الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

بكل ما يحبون ، ثم سألوا الصلح ، فصالحناهم ، فخرج خالد من فوره ذلك ، فأغار على غسان فى جانب من مرج راهط فى يوم فصحهم ، فقتل وسبى.

وعن أبى الخزرج الغسانى قال : كانت أمى فى ذلك السبى ، فلما رأت هدى المسلمين وصلاحهم وصلاتهم وقع الإسلام فى قلبها فأسلمت ، فطلبها أبى فى السبى فعرفها ، فجاء المسلمين فقال : يا أهل الإسلام ، إنى رجل مسلم ، وهذه امرأتى قد أصبتموها ، فإن رأيتم أن تصلونى وتحفظوا حقى فتردوا علىّ أهلى فعلتم. فقال لها المسلمون : ما تقولين فى زوجك قد جاء يطلبك وهو مسلم؟ قالت : إن كان مسلما رجعت إليه ، وإلا فلا حاجة لى فيه ، ولست براجعة إليه.

وقعة أجنادين

ذكر سعيد بن الفضل وأبو إسماعيل وغيرهما أن خالد بن الوليد لما دخل الغوطة (١) كان قد مر بثنية فخرعها ، ومعه راية له بيضاء تدعى العقاب ، فسميت بذلك تلك الثنية : ثنية العقاب ، ثم نزل ديرا يقال له : دير خالد لنزوله به ، وهو مما يلى باب الشرقى ، يعنى من دمشق.

وجاء أبو عبيدة من قبل الجابية ، حتى نزل باب الجابية ، ثم شنا الغارات فى الغوطة وغيرها ، فبينما هما كذلك أتاهما أن وردان صاحب حمص ، قد جمع الجموع يريد أن يقتطع شرحبيل بن حسنة وهو ببصرى ، وأن جموعا من الروم قد نزلت أجنادين (٢) ، وأن أهل البلد ومن مروا به من نصارى العرب قد سارعوا إليهم ، فأتاهما خبر أفظعهما وهما مقيمان على عدو يقاتلانه ، فالتقيا فتشاورا فى ذلك ، فقال أبو عبيدة : أرى أن نسير حتى نقدم على شرحبيل قبل أن ينتهى إليه العدو الذي قد صمد صمدة ، فإذا اجتمعنا سرنا إليه حتى نلقاه ، فقال له خالد : إن جمع الروم هنا بأجنادين ، وإن نحن سرنا إلى شرحبيل تبعنا هؤلاء من قريب ، ولكن أرى أن نصمد صمد عظمهم ، وأن نبعث إلى شرحبيل فنحذره مسير العدو إليه ، ونأمره فيوافينا بأجنادين ، ونبعث إلى يزيد بن أبى سفيان وعمرو بن العاص فيوافيانا بأجنادين ، ثم نناهض عدونا. فقال له أبو عبيدة : هذا رأى حسن ، فأمضه على بركة الله.

__________________

(١) الغوطة : قيل : هى قصبة دمشق ، وقيل : هو موضع متصل بدمشق من جهة باب الفراديس ، وطول الغوطة مرحلتان عرض فى عرض مرحلة. انظر : الروض المعطار (٤٣١).

(٢) أجنادين : بفتح الهمزة والنون والدال ، بعدها ياء ونون على لفظ التثنية ، موضع بالشام من بلاد الأردن. انظر : الروض المعطار (١٢).

٢٠١

وكان خالد مبارك الولاية ، ميمون النقيبة ، مجربا ، بصيرا ، بالحرب ، مظفرا. فلما أراد الشخوص من أرض دمشق إلى الروم الذين اجتمعوا بأجنادين ، كتب نسخة واحدة إلى الأمراء :

أما بعد ، فإنه نزل بأجنادين جمع من جموع الروم ، غير ذى قوة ولا عدة ، والله قاصمهم وقاطع دابرهم ، وجاعل دائرة السوء عليهم ، وقد شخصت إليهم يوم سرحت رسولى إليكم ، فإذا قدم عليكم فانهضوا إلى عدوكم بأحسن عدتكم وأصح نيتكم ، ضاعف الله أجوركم وحط أوزاركم ، والسلام.

ووجه بهذه النسخ مع أنباط كانوا مع المسلمين عيونا لهم ، وفيوجا (١) وكان المسلمون يرضخون لهم ، ودعا خالد الرسول الذي بعثه منهم إلى شرحبيل ، فقال له : كيف علمك بالطريق؟ قال : أنا أدل الناس بالطريق ، قال : فادفع إليه هذا الكتاب ، وحذره الجيش الذي ذكر لنا أنه يريده ، وخذ به وبأصحابه طريقا تعدل به عن طريق العدو الذي شخص إليه وتأتى به حتى تقدمه علينا بأجنادين. قال : نعم ، فخرج الرسول إلى شرحبيل ، ورسول آخر إلى عمرو بن العاص ، وآخر إلى يزيد بن أبى سفيان.

وخرج خالد وأبو عبيدة بالناس إلى أهل أجنادين ، والمسلمون سراع إليهم ، جراء عليهم ، فلما شخصوا لم يرعهم إلا أهل دمشق فى آثارهم ، فلحقوا أبا عبيدة وهو فى أخريات الناس فلما رآهم قد لحقوا به نزل ، وأحاطوا به ، وهو فى نحو من مائتى رجل من أصحابه ، وأهل دمشق فى عدد كثير ، فقاتلهم أبو عبيدة قتالا شديدا ، وأتى الخبر خالدا وهو أمام الناس فى الفرسان والخيل ، فعطف راجعا ، ورجع الناس معه ، وتعجل خالد فى الخيل وأهل القوة ، وانتهوا إلى أبى عبيدة وأصحابه وهم يقاتلون الروم قتالا حسنا ، فحمل الخيل على الروم فدق بعضهم على بعض ، وقتلهم ثلاثة أميال حتى دخلوا دمشق ، ثم انصرف ، ومضى بالناس نحو الجابية ، وأخذ يلتفت وينتظر قدوم أصحابه عليه.

ومضى رسول خالد إلى شرحبيل ، فوافاه وليس بينه وبين الجيش الذي سار إليه من حمص (٢) مع وردان إلا مسيرة يوم ، وهو لا يشعر ، فدفع إليه الرسول الكتاب ، وأخبره الخبر ، واستحثه بالشخوص ، فقام شرحبيل ، فى الناس ، فقال : أيها الناس ، اشخصوا إلى

__________________

(١) فيوج : جمع فج ، وهو الحارث أو العداء سريع الجرى.

(٢) حمص : مدينة بالشام ، ولا يجوز فيها الصرف كما لا يجوز فى هند لأنه اسم أعجمى ، سميت برجل من العماليق يسمى حمص ، ويقال : رجل من عاملة ، هو أو من نزلها. انظر : الروض المعطار (١٩٨).

٢٠٢

أميركم ، فإنه قد توجه إلى عدو المسلمين بأجنادين ، وقد كتب إلىّ يأمرنى بموافاته هنالك.

ثم خرج بالناس ومضى بهم الدليل ، وبلغ ذلك الجيش الذي جاء فى طلبهم ، فجعل المسير فى آثارهم ، وجاء وردان كتاب من الروم الذين بأجنادين : أن عجل إلينا فإنا مؤمروك علينا ومقاتلون معك العرب حتى تنفيهم من بلادنا. فأقبل فى آثار هؤلاء ، رجاء أن يستأصلهم أو يصيب طرفا منهم ، فيكون قد نكب طائفة من المسلمين ، فأسرع السير فلم يلحقهم ، وجاءوا حتى قدموا على المسلمين ، وجاء وردان فيمن معه حتى وافى جمع الروم بأجنادين ، فأمروه عليهم ، واشتد أمرهم.

