الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

عبيدة ذا الكلاع حتى كان بين دمشق وحمص ردءا. وبعث علقمة بن حكيم ومسروقا فكانا بين دمشق وفلسطين ، والأمير يزيد.

وقدم خالد وأبو عبيدة وعمرو وشرحبيل على دمشق فنزلوا حواليها وحاصروا أهلها حصارا شديدا نحوا من سبعين ليلة ، وقاتلوهم قتالا عظيما بالزحوف والترامى والمجانيق ، وهم معتصمون بالمدينة ، يرجون الغياث ، وهرقل منهم قريب بحمص ، ومدينة حمص بينه وبين المسلمين وذو الكلاع بين المسلمين وبين حمص على رأس ليلة من دمشق ، كأنه يريد حمص.

وجاءت جنود هرقل مغيثة لأهل دمشق ، فأشجتها الخيول التي مع ذى الكلاع وشغلتها ، فلما أيقن أهل دمشق أن الأمداد لا تصل إليهم فشلوا ووهنوا وأبلسوا ، وازداد المسلمون طمعا فيهم ، وكانوا قبل يرون أنها كالغارات ، وأنه إذا جاء البرد قفل الناس ، فسقط النجم والمسلمون مقيمون ، فعند ذلك انقطع رجاء الروم وندموا على دخول دمشق ، واتفق أن ولد للبطريق الذي دخل على أهل دمشق مولود ، فصنع عليه طعاما ، فأكل القوم وشربوا ، وغفلوا عن مواقفهم ، ولا يشعر بذلك أحد من المسلمين إلا ما كان من خالد ، فإنه كان لا ينام ولا ينيم ، ولا يخفى عليه من أمرهم شيء ، عيونه ذاكية وهو معنى بما يليه ، قد اتخذ حبالا كهيئة السلالم وأوهاقا (١) ، فلما أمسى من ذلك اليوم نهد هو ومن معه من جنوده الذين قدم بهم ، وتقدمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدى وأمثالهما.

وقالوا : إذا سمعتم تكبيرنا على السور فارقوا إلينا وانهدوا للباب وائتوا من الباب الذي كان خالد يليه ، فقطعوا الخندق سبحا على ظهورهم القرب ، ثم رموا بالحبال الشرف. فلما ثبت لهم وهقان تسلق القعقاع ومذعور ثم لم يدعا أحبولة إلا أثبتاها والأوهاق بالشرف ، وكان المكان الذي اقتحموا منه خندقهم أحصن مكان يحيط بدمشق ، أكثره ماء ، وأشده مدخلا ، وتوافوا لذلك ، فلم يبق ممن دخل معه أحد إلا رقى أو دنا من الباب ، حتى إذا استووا على السور حدر عامة أصحابه ، وانحدر معهم ، فكبر الذين على رأس السور ، فنهد المسلمون إلى الباب ، ومال إلى الحبال بشر كثير ، فوثبوا فيها ، وانتهى خالد إلى أول من يليه فأنامهم ، وانحدر إلى الباب فقتل البوابين ، وثار أهل المدينة ، وفزع سائر الناس فأخذوا مواقفهم ولا يدرون من الشأن ، وتشاغل أهل كل

__________________

(١) الأوهاق : جمع وهق ، وهو الحبل فى طرفيه أنشوطة يطرح فى عنق الدابة أو الإنسان حتى يؤخذ.

٢٢١

ناحية مما يليهم وقطع خالد ومن معه أغلاق الباب بالسيوف ، وفتحوا للمسلمين ، فأقبلوا عليهم من داخل حتى ما بقى مما يلى باب خالد مقاتل إلا أنيم.

ولما شد خالد على من يليه ، وبلغ منهم الذي أراد عنوة أرز من أفلت إلى أهل الأبواب التي كان يليها غير خالد ، وقد كان المسلمون دعوهم إلى المشاطرة فأبوا وأبعدوا ، فلم يفجأهم إلا وهم يبوحون لهم بالصلح ، فأجابهم المسلمون وقبلوا منهم ، ففتحوا لهم الأبواب ، وقالوا : ادخلوا وامنعونا من أهل ذلك الباب ، فدخل أهل كل باب بصلح مما يليهم ، ودخل خالد مما يليه عنوة ، فالتقى خالد والقواد فى أوساطها ، هذا استعراضا وانتهابا ، وهذا صالحا وتسكينا ، فأجروا ناحية خالد مجرى الصلح ، فصار كل ذلك صالحا ، وكان صلح دمشق على مقاسمة الديار والعقار ، ودينار على كل رأس ، وعلى جريب من كل حرث أرض ، واقتسموا الأسلاب ، فكان أصحاب خالد فيها كأصحاب سائر القواد ، ووقف ما كان للملوك ومن صوب معهم فيئا ، وقسموا لذى الكلاع ومن معه ، ولأبى الأعور ومن معه ، وبعثوا بالبشارة إلى عمر.

وقدم على أبى عبيدة كتاب عمر : أن اصرف جند العراق إلى العراق ، وأمرهم بالحث إلى سعد بن مالك. فأمر عليهم أبو عبيدة هاشم بن عتبة ، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو ، وعلى مجنبتيه عمرو بن مالك الزهرى ، وربعى بن عامر ، وخرج هاشم نحو العراق فى جند العراق ، وكانوا عشرة آلاف إلا من أصيب منهم فأتموهم بأناس ممن لم يكن منهم ، كقيس والأشطر ، وخرج القواد نحو فحل ، وخرج علقمة ومسروق إلى إيلياء ، فنزلا على طريقها ، وبقى بدمشق مع يزيد بن أبى سفيان من قواد أهل اليمن عدد ، وبعث يزيد ، دحية بن خليفة الكلبى فى خيل بعد فتح دمشق إلى تدمر ، وأبا الزهراء القشيرى إلى البثنية وحوران ، فصالحوهما على صلح دمشق ، ووليا القيام على فتح ما بعثا إليه (١).

وكان الذي سار على الناس نحو فحل شرحبيل بن حسنة ، على ما ذكره سيف عن أشياخه ، قالوا : وبعث خالدا على المقدمة ، وأبا عبيدة وعمرا على مجنبتيه ، وعلى الخيل ضرار بن الأزور ، وعلى الرجال عياض ، وكرهوا أن يصمدوا لهرقل ، وخلفهم من الروم ثمانون ألفا بإزاء فحل ينظرون إليهم ، فلما انتهوا إلى أبى الأعور قدموه إلى طبرية ، فحاصرها ونزلوا هم على فحل من أرض الأردن ، وقد كان أهلها حين نزل بهم أبو الأعور تركوها وأرزوا إلى بيسان وجعلوا بينهم وبين المسلمين تلك المياه والأوحال ،

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٣٨).

٢٢٢

وكتب المسلمون إلى عمر بالخبر ، وأقاموا بفحل لا يريدون أن يريموها حتى يرجع جواب عمر ، ولا يستطيعون الإقدام على العدو من مكانهم لما دونهم من الأوحال.

وأصاب المسلمون من ريف الأردن أفضل مما فيه المشركون ، مادتهم متواصلة ، وخصبهم رغد ، ورجاء الروم أن يكون المسلمون على غرة ، فقصدوهم ليلا ، والمسلمون على حذر لا يأمنون مجيئهم ، وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة ، فلما هجموا على المسلمين غافصوهم ، ولم يناظروهم ، فاقتتلوا بفحل كأشد قتال اقتتلوا قط ليلتهم ويومهم إلى الليل ، فأظلم الليل عليهم وقد حاروا ، فانهزموا ، وقد أصيب رئيسهم سقلار بن مخراق ، والذي يليه فيهم نسطورس ، وظفر المسلمون بهم كأحسن الظفر وأهنئه ، وركبوهم وهم يرون أنهم على قصد ، فوجدوهم حيارى لا يعرفون مأخذهم ، فأسلمتهم هزيمتهم وحيرتهم إلى الوحل ، فركبوه ، ولحق بهم أوائل المسلمين وقد وحلوا فيه ، فوخزوهم بالرماح وهم لا يمنعون يد لامس ، وقتلوا فى الرداغ ، فما أفلت من أولئك الثمانين ألفا إلا الشريد ، وكان الله يصنع للمسلمين وهم كارهون ، كرهوا البثوق فكانت عونا لهم على عدوهم ، وآية من الله ليزدادوا بصيرة وجدا ، واقتسموا ما أفاء الله عليهم ، وانصرف أبو عبيدة بخالد من فحل إلى حمص ، وصرفوا بشير بن كعب معهم ، ومضوا بذى الكلاع ومن معه ، وخلوا شرحبيل بن حسنة ومن معه (١).

