الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

غازون ، فهزمهم ، وأتبعهم الخيل تثفنهم وتقتلهم فى كل جانب ، وأغار رجالته فى العسكر فاحتووا ما فيه ، ولحق علقمة بالمنذر فجاراه ساعة حتى دنا منه ، فطعنه وقتله ، وأخذ فرسه ورجع إلى أبى عبيدة وقد جاءه خبره ، فقال له أبو عبيدة : إنى لأكره أن لا ألومك وقد عصيتنى ، وإنى لأكره أن ألومك وقد فتح الله عليك ، ورأى أبو عبيدة أن يسهم لهم مع المسلمين ، فقاسموهم ما كان فى عسكر المنذر ، فلم يصيبوا منها إلا اليسير.

وكتب أبو عبيدة إلى عمر رحمهما‌الله (١) : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله عمر أمير المؤمنين ، من أبى عبيدة بن الجراح ، سلام عليك فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فالحمد لله الذي أنزل على المسلمين نصره ، وعلى الكافرين رجزه ، أخبر أمير المؤمنين أصلحه الله ، أنا لقينا الروم وقد جمعوا لنا الجموع العظام ، فجاءونا من رءوس الجبال وأسياف البحار ، يرون أن لا غالب لهم من الناس ، فبرزوا إلينا ، وبغوا علينا ، وتوكلنا على الله تعالى ، ورفعنا رغبتنا إلى الله ، وقلنا حسبنا الله ونعم الوكيل ، فنهضنا إليهم بخيلنا ورجلنا ، وكان القتال بين الفريقين مليا من النهار ، أهدى الله فيه الشهادة لرجال من المسلمين رحمهم‌الله ، منهم : عمرو بن سعيد بن العاص ، وضرب الله وجوه المشركين ، وأتبعهم المسلمون يقتلونهم ويأسرونهم ، حتى اعتصموا بحصنهم ، وانتهب المسلمون عسكرهم ، وغلبوا على بلادهم ، وأنزلهم الله من صياصيهم ، وقذف الرعب فى قلوبهم فاحمد الله يا أمير المؤمنين أنت ومن قبلك من المسلمين على إعزاز الدين وإظهار الفلج على المشركين ، وادع الله لنا بتمام النعمة ، والسلام عليك.

ولما رأى أهل فحل أن أرض الأردن قد غلب عليها المسلمون سألوا الصلح على أن يعفى لهم عن أنفسهم ، وأن يؤدوا الجزية ، ومن كان فيهم من الروم إن أحب لحق بالروم وخلى بلاد الأردن ، وإن أحب أن يقيم ويؤدى الجزية أقام ، فصالحهم المسلمون وكتبوا لهم كتابا. وخرج منهم من كان أقبل من الروم فى تلك السنة ، وتبقى معهم من كان تبنبك قبل ذلك بالبلد ، واتخذ الضياع ، وتزوج بها ، وولد له فيها ، فأقاموا على أن يؤدوا الجزية هم وسائر من كان معهم فى الحصن.

وأما من عداهم من أهل الأردن أهل الأرض والقرى ، فاختلف فيهم المسلمون ، لأخذهم ذلك عنوة ، وغلبتهم عليه بغير صلح ، فقالت طائفة : نقتسمهم ، وقالت طائفة : نتركهم ، فكتب أبو عبيدة إلى عمر :

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٣٩ ـ ١٤٠).

٢٤١

بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد ، فإن الله جل ثناؤه ذا المن والفضل والنعم العظام فتح على المسلمين أرض الأردن ، فرأت طائفة من المسلمين أن يقروا أهلها ، على أن يؤدوا الجزية إليهم ، ويكونوا عمار الأرض ، ورأت طائفة أن يقتسموهم ، فاكتب إلينا يا أمير المؤمنين برأيك فى ذلك ، أدام الله لك التوفيق فى جميع الأمور ، والسلام.

فكتب إليه عمر : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله عمر أمير المؤمنين ، إلى أبى عبيدة بن الجراح ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فقد بلغنى كتابك تذكر إعزاز الله أهل دينه ، وخذلانه أهل عدوانه ، وكفايته إيانا مئونة من عادانا ، فالحمد لله على إحسانه فيما مضى ، وحسن صنيعه فيما غبر ، الذي عافى جماعة المسلمين ، وأكرم بالشهادة فريقا من المؤمنين ، فهنيئا لهم رضا ربهم ، وكرامته إياهم ، ونسأل الله أن لا يحرمنا أجرهم ، ولا يفتنا بعدهم ، فقد نصحوا الله وقضوا ما عليهم ، ولربهم كانوا يحفدون ، ولأنفسهم كانوا يمهدون ، وقد فهمت ما ذكرت من أمر الأرض التي ظهر عليها وعلى أهلها المسلمون ، فقالت طائفة : نقر أهلها ، على أن يؤدوا الجزية للمسلمين ، ويكونوا للأرض عمارا.

ورأت طائفة أن يقتسموهم ، وإنى نظرت فيما كتبت فيه ، ففرق لى من الرأى فيما سألتنى عنه أنى رأيت أن تقرهم ، وتجعل الجزية عليهم ، وتقسمها بين المسلمين ، ويكونوا للأرض عمارا ، فهم أعلم بها وأقوى عليها ، أرأيتم لو أنا أخذنا أهلها فاقتسمناهم ، من كان يكون لمن يأتى بعدنا من المسلمين؟ والله ما كانوا ليجدوا إنسانا يكلمونه ، ولا ينتفعون بشيء من ذات يده ، وإن هؤلاء يأكلهم المسلمون ما داموا أحياء ، فإذا هلكنا وهلكوا أكل أبناؤنا أبناءهم أبدا ما بقوا ، وكانوا عبيدا لأهل الإسلام ما دام دين الإسلام ظاهرا ، فضع عليهم الجزية ، وكف عنهم السباء ، وامنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم وأكل أموالهم إلا بحقها ، والسلام عليك.

فلما جاء أبا عبيدة هذا الرأى من عمر عمل به ، وكان رأيه ورأى عمر فى ذلك واحدا (١).

وقال علقمة بن الأرث القينى فى يوم فحل :

ونحن قتلنا كل واف سباله

من الروم معروف النجار منطق

نطلق بالبيض الرقاق نساءهم

وأبنا إلى أزواجنا لم تطلق

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٣٩ ـ ١٤٢).

٢٤٢

نصرعهم فى كل فج وغائط

كأنهم بالقاع معزى المحلق

فكم من قتيل أوهطته سيوفنا

كفاحا وكف قد أطارت وأسوق

فتح حمص فيما حكاه أصحاب فتوح الشام (١)

عن محرز بن أسد الباهلى قال : دعا أبو عبيدة رءوس المسلمين وفرسان العرب الذين معه ، فجمعنا بعد ما ظهرنا على فحل وفرغنا من الأردن وأرضها ، وقد تحصن منا أهل إيلياء ، واجتمعت بقيسارية جموع عظام مع أهلها ، وأهلها لم يزالوا كثيرا ، فقال أبو عبيدة : يا أهل الإسلام ، إن الله قد أحسن إليكم وألبسكم عافية مجللة وأمنا واسعا ، وأظهركم على بطارقة الروم ، وفتح لكم الحصون والقلاع والقرى والمدائن ، وجعلكم لهذه الدار دار الملوك ، أربابا ، وجعلها لكم منزلا ، وقد كنت أردت النهوض بكم إلى أهل إيلياء وأهل قيسارية ، فكرهت أن آتيهم وهم فى جوف مدينتهم متحرزون متحصنون ، ولم آمن أن يأتيهم مدد من جندهم ، وأنا نازل عليهم قد حبست نفسى لهم عن افتتاح الأرض ، ولم أدر لعل من طاعتى إذا رأونى قد شغلت نفسى بهم أن يرجعوا إليهم ، وأن ينقضوا العهد الذي بينى وبينهم ، فرأيت أن أسير إلى دمشق ، ثم أسير فى أرضها إلى من لم يدخل طاعتى منهم ، ثم أسير إلى حمص ، فإن قدرنا عليها ، وإلا تركناها ولا نقيم عليها أكثر من يوم الأربعاء والخميس والجمعة ، ثم ندنو من ملك الروم وننظر ما يريد بمكانه الذي هو به ، فإن الله نفاه عن مكانه ذلك لم تبق بالشام قرية ولا مدينة إلا سالمت وصالحت وأعطت الجزية ودخلت فى الطاعة (٢).

