الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

وقال هوذة فى ذلك :

أتانى سليط بالحوادث جمة

فقلت له ما ذا يقول سليط

فقال التي فيها على غضاضة

وفيها رجاء مطمع وقنوط

فقلت له غاب الذي كنت أجتلى

به الأمر عنى فالصعود هبوط

وقد كان لى والله بالغ أمره

أبا النصر جاش فى الأمور ربيط

فأذهبه خوف النبيّ محمد

فهوذة فيه فى الرجال سقيط

فأجمع أمرى من يمين وشمأل

كأنى ردود للنبال لقيط

وأذهب ذاك الرأى إذ قال قائل

أتاك رسول الله للنبى خبيط

رسول الله راكب ناضح

عليه من أوبار الحجاز غبيط

سكرت ودبت فى المفارق وسنة

لها نفس على الفؤاد غطيط

أحاذر منه سورة هائمية

فوارسها وسط الرجال عبيط

فلا تعجلنى يا سليط فإننا

نبادر أمرا والقضاء محيط

وذكر الواقدى بإسناد له عن عبد الله بن مالك أنه قال : قدمت اليمامة فى خلافة عثمان بن عفان ، فجلست فى مجلس لحجر ، فقال رجل فى المجلس : إنى لعند ذى التاج الحنفى يعنى هوذة يوم الفصح إذ جاء حاجبه ، فاستأذن لأركون دمشق وهو عظيم من عظماء النصارى فقال : ائذن له ، فدخل فرحب به وتحدثا ، فقال الأركون : ما أطيب بلاد الملك وأبرأها من الأوجاع. قال ذو التاج : هى أصح بلاد العرب ، وهى زين بلادهم ، قال الأركون : وما قرب محمد منكم؟ قال ذو التاج : هو بيثرب ، وقد جاءنى كتابه يدعونى إلى الإسلام فلم أجبه. قال الأركون : لم لا تجيبه؟ قال : ضننت بدينى ، وأنا ملك قومى ، وإن تبعته لم أملك. قال : بلى ، والله لئن اتبعته ليمكنك وإن الخيرة لك فى اتباعه ، وإنه للنبى العربى الذي بشر به عيسى ابن مريم ، وإنه لمكتوب عندنا فى الإنجيل : محمد رسول الله. قال ذو التاج : قد قرأت فى الإنجيل ما تذكر. ثم قال الأركون : فما لك لا تتبعه؟ قال : الحسد له ، والضن بالخمر وشربها. قال : فما فعل هرقل؟ قال : هو على دينه ويظهر لرسله أنه معه ، وقد سبر أهل مملكته ، فأبوا أشد الإباء ، فضن بملكه أن يفارقه ، قال ذو التاج : فما أرانى إلا متبعه وداخلا فى دينه ، فأنا فى بيت العرب ، وهو مقرى على ما تحت يدى. قال البطريق : هو فاعل فاتبعه ، فدعا رسولا وكتب معه كتابا ، وسمى هدايا ، فجاءه قومه فقالوا : تتبع محمدا وتترك دينك ، لا تملكن علينا أبدا ، فرفض الكتاب.

قال : فأقام الأركون عنده فى حباء وكرامة ، ثم وصله ووجه راجعا إلى الشام.

٢١

قال الرجل : وتبعته حين خرج ، فقلت : أحق ما أخبرت ذا التاج؟ قال : نعم والله ، فاتبعه ، قال : فرجعت إلى أهلى فتكلفت الشخوص إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقدمت عليه مسلما ، فأخبرته بكل ما كان ، فحمد الله الذي هدانى.

ولم يسم فى حديث الواقدى هذا الرجل ، إلا أن فيه أنه كان من طيئ ، ثم من بنى نبهان.

وقد تقدم صدر هذا الكتاب أن عامر بن سلمة من بنى حنيفة رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أعوام ولاء فى الموسم بعكاظ وبمجنة وبذى المجاز يعرض نفسه على قبائل العرب ، يدعوهم إلى الله وإلى أن ينصروه ، حتى يبلغ عن الله فلا يستجيب له أحد ، وإن هوذة بن على سأل عامرا بعد انصرافه عن الموسم إلى اليمامة فى أول عام عن ما كان فى موسمهم من خبر ، فأخبره خبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه رجل من قريش ، فسأله هوذة : من أى قريش هو؟ فقال له عامر : من أوسطهم نسبا ، من بنى عبد المطلب ، قال هوذة : أهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب؟ فقال : هو هو ، فقال هوذة : أما إن أمره سيظهر على ما هاهنا وغير ما هاهنا. ثم ذكر تكرر سؤال هوذة له عنه حتى ذكر له فى السنة الثالثة أنه رآه وأمره قد أمر ، فقال له هوذة : هو الذي قلت لك ، ولو أنا اتبعناه لكان خيرا لنا ، ولكنا نضن بملكنا.

وأخبر عامر بذلك كله سليط بن عمرو ، وقد مر به منصرفا عن هوذة إذ بعثه إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يسلم وأسلم عامر آخر حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومات هوذة كافرا على نصرانيته.

ذكر كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحارث بن

أبى شمر الغسانى مع شجاع بن وهب (١)

ذكر الواقدى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث شجاعا إلى الحارث بن أبى شمر ، وهو بغوطة دمشق ، فكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرجعه من الحديبية :

«بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى الحارث بن أبى شمر ، سلام على

__________________

(١) راجع : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٤٤ ، ٦٥٢) ، الروض الأنف للسهيلى (٤ / ٢٥ ، ٢٥١) ، المصباح المضيء لابن حديدة (٢ / ٣١٤ ، ٣١٦) ، تاريخ اليعقوبى (٢ / ٧٨).

٢٢

من اتبع الهدى وآمن به وصدق ، وإنى أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له ، يبق لك ملكك». فختم الكتاب ، وخرج به شجاع بن وهب.

قال : فانتهيت إلى صاحبه ، فأخذه يومئذ وهو مشغول بتهيئة الإنزال والألطاف لقيصر ، وهو جاء من حمص إلى إيلياء ، حيث كشف الله عنه جنود فارس شكرا لله تعالى قال : فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة ، فقلت لحاجبه : إنى رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال حاجبه : لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا ، وجعل حاجبه وكان روميا اسمه مرى يسألنى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يدعو إليه ، فكنت أحدثه ، فيرق حتى يغلبه البكاء ، ويقول : إنى قرأت فى الإنجيل ، وأجد صفة هذا النبيّ بعينه فكنت أراه يخرج بالشام ، فأراه قد خرج بأرض القرظ ، فأنا أؤمن به وأصدقه ، وأنا أخاف من الحارث بن أبى شمر أن يقتلنى.

قال شجاع : فكان ، يعنى هذا الحاجب ، يكرمنى ويحسن ضيافتى ويخبرنى عن الحارث باليأس منه ، ويقول : هو يخاف قيصر.

