الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

عندى. فأشار إلى رجل مخفف كوسج (١) فقال : هو يشبه هذا. قال عبد العزيز : نخبرك أنه يمان (٢).

وأقام عمرو يحاصر الإسكندرية أشهرا ، فقال عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، لما بلغه ذلك : ما أبطئوا بفتحها إلا لما أحدثوا.

وقال أسلم مولى عمر : لما أبطأ على عمر فتح مصر كتب إلى عمرو بن العاص :

أما بعد ، فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر ، أنكم تقاتلونها منذ سنين ، وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم ، وإن الله ، تبارك وتعالى ، لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم ، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر ، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما كنت أعرف ، إلا أن يكونوا غيرهم ما غير غيرهم ، فإذا أتاك كتابى هذا فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم ، ورغبهم فى الصبر والنية ، وقدم أولئك النفر الأربعة فى صدور الناس ، ومر الناس جميعا أن تكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد ، وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة ، فإنها ساعة تنزل الرحمة ووقت الإجابة ، وليضج الناس إلى الله ويسألوه النصر على عدوهم.

فلما أتى عمرا الكتاب جمع الناس وقرأه عليهم ، ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام الناس ، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين ، ثم يرغبوا إلى الله ويسألوه النصر ، ففعلوا ، ففتح الله عليهم.

ويقال إن عمرو بن العاص استشار مسلمة بن مخلد فقال له : أشر علىّ فى قتال هؤلاء. فقال له مسلمة : أرى أن تنظر إلى رجل له معرفة وتجارب من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتعقد له على الناس ، فيكون هو الذي يباشر القتال ويكفيكه. قال عمرو : ومن ذلك؟ قال : عبادة بن الصامت. فدعا عمرو عبادة ، فأتاه وهو راكب على فرسه ، فلما دنا منه أراد النزول ، فقال له عمرو : عزمت عليك أن لا تنزل ، ناولنى سنام رمحك ، فناوله إياه ، فنزع عمرو عمامته عن رأسه وعقد له وولاه القتال ، فتقدم عبادة مكانه فصاف الروم وقاتلهم ، ففتح الله على يديه الإسكندرية فى يومه ذلك.

ويروى أن عمرو بن العاص قال وقد أبطأ عليه الفتح ، فاستلقى على ظهره ثم جلس

__________________

(١) الكوسج : أى الناقص الأسنان ، والبطيء من البراذين. انظر : القاموس المحيط للفيروزآباديّ (١ / ٢٠٤).

(٢) فى ابن عبد الحكم : «... قال عبد العزيز عند ذلك : إنه ليصف صفة رجل يمانى».

٣٤١

فقال : إنى فكرت فى هذا الأمر فإذا هو لا يصلح آخره إلا من أصلح أوله ، يريد الأنصار ، فدعا عبادة بن الصامت فعقد له ، ففتح الله الإسكندرية على يديه من يومه ذلك.

وقال جنادة بن أبى أمية (١) : دعانى عبادة بن الصامت يوم الإسكندرية وكان على قتالها ، فأغار العدو على طائفة من الناس ولم يأذن بقتالهم ، فبعثنى أحجز بينهم ، فأتيتهم فحجزت بينهم ثم رجعت إليه ، فقال : أقتل أحد من الناس؟ قلت : لا. قال : الحمد لله الذي لم يقتل أحد منهم عاصيا.

قالوا : وكان فتح الإسكندرية يوم الجمعة مستهل شهر المحرم من سنة عشرين.

ولما هزم الله الروم وفتحت الإسكندرية وهرب الروم فى البحر والبر ، خلف عمرو ابن العاص بالإسكندرية من أصحابه ألف رجل ، ومضى فى طلب من هرب فى البر من الروم ، فرجع من كان هرب منهم فى البحر إلى الإسكندرية فقتلوا من كان فيها من المسلمين إلا من هرب.

وبلغ ذلك عمرو بن العاص فكر راجعا ففتحها ، وأقام بها ، وكتب إلى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، أن الله قد فتح علينا الإسكندرية عنوة بغير عقد ولا عهد ، فكتب إليه عمر يقبح رأيه ويأمره ألا يجاوزها.

قال ابن لهيعة : وهذا هو فتح الإسكندرية الثانى ، وكان سبب فتحها أن بوابا يقال له : ابن بسامة سأل عمرا الأمان على نفسه وأرضه وأهل بيته ويفتح له الباب ، فأجابه عمرو إلى ذلك وفتح له ابن بسامة الباب ، فدخل عمرو من ناحية قنطرة سليمان ، وكان مدخله الأول من الباب الذي من ناحية كنيسة الذهب.

وقد روى ابن لهيعة ، أيضا ، عن يزيد بن أبى حبيب أن فتحها الأول كان سنة إحدى وعشرين ثم انتقضوا سنة خمس وعشرين.

وجاءت الروم عليهم منويل الخصى ، بعثه هرقل فى المراكب حتى أرسوا بالإسكندرية

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (١٢٠٤) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٧٨٩) ، طبقات ابن سعد (٧ / ٤٣٩) ، طبقات خليفة ترجمة رقم (٢٩٠٥) ، تاريخ البخاري (٢ / ١٣٢) ، تاريخ خليفة (١٨٠) ، مقدمة مسند بقى بن مخلد (١١٢) ، التاريخ الكبير (٢ / ٢٣٢) ، التاريخ الصغير (٧٢) ، الجرح والتعديل (٢ / ٥١٥) ، فتوح البلدان (٢٧٨) ، تاريخ الثقات للعجلى (٩٩) ، الثقات لابن حبان (٤ / ١٠٣) ، مشتبه النسبة لعبد الغنى بن سعيد (٢٠٨).

٣٤٢

فأجابهم من بها من الروم ، فخرج إليهم عمرو بن العاص فى البر والبحر ، فقاتلهم قتالا شديدا ، فهزمهم الله وقتل منويل ، ولم يكن المقوقس تحرك ولا نكث.

ويقال : أن هذا انتقاض ثان للإسكندرية بعد انتقاضها الذي ذكره ابن لهيعة أولا وكان ذلك فى زمان عمر ، وهذا الذي ذكر يزيد بن أبى حبيب فى خلافة عثمان ، رضي‌الله‌عنهما ، وسيأتى ذكره فى موضعه مستوفى إن شاء الله.

وقيل : إن جميع من قتل من المسلمين من حين كان من أمر الإسكندرية ما كان إلى أن فتحت اثنان وعشرون رجلا.

وبعث عمرو بن العاص ، معاوية بن حديج (١) وافدا إلى عمر بن الخطاب يبشره بالفتح ، فقال له معاوية : ألا تكتب معى؟ فقال له عمرو : ما أصنع بالكتاب ، ألست رجلا عربيا تبلغ الرسالة وما رأيت وحضرته؟.

فلما قدم على عمر أخبره بفتح الإسكندرية ، فخر عمر ساجدا وقال : الحمد لله.