فقال المسلمون جميعا : فنعم الرأى رأيك ، فأمضه وسر بنا إذا بدا لك ، فدعا خالدا وكان لكل ملمة ولكل شدة ، فقال له : سر رحمك الله ، فى الخيل. فخرج فيها ، وخلف عمرو بن العاص فى أرض الأردن ، وفى طائفة من أرض فلسطين مما يلى أرض العرب ، وجاء خالد حتى تولى أرض دمشق ، فاستقبله الذين كانوا صالحوا المسلمين.

ثم إن أبا عبيدة جاء من الغد ، فخرجوا أيضا ، فاستقبلوه بما يحب ، فلبث يومين أو ثلاثة ، ثم أمر خالدا فسار حتى بلغ بعلبك وأرض البقاع ، فغلب على أرض البقاع ، وأقبل قبل بعلبك حتى نزل عليها ، فخرج إليه منها رجل ، فأرسل إليهم فرسانا من المسلمين نحوا من خمسين ، فيهم ملحان بن زياد الطائى ، وقنان بن دارم العبسى ، فحملوا عليهم

__________________

(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٩٠) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٥٩٨).

(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٤٣ ـ ١٤٤).

٢٤٣

حتى أقحموهم الحصن. فلما رأوا ذلك بعثوا فى طلب الصلح ، فأعطاهم ذلك أبو عبيدة ، وكتب لهم كتابا.

ثم إنه خرج نحو حمص ، فجمع له أهلها جمعا عظيما ، ثم استقبلوه بجوسية (١) ، فرماهم بخالد بن الوليد ، فلما نظر إليهم خالد قال : يا أهل الإسلام ، الشدة ، الشدة. ثم حمل عليهم خالد ، وحمل المسلمون معه ، فولوا منهزمين حتى دخلوا مدينتهم ، وبعث خالد ميسرة بن مسروق فاستقبل خيلا لهم عظيمة عند نهير قريب من حمص ، فطاردهم قليلا ثم حمل عليهم ، فهزمهم ، وأقبل رجل من المسلمين من حمير يقال له شرحبيل ، فعرض له منهم فوارس ، فحمل عليهم وحده ، فقتل منهم سبعة ، ثم جاء إلى نهر دون حمص مما يلى دير مسحل فنزل عن فرسه فسقاه ، وجاء نحو من ثلاثين فارسا من أهل حمص فنظروا إلى رجل واحد ، فأقبلوا نحوه ، فلما رأى ذلك أقحم فرسه وعبر الماء إليهم ، ثم ضرب فرسه فحمل عليهم ، فقتل أول فارس ، ثم الثانى ، ثم الثالث ، ثم الرابع ، ثم الخامس ، ثم انهزموا وتبعهم وحده ، فلم يزل يقتل واحدا واحدا حتى انتهوا إلى دير مسحل وقد صرع منهم أحد عشر رجلا ، فاقتحموا جوف الدير واقتحم معهم ، فرماه أهل الدير بالحجارة حتى قتلوه ، رحمه‌الله.

وجاء ملحان بن زياد وعبد الله بن قرط وصفوان بن المعطل إلى المدينة ، فأخذوا يطيفون بها يريدون أن يخرج إليهم أهلها ، فلم يخرجوا. وجاء المسلمون حتى نزلوا على باب الرستن (٢) ، فزعم النضر بن شفى أن رجلا من آل ذى الكلاع كان أول من دخل مدينة حمص ، وذلك أنه حمل من جهة باب الشرقى فلم يرد وجهه شيء ، فإذا هو فى جوف المدينة ، فلما رأى ذلك ضرب فرسه فخرج كما هو على وجهه ولا يرى إلا أنه قد هلك ، حتى خرج من باب الرستن ، فإذا هو فى عسكر المسلمين.

وحاصر المسلمون أهل حمص حصارا شديدا ، فأخذوا يقولون للمسلمين : اذهبوا نحو الملك ، فإن ظفرتم به فنحن كلنا لكم عبيد. فأقام أبو عبيدة على باب الرستن بالناس ، وبث الخيل فى نواحى أرضهم ، فأصابوا غنائم كثيرة وقطعوا عنهم المادة والميرة ، واشتد عليهم الحصار ، وخشوا السباء فأرسلوا إلى المسلمين يطلبون الصلح ، فصالحهم المسلمون

__________________

(١) جوسية : بالضم ثم السكون وكسر السين المهملة وياء خفيفة ، قرية من قرى حمص على ستة فراسخ منها من جهة دمشق. انظر : معجم البلدان (٢ / ١٥٨).

(٢) الرستن : بفتح أوله وسكون ثانيه ، بليدة قديمة كانت على نهر الميماس ، بين حماة وحمص ، فى نصف الطريق. انظر : معجم البلدان (٣ / ٤٣).

٢٤٤

وكتبوا لهم كتابا بالأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم ، وعلى أن يضيفوا المسلمين يوما وليلة ، وعلى أن على أرض حمص مائة ألف دينار وسبعين ألف دينار ، وفرغوا من الصلح ، وفتحوا باب المدينة للمسلمين ، فدخلوها وأمن بعضهم بعضا.

وكتب أبو عبيدة إلى عمر رضي‌الله‌عنهما : بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله عمر أمير المؤمنين ، من أبى عبيدة بن الجراح ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فأحمد الله الذي أفاء علينا وعليك يا أمير المؤمنين أفضل كورة بالشام ، أكثرها أهلا وقلاعا وجمعا وخراجا ، وأكبتهم للمشركين كبتا ، وأيسره على المسلمين فتحا. أخبرك يا أمير المؤمنين أصلحك الله ، أنا قدمنا بلاد حمص وبها من المشركين عدد كثير ، والمسلمون يزفون إليهم ببأس شديد ، فلما دخلنا بلادهم ألقى الله الرعب فى قلوبهم ، ووهن كيدهم ، وقلم أظفارهم ، فسألونا الصلح وأذعنوا بأداء الخراج ، فقبلنا منهم وكففنا عنهم ، ففتحوا لنا الحصون واكتتبوا منا الأمان ، وقد وجهنا الخيول إلى الناحية التي بها ملكهم وجنوده.

نسأل الله ملك الملوك وناصر الجنود أن يعز المسلمين بنصره ، وأن يسلم المشرك الخاطئ بذنبه ، والسلام عليك.

فكتب إليه عمر : أما بعد ، فقد بلغنى كتابك تأمرنى فيه بحمد الله على ما أفاء علينا من الأرض وفتح علينا من القلاع ومكن لنا فى البلاد وصنع لنا ولكم وأبلانا وإياكم من حسن البلاء ، فالحمد لله على ذلك حمدا كثيرا ليس له نفاد ولا يحصى له تعداد ، وذكرت أنك وجهت الخيول نحو البلاد التي فيها ملك الروم وجموعهم ، فلا تفعل ، ابعث إلى خيلك فاضممها إليك وأقم حتى يمضى هذا الحول ونرى من رأينا. ونستعين الله ذا الجلال والإكرام على جميع أمرنا ، والسلام عليك.

فلما أتى أبا عبيدة الكتاب دعا رءوس المسلمين ، فقال لهم : إنى قد كنت قدمت ميسرة بن مسروق إلى ناحية حلب وأنا أريد الإقدام والغارة على ما دون الدرب من أرض الروم ، وكتبت بذلك إلى أمير المؤمنين ، فكتب إلىّ : أن أصرف إلى خيلى ، وأن أتربص بهم الحول حتى يرى من رأيه. فقالوا : لم يألك أمير المؤمنين والمسلمين نظرا وخيرا. فسرح إلى ميسرة ، وقد كان أشرف على حلب ودنا منها ، فيجامعه كتاب إلى ميسرة : أما بعد ، فإذا لقيت رسولى فأقبل معه ودع ما كنت وجهتك إليه حتى نرى من رأينا وننظر ما يأمرنا به خليفتنا ، والسلام.

