الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

ذكر مسير خالد بن الوليد رضي‌الله‌عنه ، إلى بزاخة وغيرها

قالوا : وسار خالد بن الوليد ومعه عدى بن حاتم ، وقد انضم إليه من طيء ألف رجل ، فنزل بزاخة ، وكانت جديلة معرضة عن الإسلام ، وهى بطن من طيء ، وكان عدى بن حاتم من الغوث ، وقد همت جديلة أن ترتد ، فجاءهم مكنف بن زيد الخيل الطائى ، فقال : أتريدون أن تكونوا سبة على قومكم ، لم يرجع رجل واحد من طيء ، وهذا أبو طريف عدى بن حاتم ، معه ألف رجل من طيء ، فكسرهم ، فلما نزل خالد بزاخة ، قال لعدى : يا أبا طريف ، ألا نسير إلى جديلة؟ فقال : يا أبا سليمان ، لا تفعل ، أقاتل معك بيدين أحب إليك ، أم بيد واحدة؟ فقال خالد : بل بيدين ، قال عدى : فإن جديلة إحدى يدى ، فكف خالد عنهم ، فجاءهم عدى فدعاهم إلى الإسلام ، فأسلموا ، فحمد الله وسار بهم إلى خالد.

فلما رآهم خالد فزع منهم ، وظن أنهم أتوا للقتال ، فصاح فى أصحابه بالسلاح ، فقيل له : إنما هى جديلة أتت تقاتل معك ، فلما جاءوا حلوا ناحية ، وجاءهم خالد ، فرحب بهم ، وفرح بهم ، واعتذروا إليه من اعتزالهم ، وقالوا : نحن لك حيث أحببت ، فجزاهم خيرا ، فلم يرتد من طيء رجل واحد ، فسار خالد على تعبئته ، وطلب إليه عدى أن يجعل قومه مقدمة أصحابه ، فقال : يا أبا طريف ، إن الأمر قد اقترب ، وأنا أخاف أن أقدم قومك ، فإذا ألحمهم القتال انكشفوا ، فانكشف من معنا ، ولكن دعنى أقدم قوما صبرا ، لهم سوابق ونيات ، وهم من قومك.

قال عدى : الرأى ما رأيت ، فقدم المهاجرين ، والأنصار ، ولم يزل خالد يقدم طليعته منذ خرج من بقعاء حتى قدم اليمامة ، وأمر عيونه أن يختبروا كل من مروا به عند مواقيت الصلاة بالأذان لها ، فيكون ذلك أمانا لهم ، ودليلا على إسلامهم ، وانتهى خالد والمسلمون إلى عسكر طليحة ، وقد ضربت لطليحة قبة من أدم ، وأصحابه حوله معسكرون ، فانتهى خالد ممسيا ، فضرب عسكره على ميل أو نحوه من عسكر طليحة ، وخرج يسير على فرس معه نفر من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوقف من عسكر طليحة غير بعيد ، ثم قال : يخرج إلى طليحة ، فقال أصحابه : لا تصغر اسم نبينا ، وهو طلحة. فخرج طليحة فوقف ، فقال له خالد : إن من عهد خليفتنا إلينا أن ندعوك إلى الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن تعود إلى ما خرجت منه ، فنقبل منك ، ونغمد سيوفنا عنك ، فقال : يا خالد ، أنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنى رسول الله ، وأنى نبى مرسل يأتينى ذو النون ، كما كان جبريل يأتى محمدا ، وقد كان ادعى هذا فى عهد النبيّ

١٠١

صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد ذكر ملكا عظيما فى السماء يقال له : ذو النون ، وكان عيينة بن حصن قد قال له : لا أبا لك ، هل أنت مرينا بعض نبوتك ، فقد رأيت ورأينا ما كان يأتى محمدا ، قال : نعم ، فبعث عيونا له حيث سار خالد بن الوليد من المدينة مقبلا إليهم قبل أن يسمع بذكر خالد ، وقال : إن بعثتم فارسين على فرسين أغرين محجلين من بنى نصر بن قعين أتوكم من القوم بعين ، فهيئوا فارسين ، فبعثوهما ، فخرجا يركضان ، فلقيا عينا لخالد بن الوليد ، فقالا : ما وراءك؟ فقال : هذا خالد بن الوليد فى المسلمين ، قد أقبلوا ، فأتوا به إليه ، فزادهم فتنة ، وقال : ألم أقل لكم؟.