ويروى عن معاوية بن حديج أنه قال : قدمت المدينة فى الظهيرة فأنخت راحلتى بباب المسجد ، ثم دخلت المسجد ، فبينا أنا قاعد فيه إذ خرجت جارية من منزل عمر بن الخطاب فرأتنى شاحبا علىّ ثياب السفر ، فأتتنى فقالت : من أنت؟ فقلت : أنا معاوية بن حديج رسول عمرو بن العاص. فانصرفت عنى ، ثم أقبلت تشتد ، فقالت : قم فأجب أمير المؤمنين. فتبعتها ، فلما دخلت إذا بعمر بن الخطاب يتناول رداءه فقال : ما عندك؟ فقلت: خير يا أمير المؤمنين ، فتح الله الإسكندرية ، فخرج معى إلى المسجد فقال للمؤذن : أذن فى الناس الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ثم قال لى : قم فأخبر أصحابك. فقمت فأخبرتهم ، ثم صلى ودخل منزله واستقبل القبلة فدعا بدعوات ثم جلس فقال : يا جارية ، هل من طعام؟ فأتت بخبز وزيت ، فقال : كل ، فأكلت على حياء ، ثم قال : كل فإن المسافر يحب الطعام ، فلو كنت آكلا لأكلت معك. فأصبت على حياء ، ثم قال : يا جارية ، هل من تمر؟ فأتت بتمر فى طبق ، فقال : كل ، فأكلت على حياء ، ثم قال : ما ذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟ قال : قلت : أمير المؤمنين قائل (٢). قال : بئس ما قلت ، أو بئس ما ظننت. لئن نمت بالنهار لأضيعن الرعية ، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسى ، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟.

__________________

(١) انظر ترجمته فى : أسد الغابة ترجمة رقم (٤٩٨٠).

(٢) القائل : هو النائم فى وسط النهار. انظر : القاموس المحيط للفيروزآباديّ (٤ / ٤٢).

٣٤٣

ثم كتب عمرو بن العاص بعد ذلك إلى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه : أما بعد ، فإنى فتحت مدينة لا أصف ما فيها ، غير أنى أصبت فيها أربعة آلاف منية بأربعة آلاف حمام ، وأربعين ألف يهودى عليهم الجزية ، وأربعمائة ملهى للملوك.

وعن أبى قبيل أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية وجد فيها اثنى عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر.

وعن غيره (١) أنه كان فيما أحصى من الحمامات اثنا عشر ديماسا أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس ، كل مجلس منها يسع جماعة نفر.

قال : وترحل من الإسكندرية فى الليلة التي دخلها عمرو بن العاص أو الليلة التي خافوا دخوله سبعون ألف يهودى ، وكان عدة من بالإسكندرية من الروم مائتى ألف من الرجال ، فلحق بأرض الروم أهل القوة وركبوا السفن ، وكان بها مائة مركب من المراكب الكبار يحمل فيها ثلاثون ألف بما قدروا عليه من المال والمتاع والأهل ، وبقى من بقى ممن يؤدى الخراج ، فأحصوا يومئذ ستمائة ألف سوى النساء والصبيان.

واختلف الناس على عمرو فى قسمهم ، وكان أكثرهم يريدون القسم ، فقال عمرو : لا أقدر على ذلك حتى أكتب إلى أمير المؤمنين ، فكتب إليه فى ذلك ، فكتب إليه عمر ، رضي‌الله‌عنه : لا تقسمها ، وذرهم يكون خراجهم فيئا للمسلمين وقوة لهم على جهاد عدوهم.

فأقرها عمرو وأحصى أهلها وفرض عليهم الخراج ، فكانت مصر صالحا كلها بفريضة دينارين دينارين على كل رجل ، لا يزاد على أحد منهم فى جزية رأسه على دينارين ، غير أنه يلزم بقدر ما يتوسع فيه من الأرض والزرع ، إلا الإسكندرية فإنهم كانوا يؤدون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليهم ؛ لأن الإسكندرية فتحت عنوة لغير عهد ولا عقد ، ولم يكن لهم صلح ولا ذمة.

ويقال : إن مصر كلها فتحت عنوة بغير عهد ولا عقد.

قال سفيان بن وهب الخولانى (٢) : لما فتحنا مصر بغير عهد قام الزبير بن العوام فقال:اقسمها يا عمرو. فقال : لا أقسمها. فقال الزبير : والله لتقسمنها كما قسم رسول الله

__________________

(١) هو : حسين بن شفى بن عبيد.

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٣٣٤٣) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٢١٢٩).

٣٤٤

صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر. فقال عمرو : والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين. فكتب إليه فأجابه : أقرها حتى يغدو (١) منها حبل الحبلة.

وفى حديث آخر : أن الزبير صولح على شيء أرضى به.

وحدث أبو قنان (٢) ، عن أبيه أنه سمع عمرو بن العاص يقول ، يعنى بمصر : لقد قعدت مقعدى هذا وما لأحد من قبط مصر علىّ عهد ولا عقد ، إن شئت قتلت ، وإن شئت حبست ، وإن شئت بعت.

ويروى عن ربيعة نحو ما تقدم من فتح مصر بغير عهد ، وأن عمر بن الخطاب حبس درها وصرها أن يخرج منه شيء نظيرا للإسلام وأهله.

وقال زيد بن أسلم (٣) : كان لعمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، تابوت فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده ، فلم يوجد فيه لأهل مصر عهد.

ويروى أن عمرو بن العاص لما فتح مصر قال للقبط : إن من كتمنى كنزا عنده فقدرت عليه قتلته. فذكر لعمرو أن قبطيا (٤) من أهل الصعيد يقال له : بطرس عنده كنز ، فأرسل إليه فسأله ، فأنكر ، فحبسه عمرو ، وسأل : هل تسمعونه يسأل عن أحد؟ فقالوا:سمعناه يسأل عن راهب بالطور ، فأخذ خاتم بطرس وكتب على لسانه بالرومية إلى ذلك الراهب : أن ابعث إلىّ بما عندك ، وختم بخاتمه ، فجاء الرسول من عند الراهب بقلة شامية مختومة بالرصاص ، فوجد فيها صحيفة مكتوب فيها : يا بنى ، إن أردتم ما لكم فافتحوا تحت الفسقية الكبيرة. فأرسل عمرو إلى الفسقية فحبس عنها الماء ، وقلع البلاط الذي تحتها ، فوجد فيها اثنين وخمسين أردبا ذهبا مضروبة ، فضرب عمرو رأس القبطى عند باب المسجد ، فأخرج القبط كنوزهم خشية أن يقتلوا.

وروى يزيد بن أبى حبيب أن عمرو بن العاص استحل مال قبطى كان يظهر الروم على عورات المسلمين ويكتب إليهم بذلك ، فاستخرج منه بضعة وخمسين أردبا دنانير.

وقال ابن شهاب : كان فتح مصر بعضها بعهد وذمة وبعضها عنوة. فجعل عمر بن

__________________

(١) فى ابن عبد الحكم : يغزو.

(٢) هو : أيوب بن أبى العالية.

(٣) انظر ترجمته فى : الجرح والتعديل (٣ / ٢٥٠٩) ، الإصابة ترجمة رقم (٢٨٨٣) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٨٢١).

(٤) فى ابن عبد الحكم : نبطيا.

٣٤٥

الخطاب جميعها ذمة ، وحملهم على ذلك ، فجرى ذلك فيهم إلى اليوم.

وفى كتاب سيف عمن سمى من أشياخه (١) فى فتح مصر مساق آخر غير ما تقدم ، وذلك أن عمرو بن العاص خرج إلى مصر بعد ما رجع عمر إلى المدينة ، يعنى رجوعه من الشام ، فانتهى عمرو إلى باب مصر ، وأتبعه الزبير فاجتمعا ، فلقيهم هناك أبو مريم جاثليق (٢) مصر ومعه الأسقف فى أهل النيات ، بعثهم المقوقس لمنع بلادهم.