قال : فخرج الحارث يوما فجلس ، فوضع التاج على رأسه ، فأذن لى عليه ، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأه ، ثم رمى به ، وقال : من ينتزع منى ملكى؟ أنا سائر إليه ، ولو كان باليمن جئته ، على بالناس ، فلم يزل جالسا بعرض حتى الليل ، وأمر بالخيل أن تنعل ، ثم قال : أخبر صاحبك بما ترى. وكتب إلى قيصر يخبره خبرى ، فصادف قيصر بإيلياء وعنده دحية الكلبى قد بعثه إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما قرأ قيصر كتاب الحارث كتب إليه : أن لا تسر إليه وإله عنه ووافنى بإيلياء ، قال : ورجع الكتاب وأنا مقيم ، فدعانى وقال: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ قلت : غدا ، فأمر بمائة مثقال ، ووصلنى مرى بنفقة وكسوة ، وقال : اقرأ على رسول الله منى السلام ، وأخبره أنى متبع دينه.

قال شجاع : فقدمت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فقال : باد ملكه ، وأقرأته من مرى السلام ، وأخبرته بما قال ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدق».

قال الواقدى : ومات الحارث بن أبى شمر عام الفتح ، وكان نازلا بجلق ، ووليهم جبلة ابن الأيهم ، وكان ينزل الجابية ، وكان آخر ملوك غسان ، أدركه عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه بالجابية فأسلم ، ثم إنه لاحى رجلا من مزينة ، فلطم عينه ، فجاء به المزنى إلى عمر رضي‌الله‌عنه وقال : خذ لى بحقى ، فقال له عمر : الطم عينه ، فأنف جبلة وقال : عينى وعينه سواء؟ قال عمر : نعم ، فقال جبلة : لا أقيم بهذه الدار أبدا ، ولحق بعمورية مرتدا ، فمات هناك على ردته.

٢٣

هكذا ذكر الواقدى أن توجه شجاع بن وهب بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إلى الحارث بن أبى شمر ، وكذلك قال ابن إسحاق.

وأما ابن هشام (١) فقال : إنما توجه إلى جبلة بن الأيهم ، وقد قال ذلك غيره ، فالله أعلم.

وذكر بعض من وافق ابن هشام على أن الرسالة كانت إلى جبلة : أن شجاع بن وهب لما قدم عليه قال له : «يا جبلة ، إن قومك نقلوا هذا النبيّ الأمى من داره إلى دارهم يعنى الأنصار فأووه ومنعوه ، وإن هذا الدين الذي أنت عليه ليس بدين آبائك ، ولكنك ملكت الشام وجاورت بها الروم ، ولو جاورت كسرى دنت بدين الفرس لملك العراق ، وقد أقر بهذا النبيّ الأمى من أهل دينك من إن فضلناه عليك لم يغضبك ، وإن فضلناك عليه لم يرضك ، فإن أسلمت أطاعتك الشام وهابتك الروم ، وإن لم يفعلوا كانت لهم الدنيا ولك الآخرة ، وكنت قد استبدلت المساجد بالبيع ، والأذان بالناقوس ، والجمع بالشعانين ، والقبلة بالصليب ، وكان ما عند الله خير وأبقى».

فقال له جبلة : «إنى والله لوددت أن الناس اجتمعوا على هذا النبيّ الأمى اجتماعهم على خلق السموات والأرض ، ولقد سرنى اجتماع قومى له ، وأعجبنى قتله أهل الأوثان واليهود واستبقاءه النصارى ، ولقد دعانى قيصر إلى قتال أصحابه يوم مؤتة فأبيت عليه ، فانتدب له مالك بن نافلة من سعد العشيرة ، فقتله الله ، ولكنى لست أرى حقا ينفعه ولا باطلا يضره ، والذي يمدنى إليه أقوى من الذي يختلجنى عنه ، وسأنظر».

وأما توجه المهاجر بن أبى أمية بن المغيرة المخزومى ، وهو شقيق أم سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحارث بن عبد كلال ، فلم أجد عند ابن إسحاق ، ولا فيما وقع إلى عن الواقدى شيئا أنقله عنهما سوى ما ذكر ابن إسحاق (٢) من توجيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إياه إلى الحارث بن عبد كلال ذكرا مقتصرا فيه على القدر مختصرا من الإمتاع بما تحسن إضافته إلى ذلك من الوصف.

وتقدم لابن إسحاق فى كتابه ، وذكره أيضا الواقدى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم عليه كتاب ملوك حمير مقدمه من تبوك ، ورسولهم إليه بإسلامهم الحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والنعمان قيل : ذى رعين ومعافر وهمدان ، وبعث إليه زرعة ذى يزن مالك بن مرة الرهاوى بإسلامهم ومفارقتهم الشرك وأهله.

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٣١).

(٢) انظر : السيرة (٤ / ٢٣١).

٢٤

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى مسيره إلى تبوك يقول : «إنى بشرت بالكنزين : فارس والروم ، وأمددت بالملوك : ملوك حمير ، يأكلون فيء الله ويجاهدون فى سبيل الله». فلما قدم عليه مالك بن مرة بإسلامهم ، كتب إليهم : «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله النبيّ ، إلى الحارث بن عبد كلال وإلى نعيم بن عبد كلال وإلى النعمان قيل : ذى رعين ومعافر وهمدان. أما بعد ذلكم ، فإنى أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد ، فإنه قد وقع بنا رسولكم منقلبنا من الأرض الروم فلقينا بالمدينة ، فبلغ ما أرسلتم به ، وخبر ما قبلكم ، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين ، وأن الله قد هداكم بهداه. أن أصلحتم وأطعتم الله ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من المغانم خمس الله وسهم النبيّ وصفيه ، وما كتب على المؤمنين من الصدقة وبين لهم صدقة الزرع والإبل والبقر والغنم ، ثم قال : فمن زاد خيرا فهو خير له ، ومن أدى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على المشركين فإنه من المؤمنين ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، وله ذمة الله وذمة رسوله ، وأنه من أسلم من يهودى أو نصرانى فإنه من المؤمنين ، له ما لهم ، وعليه ما عليهم ، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها ، وعليه الجزية على كل حالم ذكر أو أنثى حر أو عبد دينار واف من قيمة المعافر أو عوضه ثيابا ، فمن أدى ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن له ذمة الله وذمة رسوله ، ومن منعه فإنه عدو لله ولرسوله.