ذكر بيسان (٢)

ولما فرغ شرحبيل من وقعة فحل نهد بالناس إلى بيسان ومعه عمرو ، فنزلوا عليها ، وأبو الأعور والقواد معه على طبرية ، وقد بلغ أفناء أهل الأردن ما لقيت دمشق ، وما لقى سقلار والروم بفحل وفى الردغة ، ومسير شرحبيل إليهم ، فتحصنوا بكل مكان ، وحصر شرحبيل أهل بيسان أياما. ثم خرجوا يقاتلونه ، فقتل المسلمون من خرج إليهم منهم ، وصالح بقية أهلها.

ذكر طبرية (٣)

وبلغ أهل طبرية ، فصالحوا أبا الأعور على أن يبلغهم شرحبيل ، ففعل ، وصالحهم

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٣٣٦ ـ ٣٤١).

(٢) انظر : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٤٤) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٤٤٣).

(٣) انظر : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٤٤) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٤٤٤).

٢٢٣

شرحبيل وأهل بيسان على صلح دمشق ، على أن يشاطروا المسلمين المنال فى المدائن ، وما أحاط بها مما يصلها ، فيدعوا لهم نصفا ، ويأخذوا نصفا ، وعلى كل رأس دينار كل سنة ، ومن كل حرث أرض جريب بر أو شعير ، أى ذلك حرث ، وأشياء صالحوهم عليها. ونزلت القواد وخيولهم فيها.

وتم صلح الأردن ، وتفرقت الأمداد فى مدائنها وقراها ، وكتب إلى عمر بالفتح.

حديث مرج الروم من رواية سيف أيضا

قال (١) : خرج أبو عبيدة بخالد بن الوليد من فحل إلى حمص ، وبمن تضيف إليهم من اليرموك ، فنزلوا جميعا على ذى الكلاع ، وقد بلغ الخبر هرقل ، فبعث توذرا البطريق حتى نزل بمرج دمشق وغربها ، فبدأ أبو عبيدة بمرج الروم وجمعهم هذا به ، وقد هجم الشتاء عليهم والجراح فيهم فاشية ، فلما نزل على القوم بمرج الروم نازله ، يوم نزل عليه شنس الرومى ، فى مثل خيل توذرا ، إمدادا لتوذرا وردءا لأهل حمص ، فنزل فى عسكره على حدة.

فلما كان من الليل فر توذرا ، فأصبحت الأرض منه بلاقع ، وكان خالد بإزائه وأبو عبيدة بإزاء شنس ، وأتى خالدا الخبر برحيل توذرا إلى جهة دمشق ، فأجمع رأيه ورأى أبى عبيدة أن يتبعه خالد ، فأتبعه من ليلته فى جريدة ، وبلغ يزيد بن أبى سفيان ما فعل توذرا ، فاستقبله ، فاقتتلوا ، ولحق بهم خالد وهم يقتتلون ، فأخذهم من خلفهم ، فقتلوا من بين أيديهم ومن خلفهم ، فلم يفلت منهم إلا الشريد ، وقتل يزيد توذرا ، وأصاب المسلمون ما شاءوا من ظهر وأداة وثياب ، وقسم ذلك يزيد على أصحابه وأصحاب خالد ، ثم انصرف يزيد إلى دمشق ، وانصرف خالد إلى أبى عبيدة ، وبعد خروج خالد فى أثر توذرا ناهد أبو عبيدة شنس ، فاقتتلوا بمرج الروم ، فقتلهم أبو عبيدة مقتلة عظيمة ، حتى امتلأ المرج من قتلاهم ، وأنتنت منهم الأرض. وقتل أبو عبيدة شنس ، وهرب من هرب منهم ، فلم يقلهم ، وركب أقفاءهم إلى حمص.

فهذا ما ذكر سيف من حديث دمشق ، وفحل ، ومرج الروم ، وسائر ما ذكر معها أوردناه مهذبا مقربا ، ثم نعود إلى تتمة ما وقع فى كتب فتوح الشام مما يخالف ما ذكره سيف من بعض الوجوه ليوقف على كل ما ذكروه مما اتفقوا عليه واختلفوا فيه.

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٥٩٨ ـ ٥٩٩).

٢٢٤

قالوا (١) : إن أبا عبيدة لما ظهر على دمشق أمر عمرو بن العاص بالمسير إلى أرض الأردن وفلسطين ، فيكون فيما بينهما ، ولا يقدم على المدينتين وجمع الروم بهما ، ولكن ينزل أطراف الرساتيق ، ويغير بالخيل عليهم من كل جانب ، ويصالح من صالحه.

فخرج عمرو حتى واقع أرض الأردن ، فلما بلغ أهل الأردن وفلسطين فتح دمشق وتوجه الجيش إليهم هالهم ذلك ورعبهم ، وأشفقوا على مدائنهم أن تفتح ، فاجتمع من كان بها من الروم ونزلوا من حصونهم ، ووافاهم أهل البلد ، وكثير من نصارى العرب ، فكثر جمعهم ، وكتبوا إلى قيصر يستمدونه وهو بأنطاكية ، فبعث إلى أولئك الذين كان وجههم مددا لأهل دمشق فأقاموا ببعلبك لما بلغهم خبر فتحها أن يسيروا إليهم.

وكتب عمرو إلى أبى عبيدة : أما بعد ، فإن الروم قد أعظمت فتح دمشق ، فاجتمعوا من نواحى الأردن وفلسطين ، فعسكروا وقد تعاقدوا وتواثقوا وتحالفوا بالله : لا يرجعون إلى النساء والأولاد أو يخرجون العرب من بلادهم ، والله مكذب أملهم ، ومبطل قولهم ، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. فاكتب إلىّ برأيك فى هذا الحديث ، أرشد الله رأيك وسددك وأدام رشدك ، والسلام.

وقدم بهذا الكتاب رسول عمرو ، وقد استشار أبو عبيدة أصحابه فى المسير بهم إلى حمص ، وقال : إن الله تعالى ، قد فتح هذه المدينة ، يعنى دمشق ، وهى من أعظم مدائن الشام ، وقد رأيت أن أسير إلى حمص ، لعل الله يفتحها علينا ، وهذا عمرو بن العاص من ورائنا ، فلسنا نتخوف أن نؤتى من هناك.

فقال له خالد بن الوليد ، ويزيد بن أبى سفيان ، ومعاذ بن جبل ورءوس المسلمين : فإنك قد أصبت ووفقت ، فسر بنا إليهم.

فإنهم لكذلك فى هذا الرأى إذ قدم عليهم كتاب عمرو الذي تقدم ، فلما قرأه أبو عبيدة ألقاه إلى خالد ، وقال : قد حدث أمر غير ما كنا فيه ، ثم قرءوا الكتاب على من حضرهم ، فقال يزيد : امدد عمرا ومره بمواقعة القوم وأقم أنت بمكانك. فقال أبو عبيدة : ما ذا ترى أنت يا خالد؟ قال : أرى أن تنظر ما يصنع هذا الجيش الذي ببعلبك ، فإن هم ساروا منها إلى إخوانهم سرت إلى إخوانك فلقيتهم بجماعة المسلمين ، وإن هم أقاموا أمددت عمرا ، وبعثت إلى هؤلاء من يقاتلهم ، وأقمت أنت بمكانك. فقال له : نعم ما رأيت ، فسير أبو عبيدة شرحبيل بن حسنة إلى عمرو ، وقال له : لا تخالفه. فخرج

__________________

(١) انظر : فتوح الشام للأزدى (ص ١٠٦).

٢٢٥

شرحبيل فى ألفين وثمانمائة ، فقدم على عمرو ، وعمرو فى ألفين وخمسمائة.

وقال أبو عبيدة لخالد : ما لهذا الجيش النازل ببعلبك إلا أنا وأنت أو يزيد. فقال له خالد : لا ، بل أنا أسير إليهم. فقال : أنت لهم.

