الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

وقد كانوا أذلوهم وأجحروهم وضيقوا عليهم حتى جهدوا ، وظنوا أنهم أوهن أمرا ، وأضعف من أن يخرجوا عليهم ، فما راع المسلمين إلا وأهل قيسارية يضاربونهم بالسيوف بأجمعهم إلى جانب عسكرهم ، فجال المسلمون جولة منكرة.

ثم إن يزيد خرج مسرعا يمشى إليهم ، حتى إذا دنا منهم جالدهم طويلا ، وتتامت إليه خيل المسلمين ورجالتهم ، وخرج المسلمون على راياتهم وصفوفهم ، فلما كثروا عنده أمر الخيل فحملت عليهم ، ونهض بالرجال فى وجوههم ، ثم حمل هو عليهم فانهزموا انهزاما قبيحا شديدا ، وقتلهم المسلمون قتلا ذريعا ، وركب بعضهم بعضا ، فبعض دخل المدينة ، وبعض ذهبوا على وجوههم فلم يدخلوها ، وقتل الله منهم فى المعركة نحوا من خمسة آلاف ، فلما رأى يزيد ما أنزل الله بهم من الخزى والقتل ، وما صيرهم إليهم من الذل ، قال لمعاوية : أقم عليها حتى يفتحها الله ، وانصرف يزيد عنها.

فلم يلبث معاوية عليها إلا يسيرا حتى فتحها الله على يديه ، وذلك سنة تسع عشرة ، وكانت هى وجلولاء فى سنة واحدة ، وفرح المسلمون بذلك فرحا شديدا ، لأنه لم يبق بالشام فى أقصاها وأدناها عدو حينئذ ، وقد نفى الله المشركين عنها ، وصار الشام كله فى أيدى المسلمين.

وكتب يزيد إلى عمر : أما بعد ، فإن رأى أمير المؤمنين لأهل الشام كان رأيا أرشده الله وأرشد به من أخذ به ، وبارك له ولأهل طاعته فيه ، وإنى أخبر أمير المؤمنين أنا التقينا نحن وأهل قيسارية غير مرة ، وكل ذلك يجعل الله جدهم الأسفل ، وكدهم الأخسر ، ويجعل لنا عليهم الظفر ، فلما رأوا أن الله قد أذهب ريحهم ، وأذلهم وأنزل عليهم الصغار والهوان ، وقتل صناديدهم وفرسانهم وملوكهم لزموا حصنهم ، وانحجزوا فى مدينتهم ، فأطلنا حصارهم ، وقطعنا موادهم ، وميرتهم ، وضيقنا أشد التضييق عليهم ، فلما جهدوا هزلا وأزلا ، فتحها الله علينا ، والحمد لله رب العالمين.

فكتب إليه عمر ، رحمه‌الله : أما بعد ، فقد أتانى كتابك ، وسمعت ما ذكرت فيه من الفتح على المسلمين ، والحمد لله رب العالمين ، فاشكروا الله يزدكم ويتم نعمته عليكم ، وإن الله قد كفاكم مئونة عدوكم ، وبسط لكم فى الرزق ، ومكن لكم فى البلاد ، (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) ، والسلام عليك.

فلما أتى يزيد هذا الكتاب ، قرأه على المسلمين ، فحمدوا الله على ما أنعم عليهم ،

٣٢١

واصطنع عندهم ، وأقبل يزيد حتى نزل دمشق ، فلم يلبث إلا سنة حتى هلك رضي‌الله‌عنه ، وذلك فى سنة تسع عشرة ، والشام كله مستقيم أمره ، ليس به عدو للمسلمين.

وكان يزيد رحمه‌الله ، شريفا فاضلا حليما عاقلا رقيقا ، حسن السيرة ، محببا فى المسلمين ، ولما ثقل رحمه‌الله وأشرف على الموت استخلف أخاه معاوية على الشام ، وكتب إلى عمر ، رضي‌الله‌عنه : أما بعد ، فإنى كتبت إليك كتابى هذا وإنى أظن أنى فى أول يوم من الآخرة ، وآخر يوم من الدنيا ، فجزاك الله عنا ، وعن جميع المسلمين خيرا ، وجعل جناته لنا ولك مآبا ومصيرا ، فابعث إلى عملك بالشام من أحببت ، فأما أنا فقد استخلفت عليهم معاوية بن أبى سفيان.

فلما أتى عمر كتابه مع خبر موته ، جزع عليه جزعا شديدا ، وكتب إلى معاوية بولايته على الشام ، ويقال : إنه لما ورد البريد بموت يزيد على عمر كان أبوه أبو سفيان عنده ، فقال له عمر لما قرأ الكتاب بموت يزيد : أحسن الله عزاءك فى يزيد ، ورحمه ، فقال له أبو سفيان : من وليت مكانه يا أمير المؤمنين؟ قال : أخاه معاوية ، قال : وصلتك رحم يا أمير المؤمنين.

فأقام معاوية على الشام أربع سنين ، بقية خلافة عمر ، ثم أقره عليها عثمان اثنتى عشرة سنة ، مدة خلافته ، ثم كان منه بعد وفاة عثمان رضي‌الله‌عنه ، ما هو معلوم (١).

ذكر فتح مصر(٢)

ذكر ابن عبد الحكم (٣) عمن سمى من شيوخه أنه لما قدم عمر ، رضي‌الله‌عنه ، الجابية (٤) خلا به عمرو بن العاص ، فاستأذنه فى المسير إلى مصر ، وكان عمرو قد دخلها فى الجاهلية وعرف طرقها ورأى كثرة من فيها.

وكان سبب دخوله إياها أنه كان قدم بيت المقدس لتجارة فى نفر من قريش ، وكانت رعية إبلهم نوبا بينهم ، فبينا عمرو يرعاها فى نوبته إذ مر به شماس من شمامسة

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (٢٧٦ ـ ٢٨٣).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٤ / ١٠٤ ـ ١١٢) ، البداية والنهاية (٧ / ١٠٧ ـ ١١٠) ، الكامل (٢ / ٤٠٥ ـ ٤٠٨).

(٣) انظر : فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (ص ٥٣ ـ ١٩٢).

(٤) كان ذلك سنة ثمانى عشرة من الهجرة.

٣٢٢

الروم ، من أهل الإسكندرية ، كان قدم للصلاة فى بيت المقدس وللسياحة فى جبالها ، فوقف على عمرو فاستسقاه وقد أصابه عطش شديد فى يوم شديد الحر ، فسقاه عمرو من قربة له ، فشرب حتى روى ، ونام الشماس مكانه ، وكانت إلى جنبه حيث نام حفرة ، فخرجت منها حية عظيمة ، فبصر بها عمرو ، فنزع لها بسهم فقتلها ، فلما استيقظ الشماس ونظر إلى الحية سأل عمرا عنها ، فأخبره أنه رماها فقتلها ، فأقبل الشماس فقبل رأسه ، وقال : قد أحيانى الله بك مرتين ، مرة من شدة العطش ، ومرة من هذه الحية ، فما أقدمك هذه البلاد؟ قال : قدمت مع أصحاب لى نطلب الفضل فى تجارتنا ، فقال له الشماس : وكم تراك ترجو أن تصيب فى تجارتك؟ قال : رجائى أن أصيب ما اشترى به بعيرا ، فإنى لا أملك إلا بعيرين ، فأملى أن أصيب بعيرا ثالثا ، فقال له الشماس : كم الدية فيكم؟ قال : مائة من الإبل ، قال الشماس لسنا أصحاب إبل ، إنما نحن أصحاب دنانير.