فلما أبى طليحة على خالد أن يقر بما دعاه إليه انصرف خالد إلى معسكره ، فاستعمل تلك الليلة على حرسه مكنف بن زيد الخيل ، وعدى بن حاتم ، وكان لهما صدق نية ودين ، فباتا يحرسان فى جماعة من المسلمين ، فلما كان فى السحر ، نهض خالد فعبأ أصحابه ، ووضع ألويته مواضعها ، ودفع اللواء الأعظم إلى زيد بن الخطاب ، فتقدم به ، وتقدم ثابت بن قيس بن شماس بلواء الأنصار ، وطلبت طيء لواء يعقد لها ، فعقد خالد لواء ودفعه إلى عدى بن حاتم ، فلما سمع طليحة حركة القوم عبأ أصحابه ، وجعل خالد يسوى الصفوف على رجليه ، وطليحة يسوى أصحابه على راحلته ، حتى إذا استوت الصفوف زحف بهم خالد حتى دنا من طليحة ، فلما انتهى إليه ، خرج إليه طليحة بأربعين غلاما جلداء من جنوده ، مردا ، فأقامهم فى الميمنة ، فقال : اضربوا حتى تأتوا الميسرة ، فتضعضع الناس ولم يقتل أحد ، ثم أقامهم فى الميسرة ففعلوا مثل ذلك ، وانهزم المسلمون ، فقال رجل من هوازن ، حضرهم يومئذ : إن خالدا لما كان ذلك قال : يا معشر الأنصار ، الله الله ، واقتحم وسط القوم ، وكر عليه أصحابه ، فاختلطت الصفوف ، واختلفت السيوف بينهم ، وضرس خالد فى القتال ، فجعل يقحم فرسه ويقولون له : الله الله ، فإنك أمير القوم ، ولا ينبغى لك أن تقدم ، فيقول : والله إنى لأعرف ما تقولون ، ولكنى والله ما رأيتنى أصبر ، وأخاف هزيمة المسلمين.

وفيما ذكر الكلبى عن بعض الطائيين : أنه نادى مناد من طيء ، يعنى عند ما حمل أولئك الأربعون غلاما على المسلمين : يا خالد ، عليك سلمى وأجأ فقال : بل إلى الله الملجأ ، قال : ثم حمل ، فو الله ما رجع حتى لم يبق من أولئك الأربعين رجل واحد ، وقاتل خالد يومئذ بسيفين ، حتى قطعهما ، وتراد الناس بعد الهزيمة ، واشتد القتال ، وأسر حبال ابن أبى حبال ، فأرادوا أن يبعثوا به إلى أبى بكر ، فقال : اضربوا عنقى ولا ترونى محمديكم هذا ، فضربوا عنقه.

١٠٢

وذكر الواقدى عن ابن عمر ، قال : نظرت إلى راية طليحة يومئذ ، حمراء يحملها رجل منهم لا يزول بها فترا ، فنظرت إلى خالد أتاه فحمل عليه فقتله ، فكانت هزيمتهم ، فنظرت إلى الراية تطؤها الإبل والخيل والرجال حتى تقطعت.

وعنه ، قال : يرحم الله خالد بن الوليد ، لقد كان له غناء وجرأة ، ولقد رأيته يوم طليحة يباشر الحرب بنفسه حتى ليم فى ذلك ، ولقد رأيته يوم اليمامة يقاتل أشد القتال ، إن كان مكانه ليتقى حتى يطلع إلينا منبهرا.

ولما تراجع المسلمون ، وضرس القتال ، تزمل طليحة بكساء له ينتظر ، زعم أن ينزل عليه الوحى ، فلما طال ذلك على أصحابه وهدتهم الحرب ، جعل عيينة بن حصن يقاتل ويذمر الناس.

قال ابن إسحاق : قاتل يومئذ فى سبعمائة من فزارة قتالا شديدا ، حتى إذا لج المسلمون عليهم بالسيف وقد صبروا لهم ، أتى طليحة وهو متلثم فى كسائه ، فقال : لا أبا لك ، هل أتاك جبريل بعد؟ قال : يقول طليحة وهو تحت الكساء : لا والله ما جاء بعد ، فقال عيينة : تبا لك سائر اليوم ، ثم رجع عيينة فقاتل ، وجعل يحض أصحابه وقد ضجوا من وقع السيوف.