أما بعد ، فإن محمد النبيّ أرسل إلى زرعة ذى يزن أن إذا أتاكم رسلى فأوصيكم بهم خيرا ، معاذ بن جبل وعبد الله بن زيد ومالك بن عبادة وعقبة بن نمر ومالك بن مرة وأصحابهم ، وأن أجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم وأبلغوها رسلى ، فإن أميرهم ابن جبل ، فلا ينقلبن إلا راضيا. أما بعد ، فإن محمدا يشهد أن لا إله إلا الله وأنه عبده ورسوله ، ثم إن مالك بن مرة الرهاوى قد حدثني أنك قد أسلمت من أول حمير ، وقتلت المشركين ، فأبشر بخير ، وآمرك بحمير خيرا ، ولا تخاونوا ولا تخاذلوا فإن رسول الله هو مولى غنيكم وفقيركم ، وإن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته ، وإنما هى زكاة يزكى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل ، وإن مالكا قد بلغ الخبر وحفظ الغيب ، وآمركم به خيرا ، وإنى قد أرسلت إليكم من صالحى أهلى وأولى دينهم وأولى علمهم وآمركم بهم خيرا ، فإنه منظور إليهم ، والسلام عليكم ورحمة الله» (١).

فهذا ما ذكر ابن إسحاق (٢) من شأن ملوك حمير ، وما كتبوا به ، وكتب إليهم ، وذكر الواقدى أيضا نحوه.

__________________

(١) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٧٥).

(٢) انظر : السيرة (٤ / ٢١٢ ـ ٢١٣).

٢٥

ولا ذكر للمهاجر بن أبى أمية فى شيء من ذلك إلا أن ابن إسحاق والواقدى ذكرا أن قدوم رسول ملوك حمير على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مقدمه من تبوك ، وذلك فى سنة تسع ، وتوجيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسله إلى الملوك إنما كان بعد انصرافه عن الحديبية آخر سنة ست ، فلعل المهاجر والله أعلم كانت وجهه حينئذ إلى الحارث بن عبد كلال فصادف منه عامئذ ترددا واستنظارا ، ثم جلا الله عنه العمى فيما بعد ، وأمر بهدايته فاستبان له القصد ، فعند ذلك أرسل هو وأصحابه بإسلامهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبذلك يجتمع الأمران ، ويصح الخبران ، إذ لا خلاف بين أهل العلم بالأخبار والعناية بالسير أن ملوك حمير أسلموا وكتبوا بإسلامهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أنه لا خلاف بينهم أيضا فى توجيه المهاجر بن أبى أمية إلى الحارث بن عبد كلال.

ويقول بعض من ذكر ذلك أن المهاجر لما قدم عليه قال له : يا حارث إنك كنت أول من عرض عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفسه فخطيت عنه ، وأنت أعظم الملوك قدرا ، فإذا نظرت فى غلبة الملوك فانظر فى غالب الملوك ، وإذا أسرك يومك فخف غدك ، وقد كان قبلك ملوك ذهبت آثارها وبقيت أخبارها ، عاشوا طويلا وأملوا بعيدا وتزودوا قليلا ، منهم من أدركه الموت ، ومنهم من أكلته النقم ، وإنى أدعوك إلى الرب الذي إن أردت الهدى لم يمنعك ، وإن أرادك لم يمنعك منه أحد ، وأدعوك إلى النبيّ الأمى الذي ليس شيء أحسن مما يأمر به ولا أقبح مما ينهى عنه ، واعلم أن لك ربا يميت الحى ويحيى الميت ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.

فقال الحارث : قد كان هذا النبيّ عرض نفسه على ، فخطيت عنه ، وكان ذخرا لمن صار إليه ، وكان أمره أمرا بسق ، فحضره اليأس وغاب عنه الطمع ، ولم تكن لى قرابة أحتمله عليها ، ولا لى فيه هوى أتبعه له ، غير أنى أرى أمرا لم يؤسسه الكذب ، ولم يسنده الباطل ، له بدو سار وعافية نافعة ، وسأنظر.

ذكر كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى

فروة بن عمرو الجذاميّ ثم النفاتى ، وما كان من

تبرعه بالإسلام هداية من الله عزوجل له (١)

ذكر الواقدى بإسناد له أن فروة بن عمرو (٢) ، هذا كان عاملا لقيصر على عمان من

__________________

(١) راجع : السيرة (٤ / ٢١٤).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب ترجمة رقم (٢٠٩٧).

٢٦

أرض البلقاء وفى كتاب ابن إسحاق : معان وما حولها من أرض الشام ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد كتب إلى هرقل وإلى الحارث بن أبى شمر ، ولم يكتب إليه ، فأسلم فروة ، وكتب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإسلامه ، وبعث من عنده رسولا يقال له : مسعود بن سعد من قومه بكتاب مختوم فيه :

«بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد رسول الله النبيّ ، إنى مقر بالإسلام مصدق به ، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وإنه الذي بشر به عيسى ابن مريم. والسلام عليك».

ثم بعث مع الرسول بغلة بيضاء يقال لها : فضة ، وحماره يعفور ، وفرسا يقال له : الضرب ، وبعث بأثواب من لين ، وقباء من سندس مخوص بالذهب ، فقدم الرسول فدفع الكتاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاقترأه ، وأمر بلالا أن ينزله ويكرمه ، فلما أراد الخروج كتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جواب كتابه :

«من محمد رسول الله ، إلى فروة بن عمرو ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد. فإنه قدم علينا رسولك بكتابك فبلغ ما أرسلت به ، وخبر عن ما قبلكم ، وأنبأنا بإسلامك ، وإن الله عزوجل قد هداك إن أصلحت وأطعت الله ورسوله وأقمت على الصلاة وآتيت الزكاة ، والسلام عليك».

ولما بلغ قيصر إسلام فروة بن عمرو بعث إليه فحبسه ، ولما طال حبسه أرسلوا إليه : أن ارجع إلى دينك ويعيد إليك ملكك ، فقال : لا أفارق دين محمد أبدا ، أما أنك تعرف أنه رسول الله ، بشرك به عيسى ابن مريم ، ولكنك ضننت بملكك وأحببت بقاءه. فقال قيصر : صدق والإنجيل.

وذكر الواقدى أنه مات فى ذلك الحبس ، فلما مات صلبوه.

قال : فلما اجتمعت الروم لصلبه قال :

ألا هل أتى سلمى بأن حليلها

على ماء عفرا فوق إحدى الرواحل (١)

على ناقة لم يضرب الفحل أمها

مشذبة أطرافها بالمناجل (٢)

وذكر ابن شهاب الزهرى أنهم لما قدموه ليقتلوه قال :

__________________

(١) إحدى الرواحل : المراد بها الخشبة التي صلب عليها.

(٢) مشذبة : قد أزيلت أغصانها.

٢٧

أبلغ سراة المسلمين بأننى

سلم لربى أعظمى ومقامى

ثم ضربوا عنقه وصلبوه على ذلك الماء ، يرحمه‌الله.

قال ابن إسحاق (١) : وقد كان تكلم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكذابان : مسيلمة بن حبيب الحنفى باليمامة فى بنى حنيفة ، والأسود بن كعب العنسى بصنعاء.

وذكر بإسناد له عن أبى سعيد الخدرى قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يخطب الناس على منبره وهو يقول :

«يا أيها الناس ، إنى قد رأيت ليلة القدر ، ثم أنسيتها ، ورأيت فى ذراعى سوارين من ذهب ، فكرهتهما ، فنفختهما فطارا ، فأولتهما هذين الكذابين : صاحب اليمن ، وصاحب اليمامة» (٢).