قال : تكون ألف دينار ، فقال له الشماس : إنى رجل غريب فى هذه البلاد ، وإنما قدمت أصلى فى كنيسة بيت المقدس ، وأسيح فى هذه الجبال شهرا ، جعلت ذلك نذرا على نفسى ، وقد قضيت ذلك ، وأنا أريد الرجوع إلى بلادى ، فهل لك أن تتبعنى إلى بلادى ، ولك عهد الله وميثاقه أن أعطيك ديتين لأن الله عزوجل ، أحيانى بك مرتين؟ فقال له عمرو : وأين بلادك؟ قال : مصر ، فى مدينة يقال لها : الإسكندرية ، فقال له عمرو : لا أعرفها ، ولم أدخلها قط ، فقال له الشماس : لو دخلتها لعلمت أنك لم تدخل قط مثلها ، فقال عمرو : وتفى لى بما تقول؟ فقال له الشماس : نعم ، لك علىّ العهد والميثاق أن أفي لك ، وأن أردك إلى أصحابك ، فقال عمرو : كم يكون مكثى فى ذلك؟ قال : شهرا تنطلق معى ذاهبا عشرا ، وتقيم عندنا عشرا وترجع فى عشر ، ولك علىّ أن أحفظك ذاهبا ، وأن أبعث معك من يحفظك راجعا ، فقال له عمرو : أنظرنى حتى أشاور أصحابى.

فانطلق عمرو إلى أصحابه ، فأخبرهم بما عاهده عليه الشماس ، وقال لهم : أقيموا علىّ حتى أرجع إليكم ولكم علىّ العهد أن أعطيكم شطر ذلك ، على أن يصحبنى رجل منكم آنس به ، فقالوا : نعم ، وبعثوا معه رجلا منهم.

فانطلق عمرو وصاحبه مع الشماس إلى مصر ، حتى انتهى إلى الإسكندرية ، فرأى عمرو من عمارتها وكثرة أهلها وما بها من الأموال ما أعجبه ، ونظر إلى الإسكندرية وعمارتها وجودة بنائها ، وكثرة أهلها ، وما بها من الأموال ، فازداد عجبا.

٣٢٣

ووافق دخول الإسكندرية عيدا فيها عظيما ، يجتمع فيه ملوكهم وأشرافهم ، ولهم أكرة من ذهب مكللة يترامى بها ملوكهم ويتلقونها بأكمامهم ، وفيما اختبروا منها على ما وضعها من مضى منهم أنه من وقعت فى كمه واستقرت فيه لم يمت حتى يملكهم.

وأكرم الشماس عمرا الإكرام كله ، وكساه ثوب ديباج ألبسه إياه ، وجلس معه فى ذلك المجلس مع الناس حيث يترامون بالأكرة وهم يتلقونها بأكمامهم ، فرمى بها رجل منهم ، فأقبلت تهوى حتى وقعت فى كم عمرو ، فعجبوا من ذلك ، وقالوا : ما كذبتنا هذه الأكرة قط إلا هذه المرة ، أترى هذا الأعرابى يملكنا؟ هذا ما لا يكون أبدا.

وإن ذلك الشماس مشى فى أهل الإسكندرية ، وأعلمهم بأن عمرا أحياه مرتين ، وأنه ضمن له ألفى دينار ، وسألهم أن يجمعوا ذلك له فيما بينهم ، ففعلوا ودفعوها إلى عمرو ، فانطلق هو وصاحبه ، وبعث معهما الشماس دليلا ورسولا ، وزودهما وأكرمهما ، حتى رجعا إلى أصحابهما ، فدفع إليهم عمرو فيما بينهم ألف دينار ، وأمسك لنفسه ألفا.

قال : فكان أول مال اعتقدته وتأثلته.

فبذلك ما عرف عمرو مدخل مصر ومخرجها ، ورأى فيها ما علم به أنها أفضل البلاد وأكثره مالا.

فلما قدم عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، الجابية خلا به عمرو ، وقال : يا أمير المؤمنين ائذن لى فأسير إلى أرض مصر ، فإنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعونا لهم ، وهى أكثر الأرضين أموالا ، وأعجزه عن القتال ، فتخوف عمر وكره ذلك ، فلم يزل عمرو بن العاص يعظم أمرها فى نفسه ويخبره بحالها ، ويهون عليه فتحها ، حتى ركن لذلك عمر ، فعقد له على أربعة آلاف رجل ، كلهم من عك ، وقال : سيروا وأنا مستخير الله فى مسيرك ، وسيأتيك كتابى سريعا ، فإن لحقك كتابى آمرك فيه بالانصراف فانصرف ، وإن دخلتها قبل أن يأتيك كتابى ثم جاءك فامض لوجهتك ، واستعن بالله فاستنصره.

فمضى عمرو من جوف الليل ، ولم يشعر به أحد من الناس ، واستخار عمر ربه ، فكأنه تخوف على المسلمين فى وجههم ذلك ، فكتب إلى عمرو بن العاص : أن انصرف بمن معك من المسلمين إن أدركك كتابى قبل أن تدخل مصر ، فأدرك الكتاب عمرا وهو برفح ، فتخوف إن هو أخذه فقرأه أن يجد فيه الانصراف كما عهد إليه عمر ، فلم يأخذ الكتاب من الرسول ، وسار كما هو حتى مر بقرية صغيرة فيما بين رفح والعريش ، فسأل

٣٢٤

عنها ، فقيل : إنها من مصر ، فدعا بالكتاب فقرأه ، فإذا فيه : أن انصرف بمن معك من المسلمين ، فقال لمن حوله : ألستم تعلمون أن هذه من مصر؟ قالوا : بلى ، قال : فإن أمير المؤمنين عهد إلىّ وأمرنى إن لحقنى كتابه ولم أدخل أرض مصر أن أرجع ، ولم يلحقنى كتابه حتى دخلت أرض مصر ، فسيروا على بركة الله.

ويقال : بل كان عمرو بن العاص بفلسطين ، فتقدم فى أصحابه إلى مصر بغير إذن ، فكتب إليه عمر ينكر ذلك عليه ، فجاءه كتابه وهو دون العريش ، عريش مصر ، فلم يقرأ الكتاب حتى بلغ العريش فقرأه ، فإذا فيه :

من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص ، أما بعد ، فإنك سرت إلى مصر بمن معك ، وبها جموع الروم ، وإنما معك نفر يسير ، ولعمرى لو كانوا ثكل أمك ما سرت بهم ، فإن لم تكن بلغت مصر فارجع.

فقال عمرو : الحمد لله ، أية أرض هذه؟ قالوا : من مصر ، فتقدم كما هو.

ويقال : بل كان عمرو فى جنده على قيسارية مع كل من كان بها من أجناد المسلمين ، وعمر بن الخطاب إذ ذاك بالجابية ، فكتب سرا واستأذن إلى مصر ، وأمر أصحابه فتنحوا كالقوم الذين يريدون أن يتجولوا من منزل إلى منزل قريب ، ثم سار بهم ليلا ، فلما فقده أمراء الأجناد استنكروا الذي فعل ، ورأوا أنه قد غرر ، فرفعوا ذلك إلى عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، فكتب إليه عمر :

«أما بعد ، فإنك قد غررت بمن معك ، فإن أدركك كتابى ولم تدخل مصر فارجع ، وإن أدركك كتابى وقد دخلت فامض ، واعلم أنى ممدك».

ويقال : إن عمر كتب إلى عمرو بعد ما فتح الشام : أن اندب الناس إلى المسير معك إلى مصر ، فمن خف معك فسر به. وبعث به مع شريك بن عبدة ، فندبهم عمرو ، فأسرعوا إلى الخروج معه ، ثم إن عثمان بن عفان دخل على عمر ، فذكر له عمر ما كتب به إلى عمرو ، فقال عثمان : يا أمير المؤمنين ، إن عمرا له جرأة ، وفيه إقدام وحب للإمارة ، فأخشى أن يخرج فى غير ثقة ولا جماعة ، فيعرض المسلمين للهلكة ، رجاء فرصة لا يدرى أتكون أم لا. فندم عمر على كتابه إشفاقا مما قال عثمان ، فكتب إلى عمرو يأمره بنحو ما تقدم من الرجوع إن لم يكن دخل مصر ، والمضى لوجهه إن كان دخلها.