وأقبل يزيد بن أبى سفيان حتى وافى أبا عبيدة وخالدا ، ثم إنهم ساروا حتى نزلوا بأجنادين ، وجاء عمرو بن العاص فيمن معه ، فاجتمع المسلمون جميعا بأجنادين ، وتزاحف الناس غداة السبت.

فخرج خالد ، فأنزل أبا عبيدة فى الرجال ، وبعث معاذ بن جبل على الميمنة ، وسعيد ابن عامر بن حذيم على الميسرة ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل على الخيل.

وأقبل خالد يسير فى الناس ، لا يقر فى مكان واحد ، يحرض الناس ، وقد أمر نساء المسلمين فاحتزمن وقمن وراء الناس يدعون الله ويستغثنه ، وكلما مر بهن رجل من المسلمين رفعن أولادهن إليه وقلن لهم : قاتلوا دون أولادكم ونسائكم.

وأقبل خالد يقف على كل قبيلة فيقول : اتقوا الله عباد الله ، وقاتلوا فى الله من كفر بالله ، ولا تنكصوا على أعقابكم ، ولا تهنوا من عدوكم ، ولكن أقدموا كإقدام الأسد ، أو ينجلى الرعب وأنتم أحرار كرام ، قد أوتيتم الدنيا واستوجبتم على الله ثواب الآخرة ، ولا يهولنكم ما ترون من كثرتهم ، فإن الله منزل رجزه وعقابه بهم. وقال للناس : إذا حملت فاحملوا.

وقال معاذ بن جبل : يا معشر المسلمين ، اشروا أنفسكم اليوم لله ، فإنكم إن هزمتموهم اليوم كانت لكم دار السلام أبدا مع رضوان الله والثواب العظيم من الله.

وكان من رأى خالد مدافعتهم ، وأن يؤخر القتال إلى صلاة الظهر ، عند مهب الأرواح ، وتلك الساعة التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يستحب القتال فيها ، فأعجله الروم ، فحملوا على المسلمين مرتين : من قبل الميمنة على معاذ بن جبل ، ومن قبل الميسرة على

٢٠٣

سعيد بن عامر ، فلم يتخلخل أحد منهم ، ورموا المسلمين بالنشاب ، فنادى سعيد بن زيد ، وكان من أشد الناس : يا خالد علام تستهدف هؤلاء الأعلاج؟ وقد رشقونا بالنشاب حتى شمست الخيل ، فقال خالد للمسلمين : احملوا رحمكم الله على اسم الله ، فحمل خالد والناس بأجمعهم ، فما واقفوهم فواقا ، وهزمهم الله ، فقتلهم المسلمون كيف شاءوا ، وأصابوا عسكرهم وما فيه.

وأصابت أبان بن سعيد بن العاص نشابة ، فنزعها وعصبها بعمامته ، فحمله إخوته ، فقال : لا تنزعوا عمامتى عن جرحى فلو قد نزعتموها تبعتها نفسى ، أما والله ما أحب أنها بحجر من جبل الحمر ، وهو جبل السماق ، فمات منها ، رحمه‌الله.

وأبلى يومئذ بلاء حسنا ، وقاتل قتالا شديدا عظم فيه غناؤه ، وعرف به مكانه ، وكان قد تزوج أم أبان بنت عتبة بن ربيعة ، وبنى عليها ، فباتت عنده الليلة التي زحفوا للعدو فى غدها ، فأصيب ، فقالت أم أبان هذه لما مات : ما كان أغنانى عن ليلة أبان.

وقتل اليعبوب بن عمرو بن ضريس المشجعى يومئذ ، سبعة من المشركين ، وكان شديدا جليدا ، فطعن طعنة كان يرجى أن يبرأ منها ، فمكث أربعة أيام أو خمسة ثم انتقضت به فاستأذن أبا عبيدة أن يأذن له إلى أهله ، فإن يبرأ رجع إليهم ، فأذن له ، فرجع إلى أهله بالعمر ، عمر المدائن ، فمات ، يرحمه‌الله ، فدفن هنالك.

وقتل مسلمة بن هشام المخزومى ، ونعيم بن عدى بن صخر العدوى ، وهشام بن العاص السهمى ، أخو عمرو بن العاص ، وهبار بن سفيان ، وعبد الله بن عمرو بن الطفيل الدوسى ، وهو ابن ذى النور ، وكان من فرسان المسلمين ، فقتلوا يومئذ ، رحمهم‌الله.

وقتل المسلمون فى المعركة منهم ثلاثة آلاف ، وأتبعوهم يأسرونهم ويقتلونهم ، فخرج فل الروم بإيلياء وقيسارية ودمشق وحمص فتحصنوا فى المدائن العظام.

وكتب خالد إلى أبى بكر : لعبد الله أبى بكر الصديق ، خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من خالد بن الوليد ، سيف الله المصبوب على المشركين ، سلام عليك ، فإنى أخبرك أيها الصديق أنا التقينا نحن والمشركين وقد جمعوا لنا جموعا بأجنادين ، وقد رفعوا صلبهم ، ونشروا كتبهم ، وتقاسموا بالله لا يفروا حتى يفنونا أو يخرجونا من بلادهم ، فخرجنا إليهم واثقين بالله متوكلين على الله ، فطاعناهم بالرماح شيئا ، ثم صرنا إلى السيوف فقارعناهم بها مقدار جزر جزور ، ثم إن الله أنزل نصره وأنجز وعده وهزم الكافرين ، فقتلناهم فى كل فج وشعب وحائط ، فالحمد لله على إعزاز دينه وإذلال عدوه وحسن الصنع لأوليائه ، والسلام عليك ورحمة الله.

٢٠٤

وبعث خالد بكتابه هذا مع عبد الرحمن بن حنبل الجمحى ، فلما قرئ على أبى بكر وهو مريض مرضه الذي توفاه الله فيه أعجبه ذلك ، وقال : الحمد لله الذي نصر المسلمين ، وأقر عينى بذلك.

قال سهل بن سعد : وكانت وقعة أجنادين هذه أول وقعة عظيمة كانت بالشام ، كانت سنة ثلاث عشرة ، فى جمادى الأولى لليلتين بقيتا منه ، يوم السبت نصف النهار ، قبل وفاة أبى بكر رضي‌الله‌عنه ، بأربع وعشرين ليلة.

وذكر الطبرى (١) عن ابن إسحاق أن الذي كان على الروم تذارق أخو هرقل لأبيه وأمه ، ثم ذكر عنه ، عن عروة بن الزبير ، أنه قال : كان على الروم رجل منهم يقال له : القبقلار ، وكان هرقل استخلفه على أمراء الشام حين سار إلى القسطنطينية ، وإليه انصرف تذارق ومن معه من الروم.

قال ابن إسحاق : فأما علماء أهل الشام فيزعمون أنه إنما كان على الروم تذارق ، فالله أعلم.

وعنه قال : لما تدانى العسكران بعث القبقلار رجلا عربيا ، فقال له : ادخل فى هؤلاء القوم فأقم فيهم يوما وليلة ثم ائتنى بخبرهم. فدخل فى الناس رجل عربى لا ينكر ، فأقام فيهم يوما وليلة ، ثم أتاه فقال له : مه ما وراءك؟ قال : بالليل رهبان وبالنهار فرسان ، ولو سرق ابن ملكهم قطعوا يده ، ولو زنى لرجم ، لإقامة الحق فيهم ، فقال له القبقلار : لئن كنت صدقتنى لبطن الأرض خير من لقاء هؤلاء على ظهرها ، ولوددت أن حظى من الله أن يخلى بينى وبينهم ، فلا ينصرنى عليهم ولا ينصرهم على.

ثم تزاحف الناس ، فاقتتلوا ، فلما رأى القبقلار ما رأى من قتالهم قال للروم : لفوا رأسى بثوب ، قالوا له : لم؟ قال : هذا يوم بئيس ، ما أحب أن أراه ، ما رأيت من الدنيا يوما أشد من هذا. قال : فاحتز المسلمون رأسه ، وإنه لملفف.