وعن أبى هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالا ، كلهم يدعى النبوة» (٣).

قال ابن إسحاق (٤) : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد بعث أمراءه وعماله على الصدقات إلى كل ما أوطأ الإسلام من البلدان ، فبعث المهاجر بن أبى أمية بن المغيرة (٥) إلى صنعاء ، فخرج عليه العنسى وهو بها ، وبعث زياد بن لبيد (٦) أخا بنى بياضة الأنصاري إلى

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٢٢).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح مسلم (٤ / ١٧٨١ / ٢١) ، سنن الترمذى (٤ / ٢٢٩٢) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٢٦٣ ، ٢ / ٣١٩ ، ٣٣٨ ، ٣٤٤).

(٣) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٢ / ٤٥٠) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٥ / ٣١٥) ، سنن أبى داود (٤ / ٤٣٣٣).

(٤) انظر : السيرة (٤ / ٢٢٣).

(٥) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٨٢٧١) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٥١٣٤) ، مؤتلف الدارقطنى (ص ١٦٣).

(٦) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٢٨٧١) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٨٠٩) ، مسند أحمد (٤ / ١٦٠) ، الطبقات الكبرى (٣ / ٥٩٨) ، التاريخ الكبير (٣ / ٣٤٤) ، التاريخ الصغير (١ / ٤١) ، تاريخ الطبرى (٣ / ١٤٧) ، الجرح والتعديل (٣ / ٥٤٣) ، المعجم الكبير (٥ / ٣٠٤) ، الكامل فى التاريخ (٢ / ٣٠١) ، تهذيب الكمال (٩ / ٥٠٦) ، الكاشف (١ / ٢٦٢) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١٩٥) ، الوافى بالوفيات (١٥ / ١٠) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٣٨٢) ، خلاصة تهذيب التهذيب (١٢٥) ، تاريخ الإسلام (١ / ٥٢).

٢٨

حضرموت وعلى صدقاتها ، وبعث عدى بن حاتم (١) على طيء وصدقاتها ، وعلى بنى أسد ، وبعث مالك بن نويرة اليربوعى (٢) على صدقات بنى حنظلة ، وفرق صدقة بنى سعد على رجلين منهم ، فبعث الزبرقان بن بدر (٣) على ناحية منها ، وقيس بن عاصم (٤) على ناحية ، وكان قد بعث العلاء بن الحضرمى (٥) على البحرين ، وبعث على بن أبى طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليهم بجزيتهم.

وقد كان مسيلمة بن حبيب كتب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مسيلمة رسول الله ، إلى محمد رسول الله ، سلام عليك ، أما بعد. فإنى قد أشركت فى الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ، ولقريش نصفها ، ولكن قريشا قوم يعتدون».

فقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الكتاب رسولان لمسيلمة ، فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قرأ كتابه : «فما تقولان أنتما؟» قالا : نقول كما قال ، فقال : «أما والله لو لا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما». ثم كتب إلى مسيلمة :

__________________

(١) انظر ترجمته فى : طبقات ابن سعد (٦ / ٢٢) ، التاريخ الكبير (٧ / ٤٣) ، التاريخ الصغير (١ / ١٤٨) ، المعارف (٣١٣) ، الجرح والتعديل (٧ / ٢) ، تاريخ بغداد (١ / ١٨٩) ، تاريخ ابن عساكر (١١ / ٢٣٤) ، تهذيب الأسماء واللغات (١ / ٣٢٧) ، تهذيب الكمال (٩٢٥) ، تاريخ الإسلام (٣ / ٤٦) ، العبر (١ / ٧٤) ، تذهيب التهذيب (٣ / ٣٦) ، جامع الأصول (٩ / ١١١) ، مرآة الجنان (١ / ١٤٢) ، تهذيب التهذيب (٧ / ١٦٦) ، خلاصة تذهيب الكمال (٢٢٣) ، شذرات الذهب (١ / ٧٤) ، سير أعلام النبلاء (٣ / ١٦٢) ، الإصابة ترجمة رقم (٥٤٩١) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٣٦١٠).

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٧٧١٢) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٦٥٤).

(٣) انظر ترجمته فى : الثقات (٣ / ١٤٢) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٧٢٨) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١٨٨) ، الإصابة ترجمة رقم (٢٧٨٩) ، الاستبصار (٣١٤ ، ٤١٥) ، الأعلام (٣ / ٤١) ، تقريب التهذيب (١ / ٢٥٧) ، الطبقات الكبرى (٧ / ٣٦ ، ١ / ٢٩٤ ، ٢ / ١٦١) ، الجرح والتعديل (٣ / ٢٧٦٠٠) ، البداية والنهاية (٥ / ٤١).

(٤) انظر ترجمته فى : الثقات (٣ / ٣٣٨) ، تجريد أسماء الصحابة (٢ / ٢٢) ، الجرح والتعديل (٧ / ١٠١) ، تقريب التهذيب (٢ / ١٢٩) ، تهذيب التهذيب (٨ / ٣٩٩) ، خلاصة تهذيب الكمال (٢ / ٣٥٧) ، الكاشف (٢ / ٣٠٥) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (٨١٦) ، التاريخ الكبير (٧ / ١٤١) ، الأنساب (٩ / ١٣٥) ، بقى بن مخلد (٣٢١) ، الإصابة ترجمة رقم (٧٢٠٩) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٣٧٠).

(٥) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٥٦٥٨) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٣٧٤٥) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٣٨٨) ، الجرح والتعديل (٦ / ٣٥٦) ، التاريخ الكبير (٦ / ٥٠٦).

٢٩

«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب ، السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين»(١).

قال ابن إسحاق : وكان ذلك فى آخر سنة عشر (٢).

وقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى : وقد قيل : إن دعوى مسيلمة ومن ادعى من الكذابين النبوة فى عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما كانت بعد انصرافه من حجة التمام ، ووقوعه فى المرض الذي توفاه الله فيه ، فالله تعالى أعلم.

ذكر حجة الوداع (٣)

وتسمى أيضا حجة التمام ، وحجة البلاغ

ولما دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذو القعدة من سنة عشر تجهز للحج ، وأمر الناس بالجهاز له ، وخرج لخمس ليال بقين من ذى القعدة ، وقد كان أذن فى الناس أنه خارج ، فقدم المدينة بشر كثير ، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعمل مثل عمله.

قال جابر بن عبد الله : فخرجنا معه حتى أتينا ذا الحليفة ، فصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى المسجد ، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصرى بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك وعن يساره مثل ذلك ومن خلفه مثل ذلك ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرنا ، وعليه ينزل القرآن ، وهو يعرف تأويله ، وما عمل من شيء عملناه ، فأهل بالتوحيد : «لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» (٤).