٢٤٥

فأقبل ميسرة فى أصحابه حتى انتهى إلى أبى عبيدة بحمص ، فنزل معه ، وخرج أبو عبيدة فعسكر بالناس ، ودعا خالد بن الوليد ، فقال له : اخرج إلى دمشق فانزلها فى ألف رجل من المسلمين وأقيم أنا هاهنا ، ويقيم عمرو بن العاص فى مكانه الذي هو فيه ، فيكون بكل جانب من الشام طائفة من المسلمين ، فهو أقوى لنا عليها وأحرى أن نضبطها ، فخرج خالد فى ألف رجل حتى أتى دمشق وبها سويد بن كلثوم بن قيس القرشى ، من بنى محارب بن فهر ، وكان أبو عبيدة خلفه بها فى خمسمائة رجل ، فقدم خالد فعسكر على باب من أبوابها ، ونزل سويد فى جوفها.

وعن أدهم بن محرز بن أسد الباهلى قال : أول راية دخلت أرض حمص ودارت حول مدينتها راية ميسرة بن مسروق ، ولقد كانت لأبى أمامة راية ولأبى راية ، وإن أول رجل من المسلمين قتل رجلا من المشركين لأبى ، إلا أن يكون رجل من حمير ، فإنه حل هو وأبى جميعا فكل واحد منهما قتل فى حملته رجلا ، فكان أبى يقول : أنا أول رجل من المسلمين قتل رجلا من المشركين بحمص ، لا أدرى ما الحميرى ، فإنى حملت أنا وهو فقتل كل رجل منا فى حملته رجلا ، ولا أخال إلا أنى قتلت قتيلى قبل قتيله (١).

وقال أدهم : إنى لأول مولود بحمص ، وأول مولود فرض له بها ، وأول من رئى فيها بيده كتف يختلف إلى الكتاب ، ولقد شهدت صفين وقاتلت (٢).

وقال عبد الله بن قرط : عسكر أبو عبيدة ونحن معه حول حمص نحوا من ثمان عشرة ليلة ، وبث عماله فى نواحى أرضها ، واطمأن فى عسكره ، وذهبت منهزمة الروم من فحل حتى قدمت على ملك الروم بأنطاكية ، وخرجت فرسان من فرسان الروم ورجال من عظمائهم وذوى الأموال والغنى والقوة منهم ممن كان أوطن بالشام فدخلوا قيسارية ، وتحصن أهل فلسطين بإيلياء.

ولما قدمت المنهزمة على هرقل دعا رجالا منهم ، فقال لهم : أخبرونى ويلكم عن هؤلاء القوم الذين تلقونهم ، أليسوا بشرا مثلكم؟ قالوا : بلى ، قال : فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا : نحن أكثر منهم أضعافا ، وما لقيناهم فى موطن إلا ونحن أكثر منهم. قال : ويلكم فما بالكم تنهزمون إذا لقيتموهم؟ فسكتوا. فقام شيخ منهم ، فقال : أنا أخبرك أيها الملك من أين يؤتون ، قال : فأخبرنى ، قال : إنهم إذا حمل عليهم صبروا ، وإذا حملوا لم يكذبوا ،

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٤٨ ـ ١٤٩).

(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٤٩).

٢٤٦

ونحن نحمل فنكذب ويحمل علينا فلا نصبر. قال : وما بالكم كما تصفون ، وهم كما تزعمون؟ قال الشيخ : ما أرانى إلا قد علمت من أين هذا. قال له : ومن أين هذا؟ قال : من أجل أن القوم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وإنا نشرب الخمر ، ونرتكب المحارم ، وننقض العهد ونأمر بما يسخط الله وننهى عما يرضيه ونفسد فى الأرض. قال : صدقتنى ، لأخرجن من هذه القرية ، ولأدعن هذه البلدة ، وما لى فى صحبتكم من خير وأنتم هكذا. قال : نشدتك الله أيها الملك أن تفعل ، تدع سورية جنة الدنيا للعرب وتخرج منها ولما تقاتل وتجهد؟ قال : قد قاتلتموهم غير مرة بأجنادين ، وفحل ، ودمشق ، والأردن ، وفلسطين ، وحمص ، وفى غير موطن ، كل ذلك تنهزمون وتفرون وتغلبون. قال الشيخ : حولك من الروم عدد الحصى والثرى والذر ، لم يلقهم منهم إنسان ، ثم تريد أن تخرج منها وترجع بهؤلاء جميعا من قبل أن يقاتلوا؟ (١).

فإن هذا الشيخ ليكلمه إذ قدم عليه وفد قيسارية وإيلياء ، وسيأتى خبرهم بعد إن شاء الله.

وذكر الطبرى (٢) عن سيف : أن هرقل لما بلغه الخبر بمقتل أهل المرج أمر أمير حمص بالمضى إليها ، وقال له : إنه بلغنى يعنى عن المسلمين ، أن طعامهم لحوم الإبل ، وشرابهم ألبانها ، وهذا الشتاء ، فلا تقاتلوهم إلا فى كل يوم بارد ، فإنه لا يبقى إلى الصيف منهم أحد هذا جل طعامه ، وشرابه ، وارتحل فى عسكره ذلك حتى أتى الرها.

وأقبل أبو عبيدة حتى نزل على حمص ، وأقبل خالد بعده حتى ينزل عليها ، فكان أهلها يغادون المسلمين ويراوحونهم فى كل يوم بارد ، ولقى المسلمون بها بردا شديدا والروم حصارا طويلا. فأما المسلمون فصبروا ورابطوا ، وأفرغ الله عليهم الصبر وأعقبهم النصر ، حتى انصرم الشتاء ، وإنما تمسك الروم بالمدينة رجاء أن يهلكهم الشتاء. فكانوا يتواصون فيما بينهم ويقولون : تمسكوا فإنهم جفاة ، فإذا أصابهم البرد تقطعت أقدامهم مع ما يأكلون ويشربون ، فكانت الروم ترجع وقد سقطت أقدام بعضهم فى خفافهم ، وإن المسلمين لفى النعال ما أصيب إصبع أحد منهم ، حتى إذا انخمس الشتاء ، قام فيهم شيخ لهم يدعوهم إلى مصالحة المسلمين ، قالوا : كيف والملك فى عزه وملكه ليس بيننا وبينهم شيء؟ فتركهم ، وقام فيهم آخر وقال : ذهب الشتاء وانقطع الرجاء فما تنتظرون؟

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٤٩ ـ ١٥١).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٥٩٩ ـ ٦٠٠).

٢٤٧

قالوا : البرسام ، فإنما يسكن فى الشتاء ويثور فى الصيف ، قال : إن هؤلاء قوم يعانون ولأن تأتوهم بعهد وميثاق خير من أن تؤخذوا عنوة ، أجيبونى محمودين قبل أن تجيبونى مذمومين. فقالوا : شيخ خرف ولا علم له بالحرب. وأثاب الله المسلمين على صبرهم أيام حمص. فيما حكى عن بعض أشياخ من غسان وبلقين (١) : أن زلزل بأهل حمص ، وذلك أن المسلمين ناهدوهم ، فكبروا تكبيرة زلزلت معها الروم فى المدينة ، وتصدعت الحيطان ، ففزعوا إلى رؤسائهم وذوى رأيهم ممن كان يدعوهم إلى المسالمة فلم يجيبوهم وأذلوهم بذلك ، ثم كبروا الثانية فتهافتت دور كثيرة وحيطان ، وفزعوا إلى رؤسائهم وذوى رأيهم ، فقالوا : ألا ترون إلى عذاب الله؟ فأجابوهم : لا يطلب الصلح غيركم ، فأشرفوا ينادون ، الصلح الصلح ، ولا يشعر المسلمون بما حدث فيهم ، فأجابوهم وقبلوا منهم على أنصاف دورهم ، وعلى أن يترك المسلمون أموال ملوك الروم وبنيانهم لا ينزلونه عليهم ، فتركوه لهم ، فصالح بعضهم على صلح دمشق على دينار وطعام على كل جريب أبدا أيسروا أو أعسروا ، وصالح بعضهم على قدر طاقته إن زاد ماله زيد عليه وإن نقص نقص ، وعلى هذين الوجهين كان صلح دمشق والأردن ، وولوا معاملة ما جلا ملوكهم عنه.