فبعثه أبو عبيدة فى خمسة آلاف فارس ، وخرج معه يشيعه ، فسار معه قليلا ، فقال له خالد : ارجع رحمك الله ، إلى عسكرك ، فقال له : يا خالد ، أوصيك بتقوى الله ، وإذا أنت لقيت القوم فلا تناظرهم ولا تطاولهم فى حصونهم ، ولا تذرهم يأكلون ويشربون وينتظرون أن تأتيهم أمدادهم ، وإذا لقيتهم فقاتلهم ، فإنك إن هزمتهم انقطع رجاؤهم ، وإن احتجت إلى مدد فأعلمنى حتى يأتيك من المدد حاجتك ، وإن احتجت أن آتيك بنفسى أتيتك إن شاء الله. ثم أخذ بيده فودعه ، ثم انصرف عنه.

ويجىء رسول قيصر إلى الذين ببعلبك ، فأمرهم باللحاق بأولئك الذين اجتمعوا ببيسان ، فخرجوا إليهم ، وأخرجوا معهم ناسا كثيرا من أهل بعلبك ، وأتاهم ناس كثير من أهل حمص غضبا لدينهم وشفقا من أن تفتح مدينتهم كما فتحت دمشق ، فخرجوا وهم أكثر من عشرين ألفا متوجهين إلى الجمع الذي ببيسان منهم ، وجاء خالد حتى انتهى إلى بعلبك ، فأخبر الخبر ، فأغاز على نواحى بعلبك ، فقتل وسبى واستاق من المغانم شيئا كثيرا ، وأقبل راجعا إلى أبى عبيدة فأخبره ، واجتمع رأيهم على أن يسير أبو عبيدة بجماعة الناس إلى ذلك الجمع من الروم ، فقدم خالد فى ألف وخمسمائة ، فارس أمامهم ، وأمرهم ، وأمره بالإسراع إلى عمرو وأصحابه ليشد الله بهم ظهورهم ، وليرى الروم أن المسلمين قد أتوهم ، فأقبل خالد مسرعا فى آثار الروم فلحقهم وقد دخل أوائلهم عسكرهم ، فحمل على أخرياتهم ، فقتل منهم مقتلة عظيمة ، وأصاب كثيرا من أثقالهم ، وأفلت من أفلت منهم منهزمين حتى دخلوا عسكرهم ، وجاء خالد فى خيله حتى نزل قريبا من عمرو ، ففرح المسلمون بهم ، وكان عمرو يصلى بأصحابه الذين كانوا معه ، وخالد يصلى بأصحاب الخيل التي أقبل فيها.

وقعة فحل حسبما فى كتب فتوح الشام(١)

قالوا : فلما بلغ الروم أن أبا عبيدة قد أقبل إليهم تحولوا إلى فحل فنزلوا بها ، وجاء المسلمون بأجمعهم حتى نزلوا بهم ، وخرج علقمة بن الأرث فجمع من أطاعه من بنى

__________________

(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٤٢) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٤٣٤).

٢٢٦

القين ، وجاءت لخم وجذام وعاملة وغسان ، وقبائل من قضاعة ، فدخلوا مع المسلمين ، وأخذ أهل البلد من النصارى يراسلون المسلمين ، فيقدمون رجلا ويؤخرون أخرى ، ويقولون : أنتم أحب إلينا من الروم وإن كنتم على غير ديننا ، أنتم أوفى لنا وأرأف بنا وأكف عن ظلمنا ، ولكنهم غلبونا على أمرنا ، فيقول لهم المسلمون : إن هذا ليس بنافعكم عندنا ما لم تعتقدوا منا الذمة ، وإنا إن ظهرنا عليكم كان لنا أن نسبيكم ونستعبدكم ، وإن اعتقدتم منا الذمة سلمتم من ذلك ، فكانوا يتربصون وينتظرون ما يكون من أمر قيصر ، وقد بلغهم أنه بعث إلى أقاصى بلاده ، وإلى كل من كان دينه ممن حوله ، وأنهم فى كل يوم يقدمون عليه ويسقطون إليه ، فهم ينتظرون ما يكون منه ، وهم مع ذلك بموضعهم بين الثلاثين ألفا والأربعين ألفا (١).

وكان المسلمون حيث نزلوا بهم ليس شيء أحب إليهم من معاجلتهم ، وكانوا هم ليس شيء أحب إليهم من مطاولة المسلمين رجاء المدد من صاحبهم ، ولأن المسلمين ليسوا فى مثل ما الروم فيه من الخصب والكفاية.

وأقبلت الروم يبثقون المياه بينهم وبين المسلمين ليطاولوهم ، وأقبل المسلمون يخوضون إليهم الماء ويمشون فى الوحل ، فلما رأى ذلك الروم ، وأنه لا يمنعهم منهم شيء خرجوا فعسكروا وتيسروا للقتال ، ووطنوا أنفسهم عليه ، وكانوا كل يوم فى زيادة من الأمداد الواصلة إليهم.

فأمر أبو عبيدة المسلمين حيث بلغه ذلك أن يغيروا عليهم وعلى ما حولهم من القرى والسواد والرساتيق ، ففعلوا ، وقطعوا بذلك المادة والميرة.

فلما رأى ذلك ابن الجعد أتى أبا عبيدة فصالحه على سواد الأردن ، وكتب له كتابا.

وكان صفوان بن المعطل ، ومعن بن يزيد بن الأخنس السليمان قد خرجا فى خيل لهما فأغارا ، فغنما ، فلما انصرفا عرضت لهم الروم فقاتلوهم ، وإنما كان المسلمون فى نحو من مائة رجل والروم فى خمسة آلاف مع درنجار عظيم منهم ، فطاردوهم وصبروا لهم ، واحتسبوا فى قتالهم ، ثم إن الروم غلبوهم على غنيمتهم. وجاء حابس بن سعد الطائى فى نحو من مائة رجل ، فحمل عليهم فزالوا غير بعيد ، ثم حملوا عليه فردوه وأصحابه حتى ألحقوهم بالمسلمين ، ثم انصرفوا وقد بغوا ، وهم يعدون هذا ظفرا ، ولم يقتلوا أحدا ، ولم يهزموا جمعا ، فلما انصرفوا إلى عسكرهم أرسلوا إلى أبى عبيدة : أن

__________________

(١) انظر هذا الخبر وما بعده فى : تاريخ فتوح الشام للأزدى (ص ١١١ ـ ١٣٠).

٢٢٧

اخرج أنت ومن معك من بلادنا التي تنبت الحنطة والشعير والفواكه والأعناب ، فلستم لها بأهل ، وارجعوا إلى بلادكم ، بلاد البؤس والشقاء ، وإلا أتيناكم فيما لا قبل لكم به ، ثم لم ننصرف عنكم وفيكم عين تطرف.

فرد عليهم أبو عبيدة : أما قولكم : أخرجوا من بلادنا فلستم لها بأهل ، فلعمرى ما كنا لنخرج عنها وقد أورثناها الله ونزعها من أيديكم ، وإنما البلاد بلاد الله ، والعباد عباد الله ، والله ملك الملوك ، يؤتى الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء. وأما قولكم فى بلادنا أنها بلاد البؤس والشقاء ، فصدقتم ، إنها لكذلك ، وقد أبدلنا الله بها بلادكم ، بلاد العيش الرفيع والسعر الرخيص والجناب الخصيب ، فلا تحسبونا تاركيها ولا منصرفين عنها حتى نفنيكم أو نخرجكم منها ، ولكن أقيموا ، فو الله لا نجشمكم أن تأتونا ، ولنأتينكم إن أنتم أقمتم لنا ، فلا نبرح حتى نبيد خضراءكم ، ونستأصل شأفتكم إن شاء الله تعالى.

فلما جاءهم ذلك عنهم أيقنوا بجد القوم ، فأرسلوا إليهم ، أن ابعثوا إلينا رجلا من صالحائكم نسأله عما تريدون وما تسألون وما تدعون إليه ، ونخبره بذات أنفسنا ، وندعوكم إلى حظكم إن قبلتم.

