثمان قال : قتل ليلة المذار ثلاثون ألفا سوى من غرق ، ولو لا المياه لأتى على آخرهم ، ولم يفلت منهم من أفلت إلا عراة أو أشباه العراة.

قال الشعبى : لم يلق خالد أحدا بعد هرمز إلا كانت الوقعة الآخرة أعظم من التي قبلها.

وأقام خالد بالثنى يسبى عيالات المقاتلة ومن أعانهم ، وأقر الفلاحين ومن أجاب إلى الخراج من جميع الناس بعد ما دعوا ، وكل ذلك أخذ عنوة ، ولكن دعوا إلى الجزاء فأجابوا وتراجعوا ، وصاروا ذمة ، وصارت أرضهم خراجا ؛ وكذلك جرى ما لم يقسم ، فإذا اقتسم فلا ، ومن ذلك السبى كان حبيب أبو الحسن البصرى ، وكان نصرانيا.

وقال عزيز بن مكنف : لم يدع خالد بعد هرمز أحدا من الأعاجم حتى هلك أردشير

٣٧٧

إلا أن يدعو قوما بعد ما يغلبهم على أرضهم ويجليهم عنها إلى الجزاء والذمة فيرد عليهم أرضهم فيصيروا ذمة ما لم تقتسم ، وبذلك جرت السنة.

وأمر خالد على الجزاء سويد بن مقرن المزنى ، وأمره بنزول الحفير ، وأمره ببث عماله ، ووضع يديه فى الجباية ، وأقام لعدوه يتحسس الأخبار.

وقال عاصم بن عمرو فى ذلك من أبيات :

فلم أر مثل يوم السيب حتى

رأيت الثنى تخضبه الدماء

وألوت خيلنا لما التقينا

بقارن والأمور لها انتهاء

حديث الولجة (١) وهى مما يلى كسكر من البر

وكانت فى صفر سنة اثنتى عشرة.

قالوا : لما وقع الخبر إلى أردشير بمصاب قارن وأهل المذار ، أرسل الأنذرزعر ، وكان فارسيا من مولدى السواد وتنائهم ؛ ولم يكن ممن ولد فى المدائن ولا نشأ بها ، وأرسل بهمن جاذويه فى أثره ، وكان رافد فارس فى يوم من أيام شهرهم ، وذلك أنهم بنوا شهورهم كل شهر على ثلاثين يوما ؛ فكان لأهل فارس فى كل يوم رافد نصب لذلك يرفدهم عند الملك ؛ فكان بهمن أحدهم ، فخرج الأنذرزعر سائرا من المدائن حتى أتى كسكر (٢) ، ثم جازها إلى الوالجة (٣) ، وخرج بهمن جاذويه فى أثره ، فأخذ غير طريقه فسلك أوسط السواد ، وقد حشد الأنذرزعر من بين الحيرة وكسكر من عرب الضاحية والدهاقين فعسكروا إلى جنب عسكره بالولجة ؛ فلما اجتمع له ما أراد واستتم له أعجبه ما هو فيه ، وأجمع السير إلى خالد.

ولما بلغ خالدا خبره ونزوله الولجة ، نادى بالرحيل ، وخلف سويد بن مقرن ، وأمره بلزوم الحفير ، وتقدم إلى من خلف بأسفل دجلة ، وأمرهم بالحذر وقلة الغفلة ، وترك

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٣٥٣ ، ٣٥٤) ، الكامل لابن الأثير (٢٦٣ ، ٢٦٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٤٥) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١٠٩).

(٢) كسكر : أى عامل الزرع ، وهو بلد بالعراق بين الكوفة والبصرة. انظر : معجم البلدان (٤ / ٤٦١).

(٣) الولجة والوالج : موضع يلى كسكر من البر. انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٣ / ٣٥٣) ، معجم البلدان (٥ / ٣٨٣).

٣٧٨

الاغترار ، وخرج سائرا فى الجنود نحو الولجة ، حتى نزل على الأنذرزعر وجنوده ومن تأشب إليه ، فاقتتلوا قتالا شديدا ؛ هو أعظم من قتال الثنى ، حتى ظن الفريقان أن الصبر قد فرغ ، واستبطأ خالد كمينه ؛ وكان قد وضع لهم كمينا فى ناحيتين ، عليهم بسر بن أبى رهم وسعيد بن مرة العجلى ، فخرج الكمين من وجهين ، فانهزمت صفوف العاجم وولوا ؛ وأخذهم خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم ، فلم ير رجل منهم مقتل صاحبه ؛ ومضى الأنذرزعر فى هزيمته ، فمات عطشا. وقام خالد فى الناس خطيبا يرغبهم فى بلاد العجم ، ويزهدهم فى بلاد العرب ، وقال : ألا ترون إلى الطعام كالتراب ، والله لو لم يلزمنا الجهاد فى الله ، والدعاء إليه ، ولم يكن إلا المعاش لكان الرأى أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به ، ونولى الجوع والإقلال من تولاه ممن تثاقل عما أنتم عليه.