فلما نزل بهم عمرو قاتلوه ، فأرسل إليهم عمرو : لا تعجلونا لنعذر إليكم ، وتروا رأيكم بعد ، فكفوا أصحابهم ، فأرسل إليهم عمرو : إنى بارز فليبرز لى أبو مريم وأبو مريام ، فأجابوه إلى ذلك وآمن بعضهم بعضا. فقال لهما عمرو : أنتما راهبا أهل هذه البلدة فاسمعا : إن الله بعث محمدا بالحق وأمره به ، وأمرنا به محمد ، وأدى إلينا كل الذي أمر به ، ثم مضى ، صلوات الله عليه ، وقد قضى الذي عليه وتركنا على الواضحة ، وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس ، فنحن ندعوكم إلى الإسلام ، فمن أجابنا إليه قبلنا منه وكان مثلنا ، ومن لم يجبنا إليه عرضنا عليه الجزية ، وبذلنا له المنعة ، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم ، وأوصانا بكم حفظا لرحمنا فيكم ، وإن لكم إن أجبتمونا إلى ذلك ذمة إلى ذمة ، ومما عهد إلينا أميرنا : استوصوا بالقبطيين خيرا ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوصى بالقبطيين خيرا ؛ لأن لهم رحما وذمة ، يعنى بالرحم أن هاجر أم إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام منهم ، فقالا : قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء وأتباع الأنبياء ، وذكرا أن هاجر معروفة عندهم شريفة.

قالا : كانت ابنة ملكنا ، وكان من أهل منف والملك فيهم ، فأذيل عليهم أهل عين شمس فقتلوهم وسلبوا ملكهم واغتربوا ، فلذلك صارت إلى إبراهيم عليه‌السلام. مرحبا بكم وأهلا أمنا حتى نرجع إليك.

فقال عمرو : إن مثلى لا يخدع ولكننى أؤجلكما ثلاثا ولتناظرا قومكما ، وإلا ناجرناكم.

قالا : زدنا ، فزادهم يوما ، فقالا : زدنا ، فزادهم يوما ، فرجعوا إلى المقوقس ، فهم ، يعنى بالإنابة إلى الجزية ، فأبى أرطبون أن يجيبهما ، وأمر بمناهدتهم ، فقالا لأهل مصر : أما نحن فسنجهد أن ندفع عنكم ، لا نرجع إليهم وقد بقيت أربعة أيام ، فلا تصابون فيها بشيء

__________________

(١) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ١٠٧ ، ١٠٨).

(٢) الجاثليق : رئيس النصارى فى ديار الإسلام.

٣٤٦

إلا رجونا أن يكون له أمان ، فلم يفجأ عمرا والزبير إلا البيات من فرقب ، وعمرو والزبير بعين شمس وبها جمعهم. وبعث إلى الفرما أبرهة بن الصباح ، فنزل عليها ، وبعث عوف ابن مالك إلى الإسكندرية فنزل عليها ، فقال كل واحد منهما لأهل مدينته : إن شئتم أن تنزلوا فلكم الأمان. فقالوا : نعم ، فراسلوها ، وتربصوا بهم أهل عين شمس ، وسبى المسلمون من بين ذلك.

وقال عوف بن مالك (١) : ما أحسن مدينتكم يا أهل الإسكندرية فقالوا : إن الإسكندر قال : إنى أبنى مدينة إلى الله فقيرة ، وعن الناس غنية ، فبقيت بهجتها.

وقال أبرهة لأهل الفرما : ما أخلق مدينتكم يا أهل الفرما؟ قالوا : إن الفرما قال : إنى أبنى مدينة عن الله غنية ، وإلى الناس فقيرة ، فذهبت بهجتها.

قال الكلبى : كان الإسكندر والفرما أخوين ، ثم حدث بمثل ذلك ، قال : فنسبتا إليهما ، فالفرما يتهدم كل يوم فيها شيء ، وأخلقت مرآتها ، وبقيت جدة الإسكندرية.

قالوا : ولما نزل عمرو على القوم بعين شمس ، وكان الملك بين القبط والنوب ، ونزل معه الزبير عليها قال أهل مصر لملكهم : ما تريد إلى قوم فلوا كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم ، صالح القوم واعتقد منهم ، ولا تعرضنا لهم ، وذلك فى اليوم الرابع ، فأبى ، وناهدوهم فقاتلوهم ، وارتقى الزبير سورها ، فلما أحسوه فتحوا الباب لعمرو ، وخرجوا إليه مصالحين ، فقبل منهم ، ونزل الزبير عليهم عنوة ، حتى خرج على عمرو من الباب معهم ، فاعتقدوا بعد ما أشرفوا على الهلكة فأجروا ما أخذوا عنوة مجرى ما صالحوا عليه ، فصاروا ذمة :

وكان صلحهم :

بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عمرو بن العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم ، وملتهم ، وأموالهم ، وكنائسهم ، وصلبهم ، وبحرهم ، وبرهم ، لا يدخل عليهم فى شيء من ذلك ، ولا ينتقض ، ولا يساكنهم النوب. وعلى أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح ، وانتهت زيادة نهرهم خمسين ألف ألف. وعليهم ما جنى لصوصهم ، فإن أبى أحد أن يجيب رفع عنهم من الجزى بقدرهم ، وذمتنا من أبى بريئة.

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٦١١٦) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤١٣٠) ، المعارف (٣١٥) ، الجرح والتعديل (٧ / ١٣ ، ١٤) ، العبر (١ / ٨١) ، تهذيب التهذيب (٨ / ١٦٨) ، شذرات الذهب (١ / ٧٩).

٣٤٧

وإن نقص نهرهم من عادته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك ، ومن دخل فى صلحهم من الروم والنوب فله مثل ما لهم ، وعليه مثل ما عليهم ، ومن أبى فاختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه ، أو يخرج من سلطاننا ، عليهم ما عليهم أثلاثا فى كل ثلث ، يريد من السنة ، جباية ثلث ما عليهم ، لهم على ما فى هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذمة الخليفة أمير المؤمنين وذمم المؤمنين.

وعلى النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا ، وكذا وكذا فرسا معونة ، على أن لا يغزوا ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة.

شهد الزبير ، وعبد الله ومحمد ابنا عمرو ، وكتب وردان ، وحضر فدخل فى ذلك أهل مصر كلهم ، وقبلوا الصلح (١).

فمصر عمرو الفسطاط ، ونزله المسلمون ، وظهر أبو مريم وأبو مريام ، فكلموا عمرا فى السبايا التي أصيبت بعد المعركة ، فقال عمرو : أولهم عهد وعقد؟ ألم نخالفكما ويغر علينا من يومكما؟ فطردهما ، فرجعا وهما يقولان : كل شيء أصبتموه إلى أن نرجع إليكم ففى ذمة. فقال لهما عمرو : يغيرون علينا وهم فى ذمة؟ قالا : نعم. وقسم عمرو ذلك السبى على الناس ، وتوزعوه ووقع فى بلاد العرب ، وقدم البشير إلى عمر بعد بالأخماس ، وقدم الوفود ، فسألهم عمر ، فما زالوا يخبرونه حتى مروا بحديث الجاثليق وصاحبه ، فقال عمر : ألا أراهما يبصران وأنتم تجاهلون ولا تبصرون من قاتلكم فلا أمان له ، ومن لم يقاتلكم وأصابه منكم سبى من أهل القرى فى الأيام الخمسة فله الأمان ، وكتب بذلك إلى عمرو بن العاص ، فجعل يجاء بهم من اليمن ومكة حتى ردوا.