وعن غير ابن إسحاق قال : ثم إن خالد بن الوليد أمر الناس أن يسيروا إلى دمشق ، وأقبل بهم حتى نزلوها ، وقصد إلى ديره الذي كان ينزل به ، فنزله وهو من دمشق على ميل مما يلى باب الشرقى ، وبخالد يعرف ذلك الدير إلى اليوم ، وجاء أبو عبيدة حتى نزل على باب الجابية ، ونزل يزيد بن أبى سفيان على جانب آخر من دمشق وأحاطوا بها ، وحاصروا أهلها حصارا شديدا.

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤١٧).

٢٠٥

وقدم عبد الرحمن بن حنبل من عند أبى بكر بكتابه إلى خالد ، وأتى يزيد بن أبى سفيان ومعه كان يكون ، فقال له يزيد : هل لقيت أبى؟ قال : نعم ، قال : فهل سألك عنى؟ قال : نعم ، قال : فما قلت له؟ قال : قلت له إن يزيد حازم الرأى ، متواضع فى ولايته ، بئيس البأس ، محبب فى الإخوان ، يبذل ما قدر عليه من فضله. فقال أبو سفيان : كذلك ينبغى لمثله أن يكون ، وطلب إلىّ أن أكتب إليه بما يكون من أمرنا ، وأن أعلمه حالنا ، فوعدته ذلك.

قال : فخرج خالد بالمسلمين ذات يوم ، فأحاطوا بمدينة دمشق ، ودنوا من أبوابها ، فرماهم أهلها بالحجارة ورشقوهم من فوق السور بالنشاب ، فقال ابن حنبل :

وأبلغ أبا سفيان عنا فإننا

على خير حال كان جيش يكونها

وأنا على بابى دمشقة نرتمى

وقد حان من بابى دمشقة حينها

وقعة مرج الصفر(١)

قال : فإن المسلمين لكذلك يقاتلونهم ويرجون فتح مدينتهم إذ أتاهم آت فأخبرهم أن هذا جيش قد جاءكم من قبل ملك الروم ، فنهض خالد بالناس على تعبئته وهيئته ، فقدم الأثقال والنساء ، وخرج معهن يزيد بن أبى سفيان ، ووقف خالد وأبو عبيدة من وراء الناس ، ثم أقبلوا نحو ذلك الجيش ، فإذا هو درنجار بعثه ملك الروم فى خمسة آلاف رجل من أهل القوة والشدة ليغيث أهل دمشق ، فصمد المسلمون صمدهم ، وخرج إليهم أهل القوة من أهل دمشق ، وناس كثير من أهل حمص ، فالقوم نحو من خمسة عشر ألفا ، فلما نظر إليهم خالد عبأ أصحابه كتعبئته يوم أجنادين ، فجعل على ميمنته معاذ بن جبل ، وعلى ميسرته هاشم بن عتبة ، وعلى الخيل سعيد بن زيد ، وأبا عبيدة على الرجال.

وذهب خالد فوقف فى أول الصف يريد أن يحرض الناس ، ثم نظر إلى الصف من أوله إلى آخره حتى حملت خيل لهم على خالد بن سعيد ، وكان واقفا فى جماعة من المسلمين فى ميمنة الناس يدعون الله ، ويقص عليهم ، فحملت طائفة منهم عليه ، فقاتلهم حتى قتل رحمه‌الله ، وحمل عليهم معاذ بن جبل من الميمنة فهزمهم ، وحمل عليهم خالد

__________________

(١) مرج الصفر : بالشام ، به كانت وقعة للمسلمين على نصارى الشام بعد وقعة أجنادين وكان بين الوقعتين عشرون يوما وكان ذلك قبل وفاة أبى بكر رضي‌الله‌عنه بأربعة أيام. انظر : الروض المعطار (٥٣٥).

٢٠٦

ابن الوليد من الميسرة فهزم من يليه منهم ، وحمل سعيد بن زيد بالخيل على عظم جمعهم ، فهزمهم الله وقتلهم ، واجتث عسكرهم ، ورجع الناس ، وقد ظفروا وقتلوهم كل قتلة ، وذهب المشركون على وجههم ، فمنهم من دخل مدينة دمشق مع أهلها ، ومنهم من رجع إلى حمص ، ومنهم من لحق بقيصر.

وعن عمرو بن محصن : أن قتلاهم يومئذ وهو يوم مرج الصفر كانت خمسمائة فى المعركة ، وقد تلوا وأسروا نحوا من خمسمائة أخرى.

وقال أبو أمامة فيما رواه عنه يزيد بن يزيد بن جابر : كان بين أجنادين وبين يوم مرج الصفر عشرون يوما. قال : فحسبت ذلك فوجدته يوم الخميس لاثنتى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة ، قبل وفاة أبى بكر رضي‌الله‌عنه ، بأربعة أيام.

ثم إن الناس أقبلوا عودهم على بدئهم حتى نزلوا دمشق ، فحاصروا أهلها وضيقوا عليهم ، وعجز أهلها عن قتال المسلمين ، ونزل خالد منزله الذي كان ينزل به على باب الشرقى ، ونزل أبو عبيدة منزله على باب الجابية ، ونزل يزيد بن أبى سفيان جانبا آخر ، فكان المسلمون يغيرون ، فكلما أصاب رجل نفلا جاء بنفله حتى يلقيه فى القبض ، لا يستحل أن يأخذ منه قليلا ولا كثيرا ، حتى إن الرجل منهم ليجىء بالكبة الغزل أو بالكبة الصوف أو الشعر أو المسلمة أو الإبرة فيلقيها فى القبض ، لا يستحل أن يأخذها ، فسأل صاحب دمشق بعض عيونه عن أعمالهم وسيرتهم ، فوصفهم له بهذه الصفة فى الأمانة ، ووصفهم بالصلاة بالليل وطول القيام ، فقال : هؤلاء رهبان بالليل أسد بالنهار ، لا والله ما لى بهؤلاء طاقة ، وما لى فى قتالهم خير.

قال : فراود المسلمين على الصلح ، فأخذ لا يعطيهم ما يرضيهم ، ولا يبايعونه على ما يسأل ، وهو فى ذلك لا يمنعه من الصلح والفراغ إلا أنه قد بلغه أن قيصر يجمع الجموع للمسلمين ، يريد غزوهم ، فكان ذلك مما يمنعه من تعجيل الصلح.

وعلى تعبئة ذلك بلغ المسلمين الخبر بوفاة أبى بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، واستخلافه عمر رضي‌الله‌عنهما ، وما تبع ذلك من صرف خالد بأبى عبيدة ، حسبما يأتى تفصيله وبيانه إن شاء الله تعالى.

٢٠٧

ذكر الخبر عن وفاة أبى بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، وما كان

من عهده إلى عمر بن الخطاب ، جزاهما الله عن دينه الحق أفضل الجزاء(١)

قد تقدم فى بدء الردة ، وذكر خلافة أبى بكر رضي‌الله‌عنه ، من هذا الكتاب ما دل على ولاية عمر بعده ، من حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالذى يروى عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونيط عمر بأبى بكر ، ونيط عثمان بعمر ، قال جابر فلما قمنا من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلنا : أما الرجل الصالح فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما ما ذكر من نوط بعضهم ببعض ، فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه.

وعن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينما أنا نائم رأيتنى على قليب عليها دلو ، فنزعت منها ما شاء الله ، ثم أخذها ابن أبى قحافة ، فنزع منها ذنوبا ، أو ذنوبين ، وفى نزعه والله يغفر له ضعف ، ثم استحالت غربا ، فأخذها ابن الخطاب ، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر بن الخطاب ، حتى ضرب الناس بعطن» (٢).