فسار عمرو فى طريقه قاصدا مصر ، فلما بلغ المقوقس ذلك توجه نحو الفسطاط يجهز

٣٢٥

الجيوش على عمرو ، فأقبل عمرو حتى إذا كان بجبال الحلال نفرت معه راشدة وقبائل من لخم ، وأدركه النحر وهو بالعريش ، فضحى يومئذ عن أصحابه بكبش.

وكان رجل ممن خرج معه قد أصيب بجمله ، فأتاه الرجل يستحمله ، فقال له عمرو : تحمل مع أصحابك حتى نبلغ أوائل العامر ، فلما بلغوا العريش جاءه ، فأمر له بجملين ، ثم قال : لن تزالوا بخير ما رحمتكم أئمتكم ، فإذا لم يرحموكم هلكتم وهلكوا.

فتقدم عمرو ، فكان أول موضع قوتل فيه الفرما ، قاتلته الروم قتالا شديدا ، نحوا من شهر ، ثم فتح الله على يديه.

وكان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له : «أبو ميامين» ، فلما بلغه قدوم عمرو بن العاص إلى مصر كتب إلى القبط يعلمهم أنه لا تكون للروم دولة ، وأن ملكهم قد انقطع ، ويأمرهم بتلقى عمرو ، فيقال : إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانا.

ثم توجه عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى نزل القواصر ، ثم تقدم لا يدافع إلا بالأمر الخفيف حتى أتى بلبيس ، فقاتلوه بها نحوا من شهر حتى فتح الله عليه ، ثم مضى لا يدافع إلا بالأمر الخفيف ، حتى أتى أم دنين فقاتلوه بها قتالا شديدا ، وأبطأ عليه الفتح ، فكتب إلى عمر يستمده ، فأمده بأربعة آلاف تمام ثمانية آلاف ، فقاتلهم.

وجاء رجل من لخم إلى عمرو بن العاص فقال : اندب معى خيلا حتى آتى من ورائهم عند القتال ، فأخرج معه خمسمائة فارس ، فساروا من وراء الجبل حتى دخلوا مغار بنى وائل قبل الصبح.

ويقال : كان على هذا البعث خارجة بن حذافة (١) ، فلما كان فى وجه الصبح نهض القوم ، فصلوا الصبح ، ثم ركبوا خيلهم ، وغدا عمرو بن العاص على القتال ، فقاتلوهم من وجههم ، وحملت الخيل التي كان وجه من ورائهم واقتحمت عليهم فانهزموا. وكانوا قد خندقوا حول الحصن ، وجعلوا للخندق أبوابا ، فسار عمرو بمن معه حتى نزل على

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٢١٣٧) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٣٢٧) ، الثقات (٣ / ١١١) ، تلقيح فهوم أهل الأثر (٣٧٤) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ١٤٦) ، الكاشف (١ / ٢٦٥) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٧٤) ، تقريب التهذيب (١ / ٢١٠) ، التحفة اللطيفة (١ / ٤٩) ، النجوم الزاهرة (١ / ٢٠) ، أزمنة التاريخ الإسلامى (١ / ٦٠٠) ، الطبقات (٢٣ / ٢٩١) ، التاريخ الكبير (٣ / ٢٠٣) ، التاريخ الصغير (١ / ٩٣) ، الإكمال (٦ / ١٨٢) ، تراجم الأخبار (١ / ٣٩٠) ، الكامل (٣ / ٩٢٠) ، مشاهير علماء الأمصار (٣٨٣).

٣٢٦

الحصن ، فحاصرهم حتى سألوه أن يسير منهم بضعة عشر أهل بيت ويفتحوا له الحصن ، ففعل ذلك ، وفرض عليهم لكل رجل من أصحابه دينارا وجبة وبرنسا وعمامة وخفين.

فجاء النفر من القبط يستأذنونه إلى قراهم وأهليهم ، وقد كان نفر منهم تحدثوا قبل ذلك ورجل من لخم يسمعهم ، فقال بعضهم لبعض : ألا تعجبون من هؤلاء القوم ، يعنون المسلمين ، يقدمون على جموع الروم ، وإنما هم فى قلة من الناس. فجاءهم رجل منهم ، فقال : إن هؤلاء القوم لا يتوجهون إلى أحد إلا ظهروا عليه ، حتى يقتلوا خيرهم. فأنكر عليه اللخمى قوله وأراد حمله إلى عمرو ، فرغب إليه أصحابه وغيرهم حتى خلصوه ، فلما استأذن أولئك النفر عمرا قال لهم : كيف رأيتم أمرنا؟ قالوا : لم نر إلا حسنا. فقال ذلك الرجل لعمرو مثل مقالته تلك : إنكم لن تزالوا تظهرون على كل من لقيتم حتى تقتلوا خيركم رجلا. فغضب عمرو وأمر به ، فطلب إليه أصحابه وأخبروه أنه لا يدرى ما يقول ، حتى خلصوه ، فلما بلغ عمرا عمر بن الخطاب عجب من قول ذلك القبطى ، وأرسل فى طلبه ، فوجدوه قد هلك.

وفى حديث غيره : قال عمرو بن العاص : فلما طعن عمر بن الخطاب قلت : هو ما قال القبطى ، فلما حدثت أنه إنما قتله رجل نصرانى (١) قلت : لم يعن هذا ، إنما عنى من قتله المسلمون ، فلما قتل عثمان ، رضي‌الله‌عنه ، عرفت أن ما قال الرجل حق.

قال ابن عبد الحكم : وقد سمعت فى فتح القصر وجها غير هذا ، ثم ذكر عن نفر سمى منهم قال : وبعضهم يزيد على بعض فى الحديث أن عمرو بن العاص حصرهم فى القصر الذي يقال له : باب اليون حينا ، وقاتلهم قتالا شديدا ، يصبحهم ويمسيهم ، فلما أبطأ عليه الفتح كتب إلى عمر بن الخطاب يستمده ، فأمده عمر بأربعة آلاف رجل ، على كل ألف منهم رجل يقوم مقام ألف : الزبير بن العوام (٢) ، والمقداد بن عمرو (٣) ، وعبادة

__________________

(١) هو : أبو لؤلؤة ، غلام المغيرة بن شعبة. راجع مقتل عمر بن الخطاب ، رحمه‌الله ، من هذا الجزء.

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٢٧٩٤) ، أسد الغابة ترجمة رقم (١٧٣١).

(٣) انظر ترجمته فى : طبقات ابن سعد (٣ / ١ / ١٤٤) ، طبقات خليفة (٦١ ، ٦٧ ، ١٦٨) ، التاريخ الكبير (٨ / ٥٤) ، التاريخ الصغير (٦٠ ، ٦١) ، المعارف (٢٦٣) ، الجرح والتعديل (٨ / ٤٢٦) ، حلية الأولياء (١ / ١٧٢ ، ١٧٦) ، ابن عساكر (١٧ ، ٦٦ ، ١) ، تهذيب الأسماء واللغات (٢ / ١١١ ، ١١٢) ، معالم الإيمان (١ / ٧١ ، ٧٦) ، دول الإسلام (١ / ٩٢٧ ، العقد الثمين (٧ / ٢٦٨) ، تهذيب التهذيب (١٠ / ٢٨٥) ، شذرات الذهب (١ / ٣٩) ، الإصابة ترجمة رقم (٨٢٠١) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٥٠٧٦).

٣٢٧

ابن الصامت (١) ، ومسلمة بن مخلد (٢). وقيل : بل خارجة بن حذافة مكان مسلمة. وقال عمر بن الخطاب : «اعلم أن معك اثنى عشر ألفا ، ولا يغلب اثنا عشر ألفا من قلة».

وذكر الليث عن يزيد بن أبى حبيب : أن عمر ، رحمه‌الله ، إنما أمد عمرا حين استمده بالزبير بن العوام ، وبالمقداد بن عمرو ، وبخارجة بن حذافة.