وعن عمرو بن شعيب (٢) قال : لما التقى عمرو والمقوقس بعين شمس ، واقتتلت خيلاهما ، جعل المسلمون يجولون بعد البعد ، فزمرهم عمرو ، فقال رجل من أهل اليمن : إنا لم نخلق من حجارة ولا حديد. فأسكته عمرو ، ثم لما تمادى ذلك نادى عمرو : أين أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فحضر من شهدها منهم ، فقال : تقدموا فبكم ينصر المسلمون.

فتقدموا وفيهم يومئذ أبو بردة وأبو برزة ، وناهدهم الناس يتبعون الصحابة ، ففتح الله على المسلمين ، وظفروا أحسن الظفر ، وافتتحت مصر ، وقام فيها ملك الإسلام على رجل ، وجعل يفيض على الأمم والملوك.

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٠٩).

(٢) انظر : الطبرى (٤ / ١١١).

٣٤٨

وعن محمد بن إسحاق (١) عن رجل من أهل مصر اسمه القاسم بن قزمان : أن زياد ابن جزء الزبيدى حدثه وكان فى جند عمرو بن العاص ، قال : افتتحنا الإسكندرية فى خلافة عمر ، فلما افتتحنا باب اليون تدنينا قرى الريف فيما بيننا وبين الإسكندرية قرية قرية ، حتى انتهينا إلى بلهيب وقد بلغت سبايانا مكة والمدينة واليمن ، فلما انتهينا إلى بلهيب (٢) أرسل صاحب الإسكندرية إلى عمرو بن العاص : إنى قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلىّ منكم يا معشر العرب ، لفارس والروم ، فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن ترد علىّ ما أصبتم من سبايا أرضى فعلت ، فبعث إليه عمرو : إن ورائى أميرا لا أستطيع أن أصنع أمرا دونه ، فإن شئت أن أمسك عنك وتمسك عنى حتى أكتب إليه بالذى عرضت علىّ ، فإن قبل ذلك منك قبلت ، وإن أمرنى بغير ذلك مضيت لأمره. قال : فقال : نعم. فكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب يذكر له الذي عرض عليه صاحب الإسكندرية. قال : وكانوا لا يخفون علينا كتابا كتبوا به ، ثم وقفنا ببلهيب وفى أيدينا بقايا من سبيهم ، وأقمنا ننتظر كتاب عمر حتى جاءه ، وقرأه علينا عمرو وفيه :

«أما بعد : فإنه جاء فى كتابك تذكر أن صاحب الإسكندرية عرض عليك أن يعطيك الجزية على أن ترد عليه ما أصبت من سبايا أرضه ، ولعمرى لجزية قائمة تكون لنا ولمن بعدنا من المسلمين أحب إلىّ من فيء يقسم ، ثم كأنه لم يكن ، فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية ، على أن تخيروا من فى أيديكم من سبيهم بين الإسلام وبين دين قومه ، فمن اختار منهم الإسلام فهو من المسلمين ، له ما لهم وعليه ما عليهم ، ومن اختار دين قومه وضع عليه من الجزية ما يوضع على أهل ذمته ، فأما من تفرق من سبيهم بأرض العرب وبلغ مكة والمدينة واليمن فإنّا لا نقدر على ردهم ، ولا نحب أن نصالحه على أمر لا نفى له به».

قال : فبعث عمرو بن العاص إلى صاحب الإسكندرية يعلمه الذي كتب به أمير المؤمنين ، فقال : قد فعلت ، فجمعنا ما فى أيدينا من السبايا ، واجتمعت النصارى ، فجعلنا نأتى بالرجل ممن فى أيدينا ، ثم نخيره بين الإسلام وبين النصرانية ، فإذا اختار الإسلام كبرنا تكبيرة لهى أشد من تكبيرتنا حين تقتحم القرية ، ثم نجوزه إلينا ، وإذا اختار النصرانية نخرت النصارى وحازوه إليهم ، ووضعنا عليه الجزية ، وجزعنا من ذلك جزعا

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١٠٥ ، ١٠٦).

(٢) بلهيب : قرية من قرى الريف ، يقال لها : الريش. انظر : الطبرى (٤ / ١٠٥) ، معجم البلدان (١ / ٤٩٢).

٣٤٩

شديدا ، حتى كأنه رجل خرج منا إليهم ، فكان ذلك الدأب حتى فرغنا منهم.

وفيمن أتينا به أبو مريم عبد الله بن عبد الرحمن ، قال القاسم : وقد أدركته وهو عريف بنى زبيد ، قال ابن جزء الزبيدى : فعرضنا عليه الإسلام والنصرانية ، وأبوه وأمه وإخوته فى النصارى ، فاختار الإسلام ، فحزناه إلينا ، ووثب عليه أبوه وأمه وإخوته يجاذبوننا عليه ، حتى شققوا ثيابه ، ثم هو اليوم عريفنا كما ترى.

ثم فتحت لنا الإسكندرية فدخلناها ، فمن زعم غير ذلك أن الإسكندرية وما حولها من القرى لم تكن لها جزية ولا لأهلها عهد فقد كذب.

قال القاسم : وإنما أهاج هذا الحديث أن ملوك بنى أمية كانوا يكتبون إلى أمراء مصر أنها إنما دخلت عنوة ، وإنما هم عبيدنا نزيد عليهم كيف شئنا ، ونضع ما شئنا ، وقد تقدم بعض ما وقع فى هذا المعنى من الاختلاف.

وكذلك اختلفوا فى وقت فتح مصر ، فذكر ابن إسحاق أنها فتحت سنة عشرين ، وكذلك قال أبو معشر والواقدى.

وقد روى عن أبى معشر أن الإسكندرية فتحت سنة خمس وعشرين ، ولعل ذلك فتحها الأخير ، إذ قد تقدم ذكر انتقاضها مرتين.

وأما سيف (١) فزعم أن مصر والإسكندرية فتحتا فى سنة ست عشرة. قال : ولما كان ذو القعدة من سنة ست عشرة وضع عمر ، رحمه‌الله ، مسالح مصر على السواحل وغيرها.

وقال سعيد بن عفير وغيره (٢) : لما تم الفتح للمسلمين بعث عمرو بن العاص جرائد الخيل إلى القرى التي حول الفسطاط ، فأقامت الفيوم سنة لم يعلم المسلمون مكانها ، حتى أتاهم رجل فذكرها لهم ، فأرسل عمرو معه ربيعة بن حبيش بن عرفطة الصدفى ، فلما سلكوا فى المجابة لم يروا شيئا ، فهموا بالانصراف ، فقالوا : لا تعجلوا ، سيروا فإن كان كذبا فما أقدركم على ما أردتم. فلم يسيروا إلا قليلا حتى طلع لهم سواد الفيوم فهجموا عليها ، فلم يكن عندهم قتال وألقوا بأيديهم.

قال : ويقال : بل خرج مالك بن ناعمة الصدفى ، وهو صاحب الأشقر ، ينفض المجابة

__________________

(١) انظر : الطبرى (٤ / ١١١ ، ١١٢).

(٢) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٦٩).

٣٥٠

على فرسه ، ولا علم له بما خلفها من الفيوم ، فهجم على الفيوم فلما رأى سوادها رجع إلى عمرو فأخبره.