وسار خالد فى الفلاحين سيرته فلم يقتلهم ، وسبى ذرارى المقاتلة ومن أعانهم ، ودعا أهل الأرض إلى الجزاء والذمة فتراجعوا.

وبارز خالد يوم الولجة رجلا من أهل فارس يعدل بألف رجل فقتله ، فلما فرغ اتكأ عليه ، ودعا بغذائه.

وقال خالد يذكر ذلك اليوم :

نهكناهم بها حتى استجاروا

ولو لا الله لم يرزوا قبالا

فولوا الله نعمته وقولوا

ألا بالله نحتضر القتالا

وقال القعقاع فى ذلك وأثنى على المسلمين :

ولم أر قوما مثل قوم رأيتهم

على ولجات البر أحمى وأنجبا

وأقتل للرواس فى كل مجمع

إذا صعصع الدهر الجموع وكبكبا

فنحن حبسنا بالزمازم بعد ما

أقاموا لنا فى عرصة الدار ترقبا

قتلناهم ما بين قلع مطلق

إلى القيعة الغبراء يوما مطنبا

حديث ألّيس ، وهى على صلب الفرات (١)

ولما أصاب خالد من أصاب يوم الولجة من بكر بن وائل من نصاراهم الذين أعانوا

__________________

(١) انظر : الطبرى (٣ / ٣٥٥ ـ ٣٥٨) ، الروض المعطار (ص ٢٩ ، ٣٠) ، الكامل لابن الأثير (٢ / ٢٦٤ ، ٢٦٥) ، نهاية الأرب للنويرى (١٩ / ١٠٩ ، ١١٠) ، البداية والنهاية لابن كثير (ص ٣٤٦ ، ٣٤٧).

٣٧٩

أهل فارس غضب لهم نصارى قومهم ؛ فكاتبوا الأعاجم وكاتبتهم الأعاجم ؛ فاجتمعوا إلى أليس ، وعليهم عبد الأسود العجلى ، وكان أشد الناس على أولئك النصارى مسلموا بنى عجل عتيبة بن النهاس وسعيد بن مرة وفرات بن حيان والمثنى بن لاحق ومذعور بن عدى.

وكتب أردشير إلى بهمن جاذويه : أن سر حتى تقدم أليس بجيشك إلى من اجتمع بها من فارس ونصارى العرب. فقدم بهمن أمامه جابان وأمره بالحث وقال له : كفكف نفسك وجندك عن قتال القوم حتى ألحق بك إلا أن يعجلوك. فسار جابان نحو أليس ، وانطلق بهمهن إلى أردشير ليحدث به عهدا ، ويستأمره فيما يريد أن يشير به ، فوجده مريضا ؛ فعرج عليه ، وأخلى جابان بذلك الوجه ، ومضى جابان حتى انتهى إلى أليس فنزل بها ، واجتمعت إليه المسالح التي كانت بإزاء العرب ، وعبد الأسود فى نصارى بنى عجل وتيم اللات وضبيعة وعرب الضاحية من أهل الحيرة ، وكان أبجر بن بجير نصرانيا فساند عبد الأسود ؛ وكان خالد بلغه بجمع عبد الأسود وأبجر وزهير فيمن تأشب إليهم ، فنهد إليهم ولا يشعر بدنو جابان ، وليست لخالد همة إلا من تجمع له من عرب الضاحية ونصاراهم.

ولما طلع خالد على أليس قالت الأعاجم لجابان : أنعاجلهم أو نغدى الناس ولا نريهم أنا نحفل بهم ، ثم نقاتلهم بعد الفراغ؟ فقال جابان : إن تركوكم والتهاون بهم فتهاونوا ، ولكن ظنى أن سيعاجلوكم ويعجلوكم عن طعامكم ، فعصوه وبسطوا البسط ووضعوا الأطعمة ، وتداعوا إليها ، وتوافوا عليها.

فلما انتهى خالد إليهم أمر بحط الأثقال ، فلما وضعت توجه إليهم ، ووكل خالد بنفسه حوامى يحمون ظهره ، ثم برز أمام الصف فنادى : أين أبجر؟ أين مالك بن قيس؟

رجل من خدرة ، فنكلوا عنه جميعا إلا مالكا ، فبرز له ، فقال له خالد : يا ابن الخبيثة ، ما جرأك علىّ من بينهم ، وليس فيك وفاء!.

وقال :

أنا ابن ذات الحسب الممذوق

إنك فى ضيق أشد الضيق

وضربه فقتله ، وأجهض الأعاجم عن طعامهم قبل أن يأكلوه ، فقال لهم جابان : ألم أقل لكم يا قوم؟ لا والله ما دخلتنى من رئيس وحشة قط حتى كان اليوم ، فقالوا : تجلدا ، حيث لم يقدروا على الأكل : ندعها حتى نفرغ منهم ؛ ثم نعود إليها. فقال جابان :

٣٨٠