__________________

(١) انظر الحديث فى : سنن البيهقي (٩ / ٢١١) ، مسند الإمام أحمد (٣٧٠٨) ، سنن أبى داود (٣ / ٢٧٦١).

(٢) انظر : السيرة (٤ / ٢٢٤).

(٣) عرفت باسم : حجة الوداع ؛ وذلك لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسمى أيضا حجة الإسلام. انظر : لم يحج بعدها ، إذ بدأ به مرضه الذي توفاه الله فيه ، كما قيل : حجة البلاغ ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرى الناس مناسكهم وعلمهم حجهم ، وقيل : حجة الإسلام ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يحج بعد أن فرض الحج فى الإسلام غيرها. راجع : طبقات ابن سعد (٢ / ١٧٢ ـ ١٨٩) ، المغازى للواقدى (٣ / ١٠٨٨ ـ ١١١٥) ، الثقات لابن حبان (٢ / ١٢٤ ـ ١٢٩).

(٤) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٢ / ١٧٠ ، ٧ / ٢٠٩) ، صحيح مسلم كتاب الحج ، باب ـ

٣٠

وأهل الناس بهذا الذي يهلون به ، فلم يرد عليهم شيئا منه ، ولزم صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلبيته.

وفى حديث عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج فى حجة الوداع لم يكن يذكر ولا يذكر الناس إلا الحج ، حتى إذا كان بسرف وقد ساق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه الهدى وأشراف من أشراف الناس ، أمر الناس أن يحلوا بعمرة ، إلا من ساق الهدى.

وقال جابر فى حديثه : لسنا ننوى إلا الحج ، لسنا نعرف العمرة ، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة : ١٢٥] فجعل المقام بينه وبين البيت ، ثم رجع إلى الركن فاستلمه ، ثم خرج من الباب إلى الصفا ، فلما دنا من الصفا قرأ : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) [البقرة : ١٥٨] أبدأ بما بدأ الله به ، فبدأ بالصفا ، فرقى عليه حتى رأى البيت ، فاستقبل القبلة ، فوحد الله وكبره ، وقال : «لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده» (١). ثم دعا بين ذلك ، قال مثل هذا ثلاث مرات ، ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه فى بطن الوادى ، حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طواف على المروة قال : «لو أنى استقبلت من أمرى ما استدبرت ، لم أسق الهدى ولجعلتها عمرة ، فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة» (٢). فقام سراقة بن مالك بن جعشم (٣)

__________________

ـ (٣) رقم (١٩ ، ٢٠ ، ٢١ ، باب (١٩) رقم (١٤٧) ، سنن أبى داود (١٨١٢ ، ١٨١٣) ، سنن الترمذى (٨٢٥) ، سنن ابن ماجه (٢٩١٥ ، ٢٩١٨ ، ٣٠٧٤) ، سنن النسائى (٥ / ١٥٩ ، ١٦٠ ، ١٦١) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٢٦٧ ، ٤٠١ ، ٢ / ٧٧ ، ٤٠١ ، ٣ / ٣٢٠ ، ٦ / ١٠٠ ، ١٨١ ، ٢٣٠ ، ٢٤٣) ، السنن الكبرى للبيهقى (٥ / ٤٤ ، ٤٥ ، ٧ / ٤٨) ، موطأ مالك (٣٣١) ، الدر المنثور للسيوطى (١ / ٢١٩) ، فتح البارى لابن حجر (١ / ٣٦٠) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (٢٥٤١ ، ٢٥٥٥) ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادى (٣ / ٧٣ ، ٥ / ٥٥ ، ٢٨٢ ، ٦ / ٤٥) ، طبقات ابن سعد (٢ / ١ / ١٢٧) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ١٤٣).

(١) انظر الحديث فى : سنن الدارمى (٢ / ٤٦) ، الدر المنثور للسيوطى (١ / ٢٢٦).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح مسلم كتاب الحج باب (١٩) رقم (١٤٧).

(٣) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٣١٢٢) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٩٥٥) ، الثقات (٣ / ١٨٠) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢١٠) ، تقريب التهذيب (١ / ٢٨٤) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٤٥٦) ، تهذيب الكمال (١ / ٤٦٦) ، الكاشف (١ / ٣٤٩) ، الجرح والتعديل (٤ / ١٣٤٢) ، شذرات الذهب (١ / ٣٥) ، الطبقات (٣٤) ، الطبقات الكبرى (٩ / ٧٨) ، بقى بن مخلد (١٣٠) ، العقد الثمين (٤ / ٥٢٣) ، العبر (١ / ٢٧) ، الأعلام (٣ / ٨٠) ، الأنساب (٧ / ١١٦).

٣١

فقال : يا رسول الله ، ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصابعه واحدة فى الأخرى ، وقال : «دخلت العمرة فى الحج مرتين بل لأبد الأبد» (١).

وقدم على من اليمن ببدن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثيابا صبيغا واكتحلت ، فأنكر ذلك عليها ، فقالت : إن أبى أمرنى بهذا ، قال : فكان على يقول بالعراق : فذهبت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محرشا على فاطمة للذى صنعت ، مستفتيا له فيما ذكرت عنه ، فأخبرته أنى نكرت ذلك عليها ، فقال : «صدقت صدقت ، ما ذا قلت حين فرضت الحج؟» (٢) قال : قلت : اللهم إنى أهل بما أهل به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : فإن معى الهدى فلا تحل ، فكان جماعة الهدى الذي قدم به على من اليمن والذي أتى به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مائة.

فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج ، فركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس ، فأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة ، فسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع فى الجاهلية ، فأجاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى إذا أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت به بنمرة ، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له ، فأتى بطن الوادى ، فخطب الناس.

قال ابن إسحاق (٣) : ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حجه ، فأرى الناس مناسكهم ،

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح مسلم فى كتاب الحج باب (١٩) رقم (١٤٧) ، سنن أبى داود فى كتاب المناسك ، باب (٢٣) ، باب (٥٧) ، سنن النسائى فى كتاب الحج باب (٧٦) ، سنن الترمذى (٩٣٢) ، سنن ابن ماجه (٣٠٧٤) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٢٣٦ ، ٢٥٣ ، ٢٥٩ ، ٣٤١ ، ٤ / ١٧٥) ، سنن الدارمى (٤٧) ، السنن الكبرى للبيهقى (٤ / ٣٥٢ ، ٥ / ٧ ، ١٣ ، ١٨) ، مستدرك الحاكم (١ / ٦١٩ ، ٣ / ٦١٩) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٣ / ٢٣٥ ، ٣٧٨) ، المعجم الكبير للطبرانى (٢ / ١٤٤ ، ٧ / ١٤٠ ، ١٥١ ، ١٥٤ ، ١١ / ٨٣ ، ١٢ / ٢٢٨) ، التمهيد لابن عبد البر (٨ / ٣٦٠) ، مصنف ابن أبى شيبة (٤ / ١٠٢) ، إرواء الغليل للألبانى (٤ / ١٥٢) ، المطالب العالية لابن حجر (١١٠٠) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١١٩٧٥ ، ١١٩٨٣ ، ١٢٤٧٤) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ١٣٥) ، الحاوى للفتاوى للسيوطى (٢ / ٥١) ، الكاف الشاف فى تخريج أحاديث الكشاف لابن حجر (٥٩) ، مسند الشافعى (١١٢ ، ١٩٦) ، تاريخ أصبهان لأبى نعيم (٢ / ١٩١) ، سنن الدارقطنى (٢ / ٢٨٣) ، المنتقى لابن الجارود (٤٦٥).