وقيل غير ذلك فى وجه الانتهاء إلى الفيوم مما لا كبير فائدة فى ذكره ، والله تعالى أعلم(١).

وعن يزيد بن أبى حبيب أن عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية ورأى بيوتها وبناءها مفروغا منها همّ بسكناها ، وقال : مساكن قد كفينا بناءها ، فكتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه فى ذلك ، فسأل عمر الرسول : هل يحول بينى وبين المسلمين ماء؟ قال : نعم ، إذا جرى النيل. فكتب إلى عمرو :

إنى لا أحب أن ينزل المسلمون منزلا يحول الماء بينى وبينهم لا فى شتاء ولا فى صيف.

فتحول عمرو من الإسكندرية إلى الفسطاط. وإن ناسا من المسلمين حين افتتحوا مصر مع عمرو بن العاص اختطوا بالجيزة وسكنوا بها ، فكتب عمرو بذلك إلى عمر ، فكتب إليه عمر يقول : ما كنت أحب أن ينزلوا منزلا يكون الماء دونهم ، فإذا فعلوا فابن عليهم حصنا. فبنى الحصن الذي خلف الجسرين.

وبنى عمرو بن العاص المسجد ، وكان ما حوله حدائق وأعنابا ، فنصبوا الحبال حتى استقام لهم ، ووضعوا أيديهم ، فلم يزل عمرو قائما حتى وضعوا القبلة ، وضعها هو ومن حضر معه من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتخذ فيه منبرا. فكتب إليه عمر بن الخطاب :

«أما بعد. فإنه بلغنى أنك اتخذت منبرا ترقى به على رقاب المسلمين ، أو ما بحسبك أن تقوم قائما والمسلمون تحت عقبيك ، فعزمت عليك لما كسرته».

ولما اختط الناس المنازل بالفسطاط كتب عمرو بن العاص إلى عمر ، رضي‌الله‌عنه : إنا قد اختططنا لك دارا عند المسجد الجامع.

فكتب إليه عمر : أنى لرجل بالحجاز تكون له دار بمصر؟ وأمره أن يجعلها سوقا للمسلمين.

وذكر الطبرى (٢) أن القبط حضروا باب عمرو ، فبلغه أنهم يقولون : ما أرثّ العرب

__________________

(١) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ٩١).

(٢) انظر : تاريخ الرسل والملوك للطبرى (٤ / ١١٠).

٣٥١

وأهون أنفسهم وما رأينا مثلنا دان لهم فخاف أن يستثيرهم ذلك ، فأمر بجزر فنحرت ، فبطحت فى الماء والملح ، وأمر أمراء الأجناد أن يحضروا هم وأصحابهم ، وجلس وأذن لأهل مصر ، وجيء باللحم والمرق فطافوا به على المسلمين ، فأكلوا أكلا عربيا ، انتشلوا وحسوا وهم فى العباء ولا سلاح ، فافترق أهل مصر وقد ازدادوا طمعا وجرأة ، وتقدم إلى أمراء الأجناد فى الحضور بأصحابهم من الغد ، وأمرهم أن يجيئوا فى ثياب أهل مصر وأحذيتهم ، وأمرهم أن يأخذوا أصحابهم بذلك ، ففعلوا ، وأذن لأهل مصر ، فرأوا غير ما رأوا بالأمس ، وقام عليهم القوم بألوان مصر ، فأكلوا أكل أهل مصر ، ونحوا نحوهم ، فافترقوا وقد ارتابوا.

وبعث إليهم : أن يتسلحوا غدا للعرض ، وغدا على العرض ، وأذن لأهل مصر فعرضهم عليهم ، ثم قال : إنى قد علمت أنكم رأيتم فى أنفسكم أنكم فى شيء حين رأيتم اقتصاد العرب وهون تزجيتهم ، فخشيت أن تهلكوا ، فأحببت أن أريكم حالهم ، كيف كانت فى أرضهم ، ثم حالهم فى أرضكم ، ثم حالهم فى الحرب فظفروا بكم ، وذلك عيشهم ، وقد كلبوا على بلادكم قبل أن ينالوا منها ما رأيتم فى اليوم الثانى ، فأحببت أن تعلموا أن من رأيتم فى اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثانى وراجع إلى عيش اليوم الأول. فتفرقوا وهم يقولون : لقد رمتكم العرب برجلهم.

وبلغ عمر ، رحمه‌الله ، ذلك ، فقال لجلسائه ، يعنى عمرا : والله إن حربه للينة ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره ، إن عمرا لعض ، ثم أمّره عليها وأقام بها.

وذكر ابن عبد الحكم أن عمر ، رضي‌الله‌عنه ، كتب أن يختم فى رقاب أهل الذمة بالرصاص ، ويظهروا مناطقهم ، ويجزوا نواصيهم ، ويركبوا على الأكف عرضا ، ولا يضربوا الجزية إلا على من جرت عليه الموسى ، ولا يضربوا على النساء ، ولا على الولدان ، ولا يدعوهم يتشبهون (١) بالمسلمين فى لبوسهم (٢).

قال : ثم إن عمر بن الخطاب أمر أمراء الأجناد أن يتقدموا إلى الرعية بأن عطاءهم قائم ، وأرزاق عيالهم جارية ، فلا يزرعون ، يعنى الأجناد ، ولا يزارعون.

فأتى شريك بن سمى الغطيفى إلى عمرو بن العاص فقال : إنكم لا تعطوننا ما يحبسنا أفتأذن لى بالزرع؟ فقال له عمرو : ما أقدر على ذلك ، فزرع شريك بغير إذنه ، فكتب

__________________

(١) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٥١).

(٢) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٦٢).

٣٥٢

عمرو بذلك إلى عمر بن الخطاب ، فأمره أن يبعث إليه شريكا ، فأقرأ عمرو شريكا الكتاب ، فقال له شريك : قتلتنى يا عمرو قال : ما أنا قتلتك قال : أنت صنعت هذا بنفسك قال : فإذا كان هذا من رأيك فأذن لى فى الخروج إليه من غير كتاب ، ولك علىّ عهد الله أن أجعل يدى فى يده ، فأذن له ، فلما وقف على عمر قال : تؤمننى يا أمير المؤمنين؟ قال : ومن أى الأجناد أنت؟ قال : من جند مصر ، قال : فلعلك شريك بن سمى الغطيفى؟ قال : نعم ، يا أمير المؤمنين ، قال : لأجعلنك نكالا لمن خلفك ، قال : أو تقبل منى ما قبل الله من العباد؟ قال : وتفعل؟ قال : نعم ، فكتب إلى عمرو بن العاص : إن شريك ابن سمى جاءنى تائبا فقبلت منه.

وعن الليث بن سعد (١) قال : سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطم بسبعين ألف دينار ، فعجب عمرو من ذلك وقال : أكتب فى ذلك إلى أمير المؤمنين ، فأجابه عمر عن كتابه إليه فى ذلك : سله لم أعطاك به ما أعطاك ، وهى لا تزدرع ولا يستنبط بها ماء ولا ينتفع بها. فسأله عمرو ، فقال : إنا لنجد صفتها فى الكتب أن فيها غراس الجنة ، فكتب بذلك إلى عمر ، فأجابه : إنا لا نعلم غراس الجنة إلا المؤمنين ، فأقبر فيها من مات قبلك من المسلمين ولا تبعه بشيء. فكان أول من دفن فيها رجل من المعافر يقال له : عامر ، فقيل : عمرت.