واختلف أهل العلم فى السبب الذي توفى منه أبو بكر ، فذكر الواقدى أنه اغتسل فى يوم بارد فحم ومرض خمسة عشر يوما. وقال الزبير بن بكار : كان به طرف من السل. وقال غيره : أن أصل ابتداء ذلك السل به الوجد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قبضه الله إليه ، فما زال ذلك به حتى قضى منه.

وروى عن سلام بن أبى مطيع أنه رضي‌الله‌عنه ، سم. وبعض من ذكر ذلك يقول : أن اليهود سمته فى أرزة ، وقيل فى حريرة ، فمات بعد سنة. وقيل له : لو أرسلت إلى الطبيب ، فقال : قد رآنى ، قالوا : فما قال لك؟ قال : قال : إنى أفعل ما أريد (٣).

__________________

(١) راجع الخبر فى : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٢٩) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٤١٩) ، طبقات ابن سعد (٣ / ١ / ١٤٠).

(٢) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٥ / ٧ ، ٩ / ٤٥ ، ٤٩ ، ١٧١) ، صحيح مسلم كتاب فضائل الصحابة (١٧) ، السنن الكبرى للبيهقى (٨ / ١٥٣) ، فتح البارى لابن حجر (٧ / ١٩ ، ١٢ / ٤١٤) ، مشكاة المصابيح للتبريزى (٦٠٣١) ، شرح السنة للبغوى (١٤ / ٨٩) ، البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٢٢٦) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣٢٧٣) ، دلائل النبوة للبيهقى (٦ / ٣٤٤) ، السنة لابن أبى عاصم (١٤ / ٨٩).

(٣) راجع ما ذكره ابن الجوزى فى المنتظم (٤ / ١٢٩).

٢٠٨

وكذلك اختلفوا فى حين وفاته ، فقال ابن إسحاق : توفى يوم الجمعة لسبع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة. وقال غيره من أهل السير : إنه مات عشى يوم الاثنين ، وقيل ليلة الثلاثاء وقيل : عشى الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة ، وهذا هو الأكثر فى وفاته (١).

وأوصى أن تغسله زوجه أسماء بنت عميس ، فغسلته ، وصلى عليه عمر بن الخطاب فى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزل فى قبره عمر وعثمان وطلحة وابنه عبد الرحمن بن أبى بكر ، ودفن ليلا فى بيت عائشة مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعل رأسه عند كتفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وألصقوا لحده بلحده ، وجعل قبره مسطحا مثل قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورش عليه بالماء.

ولا يختلفون فى أنه توفى ابن ثلاث وستين سنة ، وأنه استوفى بخلافته بعد الرسول صلوات الله عليه ، سن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي توفاه الله لها (٢).

ويروى أنه رضي‌الله‌عنه ، لما احتضر ، وابنته عائشة حاضرة ، فأنشدت رضي‌الله‌عنها (٣) :

لعمرك ما يغنى الثراء عن الفتى

إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

رفع إليها رأسه وقال : لا تقولى هذا يا بنية ، أو : ليس هكذا يا بنية ، ولكن قولى : «وجاءت سكرة [الحق بالموت] ذلك ما كنت منه تحيد» (٤) ، هكذا قرأها أبو بكر رضي‌الله‌عنه.

وقالوا : كان آخر ما تكلم به : رب توفنى مسلما ، وألحقنى بالصالحين.

وقال أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، لعائشة رضي‌الله‌عنها ، وهو مريض : فى كم كفن

__________________

(١) راجع المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٣٠) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٤٢١).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٢١).

(٣) انظر الأبيات فى : العقد الفريد (٥ / ١٩) ، وهذا البيت لحاتم الطائى ، راجع ديوانه ص (٥١).

(٤) ما بين المعقوفتين ورد فى بعض الأصول : «الموت بالحق» وهذا هو المشهور فى القراءات السبع ، وقول المصنف هكذا قرأها أبو بكر ، يوضح أن أبا بكر قرأها باختلاف عن المشهور ، وكذلك أيضا قرأ بها سعيد بن جبير وطلحة وعبد الله بن مسعود ، وشعبة ، وأبى عمران. انظر : الطبرى (٢٦ / ١٠٠) ، الفراء (٣ / ٧٨) ، الكشاف (٤ / ٧) ، القرطبى (١٧ / ١٢) ، النحاس (٣ / ٢١٧) ، مجمع البيان (٩ / ١٤٣) ، زاد المسير (٧ / ١٩٤) ، المحتسب (٥ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨).

٢٠٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقالت : فى ثلاثة أثواب بيض سحولية. فقال أبو بكر : خذوا هذا الثوب ، لثوب عليه قد أصابه مشق أو زعفران فاغسلوه ، ثم كفنونى فيه مع ثوبين آخرين. فقالت عائشة : وما هذا؟ فقال أبو بكر : الحى أحوج إلى الجديد من الميت ، وإنما هذا للمهلة.

ولما توفى أبو بكر رحمه‌الله ، ارتجت المدينة بالبكاء ، ودهش القوم كيوم قبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأقبل على بن أبى طالب رضي‌الله‌عنه ، مسرعا باكيا مسترجعا ، حتى وقف على باب البيت الذي فيه أبو بكر ، وقد سجى بثوب ، فقال : رحمك الله يا أبا بكر ، كنت أول القوم إسلاما ، وأخلصهم إيمانا ، وأشدهم يقينا ، وأخوفهم لله عزوجل ، وأعظمهم غناء ، وأحدبهم على الإسلام ، وأيمنهم على أصحابه ، وأحسنهم صحبة وأفضلهم مناقب ، وأكثرهم سوابق ، وأرفعهم درجة ، وأقربهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأشبههم به هديا وخلقا وسمتا وفعلا ، وأشرفهم منزلة ، وأكرمهم عليه ، وأوثقهم عند الله ، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسوله والمسلمين خيرا ، صدقت رسول الله حين كذبه الناس ، فسماك الله فى كتابه صديقا.

فقال : والذي جاء بالصدق محمد ، وصدق به أبو بكر ، وآسيته حين بخلوا ، وقمت معه حين عنه قعدوا ، وصحبته فى الشدة أكرم الصحبة ، ثانى اثنين ، وصاحبه فى الغار ، والمنزل عليه السكينة ، ورفيقه فى الهجرة ومواطن الكريهة ، ثم خلفته فى أمته أحسن الخلافة حين ارتد الناس ، وقمت بدين الله قياما لم يقم به خليفة نبى قط ، قويت حين ضعف أصحابك ، وبدرت حين استكانوا ، ونهضت حين وهنوا ، ولزمت منهاج رسوله إذ هم أصحابه ، كنت خليفته حقا ، لم تنازع ولم تضرع برغم المنافقين وصغر الفاسقين وغيظ الكافرين وكره الحاسدين ، فقمت بالأمر حين فشلوا ، ونطقت حين تتعتعوا ، ومضيت بنور الله إذ وقفوا ، فاتبعوك ، فهدوا ، وكنت أخفضهم صوتا ، وأعلاهم فوقا ، وأقلهم كلاما ، وأصوبهم منطقا ، وأطولهم صمتا ، وأبلغهم قولا ، وكنت أكبرهم رأيا ، وأشجعهم قلبا ، وأحسنهم عملا ، وأعرفهم بالأمور ، كنت والله للدين يعسوبا أولا حين تفرق عنه الناس ، وآخرا حين أقبلوا ، كنت للمؤمنين أبا رحيما إذ صاروا عليك عيالا ، فحملت أثقال ما عنه ضعفوا ، وحفظت ما ضيعوا ، ورعيت ما أهملوا ، وشمرت إذ خنعوا ، وعلوت إذ هلعوا ، وصبرت إذ جزعوا ، فأدركت أوتار ما طلبوا ونالوا بك ما لم يحتسبوا ، كنت على الكافرين عذابا صبا ، وكنت للمسلمين غيثا وخصبا ، فطرت والله بغنائها ، وفزت بحبابها ، وذهبت بفضائلها ، وأحرزت سوابقها ، لم تفلل حجتك ، ولم