حديث حمص آخر

قالوا : وغزى هرقل أهل حمص فى البحر ، واستمد أهل الجزيرة ، واستثار أهل حمص ، فأرسلوا إليه : بأنا قد عاهدنا ، فنخاف أن لا ننصر.

واستمد أبو عبيدة خالدا ، فأمده بمن معه جميعا ، لم يخلف أحدا ، فكفر أهل قنسرين بعده وتابعوا هرقل ، وكان أكثر من هنالك تنوخ الحاضر.

ودنا هرقل من حمص وعسكر وبعث البعوث إلى حمص ، فأجمع المسلمون على الخندقة والكتاب إلى عمر ، إلا ما كان من خالد ، فإن المناجزة كانت رأيه ، فخندقوا على حمص ، وكتبوا إلى عمر واستصرخوه.

وجاء الروم ومن أمدهم حتى نزلوا عليهم فحصروهم ، وبلغت أمداد الجزيرة ثلاثين ألفا سوى أمداد قنسرين من تنوخ وغيرهم ، فبلغوا من المسلمين كل مبلغ.

وجاء الكتاب إلى عمر وهو موجه إلى مكة للحج ، فمضى لحجه ، وكتب إلى سعد بن

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٠٠).

٢٤٨

أبى وقاص : إن أبا عبيدة قد أحيط به ولزم حصنه ، فبث المسلمين بالجزيرة ، واشغلهم بالخيول عن أهل حمص ، وأمد أبا عبيدة بالقعقاع بن عمرو.

فخرج القعقاع ممدا لأبى عبيدة ، وخرجت الخيول نحو الرقة ونصيبين وحران ، فلما وصلوا الجزيرة وبلغ ذلك الروم الذين كانوا منها وهم بحمص تقوضوا إلى مدائنهم ، وبادروا المسلمين إليها ، فتحصنوا ، ونزل عليهم المسلمون فيها ، ولما دنا القعقاع من حمص راسلت طائفة من تنوخ خالدا ودلوه وأخبروه بما عندهم من الخبر ، فأرسل إليهم خالد : والله لو لا أنى فى سلطان غيرى ما باليت قللتم أم كثرتم أو أقمتم أو ذهبتم ، فإن كنتم صادقين فانفشوا كما انفش أهل الجزيرة ، فساموا تنوخ ذلك ، فأجابوهم ، وراسلوا خالدا : إن ذلك إليك ، فإن شئت فعلنا ، وإن شئت أن تخرج علينا فننهزم بالروم ، وأوثقوا له ، فقال : بل أقيموا ، فإذا خرجنا فانهزموا بهم.

فقال المسلمون لأبى عبيدة : قد أنفش أهل الجزيرة ، وقد ندم أهل قنسرين وواعدوا من أنفسهم ، وهم العرب ، فاخرج بنا وخالد ساكت ، فقال : يا خالد ، ما لك لا تتكلم؟

فقال : قد عرفت الذي كان من رأيى فلم تسمع من كلامى. قال : فتكلم فإنى أسمع منك وأطيعك ، قال : فاخرج بالمسلمين ، فإن الله تعالى قد نقص من عدتهم ، وبالعدد يقاتلون ، ونحن إنما نقاتل منذ أسلمنا بالنصر ، فلا تجفلك كثرتهم.

قالوا : فجمع أبو عبيدة الناس ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال :

أيها الناس ، إن هذا يوم له ما بعده ، أما من حكى منكم فإنه يصفو له ملكه وقراره ، وأما من مات منكم فإنها الشهادة ، فأحسنوا بالله الظن ولا يكرهن إليكم الموت أمر اقترفه أحدكم دون الشرك ، توبوا إلى الله وتعرضوا للشهادة ، فإنى أشهد وليس أوان الكذب ، أنى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة.

فكأنما كانت بالناس عقل تنشطت ، فخرج بهم وخالد على الميمنة ، وقيس على الميسرة ، وأبو عبيدة فى القلب وعلى باب المدينة معاذ بن جبل ، فاجتلدوا بها ، فإنهم كذلك إذ قدم القعقاع متعجلا فى مائة ، فانهزم أهل قنسرين بالروم ، فاجتمع القلب والميمنة على قلبهم وقد انكسر أحد جناحيه ، فما أفلت منهم مخبر ، وذهبت الميسرة على وجهها ، وآخر من أصيب منهم بمرج الديباج انتهوا إليه فكسروا سلاحهم وألقوا بلامهم تخففا ، فأصيبوا وتغنموا.

٢٤٩

ولما ظفر المسلمون جمعهم أبو عبيدة فخطبهم ، وقال لهم : لا تتكلوا ولا تزهدوا فى الدرجات.

فتح قنسرين (١)

وبعث بعد فتح حمص خالد بن الوليد إلى قنسرين ، فلما نزل بالحاضر زحف إليه الروم وعليهم ميناس ، وهو رأس الروم وأعظمهم فيهم بعد هرقل ، فالتقوا بالحاضر ، فقتل ميناس ومن معه مقتلة عظيمة لم يقتلوا مثلها. فأما الروم فماتوا على دمه حتى لم يبق منهم أحد ، وأما أهل الحاضر فأرسلوا إلى خالد أنهم عرب ، وأنهم إنما حشدوا ولم يكن من رأيهم حربه ، فقبل منهم وتركهم.

ولما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي‌الله‌عنه ، قال : أمر خالد نفسه ، يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم بالرجال منى ، وكان قد عزله والمثنى بن حارثة عند قيامه ، بالأمر ، وقال : إنى لم أعزلهما عن ريبة ، ولكن الناس عظموهما ، فخشيت أن يوكلوا إليهما.

ويروى أنه قال حين ولى : والله لأعزلن خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة ليعلما أن الله إنما ينصر دينه لا إياهما. فلما كان من أمر خالد فى قنسرين ما كان ، رجع عن رأيه.

وسار خالد حتى نزل على قنسرين ، فتحصنوا منه ، فقال : إنكم لو كنتم فى السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلنكم إلينا. فنظروا فى أمرهم ، وذكروا ما لقى أهل حمص وقنسرين ، فسألوه الصلح على مثل صلحها ، فأبى إلا على إخراب المدينة ، فأخربها.

واتطأت حمص وقنسرين ، فعند ذلك خنس هرقل وخرج نحو القسطنطينية. وأفلت رجل من الروم كان أسيرا فى أيدى المسلمين فلحق بهرقل ، فقال له : أخبرنى عن هؤلاء القوم. فقال : أحدثك كأنك تنظر إليهم ، فرسان بالنهار ، ورهبان بالليل ، ما يأكلون فى ذمتهم إلا بثمن ، ولا يدخلون إلا بسلام ، يقفون على من حاربهم حتى يأتوا عليه. فقال : لئن كنت صدقتنى ليرثن ما تحت قدمي هاتين (٢).

وكان هرقل كلما حج بيت المقدس فخلف سورية ، وظعن فى أرض الروم التفت فقال : السلام عليك يا سورية ، تسليم مودع لم يقض منك وطره ، وهو عائد. فلما توجه

__________________

(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٩١) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٦٠١).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٠٢ ـ ٦٠٣).

٢٥٠

المسلمون نحو حمص عبر الماء فنزل الرها ، فلم يزل بها حتى إذا فتحت قنسرين ، وقتل ميناس خنس عند ذلك إلى سميساط (١) حتى إذا فصل منها نحو أرض الروم على شرف ، فالتفت نحو سورية وقال : عليك السلام يا سورية ، سلاما لا اجتماع بعده ، ولا يعود إليك رومى أبدا إلا خائفا ، حتى يولد المولود المشئوم ، ويا ليته لا يولد ، ما أحلى فعله ، وما أمر عاقبته على الروم. ثم مضى حتى نزل قسطنطينية.

وهذا مقتضب من أحاديث متفرقة ذكرها سيف فى كتابه.

جمع الروم للمسلمين

ثم نعود إلى صلة ما قطعنا قبل من الحديث عن وفد أهل إيلياء وقيسارية القادم على هرقل ، إذ قد وعدنا بذكره حسب ما ذكره من ذلك أصحاب فتوح الشام فى كتبهم.