قالوا (٢) : ولما استقامت البلاد وفتح الله على المسلمين ، فرض عمرو بن العاص لرباط الإسكندرية ربع الناس ، يقيمون ستة أشهر ثم يعقب بعدهم ربعا آخر ستة أشهر ، وربعا فى السواحل ، والنصف الثانى مقيمون معه.

وقيل : كان عمر بن الخطاب يبعث كل سنة غازية من أهل المدينة ترابط بالإسكندرية وكانت الولاة لا تغفلها ، ويكثفون رابطتها ، ولا يأمنون الروم عليها.

وكتب عثمان بن عفان ، رضي‌الله‌عنه ، وهو خليفة إلى عبد الله بن سعد بن أبى سرح بعد أن استعمله على مصر :

قد علمت كيف كان هم أمير المؤمنين بالإسكندرية ، وقد نقضت مرتين ، فألزم الإسكندرية رابطتها ، وأجر عليهم أرزاقهم ، وأعقب بينهم فى كل ستة أشهر.

وكان عمرو بن العاص يقول : ولاية مصر جامعة تعدل الخلافة ، وقال : نيل مصر سيد

__________________

(١) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٥٧).

(٢) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٩٢).

٣٥٣

الأنهار ، سخر الله له كل نهر من المشرق والمغرب ، فإذا أراد الله أن يجريه أمر الأنهار فأمدته بمائها ، وفجر له الأرض عيونا ، فإذا انتهت جريته إلى ما أراد سبحانه أوحى إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره.

ولما فتح عمرو مصر أتاه أهلها حين دخل بؤنة من أشهر العجم ، فقالوا له : أيها الأمير ، إن لنيلنا هذا سنة لا يجرى إلا بها. فقال : وما ذاك؟ قالوا : إنه إذا كان لاثنتى عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عهدنا إلى جارية بكر بين أبويها ، فأرضينا أبويها ، وجعلنا عليها من الحلى والثياب أفضل ما يكون ، ثم ألقيناها فى هذا النهر. فقال لهم عمرو : إن هذا لا يكون فى الإسلام ، وإن الإسلام يهدم ما قبله. فأقاموا ذلك الشهر والشهرين اللذين بعده لا يجرى قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء ، فلما رأى ذلك عمرو كتب به إلى عمر بن الخطاب ، فكتب إليه عمر ، رضي‌الله‌عنه :

قد أصبت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، وقد بعثت إليك ببطاقة فألقها فى داخل النيل.

فلما قدم الكتاب على عمرو وفتح البطاقة فإذا فيها :

من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى نيل مصر : أما بعد ، فإن كنت تجرى من قبلك فلا تجر ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك.

فألقى عمرو البطاقة فى النيل قبل يوم الصليب بيوم ، وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها ؛ لأنه لا يقوم بمصلحتهم فيها إلا النيل ، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله ، عزوجل ، ستة عشر ذراعا فى ليلة. وقطع تلك السنة السوء عن أهل مصر.

ذكر فتح أنطابلس

قال ابن عبد الحكم (١) : كان البربر بفلسطين ، يعنى فى زمان داود عليه‌السلام ، فخرجوا منها متوجهين إلى الغرب حتى انتهوا إلى لوبية ومراقية ، وهما كورتان من كور مصر الغربية ، مما يشرب من ماء السماء ولا ينالهما النيل ، فتفرقوا هنالك ، فتقدمت زناتة ومغيلة إلى الغرب وسكنوا الجبال وتقدمت لواتة فسكنت أرض أنطابلس وهى برقة ، وتفرقت فى هذا الغرب وانتشروا فيه حتى بلغوا السوس ، ونزلت هوارة مدينة لبدة ،

__________________

(١) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٧٠ ، ١٧١).

٣٥٤

ونزلت نفوسة مدينة صبرة ، وجلا من كان فيها من الروم من أجل ذلك ، وأقام الأفارق وكانوا خدما للروم على صلح يؤدونه إلى من غلب على بلادهم ، وهم بنو أفارق بن قيصر بن حام.

فسار عمرو بن العاص فى الخيل حتى قدم برقة ، فصالح أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدونها إليه جزية ، على أن يبيعوا من أبنائهم فى جزيتهم ، ولم يكن يدخل برقة يومئذ جابى خراج ، وإنما كانوا يبعثون بالجزية إذا جاء وقتها.

ووجه عمرو بن العاص عقبة بن نافع حتى بلغ زويلة. قال الطبرى : فافتتحها بصلح ، وصار ما بين برقة وزويلة سلما للمسلمين. وقال أبو العالية الحضرمى : سمعت عمرو بن العاص على المنبر يقول : لأهل أنطابلس عهد يوفى لهم به.

فتح أطرابلس

قال ابن عبد الحكم (١) : ثم سار عمرو حتى نزل أطرابلس فى سنة اثنتين وعشرين ، فنزل القبة التي على الشرف من شرقيها ، فحاصرها شهرا لا يقدر منهم على شيء ، فخرج رجل من بنى مدلج ذات يوم من عسكر عمرو متصيدا فى سبعة نفر ، فمضوا غربى المدينة حتى أمنعوا عن العسكر ، ثم رجعوا فأصابهم الحر ، فأخذوا على ضفة البحر ، وكان البحر لاصقا بسور المدينة ، ولم يكن فيما بين المدينة والبحر سور ، وكانت سفن الروم شارعة فى مرساها إلى بيوتهم ، فنظر المدلجى وأصحابه ، فإذا البحر قد غاض من ناحية المدينة ، ووجدوا مسلكا إليها من الموضع الذي حسر عنه البحر ، فدخلوا منه حتى أتوا من ناحية الكنيسة وكبروا ، فلم يكن للروم مفزع إلا سفنهم ، وأبصر عمرو وأصحابه السلمة فى جوف المدينة ، فأقبل بجيشه حتى دخل عليهم ، فلم يفلت الروم إلا بما خف لهم من مراكبهم ، وغنم عمرو ما كان فى المدينة.

وكان من بصبرة متحصنين ، وهى المدينة العظمى وسوقها السوق القديم ، فلما بلغهم محاصرة عمرو مدينة أطرابلس ، وأنه لم يصنع فيهم شيئا ولا طاقة له بهم أمنوا.

فلما ظفر عمرو بمدينة أطرابلس جرد خيلا كثيفة من ليلته ، وأمرهم بسرعة السير ، فصبحت خيله مدينة صبرة وهم غافلون وقد فتحوا أبوابها لتسرح ماشيتهم ، فدخلوها فلم ينج منهم أحد ، واحتوى أصحاب عمرو على ما فيها ورجعوا إلى عمرو.

__________________

(١) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٧١ ـ ١٧٣).

٣٥٥

قال : ثم أراد عمرو أن يوجه إلى المغرب ، فكتب إلى عمر بن الخطاب : إن الله ، عزوجل ، قد فتح علينا أطرابلس ، وليس بينها وبين إفريقية إلا تسعة أيام ، فإن رأى أمير المؤمنين أن نغزوها ويفتحها الله على يديه فعل.

فكتب إليه عمر : لا ، إنها ليست بإفريقية ، ولكنها المفرقة ، غادرة مغدور بها ، لا يغزوها أحد ما بقيت.

قال : وأتى عمرو بن العاص كتاب المقوقس ، يذكر له أن الروم يريدون نكث العهد ونقض ما كان بينهم وبينه ، وكان عمرو قد عاهد المقوقس على أن لا يكتمه أمرا يحدث ، فانصرف عمرو راجعا مبادرا لما أتاه.