٢١٠

يزغ قلبك ، ولم تضعف بصيرتك ، ولم تجبن نفسك ، ولم تخن ، كنت كالجبل الذي لا تحركه العواصف ، ولا تزيله القواصف ، كنت كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمن الناس عليه فى صحبتك وذات يدك ، وكما قال : ضعيفا فى بدنك قويا فى أمر الله تعالى متواضعا فى نفسك ، عظيما عند الله ، جليلا فى الأرض ، كبيرا عند المؤمنين ، لم يكن لأحد فيك مهمز ، ولا لقائل فيك مغمز ، ولا لأحد فيك مطمع ، ولا عندك هوادة لأحد ، الضعيف الذليل عندك قوى عزيز حتى تأخذ له بحقه ، والقوى العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق ، القريب والبعيد عندك فى ذلك سواء ، شأنك الحق والصدق والرفق ، وقولك حكم وحتم ، ورأيك علم وعرف ، فأقلعت وقد نهج السبيل ، وسهل العسير ، وأطفئت النيران ، واعتدل بك الدين ، وقوى الإيمان ، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون ، فسبقت والله سبقا بعيدا ، وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا ، وفزت بالحق فوزا مبينا ، فجللت عن البكاء ، وعظمت رزيتك فى السماء ، وهدت مصيبتك الأنام ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، رضينا عن الله قضاءه ، وسلمنا لله أمره ، ولن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمثلك أبدا ، كنت للدين عزا وكهفا ، وللمؤمنين حصنا وفئة وأنسا ، وعلى المنافقين غلظة وغيظا وكظما ، فألحقك الله بميتة نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا حرمنا أجرك ، ولا أضلنا بعدك ، فإنا لله ، وإنا إليه راجعون(١).

وأنصت الناس حتى قضى كلامه ، ثم بكى وبكوا ، وقالوا : صدقت يا ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) انظر الخطبة فى : العقد الفريد (٥ / ١٩ ـ ٢٠).

٢١١

استخلاف عمر بن الخطاب (١)

وتقلد أمر الأمة وخلافة المسلمين بعد أبى بكر صاحبه ورفيقه وظهيره ووزيره عمر ابن الخطاب رضي‌الله‌عنهما ، بعهد أبى بكر إليه بذلك ، واستخلافه إياه عليه ، نظرا للدين ، ونصيحة لله وللأمة ، وذلك لما استعز بأبى بكر رضي‌الله‌عنه ، وجعه ، وثقل ، أرسل إلى عثمان وعلى ورجال من أهل السابقة والفضل من المهاجرين والأنصار ، فقال : قد حضر ما ترون ، ولا بد من قائم بأمركم يجمع فئتكم ويمنع ظالمكم من الظلم ، ويرد على الضعيف حقه ، فإن شئتم اخترتم لأنفسكم ، وإن شئتم جعلتم ذلك إلىّ ، فو الله لا آلوكم ونفسى خيرا. قالوا : قد رضينا من اخترت لنا ، قال : فقد اخترت عمر ، وقال لعثمان : اكتب : هذا ما عهد أبو بكر فى آخر عهده بالدنيا خارجا منها ، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها ، حين يتوب الفاجر ويؤمن الكافر ويصدق الكاذب ، عهد أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن وعد الله حق وصدق المرسلون ، وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخاتم النبيين صلى الله عليه وعلى أنبيائه ورسله ، وقد استخلفت.

ولما انتهى أبو بكر إلى هذا الموضع ضعف ورهقته غشية ، فكتب عثمان : وقد استخلفت عمر بن الخطاب ، وأمسك ، حتى أفاق أبو بكر فقال : أكتبت شيئا؟ قال : نعم ، كتبت عمر بن الخطاب ، فقال : رحمك الله ، أما لو كتبت نفسك لكنت لها أهلا ، فاكتب : قد استخلفت عمر بن الخطاب بعدى عليكم ، ورضيته لكم ، فإن عدل فذلك ظنى به ، ورأيى فيه ، وذلك أردت ، وما توفيقى إلا بالله ، وإن بدل فلكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، والخير أردت ، ولا أعلم الغيب ، وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون.

والتوى عمر رضي‌الله‌عنه ، على أبى بكر رحمه‌الله ، فى قبول عهده ، وقال : لا أطيق القيام بأمر الناس ، فقال أبو بكر لابنه عبد الرحمن : ارفعنى وناولنى السيف ، فقال عمر : أو تعفينى؟ قال : لا ، فعند ذلك قبل.

ذكر هذا كله أبو الحسن المدائنى ، وذكر بإسناد له عن أبى هريرة وغيره أنه لما عهد أبو بكر إلى عمر عهده قال له : يا عمر ، إن لله حقا فى الليل لا يقبله فى النهار ، وحقا فى النهار لا يقبله فى الليل ، ولا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة ، وإنه يا عمر إنما ثقلت

__________________

(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٣١).

٢١٢

موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق وخفته عليهم ، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا ، وإنه يا عمر إنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الباطل ، وخفته عليهم ، وحق لميزان لا يوضع فيه يوم القيامة إلا الباطل أن يكون خفيفا ، ألم تر أنه نزلت آية الرخاء مع آية الشدة ، وآية الشدة مع آية الرخاء ، ليكون المؤمن راغبا راهبا ، فلا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له ، ولا يرهب رهبة يلقى فيها بيده إلى التهلكة ، ألم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسيئ أعمالهم ، لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن ، فإذا ذكرتهم قلت : إنى لأخشى أن أكون منهم.

وفى رواية : عوضا من هذا ، فيقول قائل : أنا خير منهم ، فيطمع ، وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم ، لأنه تجاوز لهم عما كان من سيئ ، فإذا ذكرتهم قلت : إنى مقصر ، أين عملى من أعمالهم ، وفى رواية : عوضا من هذا ، فيقول قائل : من أين أدرك درجتهم ، ليجتهد ، فإن حفظت وصيتي يا عمر ، فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت ، وهو نازل بك ، وإن ضيعت وصيتي فلا يكونن غائب أكره لك من الموت ، ولست بمعجزه.

وعن أسماء بنت عميس قالت : لما أحس أبو بكر بنفسه أرسل إلى عمر ، فقال له : يا عمر إنى قد وليتك ما وليتك ، وقد صحبت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورأيت عمله ، وأثرته أنفسكم على نفسه ، وأهلكم على أهله ، حتى إن كنا لنظل نهدى إليه من فضل ما يأتينا من قبله ، وصحبتنى ورأيتنى وإنما اتبعت أثر من كان قبلى ، والله ما نمت فحملت ، ولا شبهت فتوهمت ، وإنى لعلى السبيل ما زغت ، وإن أول ما أحذرك نفسك ، فإن لكل نفس شهوة ، فإذا أعطيتها شهوتها تمادت فيها ورغبت فى غيرها.

وفى حديث غير هذا : وخذ هذه اللقحة فإنها من إبل الصدقة ، احتبستها للرسل إذا قدموا يصيبوا من رسلها ، وخذ هذا البرد فإنى كنت أتجمل به للوفود ، وخذ هذا السقاء وهذه العلبة فإنها من متاع إبل الصدقة ، وعلىّ ثمانية آلاف درهم ، ويقال : قال : ستة آلاف أخذتها للرسل ، ولمن كان يغشانا ، فأدها من مالى.