قال الليث بن سعد : وبلغنى عن كسرى أنه كان له رجال إذا بعث أحدهم فى جيش وضع من عدة الجيش الذي كان سمى ألفا مكانه ، وإذا احتاج إلى أحدهم وكان فى جيش فجيشه زادهم ألف رجل ، فأنزلت الذي صنع عمر بن الخطاب حين أمد عمرا بالزبير والمقداد وخارجة نحو الذي صنع كسرى.

وقيل : إن عمر بن الخطاب ، رضي‌الله‌عنه ، أشفق على عمرو حين بعثه ، فأرسل الزبير فى أثره فى اثنى عشر ألفا ، فشهد معه الفتح. وكان عمرو قدم من الشام فى عدة قليلة ، وكانت الروم قد خندقوا حول حصنهم ، وجعلوا للخندق أبوابا ، ورموا فى أفنيتها حسك الحديد ، فكان عمرو يفرق أصحابه ليرى العدو أنهم أكثر مما هم ، فلما انتهى إلى الخندق نادوه : أن قد رأينا ما صنعت ، وإنما معك من أصحابك كذا وكذا ، فلم يخطئوا برجل واحد. فبينا هو على ذلك إذ جاءه خبر الزبير ، فلما قدم المدد مع الزبير على عمرو ابن العاص ألح على القصر ووضع عليه المنجنيق. وقد كان عمرو دخل إلى صاحب القصر فتناظرا فى شيء مما هم فيه ، فقال له عمرو : أخرج وأستشير أصحابى ، فدس صاحب الحصن الوصية إلى الذي على الباب إذا مر به عمرو أن يلقى عليه صخرة فيقتله. فأشعر بذلك عمرا رجل من العرب وهو يريد الخروج ، فرجع عمرو إلى صاحب الحصن ،

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٤٥١٥) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٢٧٩١).

(٢) انظر ترجمته فى : الإصابة ترجمة رقم (٨٠٠٧) ، أسد الغابة ترجمة رقم (٤٩٤٣) ، تاريخ اليعقوبى (٢ / ١٤٨) ، تاريخ خليفة (١٩٥) ، فتوح البلدان (٢٧٠) ، أنساب الأشراف (١ / ١٤٦) ، المعرفة والتاريخ (٢ / ٤٩٤) ، تاريخ الطبرى (٤ / ٤٣٠) ، أخبار القضاة (٣ / ٢٢٣) ، تاريخ أبى زرعة (١ / ١٨٩) ، مروج الذهب (١٦٢١) ، فتوح مصر (٦٧) ، جمهرة أنساب العرب (٣٦٦) ، وفيات الأعيان (٧ / ٢١٥) ، المراسيل (١٩٧) ، الجرح والتعديل (٨ / ٢٦٥) ، مشاهير علماء الأمصار (٥٦) ، الكامل فى التاريخ (٣ / ١٩١) ، تهذيب الكمال (٣ / ١٣٣٠) ، مختصر التاريخ (٨٢) ، تجريد أسماء الصحابة (٢ / ٧٧) ، سير أعلام النبلاء (٣ / ٤٢٤) ، العبر (١ / ٦٦) ، الكاشف (٣ / ١٢٨) ، المعين فى طبقات المحدثين (٢٦) ، تقريب التهذيب (٢ / ٢٤٩) ، النجوم الزاهرة (١ / ١٣٢) ، خلاصة تذهيب التهذيب (٣٧٧) ، الولاة والقضاء (١٥) ، تاريخ الإسلام (٢ / ٢٤٢).

٣٢٨

فقال له : إنى أريد أن آتيك بنفر من أصحابى حتى يسمعوا منك مثل الذي سمعت ، فقال العلج فى نفسه : قتل جماعة أحب إلىّ من قتل واحد ، فأرسل إلى الذي كان على الباب يأمره بالكف عن عمرو رجاء أن يأتيه بأصحابه فيقتلهم ، فخرج عمرو ولم يعد.

وفى حصار المسلمين هذا الحصن كان عبادة بن الصامت يوما فى ناحية يصلى وفرسه عنده ، فرآه قوم من الروم ، فخرجوا إليه وعليهم حلية وبزة ، فلما دنوا منه سلم من صلاته ، ووثب على فرسه ، ثم حمل عليهم ، فلما رأوه غير مكذب عنهم ولوا راجعين ، واتبعهم ، فجعلوا يلقون مناطقهم ومتاعهم ليشغلوه بذلك عن طلبهم ، ولا يلتفت إليه حتى دخلوا الحصن ، ورمى عبادة من فوق الحصن بالحجارة ، فرجع ولم يعرض لشىء مما كانوا طرحوا من متاعهم ، حتى أتى موضعه الذي كان به ، فاستقبل الصلاة ، وخرج الروم إلى متاعهم يجمعونه.

ولما أبطأ الفتح على عمرو بن العاص قال الزبير : إنى أهب نفسى لله وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين ، فوضع سلما إلى جانب الحصن ثم صعد ، وأمرهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعا ، فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن يكبر معه السيف ، وتحامل الناس على السلم حتى نهاهم عمرو خوفا من أن ينكسر. ولما اقتحم الزبير وتبعه من تبعه وكبر ، وكبر من معه وأجابهم المسلمون من خارج ، لم يشك أهل الحصن أن العرب قد اقتحموه جميعا ، فهربوا ، وعمد الزبير وأصحابه إلى باب الحصن ففتحوه ، واقتحمه المسلمون ، فلما خاف المقوقس على نفسه ومن معه سأل عمرو بن العاص الصلح ودعاه إليه ، على أن يفرض للعرب على القبط دينارين دينارين على كل رجل منهم ، فأجابه عمرو إلى ذلك.

وكان مكثهم على باب القصر حتى فتحوه سبعة أشهر فيما روى عن الليث.

قال ابن عبد الحكم : وقد سمعت فى فتح القصر وجها آخر مخالفا للحديثين المتقدمين ، فالله أعلم.

ثم أورد بإسناد يرفعه إلى جماعة من التابعين ، يزيد بعضهم على بعض ، أن المسلمين لما حاصروا باب اليون وكان به جماعة من الروم وأكابر القبط ورؤسائهم وعليهم المقوقس فقاتلوهم بها شهرا ، فلما رأى القوم الجد منهم على فتحه والحرص ورأوا من صبرهم على القتال ورغبتهم فيه خافوا أن يظهروا عليهم ، فتنحى المقوقس وجماعة من أكابر القبط ، وخرجوا من باب القصر القبلى ودونهم جماعة يقاتلون العرب ، فلحقوا بالجزيرة ، موضع الصناعة اليوم ، وأمروا بقطع الجسر ، وذلك فى جرى النيل.

٣٢٩

وزعم بعض مشايخ أهل مصر أن الأعيرج تخلف فى الحصن بعد المقوقس ، وهو رجل من الروم كان واليا على الحصن تحت يدى المقوقس ، وكانت سفنهم ملصقة بالحصن ، فلما خاف الأعيرج فتح الحصن ركبها هو وأهل القوة والشرف ثم لحقوا بالمقوقس بالجزيرة.

قال أصحاب الحديث من التابعين : فأرسل المقوقس إلى عمرو : إنكم قوم قد ولجتم فى بلادنا وألححتم على قتالنا ، وطال مكثكم فى أرضنا ، وإنما أنتم عصبة يسيرة وقد أظلتكم الروم معهم العدة والسلاح ، وأحاط بكم هذا النيل ، وإنما أنتم أسارى فى أيدينا ، فابعثوا إلينا رجالا منكم نسمع من كلامهم ، فلعله أن يأتى الأمر فيما بيننا وبينكم على ما تحبون ونحب ، وينقطع عنا وعنكم هذا القتال قبل أن تغشاكم جموع الروم فلا ينفعنا الكلام ولا نقدر عليه ، ولعلكم أن تندموا إن كان الأمر مخالفا لطلبتكم ورجائكم.

فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس بهذا حبسهم عنده يومين وليلتين حتى خاف عليهم المقوقس ، فقال لأصحابه : أترون أنهم يقتلون الرسل ويحبسونهم ويستحلون ذلك فى دينهم؟ وإنما أراد عمرو أن يروا حال المسلمين ، ثم رد عمرو إلى المقوقس رسله ، وقال لهم : إنه ليس بينى وبينكم إلا إحدى ثلاث خصال : إما دخلتم فى الإسلام فكنتم إخواننا ، وكان لكم ما لنا ، وإما أبيتم فأعطيتم الجزية عن يد وأنتم صاغرون ، وإما جاهدناكم بالصبر والقتال حتى يحكم الله بيننا وبينكم وهو خير الحاكمين.

فلما جاءوا إلى المقوقس قال لهم : كيف رأيتم؟ قالوا : رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة ، والتواضع أحب إليه من الرفعة ، ليس لأحدهم فى الدنيا رغبة ولا نهمة ، إنما جلوسهم على التراب ، وأكلهم على ركبهم ، وأميرهم كواحد منهم ، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم ولا السيد فيهم من العبد ، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد منهم ، يغسلون بالماء أطرافهم ، ويخشعون فى صلاتهم.

فقال عند ذلك المقوقس : والذي يحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها وما يقوى على قتال هؤلاء أحد ، ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النيل لم يجيبونا بعد اليوم إذا أمكنتهم الأرض وقووا على الخروج من موضعهم.

فرد إليهم المقوقس رسله : أن ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم.

فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت ، وأمره عمرو أن يكون

٣٣٠

مكلم القوم وأن لا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلا إلى إحدى هذه الخصال الثلاث.

وكان عبادة أسود طويلا ، يقول ابن غفير : أدرك الإسلام من العرب عشرة ، طول كل رجل منهم عشرة أشبار ، أحدهم عبادة بن الصامت. فلما ركبوا السفن إلى المقوقس ودخلوا عليه تقدم عبادة فهابه المقوقس لسوداه ، فقال : نحّوا عنى هذا الأسود ، وقدموا غيره يكلمنى. فقالوا جميعا : إن هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما ، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا ، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه ، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره به ، وأمرنا أن لا نخالفه.

قال : وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم ، وإنما ينبغى أن يكون دونكم؟.

قالوا : كلا ، إنه وإن كان أسود كما ترى ، فإنه من أفضلنا موضعا ، وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا ، وليس ينكر السواد فينا.

فقال له المقوقس : تقدم يا أسود وكلمنى برفق فإنى أهاب سوادك ، وإن اشتد كلامك علىّ ازددت لذلك هيبة.

فتقدم إليه عبادة فقال : قد سمعت مقالتك ، وإن فيمن خلفت من أصحابى ألف رجل كلهم أشد سوادا منى وأفظع منظرا ، ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لى ، وأنا قد وليت وأدبر شبابى ، وإنى مع ذلك ، بحمد الله ، ما أهاب مائة رجل من عدوى ولو استقبلونى جميعا ، وكذلك أصحابى ، وذلك أنا إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد فى الله واتباع رضوانه ، وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة فى دنيا ، ولا طلبا للاستكثار منها ، إلا أن الله ، عزوجل ، قد أحل لنا ذلك ، وجعل ما غنمنا منه حلالا ، وما يبالى أحدنا أكان له قنطار من الذهب أم كان لا يملك إلا درهما ؛ لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعته لليله ونهاره ، وشملة يلتحفها ، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه ، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه فى طاعة الله تعالى واقتصر على هذا الذي يتبلغ به ما كان فى الدنيا ؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء ، إنما النعيم والرخاء فى الآخرة ، وبذلك أمرنا ربنا ، وأمرنا به نبينا ، وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ، ويستر عورته ، وتكون همته وشغله فى رضى ربه وجهاده عدوه.

فلما سمع المقوقس كلامه قال لمن حوله : هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط؟ لقد هبت منظره ، وإن قوله لأهيب عندى من منظره ، وإن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض ، ما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها. ثم أقبل على عبادة فقال : أيها

٣٣١

الرجل قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك ، ولعمرى ما بلغتم إلا بما ذكرت ، وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا بحبهم الدنيا ورغبتهم فيها ، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده ، قوم يعرفون بالنجدة والشدة ، لا يبالى أحدهم من لقى ولا من قاتل ، وإنا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم ، ولن تطيقونهم لضعفكم وقلتكم وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا وأنتم فى ضيق وشدة من معاشكم وحالكم ، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بأيديكم ، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين ، ولأميركم مائة دينار ، ولخليفتكم ألف دينار ، فتقبضوها وتنصرفوا إلى بلادكم ، قبل أن يغشاكم ما لا قبل لكم به.

فقال عبادة بن الصامت : يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك ، أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم ، وأنا لا نقوى عليهم ، فلعمرى ما هذا بالذى يخوفنا ، ولا بالذى يكسرنا عما نحن فيه ، إن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون فى قتالكم ، وأشد لحرصنا عليكم ؛ لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه ، وإن قتلنا من آخرنا كان أمكن لنا فى رضوانه وجنته ، وما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك ، وإنا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين : إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم ، أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا ، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا ، وإن الله عزوجل قال لنا فى كتابه : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ٢٤٩] ، وما منا من رجل إلا وهو يدعو ربه صباحا ومساء أن يرزقه الله الشهادة وألا يرده إلى بلاده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده ، وليس لأحد منا همّ فيما خلفه ، وقد استودع كل واحد منا ربه فى أهله وولده ، وإنما همنا ما أمامنا ، وأما قولك : إنا فى ضيق وشدة من معاشنا وحالنا ، فنحن فى أوسع السعة ، لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه ، فانظر الذي تريد فبينه لنا ، فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث ، فاختر أيها شئت ولا تطمع نفسك بالباطل ، بذلك أمرنى الأمير ، وبه أمره أمير المؤمنين ، وهو عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل إلينا : إما أجبتم إلى الإسلام الذي هو الدين الذي لا يقبل الله غيره ، وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته ، أمرنا أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه ، فإن فعل كان له ما لنا وعليه ما علينا ، وكان أخانا فى دين الله ، فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدتم فى الدنيا والآخرة ، ورجعنا عن قتالكم ، ولم نستحل أذاكم ولا التعرض لكم ، وإن أبيتم إلا الجزية فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم

٣٣٢

صاغرون ، نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم فى كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم ، ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم فى شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم ، ونقوم بذلك عنكم إذ كنتم فى ذمتنا ، وكان لكم به عهد علينا ، وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت من آخرنا أو نصيب ما نريد منكم. هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به ، ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينكم غيره ، فانظروا لأنفسكم.

فقال له المقوقس : هذا ما لا يكون أبدا ، ما تريدون إلا أن تتخذونا عبيدا ما كانت الدنيا!.

فقال له عبادة : هو ذلك فاختر ما شئت!.

فقال له المقوقس : أفلا تجيبوننا إلى خصلة غير هذه الخصال الثلاث؟.

فرفع عبادة يديه فقال : لا ورب هذه السماء ، ورب هذه الأرض ، وربنا ، ورب كل شيء ، ما لكم عندنا خصلة غيرها ، فاختاروا لأنفسكم.

فالتفت المقوقس عند ذلك إلى أصحابه ، فقال : قد فرغ القوم ، فما ذا ترون؟.

فقالوا : أو يرضى أحد بهذا الذل؟ أما ما أرادوا من دخولنا فى دينهم فهذا ما لا يكون أبدا ، أن نترك دين المسيح ابن مريم وندخل فى دين غيره لا نعرفه ، وأما ما أرادوا أن يسبونا ويجعلونا عبيدا فالموت أيسر من ذلك ، لو رضوا منا أن نضعف لهم ما أعطيناهم مرارا كان أهون علينا.