(٢) انظر الحديث فى : المنتقى لابن الجارود (٤٦٩).

(٣) انظر : السيرة (٤ / ٢٢٧).

٣٢

وأعلمهم سنن حجهم ، وخطب للناس خطبته التي بين فيها ما بين ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :

«أيها الناس ، اسمعوا قولى ، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدا ، أيها الناس ، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام ؛ إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة يومكم هذا ، وكحرمة شهركم هذا ، وإنكم ستلقون ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم ، وقد بلغت ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها ، وإن كل ربّا موضوع ، ولكن لكم رءوس أموالكم ، لا تظلمون ولا تظلمون. قضى الله أنه لا ربا وإن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله ، وإن كل دم كان فى الجاهلية موضوع ، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، وكان مستعرضا فى بنى ليث ، فقتلته هذيل ، فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.

أما بعد ، أيها الناس ، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك ، فقد رضى به مما تحقرون من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم.

أيها الناس : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) [التوبة : ٣٧] ، ويحرموا ما أحل الله ، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)،[التوبة : ٣٦]. ثلاثة متوالية ، ورجب مضر الذي هو بين جمادى وشعبان.

أما بعد ، أيها الناس ، فإن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا ، لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة ، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن فى المضاجع وتضربوهن ضربا غير مبرح ، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، واستوصوا بالنساء خيرا ، فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمات الله ، فاعقلوا أيها الناس قولى ، فإنى قد بلغت وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا ، أمرا بينا ، كتاب الله وسنة نبيه.

أيها الناس ، اسمعوا قولى واعقلوه ، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم ، وأن المسلمين إخوة ، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه ؛ فلا تظلمن أنفسكم.

٣٣

اللهم هل بلغت؟» فذكر أن الناس قالوا : اللهم نعم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اشهد» (١).

وفى حديث جابر ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للناس فى خطبته : «وأنتم تسألون عنى ، فما أنتم قائلون؟» قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس : «اللهم اشهد ، اللهم اشهد» ثلاث مرات ، ثم إذن ، ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئا ، ثم ركب حتى الموقف ، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات ، وجعل جبل المشاة بين يديه. واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص ، وأردف أسامة بن زيد خلفه ، ودفع وقد شنق القصواء الزمام حتى أرسلها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : أيها الناس ، السكينة ، كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد ، ثم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ، ولم يسبح بينهما شيئا ، ثم اضطجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام ، فاستقبل القبلة ، فدعا الله وكبره وهلله ووحده ، فلم يزل واقفا حتى اصفر جدا ، فدفع قبل أن تطلع الشمس وأردف الفضل بن عباس حتى أتى بطن محر ، فحرك قليلا ، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها يسبع حصات ، يكبر مع كل حصاة منها ، رمى من بطن الوادى ، ثم انصرف إلى المنحر ، فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده ، ثم أعطى عليا فنحر ما غبروا شركة فى هديه ، ثم أمر من كل بدنة ببضعة ، فجعلت فى قدر فطبخت ، فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ، ثم ركب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى البيت فى قدر فأفاض وصلى بمكة الظهر ، فأتى بنى عبد المطلب وهم يسقون على زمزم ، فقال : «انزعوا يا بنى عبد المطلب ، فلو لا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» (٢) ، فناولوه دلوا ، فشرب منه.

ويروى أن ربيعة بن أمية بن خلف هو الذي كان يصرخ فى الناس يقول رسول الله

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح مسلم (٢ / ١٤٧ / ٨٨٦ ـ ٨٩٢) ، سنن أبى داود (٢ / ١٩٠٥).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح مسلم كتاب الحج (١٤٧) ، سنن أبى داود فى كتاب المناسك باب (٥٧) ، سنن ابن ماجه (٣٠٧٤) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٧٦) ، السنن الكبرى للبيهقى (٥ / ١٥٧) ، سنن الدارمى (٢ / ٤٩) ، الدر المنثور للسيوطى (١ / ٢٢٦) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ١٩١) ، المنتقى لابن جارود (٤٦٩).

٣٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بعرفة ، يقول له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قل : «أيها الناس ، إن رسول الله يقول : هل تدرون أى شهر هذا؟» فيقوله لهم ، فيقولون : الشهر الحرام ، فيقول لهم : إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا ، ثم يقول : قل : أيها الناس ، إن رسول الله يقول : «هل تدرون أى بلد هذا؟» قال : فيصرخ به ، فيقولون : البلد الحرام ، فيقول : قل لهم : «إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم ، كحرمة بلدكم هذا» ، ثم يقول : «قل : يا أيها الناس ، إن رسول الله يقول : هل تدرون أى يوم هذا؟» فيقول لهم ، فيقولون : يوم الحج الأكبر ، فيقول : «قل لهم : إن الله قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا» (١).

وقال عمرو بن خارجة : وقفت تحت ناقة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن لعابها ليقع على رأسى ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقف بعرفة ، فسمعته وهو يقول : «أيها الناس ، إن الله قد أدى إلى كل ذى حق حقه ، فلا وصية لوارث ، والولد للفراش ، وللعاهر الحجر ، ومن ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله له صرفا ولا عدلا»(٢).

ولما وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعرفة قال : «هذا الموقف ، للجبل الذي هو عليه ، «وكل عرفة موقف».

وقال حين وقف على قزح صبيحة المزدلفة : «هذا الموقف ، وكل المزدلفة موقف».

ثم لما نحر بالمنحر بمنى قال : «هذا المنحر ، وكل منى منحر» (٣).

فقضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحج ، وقد أراهم مناسكهم ، وأعلمهم ما فرض عليهم من حجهم : من الموقف ، ورمى الجمار ، وطواف البيت ، وما أحل لهم فى حجهم ، وما حرم عليهم ، فكانت حجة البلاغ ، وحجة الوداع ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يحج بعدها.

__________________

(١) انظر الحديث فى : مستدرك الحاكم (١ / ٤٧٣ ، ٤٧٤) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٣ / ٢٧٠).

(٢) انظر الحديث فى : سنن الترمذى (٤ / ٢١٢١) ، سنن النسائى (٦ / ٣٦٤٤) ، مسند الإمام أحمد (٤ / ١٨٦ ، ٢٣٨).