فأرسل إليهم أبو عبيدة ، معاذ بن جبل ، فأتاهم على فرس له ، فلما دنا منهم نزل عن فرسه ، ثم أخذ بلجامه وأقبل إليهم يقوده ، فقالوا لبعض غلمانهم : انطلق إليه فأمسك له فرسه ، فجاء الغلام ليفعل ، فقال له معاذ : أنا أمسك فرسى ، لا أريد أن يمسكه أحد غيرى ، وأقبل يمشى إليهم ، فإذا هم على فرش وبسط ونمارق تكاد الأبصار تغشى منها ، فلما دنا من تلك الثياب قام قائما ، فقال له رجل منهم : أعطنى هذه الدابة أمسكها لك ، وادن أنت فاجلس مع هذه الملوك مجالسهم ، فإنه ليس كل أحد يقدر أن يجلس معهم ، وقد بلغهم عنك صلاح وفضل فيمن أنت منه ، فهم يكرهون أن يكلموك جلوسا وأنت قائم.

فقال لهم معاذ ، والترجمان يفسر لهم ما يقول : إن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرنا أن لا نقوم لأحد من خلق الله ، ولا يكون قيامنا إلا الله فى الصلاة والعبادة والرغبة إليه ، فليس قيامى هذا لكم ، ولكن قمت إعظاما للمشى على هذه البسط والجلوس على هذه النمارق التي استأثرتم بها على ضعفائكم ، وإنما هى من زينة الدنيا وغرورها ، وقد زهد الله فى الدنيا وذمها ، ونهى عن البغى والسرف فيها ، فأنا أجلس هاهنا على الأرض ، وكلمونى أنتم

٢٢٨

بحاجتكم من ثم ، وأقيموا الترجمان بينى وبينكم ، يفهمنى ما تقولون ، ويفهمكم ما أقول ، ثم أمسك برأس فرسه وجلس على الأرض عند طرف البساط. فقالوا له : لو دنوت فجلست معنا كان أكرم لك ، إن جلوسك مع هذه الملوك على هذه المجالس مكرمة لك ، وإن جلوسك على الأرض متنحيا صنيع العبد بنفسه ، فلا نراك إلا قد أزريت بنفسك.

فلما أخبره الترجمان بمقالتهم جثا على ركبتيه واستقبل القوم بوجهه ، وقال للترجمان : قل لهم : إن كانت هذه المكرمة التي تدعوننى إليها استأثرتم بها على من هو مثلكم إنما هى للدنيا ، فلا حاجة لنا فى شرف الدنيا ولا فى فخرها ، وإن زعمتم أن هذه المجالس والدنيا التي فى أيدى عظمائكم وهم مستأثرون بها على ضعفائكم مكرمة لمن كانت فى يده منكم عند الله ، فهذا خطأ من قولكم ، وجور من فعلكم ، ولا يدرك ما عند الله بالخطإ ، ولا بخلاف ما جاء به الأنبياء عن الله من الزهادة فى الدنيا.

وأما قولكم إن جلوسى على الأرض متنحيا صنيع العبد بنفسه ، ألا فصنيع العبد بنفسه صنعت ، أنا عبد من عبيد الله جلست على بساط الله ، ولا أستأثر من مال الله بشيء على إخوانى من أولياء الله ، وأما قولكم أزريت بنفسى فى مجلسى ، فإن كان ذلك إنما هو عندكم وليس كذلك عند الله ، فلست أبالى كيف كانت منزلتى عندكم إذا كنت عند الله على غير ذلك ، وإن قلتم أن ذلك عند الله فقد أخطأتم خطأ بينا ، لأن أحب عباد الله إلى الله المتواضعون لله القريبون من عباد الله ، الذين لا يشغلون أنفسهم بالدنيا ، ولا يدعون التماس نصيبهم من الآخرة.

فلما فسر لهم الترجمان هذا الكلام نظر بعضهم إلى بعض وتعجبوا مما سمعوا منه ، وقالوا لترجمانهم : قل له : أنت أفضل أصحابك؟ فلما قال له ، قال : معاذ الله أن أقول ذلك ، وليتنى لا أكون شرهم ، فسكتوا عنه ساعة لا يكلمونه ، وتكلموا فيما بينهم ، فلما رأى ذلك قال لترجمانهم : إن كانت لهم حاجة فى كلامى وإلا انصرفت عنهم ، فلما أخبرهم قالوا : قل له : أخبرونا ما تطلبون؟ وإلام تدعون؟ ولما ذا دخلتم بلادنا وتركتم أرض الحبشة وليسوا منكم ببعيد ، وأهل فارس وقد هلك ملكهم وهلك ابنه ، وإنما يملكهم اليوم النساء ، ونحن ملكنا حى وجنودنا عظيمة ، وإن أنتم افتتحتم من مدائننا مدينة أو من قرانا قرية أو من حصوننا حصنا أو هزمتم لنا جندا أظننتم أنكم ظفرتم بجماعتنا أو قطعتم عنكم حربنا وفرغتم مما وراءنا ، ونحن عدد نجوم السماء وحصى الأرض؟ وأخبرونا بم تستحلون قتالنا وأنتم تؤمنون بنبينا وكتابنا؟.

٢٢٩

فلما قالوا هذا القول وفسره الترجمان لمعاذ ، سكتوا ، فقال معاذ للترجمان : أقد فرغوا؟ قال : نعم ، قال : فأفهم عنى ، إن أول ما أنا ذاكر : حمدا لله الذي لا إله إلا هو ، والصلاة على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأول ما أدعوكم إليه أن تؤمنوا بالله وحده ، وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن تصلوا صلاتنا ، وتستقبلوا قبلتنا ، وأن تستسنوا بسنة نبينا ، وتكسروا الصليب ، وتجتنبوا شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، ثم أنتم منا ونحن منكم ، وأنتم إخواننا فى ديننا ، لكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وإن أبيتم ، فأدوا الجزية فى كل عام إلينا عن يد وأنتم صاغرون ، فإن أنتم أبيتم هاتين الخصلتين فليس شيء مما خلق الله نحن قابلوه منكم ، فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا ، وهو خير الحاكمين ، فهذا ما نأمركم به وما ندعوكم إليه.

وأما قولكم : ما أدخلكم بلادنا وتركتم أرض الحبشة وليسوا منكم ببعيد ، وأهل فارس وقد هلك ملكهم ، فإنى أخبركم عن ذلك ، ما بدأنا بقتالكم أن يكونوا آثر عندنا منكم ، إنكم جميعا لسواء ، وما حابيناهم بالكف عنهم إذ بدأنا بكم ، ولكن الله تبارك وتعالى ، أنزل فى كتابه على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة : ١٢٢] ، فكنتم أقرب إلينا منهم ، فبدأنا بكم لذلك ، ثم لقد أتتهم طائفة منا بعدنا ، فإنهم اليوم ليقاتلونهم ، وإنا لنرجو أن يعزهم الله ويفتح عليهم ، وأما قولكم : إن ملكنا حى ، وإن جنودنا عظيمة ، وإنا عدد نجوم السماء وحصى الأرض وتؤيسونا من الظهور عليكم ، فإن الأمر فى ذلك ليس إليكم ، وإن الأمور كلها لله ، وكل شيء فى قبضته وقدرته ، وإذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون ، فإن يكن ملككم هرقل فإنما ملكنا نحن الله تبارك وتعالى ، وأميرنا رجل منا ، إن عمل فينا بكتاب ربنا وسنة نبينا أقررناه ، وإن غير عزلناه ، ولا يحتجب منا ، ولا يتكبر علينا ، ولا يستأثر علينا فى فيئنا الذي أفاء الله عزوجل ، علينا ، وهو فيه كرجل منا. وأما جنودنا ، فإنها وإن عظمت وكثرت حتى تكون أكثر من نجوم السماء وحصى الأرض ، فإنا لا نثق بها ولا نتكل عليها ، ولكنا نتبرأ من الحول والقوة ، ونتوكل على الله ونثق به ، وكم من فئة قليلة قد أعزها الله ونصرها وأعانها ، وكم من فئة كثيرة قد أذلها الله سبحانه ، وأهانها قال الله تبارك وتعالى : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة : ٢٤٩].

وأما قولكم : كيف تستحلون قتالنا وأنتم مؤمنون بنبينا وكتابنا ، فأنا أخبركم عن ذلك : نحن نؤمن بنبيكم ، ونشهد أنه عبد من عباد الله ورسول من رسل الله ، وأن مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ، ثم قال له كن فيكون ، ولا نقول : إنه الله ، ولا أنه

٢٣٠

ثانى اثنين ولا ثالث ثلاثة ، ولا أن لله عزوجل ، ولدا ولا صاحبة ، ولا أن مع الله آلهة أخرى ، لا إله إلا هو ، تعالى عما تقولون علوا كبيرا ، وأنتم تقولون فى عيسى قولا عظيما ، ولو أنكم قلتم فى عيسى كما نقول ، وآمنتم بنبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تجدونه فى كتابكم ، وكما نؤمن نحن بنبيكم ، وأقررتم بما جاء به من عند الله ، ووحدتم الله ، ما قاتلناكم ، بل سالمناكم وواليناكم وقاتلنا عدوكم معكم.