فخرج عمر متأبطا البرد ، وقد حمل السقاء والعلبة ، يقود اللحقة ، يبكى ويقول : يرحم الله أبا بكر ، لقد أتعب من بعده.

ومات أبو بكر رحمه‌الله ، ودفن ليلا ، فلما أصبح عمر بعثت إليه عائشة بناضح وعبد حبشى كان يسقى لآل أبى بكر على ذلك الناضح ، وقطيفة. فقبض عمر ذلك ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : سبحان الله ، تسلب عيال أبى بكر ناضحا وعبدا أسود كان

٢١٣

ينفعهم ، وقطيفة قيمتها خمسة دراهم؟ قال : فما ترى؟ قال : ترده عليهم ، قال : لا ورب الكعبة ، لا يكون ذلك وأنا حى ، يخرج منه أبو بكر وأرده أنا على عياله (١).

وعن المسور بن مخرمة أو علقمة بن أبى الفغواء الخزاعى قال : أرسل أبو بكر إلى عمر وهو مريض ، فأتاه ، فقال : يا عمر ، إنى كنت أرى الرأى فتشير علىّ بخلافه ، فأتهم نفسى لك ، ألا إنى قد عصيتك فى استعمال شرحبيل بن حسنة ، وقلت : أخاف ضعفه ، فقلت لك : قد كان له فى الإسلام نصيب ، وقد أحببت أن أبلوه ، فإن رأيت ما أحب أثبته ، وإن بلغنى عنه ضعف استبدلت به ، فلا عليك أن تقره على عمله ، وكنت تنهانى عن يزيد بن أبى سفيان ، فقلت لك : إن له موضعا فى قريش ، ونشأ بخير ، وكان فيه ، وقد أحببت أن أقيم له شرفه ، فلا عليك أن تقره على عمله ، ورجل لم أوصك بمثله ولا أراك فاعلا ، قال : تريد خالدا؟ قال : أريده.

فقال عمر : أما شرحبيل بن حسنة فقد كنت أشير عليك أن لا تبعثه ، وخفت ضعفه ، وأمرتك أن تبعث مكانه عمار بن ياسر ، ولم يبلغنا عنه إلا خير ، ولست عازله إلا أن يبلغنى عنه ما لا أستحل معه تركه ، وأما يزيد فقلت لك : غلام حديث السن لا سابقة له ، ابعث مكانه سعد بن أبى وقاص ، فلم يكن فى أمره إلا خير ، ولا أعزله إلا أن يبلغنى عنه ما لا أستحل معه تركه. وأما خالد ، فو الله ما أعدك فى أمره بما لا أفعل ولا أبدأ بأول من عزله ، وما كنت أرى لك أن تجعل مع أبى عبيدة ضدا ، وقد عرفت فضل أبى عبيدة.

فقال أبو بكر : أما أنى قد رأيت أبا عبيدة فى مرضى هذا آخذا بثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتبعه ، ولنعم المتبع ، ورأيتنى آخذا بثوب أبى عبيدة ، ولنعم المتقدم ، ثم سمعت خسفا ورائى ، فالتفت فإذا أنت وإذا الظلمة ، فاستلحقتك وما أبالى إذا لحقت بمن تخلف ، فكأنى أسمع وقع نعليك ، حتى أخذت بثوبى والتفت ، فإذا نفر يخرجون من الظلمة يزدحمون ، فالنجاء ، النجاء يا عمر.

وكانت من جماعة من المهاجرين موافقة لأبى بكر فى استخلاف عمر ليس إلا ، لما كانوا يعرفون من غلظته ، فيقول أبو بكر : هو والله إن شاء الله خيركم. وقال لبعضهم : إنى أرى ما لا ترون ، ولو قد أفضى إليه أمركم لترك كثيرا مما ترون ، إنى رمقته ، فإذا أغلظت فى أمر أرانى التسهيل ، وإذا لنت فى أمر تشدد فيه.

__________________

(١) انظر ما ذكره ابن قتيبة فى المعارف ص (١٧١).

٢١٤

وقال له طلحة والزبير : ما أنت قائل لربك إذ وليته مع غلظته؟ قال : ساندونى ، فأجلسوه ، فقال : أبالله تخوفوننى ، أقول : استعملت عليهم خير أهلك وحلفت ، ما تركت أحدا أشد حبا له من عمر ، ستعلمون إذا فارقتموه وتنافستموها.

ودخل عثمان وعلى فأخبرهما أبو بكر ، فقال عثمان : علمى به أنه يخاف الله فوله ، فما فينا مثله ، وقال على : يا خليفة رسول الله امض لرأيك ، فما نعلم إلا خيرا ، وخرجنا ودخل عمر ، فقال أبو بكر : كرهك كاره ، وأحبك محب. قال : لا حاجة لى بها ، قال : اسكت ، إنى ميت من مرضى هذا ، إنى رأيت بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنى فقت ثلاث فوقات ، فدسعت فى الآخرة طعاما ، فمرضت به مرضتين ، وهذه الثالثة ، فأنا ميت ، وإياك والأثرة على الناس ، وإياك والذخيرة فإن ذخيرة الإمام تهلك دينه.

ولما توفى أبو بكر رحمه‌الله ، كتب عمر رضي‌الله‌عنه ، إلى أبى عبيدة : أما بعد ، فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفى ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ورحمة الله على أبى بكر ، القائل بالحق ، والآمر بالقسط ، والآخذ بالعرف ، البر الشيم ، السهل القريب ، وأنا أرغب إلى الله فى العصمة برحمته ، والعمل بطاعته ، والحلول فى جنته ، إنه على كل شيء قدير ، والسلام عليك ورحمة الله (١).

وجاء بالكتاب يرفأ حتى أتى أبا عبيدة ، فقرأه فلم يسمع من أبى عبيدة حين قرأه شيء ينتفع به مقيم ولا ظاعن ، ودعا أبو عبيدة معاذ بن جبل فأقرأه الكتاب ، فالتفت معاذ إلى الرسول فقال : رحمة الله على أبى بكر ، ويح غيرك ، ما فعل المسلمون؟ قال :استخلف أبو بكر ، عمر ، فقال معاذ : الحمد لله ، وفقوا وأصابوا ، فقال أبو عبيدة : ما منعنى من مسألته منذ قرأت الكتاب حتى دعوتك لقراءته إلا مخافة أن يستقبلنى فيخبرنى أن الوالى غير عمر. فقال له الرسول : يا أبا عبيدة ، إن عمر يقول لك : أخبرنى عن حال الناس ، وأخبرنى عن خالد بن الوليد ، أى رجل هو؟ وأخبرنى عن يزيد بن أبى سفيان ، وعمرو بن العاص ، كيف هما فى حالهما ونصيحتهما للمسلمين؟ فقال أبو عبيدة : أما خالد فخير أمير ، أنصحه لأهل الإسلام ، وأحسنه نظرا لهم ، وأشده على عدوهم من الكفار ، ويزيد وعمرو فى نصيحتهما وجدهما كما يحب عمر ونحب ، قال : فأخبرنى عن أخويك : سعيد بن زيد ، ومعاذ بن جبل. قال : قل له هما كما عهدت ، إلا أن تكون السن زادتهما فى الدنيا زهادة ، وفى الآخرة رغبة.

__________________

(١) انظر : تاريخ فتوح الشام للأزدى ص (٩٨).

٢١٥

قال : ثم إن الرسول وثب لينصرف فقالا له : سبحان الله ، انتظر نكتب معك. فكتب :بسم الله الرحمن الرحيم من أبى عبيدة بن الحراج ومعاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب ، سلام عليك ، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فإنا عهدناك وأمر نفسك لك مهم ، فأصبحت قد وليت أمر هذه الأمة أحمرها وأسودها يجلس بين يديك ، الشريف والوضيع ، والعدو والصديق ، والضعيف والشديد ، ولكل حصته من العدل ، فانظر كيف تكون عند ذلك يا عمر ، إنا نذكرك يوما تبلى فيه السرائر ، وتكشف فيه العورات ، وتنقطع فيه الحجج ، وتزاح فيه العلل ، وتجب فيه القلوب ، وتعنو فيه الوجوه لعزة ملك قهرهم بجبروته ، فالناس له داخرون ، ينتظرون قضاءه ، ويخافون عقابه ، ويرجون رحمته.