قال : وقد كان عمرو يبعث الجريدة من الخيل فيصيبون الغنائم ثم يرجعون ، يعنى من أطراف إفريقية.

ذكر انتقاض الإسكندرية فى خلافة

عثمان رضي‌الله‌عنه(١)

قال عبد الرحمن بن عبد الحكم : وفى سنة خمس وعشرين عزل عثمان بن عفان عمرو ابن العاص عن مصر ، وولى عبد الله بن سعد (٢). وقد كانت الإسكندرية انتقضت ، وجاءت الروم عليهم منويل الخصى فى المراكب حتى أرسوا بالإسكندرية ، فأجابهم من بها من الروم ، ولم يكن المقوقس تحرك ولا نكث ، فلما نزلت الروم بالإسكندرية سأل أهل مصر عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، أن يقر عمرا حتى يفرغ من قتال الروم ، فإن له معرفة فى الحرب وهيبة فى العدو ، ففعل.

فخرج إليهم عمرو فى البر والبحر ، وضوى إلى المقوقس من أطاعه من القبط. فأما الروم فلم يطعه منهم أحد. فقال خارجة بن حذافة لعمرو : ناهضهم قبل أن يكثر مددهم ولا آمن أن تنتقض مصر كلها. قال عمرو : لا ، ولكن دعهم حتى يسيروا إلىّ ، فإنهم يصيبون من مروا به فيجزى الله بعضهم ببعض ، فخرجوا من الإسكندرية ومعهم من نقض من أهل القرى ، فجعلوا ينزلون القرية فيشربون خمورها ، ويأكلون أطعمتها ،

__________________

(١) الخبر منقول عن ابن عبد الحكم فى فتوح مصر وأخبارها (ص ١٧٤ ـ ١٩١).

(٢) هو : عبد الله بن سعد العامرى. انظر ترجمته فى : الثقات (٣ / ٢١٣) ، التاريخ الصغير (١ / ٨٤) ، البداية والنهاية (٥ / ٣٥٠) ، الإصابة ترجمة رقم (٤٧٢٩) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٢٩٧٦).

٣٥٦

وينتهبون ما مروا به ، فلم يعرض لهم عمرو حتى بلغوا نقيوس (١) ، فلقوهم فى البر والبحر ، فبدأت الروم والقبط فرموا بالنشاب فى الماء رميا شديدا ، حتى أصاب النشاب يومئذ فرس عمرو فى لبته وهو فى البر ، فعقر فنزل عنه ، ثم خرجوا من البحر ، فاجتمعوا هم والذين فى البر فنصحوا المسلمين بالنشاب ، فاستأخر المسلمون عنهم شيئا ، وحملوا حملة ولى المسلمون منها ، وانهزم شريك بن سمى فى خيله.

وكانت الروم قد جعلت صفوفا خلف صفوف ، وبرز يومئذ بطريق ممن جاء من أرض الروم على فرس له عليه سلاح مذهب ، فدعا إلى البراز ، فبرز إليه رجل من زبيد يقال له : حومل ويكنى أبا مذحج ، فاقتتلا طويلا برمحين يتطاردان ، ثم ألقى البطريق الرمح وأخذ السيف ، وألقى حومل رمحه وأخذ سيفه وكان يعرف بالنجدة ، وجعل عمرو يصيح : أبا مذحج فيجيبه : لبيك ، والناس على شاطئ النيل فى البر على تعبئتهم وصفوفهم ، فتجاولا ساعة بالسيفين ، ثم حمل عليه البطريق فاحتمله وكان نحيفا ، ويخترط حومل خنجرا كان فى منطقته أو فى ذراعه فيضرب به نحر العلج أو ترقوته ، فأثبته ووقع عليه فأخذ سلبه ، ثم مات حومل بعد ذلك بأيام ، رحمة الله عليه ، فرئى عمرو يحمل سريره بين عمودى نعشه حتى دفنه بالمقطم.

قال : ثم شد المسلمون عليهم فكانت هزيمتهم ، وطلبهم المسلمون حتى ألحقوهم بالإسكندرية ، ففتح الله عليهم وقتل منويل الخصى.

قال الهيثم بن زياد : وقتلهم عمرو بن العاص حتى أمعن فى مدينتهم ، فكلم فى ذلك فأمر برفع السيف عنهم ، وبنى فى ذلك الموضع مسجد ، وهو الذي يقال له بالإسكندرية مسجد الرحمة ، سمى بذلك لرفع عمرو السيف هنالك.

وكان عمرو حلف : لئن أظفره الله عليهم ليهدمن سورها حتى تكون مثل بيت الزانية يؤتى من كل مكان ، فلما أظفره الله هدم سورها كله.

وجمع عمرو ما أصاب منهم ، فجاءه من أهل تلك القرى من لم يكن نقض ، فقالوا : قد كنا على صلحنا ، ومرّ علينا هؤلاء اللصوص فأخذوا متاعنا ودوابنا وهو قائم فى يديك ، فرد عليهم عمرو ما كان لهم من متاع عرفوه وأقاموا عليه البينة.

وقال بعضهم لعمرو : ما حل لك ما صنعت بنا ، وكان لنا عليك أن تقاتل عنا لأنا فى ذمتك ولم ننقض ، فأما من نقض فأبعده الله. فندم عمرو وقال : يا ليتني كنت لقيتهم حين خرجوا من الإسكندرية.

__________________

(١) نقيوس : قرية كانت بين الفسطاط والإسكندرية. انظر : معجم البلدان (٥ / ٣٠٣).

٣٥٧

وكان سبب نقض الإسكندرية ، فيما ذكر ابن عبد الحكم ، أن صاحب أخناء قدم على عمرو بن العاص فقال : أخبرنا ما علينا من الجزية فنصبر لها ، فقال له عمرو وهو يشير إلى ركن كنيسة : لو أعطيتنى من الركن إلى السقف ما أخبرتك ، إنما أنتم خزانة لنا ، إن كثر علينا كثرنا عليكم وإن خفف عنا خففنا عنكم ، فغضب صاحب أخناء ، فخرج إلى الروم فقدم بهم ، فهزمهم الله ، ، وأسر ذلك النبطى ، فأتى به إلى عمرو ، فقال له الناس : اقتله ، فقال : لا ، بل انطلق فجئنا بجيش آخر.

وقيل : إنه لما أتى به سوره وتوجه وكساه برنسين أرجوان ، وقال له : ايتنا بمثل هؤلاء ، فرضى بأداء الجزية.

فقيل له : لو أتيت ملك الروم؟ فقال : لو أتيته لقتلنى وقال : قتلت أصحابى.

وذكر ابن عبد الحكم ، أيضا ، أن الروم مشت إلى قسطنطين بن هرقل فى سنة خمس وثلاثين فقالوا : تترك الإسكندرية فى أيدى العرب وهى مدينتنا الكبرى؟ فقال : ما أصنع بكم وما تقدرون أن تتماسكوا ساعة إذا لقيتم العرب؟ قالوا : فاخرج على أن نموت ، فتبايعوا على ذلك ، وخرج فى ألف مركب يريد الإسكندرية ، فبعث الله عليهم ريحا عاتية فأغرقتهم ، إلا قسطنطين نجا بمركبه فألقته الريح بصقلية ، فسألوه عن أمره فأخبرهم ، فقالوا : شأمت النصرانية وأفنيت رجالها ، فلو دخل العرب علينا لم نجد من يردهم ، ثم صنعوا له الحمام ودخلوا عليه ليقتلوه ، فقال : ويلكم تذهب رجالكم وتقتلون ملككم؟ قالوا : كأنه غرق معهم ، ثم قتلوه وخلوا من كان معه فى المركب.