فلما فرغ معاذ من مخاطبتهم قالوا له : ما نرى ما بيننا وبينكم إلا متباعدا ، وقد بقيت خصلة ونحن عارضوها عليكم ، فإن قبلتموها منا فهو خير لكم ، وإن أبيتم فهو شر لكم : نعطيكم البلقاء وما والى أرضكم من سواد الأردن ، وتتحولون عن بقية أرضنا ، وعن مدائننا ، ونكتب عليكم كتابا نسمى فيه خياركم وصالحاءكم ، ونأخذ فيه عهودكم ومواثيقكم أن لا تطلبوا من أرضنا غير ما صالحناكم عليه ، وعليكم بأهل فارس فقاتلوهم ونحن نعينكم عليهم حتى تقتلوهم أو تظهروا عليهم.

فقال لهم معاذ : هذا الذي تعطوننا هو كله فى أيدينا ، ولو أعطيتمونا جميع ما فى أيديكم مما لم نظهر عليه ومنعتمونا خصلة من الخصال الثلاث التي وصفت لكم ما فعلنا. فغضبوا ، وقالوا : أنتقرب منكم وتتباعد منا ، اذهب إلى أصحابك ، فو الله إنا لنرجو أن نقرنكم غدا فى الحبال. فقال معاذ : أما فى الحبال فلا ، ولكن والله لتقتلننا عن آخرنا أو لنخرجنكم منها أذلة وأنتم صاغرون.

ثم انصرف إلى أبى عبيدة فأخبره بما قالوا وما رد عليهم. فإنهم لكذلك إذ بعثوا إلى أبى عبيدة : إنك بعثت إلينا رجلا لا يقبل النصف ، ولا يريد الصلح ، فلا نرى أعن رأيك ذلك أم لا ، وإنا نريد أن نبعث إليك رجلا منا يعرض عليك النصف ، ويدعوك إلى الصلح ، فإن قبلت ذلك منه فلعله يكون خيرا لنا ولك ، وإن أبيت فلا نراه إلا شرا لك (١).

فقال لهم أبو عبيدة : ابعثوا من شئتم. فبعثوا إليه رجلا منهم ، طويلا أحمر أزرق ، فلما جاء المسلمين لم يعرف أبا عبيدة من القوم ، ولم يدر أفيهم هو أم لا ، ولم ير هيبة مكان أمير ، فقال : يا معشر العرب ، أين أميركم؟ قالوا له : هو ذا ، فنظر فإذا هو بأبى عبيدة جالسا على الأرض عليه الدرع ، وهو متنكب القوس ، وفى يده أسهم يقلبها ، فقال له : أنت أمير هؤلاء الناس؟ قال : نعم ، قال : فما جلوسك على الأرض؟ أرأيت لو كنت

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام للأزدى (١١٣) وما بعدها.

٢٣١

جالسا على وسادة ، أو كان تحتك بساط ، أكان ذلك واضعك عند الله أو مباعدك من الإحسان؟.

فقال أبو عبيدة : إن الله لا يستحى من الحق ، لأصدقنك عما قلت ، ما أصبحت أملك دينارا ولا درهما ، وما أملك إلا فرسى وسلاحى ، ولقد احتجت أمس إلى نفقة فلم تكن عندى حتى استقرضت أخى هذا يعنى معاذا ، نفقة كانت عنده ، فأقرضنيها ، ولو كان عندى أيضا ، بساط أو وسادة ما كنت لأجلس عليه دون أصحابى وإخوانى ، وأجلس على الأرض أخى المسلم الذي لا أدرى لعله عند الله خير منى ، ونحن عباد الله نمشى على الأرض ، ونأكل على الأرض ، ونجلس عليها ، ونضطجع عليها ، وليس بناقصنا ذلك عند الله شيئا ، بل يعظم الله به أجورنا ، ويرفع به درجاتنا. هات حاجتك التي جئت لها.

فقال الرومى : إنه ليس شيء أحب إلى الله من الإصلاح ، ولا أبغض إليه من البغى والفساد ، وإنكم قد دخلتم بلادنا فظهر منكم فيها الفساد والبغى ، وقل ما بغى قوم وأفسدوا فى الأرض إلا عمهم الله بهلاك ، وإنا نعرض عليكم أمرا فيه حظ إن قبلتموه : إن شئتم أعطيناكم دينارين دينارين ، وثوبا ثوبا ، وأعطيناك أنت ألف دينار ، ونعطى الأمير الذي فوقك يعنون عمر بن الخطاب ، ألفى دينار ، وتنصرفون عنا ، وإن شئتم أعطيناكم البلقاء وما إلى أرضكم من سواد الأردن ، وخرجتم من مدائننا وأرضنا ، وكتبنا فيما بيننا وبينكم كتابا يستوثق فيه بعضنا من بعض بالأيمان المغلظة لتقومن بما فيه ولنفين بما عاهدنا الله عليه.

فقال أبو عبيدة : إن الله تعالى ، بعث فينا رسولا تنبأه ، وأنزل عليه كتابا حكيما ، وأمره أن يدعو الناس إلى عبادته رحمة منه للعالمين ، فقال لهم : إن الله إله واحد عزيز حكيم ، علىّ مجيد ، وهو خالق كل شيء ، وليس كمثله شيء ، فوحدوا الله الذي لا إله إلا هو ، ولا تتخذوا معه إلها آخر ، فإن كل شيء يعبده الناس دونه فهو خلقه ، وإذا أتيتم المشركين فادعوهم إلى الإيمان بالله ورسوله والإقرار بما جاء به من ربه ، فمن آمن وصدق فهو أخوكم فى دينكم ، له ما لكم وعليه ما عليكم ، ومن أبى فاعرضوا عليهم أن يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، فإن أبوا أن يؤمنوا أو يؤدوا الجزية فقاتلوهم ، فإن قتيلكم المحتسب بنفسه شهيد عند الله فى جنات النعيم ، وقتيل عدوكم فى النار ، فإن قبلتم ما سمعتم فذاكم ، وإن أبيتم فابرزوا إلينا حتى يحكم الله بيننا ، وهو خير الحاكمين.

قال الرومى : فقد أبيتم إلا هذا. فقال أبو عبيدة : نعم. فقال : أما والله على ذلك إنى

٢٣٢

لأراكم ستتمنون أنكم قبلتم منا دون ما عرضنا عليكم. فقال أبو عبيدة : لا والله ، لا نقبل هذا منك ولا من غيرك أبدا ، فانصرف الرومى رافعا يديه إلى السماء يقول : اللهم إنا قد أنصفناهم فأبوا ، اللهم فانصرنا عليهم. ووثب أبو عبيدة مكانه ، فسار فى الناس ، وقال : أصبحوا أيها الناس وأنتم تحت راياتكم وعلى مصافكم. فأصبح الناس وخرجوا على تعبئتهم ومصافهم (١).

وكتب أبو عبيدة إلى عمر : لعبد الله عمر أمير المؤمنين ، من أبى عبيدة بن الجراح. سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد. فإن الروم قد أقبلت ، فنزلت طائفة منهم فحلا مع أهلها ، وقد سارع إليهم أهل البلد ، ومن كان على دينهم من العرب ، وقد أرسلوا إلىّ : أن اخرجوا من بلادنا ، فإنكم لستم لهذه البلاد التي تنبت الحنطة والشعير والفواكه والأعناب أهلا ، والحقوا ببلادكم ، بلاد الشقاء والبؤس ، فإن أنتم لم تفعلوا سرنا إليكم بما لا قبل لكم به ، ثم أعطينا الله عهدا أن لا ننصرف عنكم وفيكم عين تطرف ، فأرسلت إليهم :

أما قولكم : اخرجوا من بلادنا ، فلستم لما تنبت أهلا ، فلعمرى ما كنا لنخرج عنها وقد أورثناها الله تعالى ، ونزعها من أيديكم ، وإنما البلاد بلاد الله ، والعباد عباد الله ، وهو سبحانه ملك الملوك ، يؤتى الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء.