(٣) انظر الحديث فى : سنن أبى داود (٢ / ١٩٠٧ ، ١٩٣٥) ، سنن ابن ماجه (٢ / ٣٠١٢) ، مسند الإمام أحمد (٣ / ٣٢٠ ، ٣٢١ ، ٣٢٦).

٣٥

ذكر مصيبة الأولين والآخرين من المسلمين

بوفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله أجمعين

ولما قفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حجة الوداع أقام بالمدينة بقية ذى الحجة والمحرم وصفرا ، وضرب على الناس بعثا إلى الشام ، وهو البعث الذي أمر عليه أسامة بن زيد ، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، فتجهز الناس ، وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون ، وكان آخر بعث بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبينا الناس على ذلك ابتدئ صلوات الله عليه بشكواه الذي قبضه الله فيه إلى ما أراد من رحمته وكرامته فى ليال بقين من صفر أو فى أول شهر ربيع الأول ، فكان أول ما ابتدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ذكر أنه خرج إلى بقيع الغرقد من جوف الليل ، فاستغفر لهم ، ثم رجع إلى أهله ، فلما أصبح ابتدئ بوجعه من يومه ذلك.

حدث أبو مويهبة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : بعثنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جوف الليل فقال : «يا أبا مويهبة ، إنى قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معى» ، فانطلقت معه ، فلما وقف بين أظهرهم قال : «السلام عليكم يا أهل المقابر ، ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، يتبع آخرها أولها ، الآخرة شر من الأولى» ؛ ثم أقبل على فقال : «يا أبا مويهبة ، إنى قد أوتيت مفاتح خزائن الدنيا والخلد فيها ، ثم الجنة ، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربى والجنة» ، فقلت : بأبى أنت وأمى فخذ مفاتح خزائن الدنيا والخلد فيها ، ثم الجنة ؛ قال : «لا والله يا أبا مويهبة ، لقد اخترت لقاء ربى والجنة». ثم استغفر لأهل البقيع ، ثم انصرف ، فبدأ به وجعه الذي قبضه الله فيه (١).

وقالت عائشة رضي‌الله‌عنها : رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من البقيع ، فوجدنى وأنا أجد صداعا فى رأسى ، وأنا أقول : وا رأساه ، فقال : «بل أنا والله يا عائشة ، وا رأساه». قالت : ثم قال : «وما ضرك لو مت قبلى ، فقمت عليك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك؟» فقلت : والله لكأنى بك لو قد فعلت ذلك لرجعت إلى بيتى فأعرست فيه ببعض نسائك ، فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتتام به وجعه وهو يدور على نسائه ، حتى استعز به وهو فى بيت ميمونة ، فدعا نساءه فاستأذنهن فى أن يمرض فى بيتى ، فأذن له (٢).

__________________

(١) انظر الحديث فى : مستدرك الحاكم (٣ / ٥٥ ، ٥٦) ، دلائل النبوة للبيهقى (٧ / ١٦٢ ، ١٦٣) ، سنن الدارمى (١ / ٧٨).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (١٠ / ٥٦٦٦) ، مسند الإمام أحمد (٦ / ٢٢٨).

٣٦

وفى غير حديث عائشة أن نساءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كن يومئذ تسعا : عائشة بنت أبى بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب ، وأم حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب ، وأم سلمة بنت أبى أمية بن المغيرة ، وزينب بنت جحش ، وسودة بنت زمعة القرشيات ، وميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية ، وجويرية بنت الحارث بن أبى ضرار المصطلقية ، وصفية بنت حيى بن أخطب من بنى النضير.

فهؤلاء التسع هن اللاتى توفى عنهن صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوفى منهن قبله عليه‌السلام خديجة بنت خويلد ، وزيرته على الإسلام وأم بنيه وبناته كلهم ما خلا إبراهيم فإنه لسريته مارية القبطية ، ولم يتزوج عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ماتت ، وزينب بنت خزيمة من بنى هلال ابن عامر بن صعصعة : وكانت تسمى أم المساكين لرحمتها إياهم ورقتها عليهم ، فزينب هذه وخديجة توفيتا قبله ، وبهما كمل عدد من بنى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أزواجه ممن اتفق العلماء عليه إحدى عشرة امرأة ، توفى منهن عن تسع كما ذكرنا.

وقد عقد عليه‌السلام على نساء غيرهن ، فلم يبن فى المشهور من أقاويل العلماء بواحدة منهن ، فاستغنينا لذلك عن ذكرهن.

ونرجع الآن إلى حديث عائشة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما استأذن أزواجه أن يمرض فى بيتها فأذن له ، قالت : فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمشى بين رجلين من أهله ، أحدهما الفضل بن عباس ، ورجل آخر عاصبا رأسه تخط قدماه ، حتى دخل بيتى.

وعن ابن عباس : أن الرجل الآخر هو على بن أبى طالب.

ثم غمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واشتد به وجعه ، فقال : «هريقوا على من سبع قرب من آبار شتى ، حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم». فأقعدناه فى مخضب لحفصة بنت عمر ، ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول : «حسبكم حسبكم» (١).

قال الزهرى : حدثني أبو أيوب بن بشير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر ، ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم فأكثر الصلاة عليهم ، ثم قال : «إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا والآخرة ، وبين ما عنده ، فاختار ما عند الله» ، ففهمها أبو بكر وعرف أن نفسه يريد ، فبكى وقال : بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا ، فقال : «على رسلك يا أبا بكر» ، ثم قال : «انظروا هذه الأبواب

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٦ / ٢٢٨) ، مصنف عبد الرزاق (٥ / ٩٧٥٤).

٣٧

اللافظة فى المسجد فسدوها إلا باب أبى بكر ، فإنى لا أعلم أحدا كان أفضل فى الصحبة عندى يدا منه» (١).

وفى رواية : «فإنى لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن صحبة وإخاء إيمان حتى يجمع الله بيننا عنده».

وعن عروة بن الزبير وغيره من العلماء أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استبطأ الناس فى بعث أسامة بن زيد وهو فى وجعه ، فخرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر ، وقد كان الناس قالوا فى إمرة أسامة أمر غلاما حدثا على جلة المهاجرين والأنصار.

فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ، ثم قال : «أيها الناس ، أنفذوا بعث أسامة ، فلعمرى لئن قلتم فى إمارته لقد قلتم فى إمارة أبيه من قبله ، وإنه لخليق للإمارة وإن كان أبوه لخليق بها» (٢) ، ثم نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانكمش الناس فى جهازهم ، واستعز برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعه ، فخرج أسامة وخرج جيشه معه حتى نزلوا الجرف من المدينة على فرسخ ، فضرب به عسكره وتتام إليه الناس ، وثقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقام أسامة والناس لينظروا ما الله قاض فى رسوله عليه‌السلام.