فقال المقوقس لعبادة : قد أتى القوم (١) فما ترى؟ فراجع أصحابك (٢) على أن نعطيكم فى مرتكم هذه ما تمنيتم وتنصرفوا.

فقام عبادة وأصحابه ، فقال المقوقس عند ذلك لمن حوله : أطيعونى وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث ، فو الله ما لكم بهم طاقة ، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كارهين.

فقالوا : وأى خصلة نجيبهم إليها؟.

قال : أنا أخبركم ، أما دخولكم فى غير دينكم فلا آمركم به ، وأما قتالكم فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم ، ولن تصبروا صبرهم ، ولا بد من الثالثة.

__________________

(١) فى ابن عبد الحكم : قد أبى القوم.

(٢) فى ابن عبد الحكم : صاحبك.

٣٣٣

قالوا : فنكون لهم عبيدا أبدا؟.

قال : نعم ، أن تكونوا عبيدا منبسطين (١) فى بلادكم ، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم ، خير لكم من أن تموتوا من آخركم ، أو تكونوا عبيدا تباعون وتمزقون فى البلاد مستعبدين أبدا أنتم وأهلكم وذراريكم.

قالوا : فالموت أهون علينا ، وأمروا بقطع الجسر من الفسطاط والجزيرة ، وبالقصر من القبط والروم جمع كثير.

فألح المسلمون عند ذلك بالقتال على من فى القصر ، حتى ظفروا بهم وأمكن الله منهم ، فقتل منهم خلق كثير ، وأسر من أسر ، وانحازت السفن كلها إلى الجزيرة ، وصار المسلمون قد أحدق بهم الماء من كل جهة لا يقدرون على أن يتقدموا نحو الصعيد ولا إلى غير ذلك من المدائن والقرى ، والمقوقس يقول لأصحابه : ألم أعلمكم هذا وأخفه عليكم؟ ما تنتظرون ، فو الله لتجيبن إلى ما أرادوا طوعا أو لتجيبنهم إلى ما هو أعظم كرها ، فأطيعونى من قبل أن تندموا.

فلما رأوا منهم ما رأوا ، وقال لهم المقوقس ما قال ، أذعنوا بالجزية ، ورضوا بها على صلح يكون بينهم يعرفونه.

فأرسل المقوقس إلى عمرو بن العاص : أنى لم أزل حريصا على إجابتك إلى خصلة من الخصال التي أرسلت إلىّ بها فأبى ذلك علىّ من حضرنى من الروم والقبط ، فلم يكن لى أن أفتات عليهم فى أموالهم ، وقد عرفوا نصحى لهم وحبى صلاحهم فرجعوا إلى قولى ، فأعطنى أمانا أجتمع أنا وأنت ، أنا فى نفر من أصحابى ، وأنت فى نفر من أصحابك ، فإن استقام الأمر بيننا تم ذلك لنا جميعا ، وإن لم يتم رجعنا إلى ما كنا عليه.

فاستشار عمرو أصحابه فى ذلك ، فقالوا : لا نجيبهم إلى شيء من الصلح ولا الجزية حتى يفتح الله علينا ، وتصير كلها لنا فيئا وغنيمة كما صار لنا القصر وما فيه.

فقال عمرو : قد علمتم ما عهد إلىّ أمير المؤمنين فى عهده ، فإن أجابوا إلى خصلة من الخصال الثلاث التي عهد إلىّ فيها أجبتم إليها وقبلت منهم ، مع ما قد حال هذا الماء بيننا وبين ما نريد من قتالهم.

فاجتمعوا على عهد بينهم ، واصطلحوا على أن يفرض على جميع من بمصر أعلاها

__________________

(١) فى ابن عبد الحكم : مسلطين.

٣٣٤

وأسفلها من القبط دينارين دينارين ، على كل نفس ، شريفهم ووضيعهم ، ومن بلغ الحلم منهم ، وليس على الشيخ الفانى ، ولا على الصغير الذي لم يبلغ الحلم ، ولا على النساء شيء. وعلى أن للمسلمين عليهم النزل بجماعتهم حيث نزلوا ، ومن نزل عليه ضيف واحد من المسلمين أو أكثر من ذلك كانت لهم ضيافة ثلاثة أيام مفترضة عليهم ، وأن لهم أرضهم وأموالهم لا يعرض لهم فى شيء منها ، فشرط هذا كله على القبط خاصة.

وأحصوا عدد القبط من بلغ منهم الجزية ومن فرض عليهم الديناران. رفع ذلك عرفاؤهم بالأيمان المؤكدة ، فكان جميع من أحصى يومئذ بمصر أعلاها وأسفلها من جميع القبط أكثر من ستة آلاف ألف نفس ، فكانت فريضتهم يومئذ اثنى عشر ألف ألف دينار فى كل سنة.

وعن يحيى بن ميمون الحضرمى قال : لما فتح عمرو بن العاص مصر صالح عن جميع ما فيها من رجال القبط ، ممن راهق الحلم إلى ما فوق ذلك ، ليس فيهم امرأة ولا شيخ ولا صبى ، فأحصوا بذلك على دينارين دينارين ، فبلغت عدتهم ثمانية آلاف ألف.

وفى الحديث المتقدم الطويل : أن المقوقس شرط للروم أن يخيروا ، فمن أحب منهم أن يقيم على مثل هذا أقام لازما له ذلك مفترضا عليه ، مما أقام بالإسكندرية وما حولها من أرض مصر كلها ، ومن أراد الخروج منها إلى أرض الروم خرج ، وعلى أن للمقوقس الخيار فى الروم خاصة حتى يكتب إلى ملك الروم يعلمه ما فعل ، فإن قبل ذلك ورضيه جاز عليهم وإلا كانوا جميعا على ما كانوا عليه.

وكتب المقوقس إلى ملك الروم يعلمه بالأمر على وجهه ، فكتب إليه ملك الروم يقبح رأيه ويعجزه ، ويرد عليه ما فعل ويقول فى كتابه :

إنما أتاك من العرب اثنا عشر ألفا ، وبمصر من عدد القبط ما لا يحصى ، فإن كان القبط كرهوا القتال وأحبوا أداء الجزية إلى العرب واختاروهم علينا فإن عندك بمصر من الروم وبالإسكندرية ومن معك أكثر من مائة ألف ، معهم العدة والقوة ، والعرب وحالهم وضعفهم على ما قد رأيت ، فعجزت عن قتالهم ، ورضيت أن تكون أنت ومن معك من الروم أذلاء فى حال القبط ، ألا قاتلتهم أنت ومن معك من الروم حتى تموت أو تظفر عليهم ، فإنهم فيكم على قدر كثرتكم وقوتكم وعلى قدر قلتهم وضعفهم كأكلة ، فناهضهم القتال ولا يكن لك رأى غير ذلك.

وكتب ملك الروم بمثل ذلك كتابا إلى جماعة الروم.

٣٣٥

فقال المقوقس لما أتاه كتابه : والله إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشد منا على كثرتنا وقوتنا ، إن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا ، وذلك أنهم قوم الموت أحب إليهم من الحياة ، يقاتل الرجل منهم وهو مستقتل ، يتمنى أن لا يرجع إلى أهله ولا بلده ، ولا ولده ، ويرون أن لهم أجرا عظيما فيمن قتلوا منا ، ويقولون إنهم إن قتلوا دخلوا الجنة ، وليس لهم رغبة فى الدنيا ولا لذة إلا قدر بلغة العيش من الطعام واللباس ، ونحن قوم نكره الموت ونحب الحياة ولذتها ، فكيف نستقيم نحن وهؤلاء ، وكيف صبرنا معهم ، واعلموا معشر الروم أنى والله لا أخرج مما دخلت فيه وصالحت العرب عليه ، وأنى لأعلم أنكم سترجعون غدا إلى قولى ورأيى ، وتتمنون أن لو كنتم أطعمتونى ، وذلك أنى قد عانيت ورأيت وعرفت ما لم يعاين الملك ولم يره ولم يعرفه ، ويحكم أما يرضى أحدكم أن يكون آمنا فى دهره على نفسه وماله وولده بدينارين فى السنة؟.