وذلك أن أهل قيسارية وأهل إيلياء تواطئوا بعد يوم فحل وتآمروا ، أن يبعثوا وفدا منهم إلى هرقل بأنطاكية ، فيخبروه بتمسكهم بأمره وإقامتهم على طاعته وخلافهم العرب ، ويسألونه المدد والنصر. فلما جاءه وفدهم هذا رأى أن يبعث الجنود ويقيم هو بأنطاكية ، فأرسل إلى رومية والقسطنطينية ، وإلى من كان من جنوده وعلى دينه من أهل الجزيرة وأرمينية ، وكتب إلى عماله أن يحشروا إليه كل من أدرك الحلم من أهل مملكته فما فوق ذلك إلى الشيخ الفانى ، فأقبلوا إليه ، وجاء منهم ما لا تحمله الأرض ، وجاءه جرجير صاحب أرمينية فى ثلاثين ألفا ، وآتاه أهل الجزيرة ، ونزع إليه أهل دينه وجميع من كان فى طاعته ، فدعا باهان ، وكان من عظمائهم وأشرافهم ، فعقد له على مائة ألف ، ودعا ابن قماطر فعقد له على مائة ألف فيهم جرجير ومن معه من أهل أرمينية ، ودعا الدرنجار فعقد له على مائة ألف ، ثم أعطى الأمراء مائة ألف ، مائة ألف ، وأعطى باهان مائتى ألف ، وقال لهم : إذا اجتمعتم فأميركم باهان ، ثم قال : يا معشر الروم ، إن العرب قد ظهروا على سورية ، ولم يرضوا بها حتى تعاطوا أقصى بلادكم ، وهم لا يرضون بالبلاد والمدائن والبر والشعير والذهب والفضة حتى يسبوا الأمهات والبنات والأخوات والأزواج ، ويتخذوا الأحرار وأبناء الملوك عبيدا ، فامنعوا حرمتكم وسلطانكم ودار ملككم (٢).

__________________

(١) سميساط : بلد من بلد العجم ، منها السميساطى رجل من العجم كان موصوفا بالورع والزهد.

انظر الروض المعطار (٣٢٣).

(٢) انظر هذا الخبر وما بعده فى : تاريخ فتوح الشام (١٥١ ـ ١٥٩).

٢٥١

قال عبد الله بن قرط ، والحديث له : ثم وجههم إلينا ، فقدمت عيوننا من قبلهم ، فخبرونا بمقالة ملكهم وبمسيرهم إلينا وجمعهم لنا ، ومن أجلب معهم من غيرهم علينا ممن كان على دينهم وفى طاعتهم.

فلما جاء أبا عبيدة الخبر عن عددهم وكثرتهم ، رأى أن لا يكتم ذلك المسلمين ، وأن يستشيرهم فيه لينظر ما يؤول إليه رأى جماعتهم ، فدعا رءوس المسلمين وأهل الصلاح منهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد. فإن الله عزوجل ، قد أبلاكم أيها المؤمنون فأحسن البلاء ، وصدقكم الوعد ، وأعزكم بالنصر ، وأراكم فى كل موطن ما تسرون به ، وقد سار إليكم عدوكم من المشركين بعدد كثير ، ونفروا إليكم فيما حدثني عيونى نفير الروم الأعظم ، فجاءوكم برا وبحرا حتى خرجوا إلى صاحبهم بأنطاكية ، ثم قد وجه إليكم ثلاثة عساكر فى كل عسكر منها ما لا يحصيه إلا الله من البشر ، وقد أحببت أن لا أغركم من أنفسكم ، ولا أطوى عنكم خبر عدوكم ، ثم تشيرون علىّ برأيكم ، وأشير عليكم برأيى ، فإنما أنا كأحدكم.

فقام يزيد بن أبى سفيان ، فقال : نعم ما رأيت رحمك الله ، إذ لم تكتم عنا ما أتاك من عدونا ، وأنا مشير عليكم ، فإن كان صوابا فذاك ما نويت ، وإن يكن الرأى غير ما أشير به ، فإنى لا أتعمد غير ما يصلح المسلمين. أرى أن نعسكر على باب مدينة حمص بجماعة المسلمين ، وندخل النساء والأبناء داخل المدينة ، ثم نجعل المدينة فى ظهورنا ، ثم نبعث إلى خالد فيقدم عليك من دمشق ، وإلى عمرو بن العاص فيقدم عليك من الأردن ، فتلقاهم بجماعة من معك من المسلمين.

وقام شرحبيل بن حسنة فقال : إن هذا مقام لا بد فيه من النصيحة للمسلمين وإن خالف الرجل منا أخاه ، وإنما على كل رجل منا أن يجتهد رأيه ، وأنا الآن فقد رأيت غير ما رأى يزيد ، وهو والله عندى من الناصحين لجماعة المسلمين ، ولكن لا أجد بدا من أن أشير عليكم بما أظنه خيرا للمسلمين.

إنى لا أرى أن ندخل ذرارى المسلمين مع أهل حمص وهم على دين عدونا هذا الذي قد أقبل إلينا ، ولا آمن إن وقع بيننا وبينهم من الحرب ما نتشاغل به أن ينقضوا عهدنا وأن يثبوا على ذرارينا فيتقربوا بهم إلى عدونا.

فقال له أبو عبيدة : إن الله قد أذلهم لكم ، وسلطانكم أحب إليهم من سلطان عدوكم ، وأما إذ ذكرت ما ذكرت ، وخوفتنا ما خوفت ، فإنى أخرج أهل المدينة منها

٢٥٢

وأنزلها عيالنا ، وأدخل رجالا من المسلمين يقومون على سورها وأبوابها ، ونقيم نحن بمكاننا هذا حتى يقدم علينا إخواننا.

فقال له شرحبيل : إنه ليس لك ولا لنا معك أن نخرجهم من ديارهم وقد صالحناهم على ألا نخرجهم منها.

فأقبل أبو عبيدة على جماعة من عنده فقال : ما ذا ترون ، رحمكم الله؟ فقالوا : نرى أن نقيم ، ونكتب إلى أمير المؤمنين فنعلمه نفير الروم إلينا ، وتبعث إلى من بالشام من إخوانك المسلمين فيقدموا عليك.

فقال أبو عبيدة : إن الأمر أجل وأعظم مما تحسبون ، ولا أحسب القوم إلا سيعاجلونكم قبل وصول خبركم إلى أمير المؤمنين.

فقام إليه ميسرة بن مسروق ، فقال : أصلحك الله ، إنا لسنا بأصحاب القلاع ولا الحصون ولا المدائن ، وإنما نحن أصحاب البر والبلد القفر ، فأخرجنا من بلاد الروم ومدائنها إلى بلادنا أو إلى بلاد من بلادهم تشبه بلادنا إن كانوا قد جاشوا علينا كما ذكرت ، ثم اضمم إليك قواصيك ، وابعث إلى أمير المؤمنين فليمددك.

فقال كل من حضر ذلك المجلس : الرأى ما رأى ميسرة ، فقال لهم أبو عبيدة : فتهيئوا وتيسروا حتى أرى من رأى ، وكان رأى أبى عبيدة أن يقيموا ولا يبرحوا ، ولكنه كره خلافهم ، ورجا أن يكون فى اجتماع رأيهم الخير والبركة.

ثم بعث إلى حبيب بن مسلمة ، وكان استعمله على الخراج ، فقال : انظر ما كنت جبيت من حمص فاحتفظ به حتى آمرك فيه ، ولا تجبين أحدا ممن بقى حتى أحدث إليك فى ذلك ، ففعل ، فلما أراد أبو عبيدة أن يشخص دعا حبيبا فقال له : اردد على القوم الذين كنا صالحناهم من أهل البلد ما كنا أخذنا منهم ، وقل لهم : نحن على ما كان بيننا وبينكم من الصلح ، لا نرجع عنه إلا أن ترجعوا ، وإنما رددنا عليكم أموالكم كراهية أن نأخذها ولا نمنع بلادكم ، ولكنا نتنحى إلى بعض الأرض ونبعث إلى إخواننا فيقدموا علينا ، ثم نلقى عدونا ، فإن أظفرنا الله بهم وفينا لكم بعهدكم ، إلا ألا تطلبوا ذلك.