وأما ما ذكرتم من بلادنا ، وزعمتم أنها بلاد البؤس والشقاء ، فقد صدقتم ، وقد أبدلنا الله بها بلادكم ، بلاد العيش الرفيع ، والسعر الرخيص ، والجناب الخصيب ، فلا تحسبونا تاركيها ولا منصرفين عنها ، ولكن أقيموا لنا ، فو الله لا نجشمكم إتياننا ولنأتينكم إن أقمتم لنا.

وكتبت إليك حين نهضت إليهم متوكلا على الله ، راضيا بقضاء الله ، واثقا بنصر الله ، فكفانا الله وإياك كيد كل كائد ، وحسد كل حاسد ، ونصر الله أهل دينه نصرا عزيزا ، وفتح لهم فتحا يسيرا ، وجعل لهم من لدنه سلطانا نصيرا ، والسلام عليك.

ودفع أبو عبيدة هذا الكتاب إلى نبطى من أنباط الشام ، وقال له : ائت به أمير المؤمنين ، ثم نهض هو إلى الروم بجماعة المسلمين ، فدنا منهم ، وتعرضت خيل المسلمين لهم ، فلم يخرجوا يومئذ ، فانصرف المسلمون عنهم من غير قتال ، وتأخر النبطى عن

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام للأزدى (١١٤) وما بعدها.

٢٣٣

المسير حتى انصرف المسلمون ، فذهب عند ذلك بالكتاب. وقد كان أبو عبيدة بعثه أول النهار ، فلما قدم على عمر رحمه‌الله ، وقرأ كتابه ، قال له : ويحك ، هل علمت أو بلغت ما كان من أمر المسلمين ، فإن أبا عبيدة كتب إلىّ يخبرنى أنه كتب إلىّ حين نهض إلى المشركين؟ فقال له : أصلحك الله ، فإنى لم أبرح يومئذ حتى رجع المسلمون عنهم ، وكانوا زحفوا إليهم ، وتعرضت خيلهم لهم ، فلم يخرج النصارى إليهم ، فانصرف المسلمون إلى عسكرهم ، وهم أطيب شيء أنفسا وأحسن شيء حالا.

قال : فأنت ما حبسك يومئذ ، إلى العشى لم تقبل بالكتاب وقد دفعه إليك أبو عبيدة أول النهار؟ قال : ظننت أنك ستسألنى عما سألتنى عنه الساعة ، فأحببت أن يكون عندى علم ما تسألنى عنه. قال له عمر : ويحك ، ما دينك؟ قال : نصرانى ، قال : ويحك ، أفما يدلك عقلك هذا الذي أرى على أن تسلم ، ويحك أسلم فهو خير لك. قال : فقد أسلمت. فقال عمر : الحمد لله الذي يهدى من يشاء إذا يشاء ، ثم كتب معه إلى أبى عبيدة بن الجراح : سلاح عليك ، فإنى أحمد إليك الله لا إله إلا هو. أما بعد ، فإن كتابك جاءنى بنفير الروم إليك ، ومنزلهم الذي نزلوا به ، ورسالتهم التي أرسلوها ، وبالذى رجعت إليهم فيما سألوك ، وقد سددت بحجتك ، وأوتيت رشدك ، فإن أتاكم كتابى هذا وأنتم الغالبون فكثيرا ما يكون من ربنا الإحسان ، وإن أتاكم وقد أصابكم نكب أو قرح فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تستكينوا ، وأنتم الأعلون ، وإنها دار الله ، وهو فاتحها عليكم فاصبروا إن الله مع الصابرين ، واعلم أنك متى لقيت عدوك فاستعنت بالله عليهم وعلم منك الصدق نصرك عليهم ، فقل إذا أنت لقيتهم : اللهم أنت الناصر لدينك ، المعز لأوليائك ، الناصر لهم قديما وحديثا ، اللهم فتول نصرهم ، وأظهر فلجهم ، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها ، وكن أنت الصانع لهم والمدافع عنهم برحمتك ، إنك أنت الولى الحميد.

فأقبل الرسول بهذا إلى أبى عبيدة ، وكان أبو عبيدة بعد ذلك اليوم الذي زحف فيه إلى الروم فلم يخرجوا إليه ، سرح إليهم من الغد خالدا فى الخيل ، ولم يخرج أبو عبيدة يومئذ فى الرجالة ، فخرجت إلى خالد خيل لهم عظيمة ، فأقبلت نحوه ، فقال لقيس بن هبيرة ، وكان من أشد الناس بأسا ، وأشده نكاية فى العدو ، ومباشرة لهم بعد خالد : يا قيس ، اخرج إلى هذا الخيل. فخرج إليهم قيس ، فحمل عليهم مرارا ، وحملوا عليه ، فقاتلهم قتالا شديدا ، ثم أقبلت خيل أخرى عظيمة للروم ، فقال خالد لميسرة بن مسروق : اخرج إليهم ، فخرج ميسرة فقاتلهم قتالا شديدا ، ثم خرجت إليهم من الروم

٢٣٤

خيل عظيمة ، هى أعظم من الخيلين جميعا ، عليها بطريق عظيم من بطارقتهم ، فجاء حتى إذا دنا من خالد ، أمر بشطر خيله ، فحملت على خالد وأصحابه ، فلم يتخلخل أحد منهم ، ثم إنه جمعهم جميعا ، فحمل بهم ، فلم يبرح أحد من المسلمين ، فلما رأى ذلك الرومى انصرف.

فقال خالد لأصحابه : إنه لم يبق من جد القوم ولا حدهم ولا قوتهم إلا ما قد رأيتم ، فاحملوا معى يا أهل الإسلام حملة واحدة واتبعوهم ولا تقلعوا عنهم رحمكم الله. ثم حمل عليهم خالد بمن معه ، فكشف من يليه منهم ، وحمل قيس بن هبيرة على الذين كانوا يلونه فهزمهم وكشفهم ، وحمل ميسرة على الذين كانوا يلونه ، فهزمهم ، واتبعهم المسلمون يقتلونهم ويقصفون بعضهم على بعض ، حتى اضطروهم إلى عسكرهم وقد رأوا ما أصابهم ، فانكسروا ووهنوا وهابوا المسلمين هيبة شديدة ، وانصرف المسلمون إلى عسكرهم وقد قرت أعينهم ، واجتمعوا إلى أبى عبيدة وهم مسرورون بما أراهم الله فى عدوهم من عونه لهم عليهم فقال له خالد : إن هزيمتنا خيل المشركين قد دخل رعبها قلوب جماعتهم ، فكلهم قلبه مرعوب متخوف لمثلها منا مرة أخرى ، فناهض القوم غدا بالغداة ما دام رعب هذه الهزيمة فى قلوبهم ، فإنك إن أخرت قتالهم أياما ذهب رعبها من قلوبهم واجترؤوا علينا. قال أبو عبيدة : فانهضوا على بركة الله غدا بالغداة.

قال عمرو بن مالك القيسى : ولم يكن شيء أحب إلى الروم من التطويل ودفع الحرب ، انتظارا لمدد ، ولا شيء أحب إلى المسلمين من المناجزة وتعجيل الفراغ.

وقال عبد الله بن قرط : لما كانت الليلة التي خرجنا فى صبيحتها إلى أهل فحل ، خرج إلينا أبو عبيدة فى الثلث الباقى من الليل ، فلم يزل يعبئ الناس ويحرضهم حتى إذا أصبح صلى بالناس ، فكان إلى التغليس أقرب منه إلى التنوير ، ثم إنه جعل على ميمنته معاذ بن جبل ، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة ، وعلى الرجالة سعيد بن زيد ، وعلى الخيل خالد بن الوليد ، ثم زحف أبو عبيدة بالناس ، وأخذوا يزفون زفا رويدا على رسلهم.

وركب أبو عبيدة فاستعرض الصف من أوله إلى آخره ، يقف على كل راية وكل قبيلة ، ويقول : عباد الله ، استوجبوا من الله النصر بالصبر ، فإن الله مع الصابرين ، عباد الله ، ليبشر من قتل منكم بالشهادة ، ومن بقى بالنصر والغنيمة ، ولكن وطنوا أنفسكم على القتال والطعن بالرماح ، والضرب بالسيوف ، والرمى بالنبل ، ومعانقة الأقران ، فإنه والله ما يدرك ما عند الله إلا بطاعته والصبر فى المواطن المكروهة التماس رضوانه.