وإنا كنا نتحدث على عهد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سيكون فى آخر الزمان ويروى : فى هذه الأمة ، رجال يكونون إخوان العلانية أعداء السريرة ، وإنا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا منك بغير المنزلة التي هو بها من أنفسنا ، والسلام.

فمضى الرسول بهذا الكتاب ، وقال أبو عبيدة لمعاذ : والله ما أمرنا عمر أن نظهر وفاة أبى بكر للناس ، ولا ننعاه إليهم ، فما أرى أن نذكر من ذلك شيئا دون أن يكون هو يذكره. فقال له معاذ : فإنك نعم ما رأيت. فسكتا ، فلم يذكرا للناس شيئا ، ولم يلبثا إلا مقدار ما قدم رسول عمر إليه حتى بعث إليهما بجواب كتابهما ، وبعهد أبى عبيدة ، وأمره بعظة الناس. وكان جوابه عن كتابهما : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين ، إلى أبى عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل ، سلام عليكما ، فإنى أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد. فإنى أوصيكما بتقوى الله ، فإنه رضاء ربكما وحفظ أنفسكما ، وغنيمة الأكياس لأنفسهم عند تفريط العجزة ، وقد بلغنى كتابكما تذكران أنكما عهدتمانى وأمر نفسى إلىّ مهم ، وما يدريكما؟ وكتبتما تذكران أنى وليت أمر هذه الأمة ، يقعد بين يدى العدو والصديق ، والقوى والضعيف ، ولكل علىّ حصته من العدل ، وتسألانى : كيف بى عند ذلك؟ وإنه لا حول ولا قوة إلا بالله ، وكتبتما تخوفانى بيوم هو آت ، يوم تحبب فيه القلوب ، وتعنوا فيه الوجوه ، وتنقطع فيه الحجج ، وتزيح فيه العلل ، لعزة ملك قهرهم بجبروته ، فالخلق له داخرون ، ينتظرون قضاءه ويخافون عقابه ، وكأن ذلك قد كان ، هذا الليل والنهار ، يبليان كل جديد ، ويقربان كل بعيد ، ويأتيان بكل موعود ، حتى يكون الناس بأعمالهم فريقا فى الجنة وفريقا فى السعير ، وكتبتما تذكران أنكما كنتما تحدثان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سيكون فى آخر الزمان إخوان العلانية أعداء السريرة ، وأن هذا ليس بزمان ذلك ، ولا أنتم أولئك ، وإنما ذلكم إذا ظهرت الرغبة

٢١٦

والرهبة ، وإذا كانت رغبة الناس بعضهم إلى بعض ، ورهبة بعضهم من بعض فى صلاح دنياهم ، وكتبتما تعوذان بالله من أن أنزل كتابكما من قلبى سوى المكان الذي تنزلانه من قلوبكما ، فإنكما كتبتما لى نظرا لى ، وقد صدقتما ، ولا غنى بى عن كتابكما ، فتعاهدانى بكتبكما ، والسلام.

وذكر المدائنى وغيره عن صالح بن كيسان ، قال : أول كتاب كتبه عمر حين ولى إلى أبى عبيدة يوليه على جند خالد بن الوليد : أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه ، الذي هدانا من الضلالة ، وأخرجنا من الظلمات إلى النور. وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد ، فقم بأمرهم الذي يحق لله عليك ، لا تقدم المسلمين إلى هلكة رجاء غنيمة ، ولا تنزلهم منزلا قبل أن تستريده لهم ، وتعلم كيف مأتاه ، ولا تبعث سرية إلا فى كثف من الناس ، وإياك وإلقاء المسلمين فى الهلكة ، وقد أبلاك الله وأبلى بك ، فغمض بصرك عن الدنيا ، وأله قلبك عنها ، وإياك أن تهلكك كما أهلكت من كان قبلك ، فقد رأيت مصارعهم (١).

وعن عباس بن سهيل بن سعد قال : قدم شداد بن أوس بعهد أبى عبيدة ، فدفعه إليه ، وشداد شاك ، فنزل مع أبى عبيدة ومعاذ بن جبل فى منزلهما وأمرهما واحد ، فكانا يقومان إليه حتى تماثل ، فمكث أبو عبيدة خمس عشرة ليلة يصلى خالد بالناس ويأمر بالأمر ، وما يعلم أن أبا عبيدة الأمير ، حتى جاء كتاب من عمر إلى أبى عبيدة ، فكره أن يخفيه ، وكان فى كتابه إليه : أما بعد ، فإنك فى كنف من المسلمين ، وعدد يكفى حصار دمشق ، فابعث سراياك فى أرض حمص ودمشق وما سواهما من الشام ، ولا يبعثنك قولى هذا على أن تعرى عسكرك فيطمع فيك عدوك ، ولكن نظر برأيك فما استغنيت عنه منهم فسيرهم ، وما احتجت إليه منهم فاحتبسهم عندك ، وليكن فيمن تحتبس عندك خالد ابن الوليد ، فإنه لا غنى بك عنه ، والسلام.

فلما قرأ أبو عبيدة كتابه على الناس ، قال خالد : يرحم الله أبا بكر ، لو كان حيا ما عزلنى. وولى عمر فولى أبا عبيدة ، فعافى الله أبا عبيدة ، كيف لم يعلمنى بولايته علىّ ثم أتى أبا عبيدة ، فقال له : رحمك الله ، أنت الأمير والوالى علىّ ولا تعلمنى؟ وأنت تصلى خلفى والسلطان سلطانك. فقال له أبو عبيدة : ما كنت لأعلمك به أبدا حتى تعلمه من عند غيرى ، وما سلطان الدنيا وإمارتها؟ فإن كل ما ترى يصير إلى زوال ، وإنما نحن أخوان فإننا أمة إخوة أو أمر عليه لم يضره ذلك فى دينه ولا دنياه ، بل لعل الوالى أن

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٣٤) ، المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٢٣٥ ـ ١٣٦).

٢١٧

يكون أقربهما إلى الفتنة ، وأوقعهما بالخطيئة ، إلا من عصم الله ، وقليل ما هم.

ذكر الخبر عما صار إليه أمر دمشق من الفتح والصلح بعد طول

الحصار فى خلافة عمر بن الخطاب ، على نحو ما ذكره من ذلك

أصحاب فتوح الشام

فتح دمشق (١) : قالوا : وتولى أبو عبيدة حصار دمشق ، وولى خالدا القتال على الباب الذي كان عليه ، وهو باب الشرقى ، وولاه الخيل إذا كان يوم يجتمع فيه المسلمون للقتال ، فحاصروا دمشق بعد مهلك أبى بكر رحمه‌الله ، وولايته حولا كاملا ، وأياما.

وكان أهلها قد بعثوا إلى قيصر وهو بأنطاكية : أن العرب قد حاصرتنا وضيقت علينا ، وليس لنا بهم طاقة ، وقد قاتلناهم مرارا ، فعجزنا عنهم ، فإن كان لك فينا وفى السلطان علينا حاجة فأمددنا وأغثنا وعجل علينا ، فإنا فى ضيق وجهد ، وإلا فقد أعذرنا ، والقوم قد أعطونا الأمان ، ورضوا منا من الجزية باليسير.

فأرسل إليهم : أن تمسكوا بحصنكم ، وقاتلوا عدوكم ، فإنكم إن صالحتموهم وفتحتم حصنكم لهم لم يفوا لكم ، وأجبروكم على ترك دينكم ، واقتسموكم بينهم ، وأنا مسرح إليكم الجيوش فى أثر رسولى.