ثم أقبل المقوقس إلى عمرو بن العاص فقال له : إن الملك قد كره ما فعلت وعجزنى ، وكتب إلىّ وإلى جماعة الروم أن لا نرضى بمصالحتك ، أمرهم بقتالك حتى يظفروا بك أو تظفر بهم ، ولم أكن لأخرج مما دخلت فيه وعاقدتك عليه ، وإنما سلطانى على نفسى ومن أطاعنى ، وقد تم صلح القبط فيما بينك وبينهم ، ولم يأت من قبلهم نقض وأنا متم لك على نفسى ، والقبط متمون لك على الصلح الذي صالحتهم عليه وعاهدتهم ، وأما الروم فأنا منهم برىء ، وأنا أطلب إليك أن تعطينى ثلاث خصال.

قال عمرو : وما هن؟.

قال : لا تنقض بالقبط ، وأدخلنى معهم وألزمنى ما لزمهم ، فقد اجتمعت كلمتى وكلمتهم على ما عاهدتك عليه وهم متمون لك على ما تحب. وأما الثانية : إن سألك الروم بعد اليوم أن تصالحهم فلا تصالحهم حتى تجعلهم فيئا وعبيدا ، فإنهم أهل لذلك ؛ لأنى نصحتهم فاستغشونى ، ونظرت لهم فاتهمونى. وأما الثالثة : أطلب إليك أن إذا مت أن تأمرهم يدفنونى فى أبى يحنس بالإسكندرية.

فأنعم له عمرو بن العاص بذلك وأجابه إلى ما طلب ، على أن يضمنوا له الجسرين جميعا ، ويقيموا لهم الأنزال والضيافة والأسواق والجسور ما بين الفسطاط إلى الإسكندرية ، ففعلوا.

ويقال : إن المقوقس إنما صالح عمرو بن العاص على الروم وهو محاصر الإسكندرية ، وبعد أن حصر أهلها ثلاثة أشهر وألح عليهم وخافوه ، فسأله المقوقس الصلح عنهم ، كما

٣٣٦

صالحه على القبط ، على أن يستنظر رأى الملك وعلى أن يسير من الروم من أراد المسير ، ويقر من أراد الإقامة ، فأنكر ذلك هرقل لما بلغه أشد الإنكار ، وتسخط أشد التسخط ، وبعث الجيوش ، فأغلقوا الإسكندرية وآذنوا عمرو بن العاص بالحرب ، فخرج إليه المقوقس فقال : أسألك ثلاثا ، وذكر نحو ما تقدم ، وزاد أن عمرا قال فى الثالثة التي هى أن يدفن فى أبى يحنس : هذه أهونهن علينا.

ثم رجع إلى الحديث الأول ، قال : فخرج عمرو بن العاص بالمسلمين حين أمكنهم الخروج ، وخرج معه جماعة من رؤساء القبط قد أصلحوا لهم الطريق وأقاموا لهم الجسور والأسواق ، وصارت لهم القبط أعوانا على ما أرادوا من قتال الروم ، وسمعت بذلك الروم فاستعدت واستجاشت ، وقدمت عليهم مراكب كثيرة من أرض الروم ، فيها جمع من الروم كثير بالعدة والسلاح ، فخرج إليهم عمرو بن العاص من الفسطاط متوجها نحو الإسكندرية ، فلم يلق منهم أحدا حتى بلغ ترنوط (١) ، فلقى فيها طائفة من الروم فقاتلوه قتالا خفيفا فهزمهم الله ، ومضى عمرو بمن معه حتى لقى جمع الروم بكوم شريك ، فاقتتلوا به ثلاثة أيام ثم فتح الله للمسلمين وولى الروم أكتافهم.

ويقال : بل أرسل عمرو بن العاص ، شريك بن سمى فى آثارهم ، فأدركهم عند الكوم الذي يقال له كوم شريك ، فقاتلهم شريك فهزمهم.

ويقال : بل لقيهم فألجئوه إلى الكوم فاعتصم به ، وأحاطت به الروم ، فلما رأى ذلك شريك أمر أبا ناعمة الصدفى (٢) ، وهو صاحب الفرس الأشقر الذي يقال له : أشقر صدف ، وكان لا يجارى ، فانحط عليهم من الكوم ، وطلبته الروم فلم تدركه ، حتى أتى عمرا فأخبره ، فأقبل عمرو نحوه. وسمعت به الروم فانصرفت ، وبهذا الفرس سميت خوخة الأشقر التي بمصر ، وذلك أنه نفق فدفنه صاحبه هناك ، فسمى المكان به.

قال : ثم التقوا بسلطيس (٣) فاقتتلوا بها قتالا شديدا ، فهزمهم الله ، ثم التقوا بالكريون (٤) فاقتتلوا بها بضعة عشر يوما.

__________________

(١) ترنوط : قرية كانت بين مصر والإسكندرية ، أشار ياقوت إلى أنها قرية كبيرة جامعة على النيل ، فيها أسواق ومعاصر للسكر وبساتين ، وأكثر فواكه الإسكندرية منها. انظر : معجم البلدان (٢ / ٢٧).

(٢) هو : أبو ناعمة مالك بن ناعمة الصدفى.

(٣) سلطيس : قرية من قرى مصر القديمة ، كان أهلها أعانوا على عمرو بن العاص فسباهم. انظر : معجم البلدان (٣ / ٢٣٦).

(٤) كريون : موضع قرب الإسكندرية. انظر : معجم البلدان (٤ / ٤٥٨ ، ٤٥٩).

٣٣٧

وكان عبد الله بن عمرو على المقدمة ، وحامل اللواء يومئذ وردان مولى عمرو ، فأصابت عبد الله بن عمرو جراحات كثيرة ، فقال : يا وردان لو تقهقرت قليلا لنصيب الروح. فقال وردان : الروح أمامك وليس هو خلفك. فتقدم عبد الله ، وجاء رسول أبيه يسأله عن جراحه ، فأنشأ يقول :

أقول إذا ما النفس جاشت ألا أصبرى

عليك قليلا تحمدى أو تلامى

فرجع الرسول فأخبره بما قال. فقال عمرو : هو ابنى حقا.

وصلى يومئذ عمرو صلاة الخوف ، فحدث شيخ صلاها معه بالإسكندرية : أنه صلى بكل طائفة ركعة وسجدتين.

قال : ثم فتح الله على المسلمين ، وقتلوا من الروم مقتلة عظيمة ، واتبعوهم حتى بلغوا الإسكندرية فتحصنوا بها ، وكانت عليهم حصون لا ترام ، حصن دون حصن ، فنزل المسلمون ما بين حلوة إلى قصر فارس إلى ما وراء ذلك ، ومعهم رؤساء القبط يمدونهم بما احتاجوا إليه من الأطعمة والعلوفة ، ورسل ملك الروم تختلف إلى الإسكندرية فى المراكب بمادة الروم.

ويروى أن عمرا أقام بحلوة شهرين ثم تحول إلى المقس ، فخرجت عليه الخيل من ناحية البحيرة حيث كانت مستترة بالحصن فواقعوه ، فقتل من المسلمين يومئذ بكنيسة الذهب اثنا عشر رجلا ، ولم يكن للروم كنائس أعظم من كنائس الإسكندرية ، وإنما كان عيد الروم حين غلبت العرب على الشام بالإسكندرية ، فكان ملك الروم يعظم ظهور العرب عليها ويقول : لئن غلبوا على الإسكندرية لقد هلكت الروم ، وانقطع ملكها ، وتجهز للخروج إليها ليباشر قتالها بنفسه إعظاما لها ، وأمر أن لا يتخلف عنه أحد من الروم ، وقال : ما بقاء الروم بعد الإسكندرية؟ فلما فرغ من جهازه صرعه الله فأماته وكفى المسلمين مئونته. وكان موته فى سنة تسع عشرة ، وقيل : سنة عشرين ، فكسر الله بموته شوكة الروم.