٢٣٥

وتقدم خالد فى الخيل حتى أطل على الروم ، فلما رأوه خرجوا إليه فى الخيل والرجل جميعا ، وقالوا : إن العرب أفرس على الخيل منا ، وخيلنا لا تكاد تثبت لخيلهم ، فاخرجوا إليهم فى الخيل والرجال ، وكان خالد قد هزم خيلهم بالأمس ، فكان ذلك أيضا ، مما حملهم على الخروج على هذه التعبئة ، خرجوا وهم خمسة صفوف ، فأول صف من صفوفهم جعلوا فيه الفارس بين راجلين : رامح وناشب ، وجعلوا صفا من الخيل وراء هذا الصف ، وجعلوا له مجنبتين.

ثم صفوا ثلاثة صفوف أخر رجالا كلهم ، ثم أقبلوا نحو المسلمين ، وهم نحو خمسين ألفا. فكان أول من لقيهم خالد بن الوليد فى الخيل ، فأخذ لا يجد عليهم مقدما ، وأخذوا يزحفون إليه ويرشقونه بالنشاب ، وجعل ينكص هو وأصحابه وراءهم ، وأخذت الروم تقدم عليهم وهم يتأخرون ، حتى انتهوا إلى صفهم ، ودافعت أعجاز كثير من خيلهم صدور رجالهم ، ثم إن خالدا بعث إلى قيس بن هبيرة : أن اخرج فى خيلك حتى تأتى ميسرتهم فتحمل عليها ، وقال لميسرة بن مسروق : قف قبالة صفهم فى خيلك ، وضمها إليك كتيبة واحدة ، فإذا رأيتنا قد حملنا وانتقض صفهم فاحمل على من يليك منهم.

وكان خالد قسم خيله أثلاثا ، فجعل للمرادى قيس بن هبيرة ، ثلثها ، ولميسرة بن مسروق العبسى ثلثها ، وكان هو فى ثلثها ، فخرج خالد فى ثلث الخيل التي معه حتى انتهى إلى ميمنتهم ، فعلاها ، حتى إذا ارتفع عليهم أخرجوا إليه خيلا لهم ، كما تشغله وأصحابه ، فلما دنت منه ، قال : الله أكبر ، الله أخرجهم لكم من رجالتهم ، شدوا عليهم ، ثم استعرضهم فشد عليهم ، وشد معه أصحابه بجماعة خيلهم ، فهزمهم الله ، ووضعوا السلاح والسيوف فيهم حيث شاءوا ، فصرعوا منهم أكثر من سبعين قبل أن ينتهوا إلى ميمنتهم ، وارتفع قيس بن هبيرة إلى ميسرتهم ، فأخرجوا إليه خيلا كما صنعوا بخالد ، فحمل عليهم قيس ، فهزمهم وضربهم حتى انتهى إلى ميسرتهم ، وقتل منهم بشر كثير ، وقتلى عظيمة ، وكان واثلة بن الأسقع فى خيل قيس بن هبيرة ، فخرج له بطريق من كبارهم ، فبرز واثلة وهو يقول فى حملته :

ليث وليث فى مجال ضنك

كلاهما ذو أنف ومعك

أجول جول صارم فى العرك

أو يكشف الله قناع الشك

مع ظفرى بحاجتى ودركى

ثم حمل على البطريق فضربه ضربة قتله بها ، وحملوا بأجمعهم حتى اضطروا الروم إلى عسكرهم ، ووقفوا بإزائهم.

٢٣٦

قال هاشم بن عتبة رحمه‌الله : والله لقد كنا أشفقنا يومئذ ، على خيلنا أول النهار ، ثم أحسن الله ، فما هو إلا أن رأينا خيلنا قد نصرها الله على خيلهم ، فدعوت الناس إلىّ وأمرتهم بتقوى الله ، ثم نزلت ، فهززت رايتى ، ثم قلت : والله لا أردها حتى أركزها فى صفهم ، فمن شاء فليتبعنى ، ومن شاء فليتخلف عنى ، قال : فو الذي لا إله غيره ، ما أعلم أن أحدا من أصحاب رايتى تخلف عنى ، حتى انتهيت إلى صفهم ، فنضحونا بالنشاب ، فجثونا على الركب واتقيناهم بالدرق.

ثم ثرت بلوائى وقلت لأصحابى : شدوا عليهم أنا فداؤكم ، فإنها غنيمة الدنيا والآخرة ، فشددت وشدوا معى ، فأستقبل عظيما منهم قد أقبل نحوى فأوجزه الرمح ، فخر ميتا ، وضاربناهم بالسيوف ساعة فى صفهم ، وحمل عليهم خالد من قبل ميسرتهم فقتلهم قتلا ذريعا ، وانتقضت صفوفهم من قبل خالد ومن قبلى ، ونهد إليهم أبو عبيدة بالناس ، وأمر الخيل التي كانت تليه من خيل خالد ، فحملت عليهم ، فكانت هزيمتهم (١).

وقال عمرو بن مالك القينى عن أبيه : كان منا رجل له فينا منزلة وحال حسنة ، قال:فقلت فى نفسى : قد بلغنى أن صاحب العرب هذا ، يعنى أبا عبيدة ، رجل صدق ، فو الله لآتينه فلأصحبنه ولأتعلمن منه. قال : فكنت آتيه وأخرج معه إذا خرج إلى عسكره ، فلما كان ذلك اليوم أقبل حتى كان إلى جنب أبى عبيدة ، فألظ به لا يفارقه ، قال : فو الله لرأيته يقص علينا ، ويقول : كونوا عباد الله أولياء الله ، وارغبوا فيما عند الله أشد من رغبتكم فى الدنيا ، ولا تواكلوا فتخاذلوا ، وليغن كل رجل منكم قرنه ، وأقدموا إقدام من يريد بإقدامه ثواب الله ، ولا يكن من لقيكم من عدوكم أصبر على باطلهم منكم على حقكم ، ثم نهض يمشى إليهم ، ونهض المسلمون معه تحت راياتهم ببصيرة وسكينة ودعة وحسن رعة ، وحمل قيس بن هبيرة على الروم من قبل ميسرتهم ، فقصف بعضهم على بعض (٢).

وعن يحيى بن هانئ المرادى : أن قيسا قطع يومئذ ثلاثة أسياف ، وكسر بضعة عشر رمحا ، وكان يقاتل ويقول :

لا يبعدن كل فتى كرار

ماضى الجنان شاحب صبار

حين تهم الخيل بالإدبار

يقدم إقدام الشجاع الضارى

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام للأزدى (١٢٣ ـ ١٢٤).

(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٣٤ ـ ١٣٥).

٢٣٧

وقال سالم بن ربيعة : حمل ميسرة بن مسروق يومئذ ، ونحن معه فى الخيل ، فحملنا على القلب وقد أخذ صف الروم ينتقض من قبل ميسرتهم وميمنتهم ، ولم ينته الانتقاض إلى القلب بعد ، فثبتوا لنا ، وقاتلونا قتالا شديدا ، فصرع ميسرة عن فرسه ، وصرعت معه ، وجرح فرسى فعار ، ويعتنق ميسرة رجلا من الروم ، فاعتركا ساعة ، فقتله ميسرة ، ثم شد عليه آخر وقد أعيى ميسرة ، فاعتركا ساعة ، فصرعه الرومى وجلس على صدره ، وأشد عليه ، فأضرب وجه الرومى بالسيف ، فأطرت قحفه ، فوقع ميتا ، ووثب ميسرة وانبرى إلى رجل منهم ، فضربنى ضربة دير بى منها ، ويضربه ميسرة فيصرعه ، وركبنا منهم عدد كثير ، فأحاطوا بنا ، وظننا والله أنه الهلاك ، إذ نظرنا فإذا نحن نسمع نداء المسلمين وتكبيرهم ، وإذا صفوفهم قد انتهت إلينا ، وراياتهم قد غشيتنا ، فكبرنا ، واشتدت ظهورنا ، فانقشع الروم عنا ، وحمل عليهم خالد من قبل ميمنتهم ، فدق بعضهم على بعض حتى دخلوا عسكرهم (١).