فانتظروا مدده وجيشه ، فلما أبطأ عليهم وألح عليهم المسلمون بالتضييق وشدة الحصار ، ورأوا أن المسلمين لا يزدادون كل يوم إلا قوة وكثرة بعثوا إلى أبى عبيدة يسألونه الصلح. وكان أبو عبيدة أحب إلى الروم وسكان الشام من خالد بن الوليد ، وكان أن يكون كتاب الصلح من أبى عبيدة أحب إليهم ، لأنه كان ألينهما وأشدهما منهم استماعا ، وأقربهما منهم قربا ، وكان قد بلغهم أنه أقدمهما هجرة وإسلاما ، فكانت رسل صاحب دمشق : إنما تأتى أبا عبيدة وخالد ملح على الباب الذي يليه ، فأرسل صاحب دمشق إلى أبى عبيدة فصالحه ، وفتح له باب الجابية ، وألح خالد على باب الشرقى ففتحه عنوة ، فقال لأبى عبيدة : اقتلهم واسبهم ، فإنى قد فتحتها عنوة ، فقال أبو عبيدة : لا ، إنى قد أمنتهم(٢).

__________________

(١) انظر : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ١٤٢) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٤٣٤).

(٢) انظر : تاريخ اليعقوبى (١ / ١٤٠).

٢١٨

ودخل المسلمون دمشق ، وتم الصلح ، وجاء الجيش من قبل أنطاكية مددا لأهل دمشق ، فلما قدموا بعلبك أتاهم الخبر بأن دمشق قد افتتحت ، وكان عليهم در نجاران عظيمان ، كل درنجار على خمسة آلاف ، فكانوا عشرة آلاف ، فأقاموا وبعثوا إلى ملكهم يخبرونه بالمكان الذي هم فيه ، وبالخبر الذي بلغهم عن دمشق.

وذكر أبو جعفر الطبرى (١) أن شداد بن أوس هو الذي قدم الشام بوفاة أبى بكر ، ومعه محمية بن جزء ويرفأ ، فوجدوا المسلمين بالواقوصة يقاتلون عدوهم ، فتكتموا الخبر حتى ظفر المسلمون ، فعند ذلك أخبروا أبا عبيدة بوفاة أبى بكر ، وبولايته حرب الشام ، وعزل خالد.

وعن محمد بن إسحاق : أن المسلمين لما فرغوا من أجنادين ساروا إلى فحل من أرض الأردن ، وقد اجتمعت به رافضة الروم ، والمسلمين على أمرائهم ، فاقتتلوا فهزمت الروم ، ودخل المسلمون فحل ، ولحقت رافضة الروم بدمشق ، فسار المسلمون إلى دمشق ، وعلى مقدمة الناس خالد بن الوليد ، وقد اجتمعت الروم إلى رجل منهم يقال له باهان ، فالتقى المسلمون والروم حول دمشق فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثم هزم الله الروم فدخلوا دمشق ، وجثم المسلمون عليها فرابطوها حتى فتحت ، وقد كان الكتاب قدم على أبى عبيدة بإمارته وعزل خالد ، فاستحيا أبو عبيدة أن يعلم خالدا حتى فتحت دمشق وجرى الصلح على يدى خالد ، وكتب الكتاب باسمه ، فبعد ذلك أظهر أبو عبيدة إمارته. فلما صالحت دمشق لحق باهان صاحب الروم بهرقل (٢).

وخالف سيف بن عمرو ما تقدم من المساق والتاريخ فى أمر دمشق ، فذكر على ما سيأتى أن وقعة اليرموك كانت فى سنة ثلاث عشرة ، وأن المسلمين ورد عليهم البريد بوفاة أبى بكر باليرموك فى اليوم الذي هزمت الروم فى آخره ، وأن عمر رحمه‌الله ، أمرهم بعد الفراغ من اليرموك بالمسير إلى دمشق. وزعم أن فحلا كانت بعد دمشق ، خلافا لما ذكره ابن إسحاق من أنها كانت قبلها ، وأن رافضة فحل هم الذين صاروا إلى دمشق (٣).

وأما الواقدى فزعم أن فتح دمشق كان سنة أربع عشرة ، وكذا قال ابن إسحاق ،

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٣٤).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٣٤ ـ ٤٣٥).

(٣) انظر : تاريخ الطبرى (٤ / ٤٣٥ ـ ٤٣٦).

٢١٩

وزعم أن حصار المسلمين لها كان ستة أشهر ، وأن وقعة اليرموك كانت فى سنة خمس عشرة ، وبعدها فى تلك السنة بعينها جلا هرقل عن أنطاكية إلى قسطنطينية ، وأنه لم يكن بعد اليرموك وقعة. وسنورد إن شاء الله مما أوردوه على اختلافه ما نبلغ به المقصود من الإمتاع وتذكير الناس بأيام الله.

فأما خبر دمشق من رواية سيف فذكر أنه : لما هزم الله جند اليرموك ، وتهافت أهل الواقوصة ، وفرغ من المقاسم والأنفال ، وبعث بالأخماس ، وسرحت الوفود ، استخلف أبو عبيدة على اليرموك بشير بن كعب بن أبى الحميرى كيلا تغتال بردة ولا تقطع الروم مواده ، وخرج أبو عبيدة حتى نزل بالصفرين وهو يريد اتباع الفل ، ولا يدرى أيجتمعون أو يفترقون ، فأتاه الخبر بأنهم أرزوا إلى فحل ، وبأن المدد قد أتى على دمشق من حمص ، فهو لا يدرى أبدمشق يبدأ أم بفحل من بلاد الأردن ، فكتب فى ذلك إلى عمر ، وأقام بالصفرين ينتظر جوابه ، وكان عمر لما جاءه فتح اليرموك أقر الأمراء على ما كان استعملهم عليه أبو بكر ، إلا ما كان من عمرو بن العاص وخالد بن الوليد ، فإنه ضم خالد إلى أبى عبيدة ، وأمر عمرا بمعونة الناس حتى تصير الحرب إلى فلسطين ، ثم يتولى حربها (١).

فلما جاء عمر كتاب أبى عبيدة ، كتب إليه : أما بعد ، فابدءوا بدمشق ، وانهدوا لها ، فإنها حصن الشام وبيت مملكتهم ، واشغلوا عنهم أهل فحل بخيل تكون بإزائهم فى نحورهم ونحور أهل فلسطين وأهل حمص ، فإن فتحها الله قبل دمشق فذلك الذي نحب ، وإن تأخر فتحها حتى يفتح الله دمشق فلينزل دمشق من تمسك بها ، ودعوها ، وانطلق أنت وسائر الأمراء حتى تغيروا على فحل ، فإن فتح الله عليكم فانصرف أنت وخالد إلى حمص ، ودع شرحبيل وعمرا وأخلهما بالأردن وفلسطين ، وأمير كل بلد وجند على الناس حتى يخرجوا من إمارته (٢).

فسرح أبو عبيدة إلى فحل عشرة فيهم أبو الأعور وعمارة بن مخش ، وهو قائد الناس ، وكانت الرؤساء تكون من الصحابة ، فساروا من الصفرين حتى نزلوا قريبا من فحل ، فلما رأت الروم أن الجنود تريدهم بثقوا المياه حول فحل ، فأردغت (٣) الأرض ، ثم وحلت ، واغتنم المسلمون ذلك ، فحبسوا عن المسلمين ثمانين ألف فارس. وبعث أبو

__________________

(١) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٣٦).

(٢) انظر : تاريخ الطبرى (٣ / ٤٣٧ ـ ٤٣٨).

(٣) أردغت : الرداغ : الوحل الشديد.

٢٢٠