ثم أخذ الناس فى الرحيل إلى دمشق ، ورد حبيب بن مسلمة إلى أهل البلد ما كان أخذ منهم ، وأخبرهم بما قال أبو عبيدة ، فقالوا : ردكم الله إلينا ، ولعن الله الذين كانوا يملكوننا من الروم ، لكنهم والله لو كانوا هم ما ردوا علينا ، بل غصبونا وأخذوا مع هذا

٢٥٣

ما قدروا عليه من أموالنا. وأعلم أبو عبيدة عمر بن الخطاب بكل ما قبله.

قال سفيان بن عوف بن معقل : بعثنى أبو عبيدة ليلة غدا من حمص إلى دمشق ، فقال : ائت أمير المؤمنين فأبلغه منى السلام وأخبره بما قد رأيت وعاينت ، وبما جاءتنا به العيون ، وبما استقر من كثرة العدو ، وبالذى رأى المسلمون من التنحى عنهم. وكتب إليه معه : أما بعد ، فإن عيونى قدمت علىّ من أرض قنسرين ومن القرية التي فيها ملك الروم ، فحدثونى بأن الروم قد توجهوا إلينا وجمعوا لنا من الجموع ما لم يجمعوه قط لأمه كانت قبلنا ، وقد دعوت المسلمين فأخبرتهم الخبر واستشرتهم فى الرأى ، فاجتمع رأيهم على أن يتنحوا عنهم حتى يأتينا رأيك ، وقد بعثت إليك رجلا عنده علم ما قبلنا ، فاسأله عما بدا لك ، فإنه بذلك عليم ، وهو عندنا أمين ، ونستعين الله العزيز الحكيم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل. والسلام عليك.

قال سفيان : فلما قدمت على أمير المؤمنين سلمت عليه ، فقال : أخبرنى عن الناس ، فأخبرته بصلاحهم ، ودفاع الله عنهم ، ثم أخذ الكتاب فقرأه ، فقال لى : ويحك ما فعل المسلمون؟ فقلت : أصلحك الله ، خرجت من عندهم ليلا من حمص وتركتهم يقولون : نصلى الغداة ثم نرحل إلى دمشق. قال : فكأنه كرهه حتى عرفت الكراهة فى وجهه ، ثم قال : لله أبوك ، ما رجوعهم عن عدوهم وقد أظفرهم الله بهم فى غير موطن؟ وما تركهم أرضا قد فتحها الله عليهم وصارت فى أيديهم؟ إنى لأخاف أن يكونوا قد أساءوا الرأى وجاءوا بالعجز وجرءوا عدوهم عليهم. فقلت : أصلحك الله ، إن الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، إن صاحب الروم قد جمع لنا جموعا لم يجمعها هو ولا أحد كان قبله لأحد كان قبلنا ، ولقد أخبرنا بعض عيوننا أن عسكرا واحدا من عساكرهم أمر بالعسكرة فى أصل جبل ، فهبطوا من الثنية نصف النهار إلى معسكرهم فما تكاملوا فيه حتى أمسوا ، ثم ما تكاملوا فيه إلى نصف الليل ، فهذا عسكر واحد من عساكرهم ، فما ظنك أصلحك الله بما بقى؟.

فقال : لو لا أنى ربما كرهت الشيء من أمرهم يضيعونه ، فأرى الله تعالى ، يخير لهم فى عواقبه لكان هذا رأيا أنا له كاره. أخبرنى : اجتمع رأى جميعهم على التحول؟ قلت : نعم. قال : فالحمد لله ، إنى لأرجو إن شاء الله أن لا يكون جمع الله رأيهم إلا على ما هو خير لهم. فقلت : يا أمير المؤمنين ، اشدد أعضاد المسلمين بمدد يأتيهم من قبلك قبل الوقعة ، فإن هذه الوقعة هى الفيصل فيما بيننا وبينهم. فقال لى : أبشر بما يسرك ويسر المسلمين ، واحمل كتابى هذا إلى أبى عبيدة وإلى المسلمين ، وأعلمهم أن سعيد بن عامر بن

٢٥٤

حذيم قادم عليهم بالمدد ، وكتب : بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أبى عبيدة بن الجراح وإلى الذين معه من المهاجرين والأنصار ، والتابعين بإحسان ، والمجاهدين فى سبيل الله ، سلام عليكم ، فإنى أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإنه قد بلغنى توجهكم من أرض حمص إلى أرض دمشق ، وترككم بلادا فتحها الله عليكم ، وخليتموها لعدوكم وخرجتم منها طائعين ، فكرهت هذا من رأيكم وفعلكم ، ثم إنى سألت رسولكم عن رأى من جميعكم كان ذلك ، فزعم أن ذلك كان رأيا من أماثلكم وأولى النهى منكم ، فعلمت أن الله لم يكن يجمع رأيكم إلا على توفيق وصواب ورشد فى العاجلة والعاقبة ، فهون ذلك علىّ ما كان داخلنى من الكراهية قبل ذلك لتحولكم ، وقد سألنى رسولكم المدد ، وأنا ممدكم ، لن يقرأ عليكم كتابى حتى يشخص إليكم المدد من قبلى إن شاء الله ، واعلموا أنه ليس بالجمع الكثير تهزم الجموع وينزل الله النصر ، ولربما خذل الله الجموع الكثيرة فوهنت وقلت وفشلت ، ولم تغن عنهم فئتهم شيئا ، ولربما نصر الله العصابة القليل عددها على الكثير عددها من أعداء الله ، فأنزل الله عليكم نصره ، وبعدو المسلمين بأسه ورجزه ، والسلام عليكم.

فجاء سفيان بالكتاب إلى أبى عبيدة فقرأه على الناس وسروا به.

وعن عبد الله بن قرط ، فى حديثه المتقدم عما اجتمع عليه رأى المسلمين مع أبى عبيدة من الرحيل عن حمص ، قال : فلما صلينا صلاة الغداة بحمص خرجنا مع أبى عبيدة نسير حتى قدمنا دمشق وبها خالد بن الوليد ، وتركنا أرض حمص ليس فيها منا ديار بعد ما كنا قد افتتحناها ، وأمنا أهلها ، وصالحناهم عليها ، وخلا أبو عبيدة بخالد بن الوليد فأخبره الخبر ، وذكر له مشورة الناس عليه بالرحلة ، ومقالة العبسى فى ذلك ، فقال له خالد : أما أنه لم يكن الرأى إلا الإقامة بحمص حتى نناجزهم ، فأما إذا اجتمع رأيكم على أمر واحد ، فو الله إنى لأرجو أن لا يكون الله قد جمع رأيكم إلا على ما هو خير (١).

فأقام أبو عبيدة بدمشق يومين ، وأمر سويد بن كلثوم أن يرد على أهل دمشق الذين كانوا أمنوا وصولحوا ما كان جبى منهم ، ففعل ، وقال لهم المسلمون : نحن على العهد الذي كان بيننا وبينكم. ثم إن أبا عبيدة جمع أصحابه ، فقال لهم : ما ذا ترون؟ أشيروا علىّ.

فقال يزيد بن أبى سفيان : أرى أن تخرج حتى تنزل الجابية ، ثم تبعث إلى عمرو بن

__________________

(١) انظر الخبر فى : تاريخ فتوح الشام (١٦٠ ـ ١٦٩).

٢٥٥

العاص فيقدم عليك بمن معه من المسلمين ، ثم نقيم للقوم حتى يقدموا علينا ، فنقاتلهم ونستعين الله عليهم.

فقال شرحبيل بن حسنة : لكنى أرى إذ خلينا لهم ما خلينا من أرضهم أن ندعها كلها فى أيديهم وننزل التخوم بين أرضنا وأرضهم فندنوا من خليفتنا ومن مددنا ، فإذا أتانا من المدد ما نرجو أن نكون لهم به مقرنين قاتلناهم إن أتونا ، وإلا أقدمنا عليهم إن هم أقاموا عنا. فقال رجل من المسلمين لأبى عبيدة : هذا أصلحك الله رأى حسن ، فاقبله واعمل به.