ورجع جمع كبير ممن كان قد توجه إلى الإسكندرية ، واستأسدت العرب عند ذلك وألحت بالقتال على أهل الإسكندرية ، فقاتلوهم قتالا شديدا ، وخرج طرف من الروم من باب حصنها فحملوا على الناس وقتلوا رجلا من مهرة فاحتزوا رأسه وانطلقوا به ، فجعل المهريون يتغضبون ويقولون : لا ندفنه أبدا إلا برأسه. فقال عمرو بن العاص : تتغضبون كأنكم تتغضبون على من يبالى بغضبكم ، احملوا على القوم إذا خرجوا فاقتلوا رجلا منهم

٣٣٨

وارموا برأسه يرموا برأس صاحبكم ، فخرجت الروم عليهم فاقتتلوا ، فقتل رجل من بطارقة الروم ، فاحتزوا رأسه ، فرموا به إلى الروم ، فرمت الروم برأس المهرى إليهم ، فقال : دونكم الآن فادفنوا صاحبكم.

وكان عمرو بن العاص يقول : ثلاث قبائل فى مصر : أما مهرة فقوم يقتلون ولا يقتلون ، وأما غافق فقوم يقتلون ولا يقتلون ، وأما بلى فأكثرها رجلا صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأفضلها فارسا.

وقاتل عمر بن العاص الروم بالإسكندرية يوما من الأيام قتالا شديدا ، فلما استحر القتال بارز رجل من الروم مسلمة بن مخلد فصرعه الرومى ، وألقاه عن فرسه ، وأهوى إليه بسيفه ليقتله حتى حماه رجل من أصحابه. وكان مسلمة لا يقام بسبيله ولكنها مقادير ، ففرحت بذلك الروم وشق ذلك على المسلمين ، وغضب عمرو بن العاص فقال : وكان مسلمة كثير اللحم ثقيل البدن : ما بال الرجل المسبّه (١) الذي يشبه النساء يتعرض فيداخل الرجال ويتشبه بهم؟ فغضب مسلمة ولم يراجعه ، ثم اشتد القتال حتى اقتحموا حصن الإسكندرية فقاتلهم العرب فى الحصن ، ثم جاشت عليهم الروم حتى أخرجوهم جميعا من الحصن إلا أربعة نفر فيهم عمرو بن العاص ومسلمة بن مخلد ، أغلق الروم عليهم باب الحصن وحالوا بينهم وبين أصحابهم ولا يدرون من هم.

فلما رأى ذلك عمرو وأصحابه لجئوا إلى ديماس من حماماتهم فتحرزوا به فأمرت الروم روميا فكلمهم بالعربية فقال لهم : إنكم قد صرتم بأيدينا أسارى فاستأسروا ولا تقتلوا أنفسكم فامتنعوا ثم قال لهم : إن فى أيدى أصحابكم منا رجالا أسروهم ونحن نعطيكم العهود أن نفادى بكم أصحابنا ولا نقتلكم ، فأبوا عليهم.

فلما رأى الرومى ذلك منهم قال لهم : هل لكم إلى خصلة وهى نصف فيما بيننا وبينكم : أن تعطونا العهد ونعطيكم مثله على أن يبرز منكم رجل ومنا رجل ، فإن غلب صاحبنا صاحبكم استأسرتم لنا ، وأمكنتمونا من أنفسكم ، وإن غلب صاحبكم صاحبنا خلينا سبيلكم إلى أصحابكم. فرضوا بذلك وتعاهدوا عليه ، فبرز رجل من الروم قد وثقت الروم بنجدته وشدته ، وقالوا لعمرو وأصحابه وهم فى الديماس ليبرز رجل منكم لصاحبنا فأراد عمرو أن يبرز فمنعه مسلمة وقال : يا هذا تخطئ مرتين ، تشذ من

__________________

(١) السبه : محركه ، ذهاب العقل من الهرم. انظر : القاموس المحيط للفيروزآباديّ (٤ / ٢٨٤). لسان العرب لابن منظور (٣ / ١٩٣٢).

٣٣٩

أصحابك وأنت أميرهم وإنما قوامهم بك وقلوبهم معلقة نحوك لا يدرون ما أمرك ، ثم لا ترضى حتى تبارز وتتعرض للقتل ، فإن قتلت كان ذلك بلاء على أصحابك؟ مكانك وأنا أكفيك إن شاء الله! قال عمرو : دونك فربما فرجها الله بك ، فبرز مسلمة والرومى فتجاولا ساعة ثم أعانه الله عليه فقتله ، فكبر مسلمة وأصحابه ، ووفى لهم الروم بما عاهدوهم عليه ، ففتحوا لهم باب الحصن فخرجوا ولا تدرى الروم أن أمير القوم فيهم ، حتى بلغهم ذلك فأسفوا وأكلوا أيديهم تغيظا على ما فاتهم ، فلما خرجوا استحيا عمرو مما كان قال لمسلمة حين غضب ، وسأله أن يستغفر له ، ففعل مسلمة وقال عمرو : والله ما أفحشت قط إلا ثلاث مرات ، مرتين فى الجاهلية وهذه الثالثة ، وما منها مرة إلا وقد ندمت واستحييت وما استحييت من واحدة منهن أشد مما استحييت مما قلت لك والله إنى لأرجو أن لا أعود إلى الرابعة ما بقيت.

قال ابن لهيعة : وأخبرنى بعض أشياخنا أن عبد العزيز بن مروان لما قدم الإسكندرية سنة ثمانين سأل : هل بقى بالإسكندرية أحد ممن أدرك فتحها؟ فأتوه بشيخ من الروم من أكابر أهل الإسكندرية يومئذ فأعلموه أنه أدرك فتحها وهو رجل ، فسأله عن أعجب ما رأى يومئذ من المسلمين. فقال : أخبرك أيها الأمير أنه كان لى صديق من أبناء بطارقة الروم يومئذ منقطع إلىّ ، وأنه أتانى فسألنى أن أركب معه حتى ننظر إلى المسلمين وإلى حالهم وهيئتهم ، وهم إذ ذاك محاصرون الإسكندرية ، فخرجت معه وهو على برذون له كثير اللحم وأنا على برذون خفيف ، فلما خرجنا من الحصن الثالث وقفنا على كوم مشرف ننظر إلى العرب ، وإذا هم فى خيام لهم وعلى باب كل خيمة فرس واقف ورمح مركوز ، ورأينا قوما ضعفاء فعجبنا من ضعفهم ، وقلنا : كيف بلغ هؤلاء القوم ما بلغوا؟ فبينا نحن وقوف ننظر إليهم ونعجب إذ خرج رجل منهم من بعض تلك الخيام ، فلما نظر إلينا اختلع رمحه ووثب على ظهر فرسه ثم أقبل نحونا ، فقلت لصاحبى : والله إنه ليريدنا! فلما رأيناه مقبلا إلينا لا يريد غيرنا ولينا هاربين ، فما كان بأوشك من أن أدرك صاحبى فطعنه بالرمح فصرعه ، ثم تركه صريعا وأقبل فى أثري وأنا خائف أن لا أفلت منه حتى دخلت الحصن الأول فنجوت منه ، ثم صعدت الحصن لأبصر ما يفعل ، فرجع وهو يتكلم بكلام يرفع به صوته ، فظننت أنه يقرأ ، ثم مضى حتى اعترض برذون صاحبى فأخذه ورجع إلى صاحبى وهو صريع فأخذ سيفه وترك سلبه فلم يأخذه تهاونا به ، وكانت ثيابه ديباجا كلها ، فلم يأخذها ولم ينزعها عنه.

فقال عبد العزيز بن مروان للشيخ الرومى : صف لى ذلك الرجل وشبهه ببعض من

٣٤٠