وعن نوفل بن مساحق ، عن أبيه : أن خالدا قاتل يومئذ ، قتالا شديدا ما قاتل مثله أحد من المسلمين ، وما كان إلا حديثا ومثلا لمن حضره ، ولقد كان يستعرض صفوفهم وجماعتهم ، فيحمل عليهم حتى يخالطهم ، ثم يجالدهم حتى يفرقهم ، ويهزمهم ، ويكثر القتل فيهم.

قال : ولقد سمعت من يزعم أنه قتل فى ذلك اليوم أحد عشر رجلا من الروم من بطارقتهم وأشدائهم وأهل الشجاعة منهم ، وكان يقاتلهم ويقول (٢) :

أضربهم بصارم مهند

ضرب صليب الدين هاد مهتد

لا واهن الحول ولا مفند

وعن سهل بن سعد قال : كان معاذ بن جبل يومئذ من أشد الناس بأسا ، وكان يقول : يا أهل الإسلام ، إن هذا اليوم لما بعده من الأيام ، غضوا أبصاركم رحمكم الله ، وأقدموا إقدام الأسد على عدوكم ، ولا تفارقوا راياتكم ، ولا تزولوا عن مصافكم ، وسوقوهم سوقا عنيفا ، ولا تشاغلوا عنهم بغنائمهم ، ولا بما فى عسكرهم ، فإنى أخاف أن يكون لهم عليكم عطفة فلا تقوم لكم بعدها قائمة إن تفرقتم وشغلتكم غنائمهم ، فاطلبوهم حتى لا تروا لهم جمعا ولا صفا.

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٣٥ ـ ١٣٦).

(٢) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٣٦).

٢٣٨

فمضى المسلمون كما وصف لهم على راياتهم وصفوفهم يقدمون عليهم ، وجعلت صفوف الروم تنتقض وتدبر ، وخيل المسلمين تكردهم وتقتلهم ، وتحمل عليهم ، ولا تقلع عنهم ، فقتلوا منهم فى المعركة نحوا من خمسة آلاف ، وقتلوا فى عسكرهم حيث دخلوا نحوا من ألفين ، وخرجوا عباديد منهزمين ، وخيل المسلمين تتبعهم وتقتلهم حتى اقتحموا فى فحل ، وفحل مطلة على أهوية تحتها الماء ، فتحصنوا فيها ، وأصاب المسلمون منهم نحوا من ألفى أسير ، فقتلهم المسلمون ، وأقبل أبو عبيدة حتى دخل عسكرهم وحوى ما فيه.

وقال عبد الله بن قرط الثماليّ : مررت يومئذ بعمرو بن سعيد بن العاص قبل هزيمة المشركين ، ومعه رجال من المسلمين ، سبعة أو ثمانية ، وإنه لأمامهم نحو العدو ، وإنه ليقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الأنفال : ١٥ ، ١٦] ، ثم يقول : لكن الجنة والله نعم المصير ، ولمن؟ هى هى والله لمن شرى نفسه اليوم لله ، وقاتل فى سبيل الله ، ثم يقول : إلىّ يا أهل الإسلام ، أنا عمرو بن سعيد بن العاص ، لا تفروا ، فإن الله يراكم ، ومن يره الله يفر عن نصر دينه يمقته ، فاستحيوا من الله ربكم أن يراكم تطيعون أبغض خلقه إليه ، وهو الشيطان الرجيم ، وتعصونه وهو الرحمن الرحيم (١).

قال عبد الله بن قرط : وقد كان العدو حمل علينا حملة منكرة ، فرقت بينى وبين أصحابى ، فانتهيت إلى عمرو وهو يقول هذا القول ، فقلت فى نفسى : والله ما أنا بواجد اليوم فى هذا العسكر رجلا أقدم صحبة ولا أقرب قرابة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا الرجل ، فدنوت منه ومعى الرمح ، وقد أحاطت به من الروم جماعة ، فحملت عليهم ، فأصرع أحدهم ، ثم أقبلت إليه ، فوقفت معه ، ثم قلت : يا ابن أبى أحيحة ، أتعرفني؟ فقال لى : نعم يا أخا ثقيف ، فقلت له : لم تبعد ، هم الإخوان والجيران والحلفاء ، ولكنى أخو ثمالة ، عبد الله بن قرط. فقال لى : مرحبا بك أخى فى الإسلام ، وهو أقرب النسب ، أما والله لئن استشهدت وكفى بالله شهيدا لأشهدن لك ، ولئن شفعت لأشفعن لك. قال : فنظرت إلى وجهه ، فإذا هو مضروب على حاجبه بالسيف ، وإذا الدم قد ملأ عينيه ، وإذا هو لا يستطيع أن يطرف ولا يفتح عينيه من الدم ، فقلت له : أبشر بخير ، فإن الله معافيك من هذه الضربة ، ومنزل النصر على الإسلام. قال : أما النصر لأهل الإسلام ، فأنزل الله

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام (١٣٧ ـ ١٣٨).

٢٣٩

فعجل ، وأما أنا ، فجعل الله لى هذه الضربة شهادة وأهدى إلىّ أخرى مثلها ، فو الله ما أحب أنها بعرض أبى قبيس ، وو الله لو لا أن يقتل بعض من حولى لأقدمت على هذا العدو حتى ألحق بربى ، يا أخى إن ثواب الشهادة عظيم ، وإن الدنيا قل ما يسلم منها أهلها.

قال : فما كان بأسرع من أن شد علينا منهم جماعة ، فمشى إليهم بسيفه ، فضاربهم ساعة وهو أمام الناس ، وثار بينهم الغبار ، فشددنا عليهم ، فصرنا منهم عدة ، وإذا نحن بعمرو بن سعيد صريعا ، وإذا هو قد بضع وبه أكثر من ثلاثين ضربة ، وكانوا حنقوا عليه وحردوا لما رأوا من شدة قتاله ، فقطعوه بأسيافهم يرحمه‌الله.

وقتل أيضا هناك من قريش من بنى سهم : سعيد بن عمرو ، وسعيد بن الحارث بن قيس ، والحارث بن الحارث ، وغلب المسلمون على الأرض واحتووها ، وصار من بقى من العدو فى الحصن ، وقد قتل الله منهم مقتلة عظيمة ، فأقام المسلمون على الحصن وقد غلبوا على سواد الأردن وأرضها وكل ما فيها ، وطلبوها بالنزول إليهم ، على أن يؤمنوهم ، فأبوا ، وذلك أنه بلغهم أن ملك الروم بعث إليهم رجلا من غسان يقال له : المنذر بن عمرو ، فجاء فى جمع عظيم من الروم يمد أهل فحل ، فلم يبلغهم حتى هزمهم الله وأذلهم ، فكان أراد أن يجىء حتى يدخل معهم حصنهم.

وكان طائفة قد جاءوا بعد وقعة فحل بيوم ، فقال خالد : ما أظن هؤلاء ينبغى لنا أن نعطيهم قوم قاتلوا على هذا الفيء وغلبوا عليه. فقال علقمة بن الأرث القيسى : لم أصلحك الله لا تجعلهم شركاءنا وقد جاءوا بعيالهم يسيرون ويغدون ويروحون لينصروا الإسلام ويجاهدوا فى سبيل الله؟ أفإن المسلمون سبقوهم بساعة من النهار لا يشركونهم وهم إخوانهم وأنصارهم؟ فقال خالد : ننظر ، قال أبو عبيدة : ما نرى إلا أن نشركهم.

فلما بلغ قضاعة أن المنذر بن عمرو قد دخل بطن الأردن ، جاء علقمة بن الأرث إلى أبى عبيدة ، فقال : إن المنذر بن عمرو قد نزل بطن الأردن ، أفلا تبعث إليه المسلمين؟فقال : دعه حتى يدنو. فقال : أصلحك الله ، ابعث معى خيلا فأنا أكفيكه. فقال : لا ، لا تقربنه ، لست آذن لك ، دعه حتى يدنو ، فخرج إلى أصحابه فقال لمن لم يشهد الوقعة منهم ، ولمن شهدها ، ولهم خيل وقوة : اخرجوا بنا حتى نلقى المنذر بن عمرو ، فإنى أرجو أن نصادمه مغترا فنقتله ، فنذهب إن شاء الله بأجرها وشرف ذكرها ، فتابعوه ، فأقبل حتى إذا دنا من عسكر المنذر بن عمرو ، حمل الخيل عليهم من جانب العسكر وهم

٢٤٠