ومن حديث عبد الله بن كعب بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوصى بالأنصار يوم صلى واستغفر لأصحاب أحد ، وذكر من أمرهم ما ذكر ، فقال يومئذ : «يا معشر المهاجرين ، استوصوا بالأنصار خيرا ، فإن الناس يزيدون وإن الأنصار على هيئتها لا تزيد ، وإنهم كانوا عيبتى التي آويت إليها ، فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» (٣) ، ثم نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخل بيته وتتام به وجعه حتى غمر.

وفى الصحيحين من حديث عبيد الله بن عبد الله أنه قال لعائشة رضي‌الله‌عنها : ألا تحديثنى عن مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قالت : بلى ، ثقل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أصلى الناس؟» قلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله ، قال : «ضعوا لى ماء فى المخضب» ، قالت : ففعلنا ، فاغتسل ثم ذهب لينوى فأغمى عليه ، ثم أفاق ، فقال : «أصلى الناس؟» قلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله ، قال : «ضعوا لى ماء فى المخضب» ، قالت : فاغتسل ثم ذهب

__________________

(١) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٣ / ١٨) ، صحيح البخاري (١ / ٤٦٦) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (٢ / ٢٨٨).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٧ / ٤٢٥٠) ، فتح البارى لابن حجر (٧ / ٧٥٩).

(٣) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٧ / ٣٨٠٠) ، مسند الإمام أحمد (٥ / ٢٢٤).

٣٨

لينوى فأغمى عليه ، ثم أفاق ، فقال : «أصلى الناس؟» قلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله ، قال : «ضعوا لى ماء فى المخضب» ، فقعد فاغتسل ثم ذهب لينوى فأغمى عليه ، ثم أفاق فقال : «أصلى الناس؟» (١) قلنا : لا ، هم ينتظرونك يا رسول الله عكوف فى المسجد ينتظرون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لصلاة العشاء الآخرة فأرسل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أبى بكر بأن يصلى بالناس ، فأتاه الرسول فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرك أن تصلى بالناس ، فقال أبو بكر وكان رجلا رقيقا : يا عمر صل بالناس ، فقال له عمر : أنت أحق بذلك ، فصلى أبو بكر تلك الأيام.

ومن حديث الأسود عن عائشة قالت : لما ثقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فقال : «مروا أبا بكر فليصل بالناس». قالت : فقلت : يا رسول الله ، إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس ، فلو أمرت عمر ، فقال : «مروا أبا بكر فليصل بالناس» ، قالت : فقلت لحفصة : قولى له : إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس ، فلو أمرت عمر ، فقالت له ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنكن لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل بالناس» (٢) ، قالت : فأمروا أبا بكر ، فلما دخل فى الصلاة وجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نفسه خفة ، فقام يهادى بين رجلين ورجلاه تخطان فى الأرض ، فلما دخل المسجد وسمع أبو بكر حسه ذهب يتأخر ، فأومأ إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقم مكانك» ، فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى جلس عن يسار أبى بكر ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى بالناس جالسا ، وأبو بكر قائما ، يقتدى أبو بكر بصلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقتدى الناس بصلاة أبى بكر.

وعن عبد الله بن زمعة بن الأسود أنه كان عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى نفر من المسلمين لما استعز به ودعاه بلال إلى الصلاة ، فقال : «مروا من يصلى بالناس» ، قال : فخرجت فإذا عمر فى الناس ، وكان أبو بكر غائبا ، فقلت : قم يا عمر فصل بالناس ، فقام ، فلما كبر سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صوته وكان عمر رجلا مجهرا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فأين أبو بكر؟

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (١ / ١٧٦) ، صحيح مسلم فى كتاب الصلاة (٩٠) ، سنن النسائى (٢ / ١٠١) ، مسند الإمام أحمد (٢ / ٥٢ ، ٦ / ٢٥١) ، سنن الدارمى (١ / ٢٨٧) ، السنن الكبرى للبيهقى (١ / ١٢٣ ، ٨ / ١٥١) ، كنز العمال للمتقى الهندى (١٨٨٣٨) ، دلائل النبوة للبيهقى (٧ / ١٩٠) ، مصنف ابن أبى شيبة (٢ / ٣٣١ ، ٣٣٢ ، ١٤ / ٥٦٠ ، ٥٦١) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٢٣٣) ، طبقات ابن سعد (٢ / ٢ / ١٩).

(٢) انظر الحديث فى : مسند الإمام أحمد (٦ / ٢٢٨ ، ٢٢٩) ، صحيح مسلم (١ / ٩٤ ، ٣١٣).

٣٩

يأبى الله ذلك والمسلمون ، يأبى الله ذلك والمسلمون» ، فبعث إلى أبى بكر ، فجاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة ، فصلى أبو بكر بالناس يريد ما بعد من الصلوات ، فقال لى عمر: ويحك ، ما ذا صنعت فى يا ابن زمعة والله ما ظننت حين أمرتنى إلا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرك بذلك ، ولو لا ذلك ما صليت بالناس. قلت : والله ما أمرنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، ولكنى حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة للناس (١).

وعن أنس بن مالك قال : آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كشف الستارة يوم الاثنين والناس صفوف فى الصلاة ، فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف ، ثم تبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضاحكا ، فبهتنا ونحن فى الصلاة من فرح بخروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونكص أبو بكر على عقبه ليصل الصف ، وظن أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خارج للصلاة ، فأشار إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيده أن أتموا صلاتكم ، ثم دخل فأرخى الستر ، فتوفى من يومه ذلك.

وفى رواية عن أنس أن خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس كان وهم يصلون الصبح ، وأنه لما رفع الستر وقام على باب عائشة ، فكاد المسلمون يفتتنون فى صلاتهم فرحا به حين رأوه ، قال : وتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرورا لما رأى من هيئتهم فى صلاتهم ، وما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحسن هيئة منه تلك الساعة.

قال : ثم رجع ، وانصرف الناس وهم يرون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أفرق من وجعه.

وعن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس : يوم الخميس وما يوم الخميس ، ثم بكى ، حتى بل دمعه الحصا ، قلت : يا ابن عباس ، وما يوم الخميس؟ قال : اشتد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجعه ، فقال : «ائتونى أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعدى» ، فتنازعوا وما ينبغى عند نبى تنازع وقالوا : ما شأنه ، أهجر ، استفهموه ، قال : «دعونى ، فالذى أنا فيه خير ، أوصيكم بثلاث ، أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم». قال : وسكت عن الثالثة أو قالها فأنسيتها.

وفى حديث عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما حضر وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هلم اكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده»(٢)،

__________________

(١) انظر الحديث فى : مستدرك الحاكم (٣ / ٦٤١) ، سنن أبى داود (٤ / ٤٦٦٠).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٧ / ١٥٦ ، ٩ / ١٣٧) ، صحيح مسلم فى كتاب الوصية (٢٢) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٣٢٤) ، طبقات ابن سعد (٢ / ٢ / ٣٧) ، فتح البارى لابن حجر (١٣ / ٣٣٦).

٤٠