ذكر غزو إفريقية وفتحها(١)

قال ابن عبد الحكم (٢) : ولما عزل عثمان ، عمرو بن العاص عن مصر وأمّر عبد الله بن سعد بن أبى سرح ، كان يبعث المسلمين فى جرائد الخيل كما كانوا يفعلون فى إمرة عمرو بن العاص ، فيصيبون من أطراف إفريقية ويغنمون ، فكتب عبد الله بن سعد فى ذلك إلى عثمان ، وأخبره بقربها من حوز المسلمين ، واستأذنه فى غزوها ، فندب عثمان الناس إلى ذلك بعد المشورة فيه ، فلما اجتمع الناس أمّر عليهم الحارث بن الحكم إلى أن يقدموا مصر على عبد الله بن سعد ، فيكون إليه الأمر ، فخرج عبد الله إليها ، وكان

__________________

(١) انظر : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٣٤٣ ـ ٣٤٥).

(٢) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٨٣).

٣٥٨

عليها ملك يقال له : جرجير ، كان هرقل استخلفه فخلعه ، وكان سلطانه ما بين أطرابلس إلى طنجة ، ومستقر سلطانه يومئذ بمدينة يقال لها قرطاجنة ، فلقى عبد الله جرجير ، فقاتله فقتله الله ، وولى قتله عبد الله بن الزبير ، فيما يزعمون ، وهرب جيش جرجير ، فبعث عبد الله السرايا وفرقها ، فأصابوا غنائم كثيرة ، فلما رأى ذلك رؤساء أهل إفريقية سألوه أن يأخذ منهم مالا على أن يخرج من بلادهم ، فقبل منهم ذلك ورجع إلى مصر ، ولم يول على إفريقية أحدا ، ولا اتخذ بها قيروانا.

ويروى أن جرجيرا لما نازله المسلمون القتال أبرز ابنته وكانت من أجمل النساء ، فقال : من يقتل عبد الله بن سعد وله نصف ملكى وأزوجه ابنتى؟ فبلغ ذلك عبد الله فقال : أنا أصدق من العلج ، وأوفى بالعهد! من يقتل جرجيرا فله ابنته ، فقتله عبد الله بن الزبير ، فدفع إليه عبد الله ابنته.

وذكر ابن عبد الحكم (١) ، عن أبيه وابن عفير : أن ابنة جرجير صارت لرجل من الأنصار فى سهمه ، فأقبل بها منصرفا قد حملها على بعير له ، فجعل يرتجز :

يا ابنة جرجير تمشى عقبتك

إن عليك بالحجاز ربّتك

لتحملنّ من قباء قربتك

فقالت : ما تقول؟ وسبته فأخبرت بذلك ، فألقت بنفسها عن البعير الذي كانت عليه ، فاندقت عنقها فماتت. فالله أعلم أى ذلك كان.

وكانت غنائم المسلمين يومئذ أنه بلغ سهم الفارس بعد إخراج الخمس ثلاثة آلاف دينار : للفرس ألفا دينار ، ولفارسه ألف دينار ، وللراجل ألف ، وقسم لرجل من الجيش توفى بذات الحمام ، فدفع إلى أهله بعد موته ألف دينار.

وكان جيش عبد الله بن سعد ذلك الذي وقع له القسم عشرين ألفا.

وبعث عبد الله بالفتح إلى عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، عقبة بن نافع ، ويقال : بل عبد الله ابن الزبير ، وهو أصح.

وسار ، زعموا ، عبد الله بن الزبير على راحلته من إفريقية إلى المدينة عشرين ليلة ، ولما دخل على عثمان أخبره بلقائهم العدو ، وبما كان فى تلك الغزوة ، فأعجب عثمان فقال له : هل تستطيع أن تخبر الناس بهذا؟ قال : نعم ، فأخذ بيده حتى انتهى به إلى المنبر ثم

__________________

(١) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ١٨٤ ، ١٨٥).

٣٥٩

قال : اقصص عليهم ما أخبرتنى به ، فتلكأ عبد الله بدأ ، ثم تكلم بكلام أعجبهم.

ويروى عن ابن شهاب (١) أن عثمان لما قال لابن الزبير أتكلم الناس بهذا؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، أنا أهيب لك منى لهم ، فأمر عثمان فجمع الناس ، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وكان أكره شيء إليه الخطب ، وأحب الأشياء إليه ما كفى ، ثم قال : أيها الناس ، إن الله قد فتح عليكم إفريقية ، وهذا عبد الله بن الزبير يخبركم بخبرها إن شاء الله ، ثم جلس على المنبر.

وقام ابن الزبير إلى جانب المنبر ، وكان أول من قام إلى جانبه ، فقال : الحمد لله الذي ألف بيننا بعد الفرقة ، وجعلنا متحابين بعد البغضة ، والحمد لله الذي لا تجحد نعماؤه ، ولا يزول ملكه ، له الحمد كما حمد نفسه ، وكما هو أهله. ابتعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاختاره بعلمه ، وائتمنه على وحيه ، فاختار له من الناس أعوانا قذف فى قلوبهم تصديقه ، فآمنوا به وعزروه ووقروه ونصروه ، وجاهدوا فى الله حق جهاده ، فاستشهد الله منهم من استشهد على المنهاج الواضح والبيع الرابح ، وبقى منهم من بقى ، لا يأخذهم فى الله لومة لائم.

أيها الناس ، رحمكم الله ، إنا خرجنا للوجه الذي قد علمتم ، فكنا مع خير وال ولى فحمد ، وقسم فعدل ، لم يفقد من بر أمير المؤمنين شيئا ، كان يسير بنا البردين يخفض بنا فى الظهائر ، ويتخذ الليل حملا ، يعجل الترحل من المنزل الفقير ، ويطيل اللباث فى المنزل المخصب الرحب ، فلم نزل على أحسن حالة يتعرفها قوم من ربهم ، حتى انتهى إلى إفريقية ، فنزل منها بحيث يسمع صهيل الخيل ورغاء الإبل وقعقعة السلاح ، فأقام أياما يجم كراعه ، ويصلح سلاحه ، ثم دعاهم إلى الإسلام والدخول فيه فبعدوا منه ، وسألهم الجزية عن صغار والصلح فكانت هذه أبعد ، فأقام فيها ثلاث عشرة ليلة يتأتى بهم وتختلف رسله إليهم ، فلما يئس منهم قام خطيبا ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكثر الصلاة عليه ، ثم ذكر فضل الجهاد ، وما لصاحبه إذا صبر واحتسب ، ثم نهد لعدوه فقاتلهم أشد القتال يومه ذلك ، وصبر الفريقان جميعا ، وكانت بيننا وبينهم قتلى كثيرة ، واستشهد الله رجلا من المسلمين فبتنا وباتوا ، للمسلمين بالقرآن دوى كدوى النحل ، وبات المشركون فى ملاهيهم وخمورهم.

فلما أصبحنا أخذنا مصافنا التي كنا عليها بالأمس ، وزحف بعضنا إلى بعض ، فأفرغ

__________________

(١) هو : محمد بن مسلم بن عبد الله الزهرى.

٣٦٠