فقال معاذ بن جبل : وهل يلتمس هؤلاء القوم من عدوهم أمرا أضر لهم ولا أشد عليهم مما تريدون أنتم بأنفسكم ، تخلون لهم عن أرض قد فتحها الله عليكم وقتل فيها صناديدهم وأهلك جنودهم ، فإذا خرج المسلمون منها وتركوها لهم فكانوا فيها على مثل حالهم الأول ، فما أشد على المسلمين دخولها بعد الخروج منها ، وهل يصلح لكم أن تدعوها وتدعوا البلقاء والأردن وقد جبيتم خراجهم لتدفعوا عنهم؟ أما والله لئن أردتم دخولها بعد الخروج منها لتكابدن من ذلك مشقة.

فقال أبو عبيدة : صدق والله وبر ، ما ينبغى أن نترك قوما قد جبينا خراجهم وعقدنا العهد لهم حتى نعذر إلى الله فى الدفع عنهم ، فإن شئتم نزلنا الجابية وبعثنا إلى عمرو بن العاص يقدم علينا ، ثم أقمنا للقوم حتى نلقاهم بها.

فقال له خالد : كأنك إذا كنت بالجابية كنت على أكثر مما أنت عليه فى مكانك الذي أنت فيه. فإنهم لكذلك يجيلون الرأى إذ قدم على أبى عبيدة عبد الله بن عمرو بن العاص بكتاب من أبيه يقول فيه : أما بعد ، فإن أهل إيلياء وكثيرا ممن كنا صالحناهم من أهل الأردن قد نقضوا العهد فيما بيننا وبينهم ، وذكروا أن الروم قد أقبلت إلى الشام بقضها وقضيضها ، وأنكم قد خليتم لهم عن الأرض وأقبلتم منصرفين عنها ، وقد جرأهم ذلك علىّ وعلى من قبلى من المسلمين ، وقد تراسلوا وتواثقوا وتعاهدوا ليسيرون إلىّ. فاكتب إلىّ برأيك ، فإن كنت تريد القدوم علىّ أقمت لك حتى تقدم علىّ ، وإن كنت تريد أن تنزل منزلا من الشام أو من غيرها وأن أقدم عليك فأعلمنى برأيك ، أوافك فيه ، فإنى صائر إليك أينما كنت ، وإلا فابعث إلىّ مددا أقوى به على عدوى وعلى ضبط ما قبلى ، فإنهم قد أرجفوا بنا واغتمزوا فينا واستعدوا لنا ، ولو يجدون فينا ضعفا أو يرون فينا فرصة ما ناظرونا ، والسلام عليك.

٢٥٦

فكتب إليه أبو عبيدة : أما بعد ، فقد قدم علينا عبد الله بن عمرو بكتابك تذكر فيه إرجاف المرجفين واستعدادهم لك ، وجرأتهم عليك للذى بلغهم من انصرافنا عن الروم وما خلينا لهم من الأرض ، وأن ذلك والحمد لله لم يكن من المسلمين عن ضعف من بصائرهم ، ولا وهن عن عدوهم ، ولكنه كان رأيا من جماعتهم كادوا به عدوهم ليخرجوهم من مدائنهم وحصونهم وقلاعهم وليجتمع بعض المسلمين إلى بعض وينتظروا قدوم أمدادهم ، ثم يناهضونهم إن شاء الله ، وقد اجتمعت خيلهم وتتامت فرسانهم ، فعند ذلك فارتقب نصر الله أولياءه ، وإنجاز موعوده ، وإعزاز دينه ، وإذلاله المشركين حتى لا يمنع أحد منهم أمه ولا حليلته ولا نفسه ، حتى يتوقلوا فى شعف الجبال ، ويعجزوا عن منع الحصون ويجنحوا للسلم ، ويلتمسوا الصلح ، (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) [الأحزاب : ٦٢].

ثم أعلم من قبلك من المسلمين أنى قادم عليهم بجماعة أهل الإسلام إن شاء الله ، فليحسنوا بالله الظن ولا يجدن عدوكم فيكم ضعفا ولا وهنا ، ولا تؤبسوا منكم رعبا فيطمعوا فيكم ويجترئوا عليكم ، أعزنا الله وإياكم بنصره ، وعمنا بعافيته وعفوه ، والسلام عليك.

وقال لعبد الله بن عمرو : اقرأ على أبيك السلام ، وأخبره أنى فى أثرك ، وأعلم بذلك المسلمين وكن يا عبد الله بن عمرو ممن يشد الله به ظهور المسلمين ويستأنسون به ، فإنك رجل من الصحابة ، وقد جعل الله للصحابة فضلا على غيرهم من المسلمين ، بصحبتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تتكل على أبيك ، وكن أنت فى جانب تحرض المسلمين وتمنيهم النصر ، وتأمرهم بالصبر ، ويكون أبوك يفعل ذلك فى جانب آخر.

فقال : إنى أرجو أن يبلغك عنى إن شاء الله من ذلك ما تسر به ، ثم خرج حتى قدم على أبيه بكتاب أبى عبيدة ، فقرأه أبوه على الناس ، ثم قال : أما بعد ، فقد برئت ذمة الله من رجل من أهل عهدنا من أهل الأردن ثقف رجلا (١) من أهل إيلياء (٢) فلم يأتنا به ، ألا ولا يبقين رجل من أهل عهدنا إلا تهيأ واستعد ليسير معى إلى أهل إيلياء ، فإنى أريد السير إليهم والنزول بساحتهم ، ثم لا أزايلهم حتى أقتل مقالتهم وأسبى ذراريهم ، أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

__________________

(١) ثقف رجل : أى صفر به.

(٢) إيلياء : ويقال أيليا بفتح الهمزة ، مدينة بالشام وهى بيت المقدس ، وهى مدينة قديمة جليلة على جبل يصعد إليها من كل جانب. انظر : الروض المعطار (٦٨) ، نزهة المشتاق (٢١٦).

٢٥٧

ثم نادى فى المسلمين : أن ارتحلوا إلى إيلياء ، فسار نحوا من ميلين قبل أرض إيلياء ، ثم نزل وعسكر ، وقال لأهل الأردن : أخرجوا إلينا الأسواق ، ونادى مناديه : برئت الذمة من رجل من أهل الصلح لم يخرج بسلاحه حتى يحضر معنا معسكرنا وينتظر ما نأمر به من أمرنا ، فاجتمع أهل الصلح كلهم إليه ، وخرجوا بعدتهم وسلاحهم ، فقدمهم مع ابنه عبد الله فى خمسمائة من المسلمين ، وأمره أن يعسكر بهم ، ففعل.

وإنما أراد أن يشغل أهل الأردن عن الإرجاف ، وأن يبلغ أهل إيلياء أنه يريد المسير إليهم والنزول بهم ، فيرعب قلوبهم ويشغلهم فى أنفسهم وحصونهم عن الغارة عليهم.

فخرج التجار من أهل الأردن ومن كان فيها من أهل إيلياء عند حميم أو ذوى قرابة فلحقوا بإيلياء فقالوا لهم : هذا عمرو بن العاص قد أقبل نحوكم بالناس ، فاجتمعوا من كل مكان ، وتراسلوا ، وجعلوا لا يجيئهم أحد من قبل الأردن إلا أخبرهم بمعسكره ، فأيقنوا أنه يريدهم ، فكانوا من ذلك فى هول شديد ، وزادهم خوفا ووجلا كتاب كتبه إليهم عمرو بن العاص مضمنه : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عمرو بن العاص إلى بطارقة أهل إيلياء ، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله الذي لا إله إلا هو ، وبنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أما بعد : فإنا نثنى على ربنا خيرا ، ونحمده حمدا كثيرا ، كما رحمنا بنبيه وشرفنا برسالته وأكرمنا بدينه ، وأعزنا بطاعته ، وأيدنا بتوحيده ، فلسنا والحمد لله نجعل له ندا ولا نتخذ من دونه إلها ، لقد قلنا إذا شططا ، والحمد لله الذي جعلكم شيعا وجعلكم فى دينكم أحزابا ، كل حزب بما لديهم فرحون ، فمنكم من يزعم أن لله ولدا ، ومنكم من يزعم أن الله ثانى اثنين ، ومنكم من يزعم أن الله ثالث ثلاثة ، فبعدا لمن أشرك بالله وسحقا ، وتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، والحمد لله الذي قتل بطارقتكم ، وسلب عزكم ، وطرد من هذه البلاد ملوككم ، وأورثنا أرضكم ودياركم وأموالكم ، وأذلكم بكفركم بالله وشرككم به وترككم ما دعوناكم إليه من الإيمان بالله وبرسوله ، فأعقبكم الله لباس الخوف والجوع ونقصا فى الأموال والأنفس ، وما الله بظلام للعبيد.

فإذا بلغكم كتابى هذا ، فأسلموا تسلموا ، وإلا فأقبلوا إلىّ حتى أكتب لكم أمانا على دمائكم وأموالكم ، وأعقد لكم عقدا على أن تؤدوا إلىّ الجزية عن يد وأنتم صاغرون ، وإلا فو الله الذي لا إله إلا هو لأرمينكم بالخيل بعد الخيل وبالرجال بعد الرجال ، ثم لا أقلع عنكم حتى أقتل المقاتلة وأسبى الذرية ، وحتى تكونوا كأمة كانت فأصبحت كأنها لم تكن.

٢٥٨

وأرسل بالكتاب إليهم مع فيج ، نصرانى على دينهم ، وقال له : عجل علىّ ، فإنى إنما أنتظرك ، فلما قدم عليهم قالوا له : ويحك ، ما وراءك؟ قال : لا أدرى إلا أن هذا الرجل بعثنى إليكم بهذا الكتاب ، وقد وجه عسكره نحوكم ، وقال لى : ما يمنعنى من المسير إليهم إلا انتظار رجوعك ، فقالوا : انتظرنا ساعة من النهار ، فإنا ننتظر عينا لنا يقدم علينا من قبل أمير العرب الذي بدمشق ، ومن قبل جند الملك الذي أقبل إلينا ، فننظر ما يأتينا به ، فإن ظننا أن لنا بالعرب قوة لم نصالحهم ، وإن خشينا ألا نقوى عليهم صنعنا ما صنع أهل الأردن وغيرهم ، فما نحن إلا كغيرنا من أهل الشام ، فأقام العلج حتى أمسى ، ثم إن رسول أهل إيلياء الذي بعثوه عينا لهم أتاهم فأخبرهم أن باهان قد أقبل من عند ملك الروم فى ثلاثة عساكر ، فى كل عسكر منها أكثر من مائة ألف مقاتل ، وأن العرب لما بلغهم ما سار إليهم من تلك الجموع علموا أنه لا قبل لهم بما جاءهم ، فانصرفوا راجعين ، وقد كان أوائل العرب دخلوا أرض قنسرين (١) فأخرجوهم منها ، ثم أتوا أرض دمشق فأخرجوهم منها ، ثم أقبلت العرب الآن نحو الأردن ، نحو صاحبهم هذا الذي كتب إليكم ، والروم يسوقونهم سوقا عنيفا ، فتباشروا بذلك وسروا به ، ودعوا العلج الذي بعث به إليهم عمرو بن العاص ، وقالوا : اذهب بكتابنا هذا إلى صاحبك ، وكتبوا معه : أما بعد ، فإنك كتبت إلينا تزكى نفسك وتعيبنا ، وقول الباطل لا ينفع قائله نفسه ولا يضر عدوه ، وقد فهمنا ما دعوتنا إليه ، وهؤلاء ملوكنا وأهل ديننا قد جاؤكم ، فإن أظهرهم الله عليكم فذلك بلاؤه عندنا فى القديم ، وإن ابتلانا بظهوركم ، فلعمرى لنقرن ، لكم بالصغار ، وما نحن إلا كمن ظهرتم عليه من إخواننا ، ثم دانوا لكم وأعطوكم ما سألتم.

فقدم الرسول بهذا الكتاب على عمرو ، فقال له : ما حبسك؟ فأخبره الخبر ، فلم يكن إلا يومه ذلك حتى قدم خالد بن الوليد فى مقدمة أبى عبيدة ، فجاء حتى نزل اليرموك ، وأقبل عمرو حتى نزل معه.

وقعة اليرموك (٢) على نحو ما حكاه أصحاب كتب فتوح الشام

قالوا (٣) : ولما اجتمع جمع المسلمين باليرموك استشار أبو عبيدة أهل الرأى من

__________________

(١) قنسرين : مدينة بالشام ، وهى الجابية ، بينها وبين حلب اثنا عشر ميلا. انظر : الروض المعطار (٤٧٣).

(٢) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١١٨ ـ ١٢٣) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٣٩٦).

(٣) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٦٩ ـ ١٧١).

٢٥٩

المسلمين : أين ترون أن نعسكر حتى يقدم مددنا؟ فقال يزيد بن أبى سفيان : أرى أن نسير بمن معنا إلى أيلة ، فنقيم بها حتى يقدم علينا المدد. فقال عمرو : ما أيلة إلا كبعض الشام ، ولكن سر بنا حتى ننزل الحجر فننتظر المدد ، فقال قيس بن هبيرة : لا ردنا الله إذا إليها إن خرجنا لهم عن الشام أكثر مما خرجنا لهم عنه ، أتدعون هذه العيون المتفجرة ، والأنهار المطردة ، والزروع والأعناب ، والذهب والفضة والحرير ، وترجعون إلى أكل الضباء وليس العباء والبؤس والشقاء وأنتم تعلمون أن من قتل منكم صار إلى الجنة وأصاب نعيما لا يشاكله نعيم ، فأين تدعون الجنة وتهربون منها؟ وتزهدون فيها وتأتون الحجر. لا صحب الله من سار إلى الحجر ولا حفظه. فقال له خالد بن الوليد : جزاك الله خيرا يا قيس ، فإن رأيك موافق لرأيى.

وفى حديث عن أبى معشر : أن الروم حين جاشت على المسلمين ودنوا منهم دعا أبو عبيدة رءوس المسلمين واستشارهم ، فذكر من مشورة يزيد بن أبى سفيان عليه ، وعمرو ابن العاص نحوا مما تقدم. قال : وخالد بن الوليد ساكت يسمع ما يقولون ، وكان يرحمه‌الله إذا كانت شدة فإليه وإلى رأيه يفزعون ، إذ كان لا يهوله من أمر الروم شيء ، ولا يزداد بما يبلغه عنهم إلا جرأة عليهم ، فقال له أبو عبيدة : ما ذا ترى يا خالد؟ فقال : أرى والله أنا إن كنا إنما نقاتل بالكثرة والقوة فهم أكثر منا وأقوى علينا ، وإن كنا إنما نقاتلهم بالله ولله فما أرى أن جماعتهم ولو كانوا أهل الأرض جميعا تغنى عنهم شيئا ، ثم غضب ، فقال لأبى عبيدة : أتطيعنى أنت فيما آمرك به؟ قال : نعم. قال : فولنى ما وراء بابك ، وخلنى والقوم ، فإنى والله لأرجو أن ينصرنا الله عليهم ، قال : قد فعلت ، فولاه ذلك ، فكان خالد من أعظم الناس بلاء ، وأحسنه غناء وأعظمه بركة ، وأيمنه نقيبة ، وكانوا أهون عليه من الكلاب.

وعن مالك بن قسامة بن زهير ، عن رجل من الروم يدعى جرجة ، كان قد أسلم فحسن إسلامه ، قال : كنت فى ذلك الجيش الذي بعث قيصر من أنطاكية مع باهان ، فأقبلنا ونحن لا يحصى عددنا إلا الله ، ولا نرى أن لنا غالبا من الناس ، فأخرجنا أوائل العرب من أرض قنسرين ثم أقبلنا فى آثارهم حتى أخرجناهم من حمص ، ثم أقبلنا فى آثارهم حتى أخرجناهم من دمشق. قال : ولحق بنا كل من كان على ديننا من النصارى ، حتى إن كان الراهب لينزل عن صومعته وقد كان فيها دهرا طويلا من دهره ، فيتركها وينزل إلينا ليقاتل معنا غضبا لدينه ومحاماة عليه ، وكان من كان من العرب بالشام ممن

٢٦٠