فلما طال ذلك على عيينة جاء طليحة وهو مستلق متسج بكسائه فجبذه جبذة جلس منها ، وقال له : قبح الله هذه من نبوة ، ما قيل لك بعد شيء؟ فقال : طليحة : قد قيل لى : إن لك رحا كرحاه ، وأمرا لن تنساه ، فقال عيينة : أظن قد علم الله أن سيكون لك أمر لن تنساه ، يا فزارة ، هكذا ، وأشار له تحت الشمس ، هذا والله كذاب ، ما بورك له ولا لنا فيما يطالب ، فانصرفت فزارة ، وذهب عيينة وأخوه فى آثارها ، فيدرك عيينة فأسر ، وأفلت أخوه ، ويقال : أسر عيينة عروة بن مضرس بن أوس بن حارثة بن لام الطائى ، فأراد خالد قتله حتى كلمه فيه رجل من بنى مخزوم ، فترك قتله.

ولما رأى طليحة أن الناس يقتلون ويؤسرون ، خرج منهزما ، وأسلمه الشيطان ، فأعجزهم هو وأخوه ، فجعل أصحابه يقولون له : ما ذا ترى؟ وقد كان أعد فرسه وهيأ امرأته النوار فوثب على فرسه ، وحمل امرأته وراءه فنجا بها ، وقال : من استطاع منكم أن يفعل كما فعلت فليفعل ، ولينج بأهله ، ثم هرب حتى قدم الشام ، فأقام عند بنى جفنة الغسانيين.

وفى كتاب يعقوب الزهرى : أن طليحة قال لأصحابه لما رأى انهزامهم : ويلكم ما

١٠٣

يهزمكم؟ فقال له رجل منهم : أنا أخبرك أنه ليس منا رجل إلا وهو يحب أن صاحبه يموت قبله ، وأنا نلقى قوما كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه.

وذكر ابن إسحاق أن طليحة لما ولى هاربا تبعه عكاشة بن محصن ، وثابت بن أقرم ، وقد كان طليحة أعطى الله عهدا أن لا يسأله أحد النزول إلا فعل ، فلما أدبر ناداه عكاشة : يا طليحة ، فعطف عليه ، فقتل عكاشة ، ثم أدركه ثابت ، فقتله أيضا طليحة ، ثم لحق بالشام. وقال طليحة يذكر قتله إياهما :

زعمتم بأن القوم لن يقتلوكم

أليسوا وإن لم يسلموا برجال

عدلت لهم صدر الحمالة إنها

معودة قيل الكماة نزال

فيوما تفى بالمشرفية خدها

ويوما تراها فى ظلال عوال

ويوما تراها فى الجلال مصونة

ويوما تراها غير ذات جلال

عشية غادرت ابن أقرم ثاويا

وعكاشة الغنمى عند مجال

فإن يك أذواد أصبن ونسوة

فلن يذهبوا فرغا بقتل حبال

وقد قيل فى قتلها غير هذا ، وهو ما ذكره الواقدى عن عميلة الفزارى ، وكان عالما بردتهم : أن خالد بن الوليد كان لما دنا من القوم بعث عكاشة وثابتا طليعة أمامه ، وكانا فارسين ، فلقيهما طليحة وأخاه مسيلمة ابنى خويلد ، طليعة لمن وراءهما من الناس ، وخلفوا عسكرهم من ورائهم ، فلما التقوا ، انفرد طليحة بعكاشة ، ومسلمة بثابت ، فلم يلبث مسلمة أن قتل ثابتا ، وصرخ طليحة بمسلمة : أعنى على الرجل فإنه قاتلى ، فكر معه على عكاشة ، فقاتلاه رحمه‌الله ، ثم كرا راجعين إلى من وراءهما ، وأقبل خالد معه المسلمون ، فلم يرعهم إلا ثابت بن أقرم قتيلا تطؤه المطى ، فعظم ذلك على المسلمين ، ثم لم يسيروا إلا يسيرا حتى وطئوا عكاشة قتيلا ، فثقل على المطى ، كما وصف واصفهم ، حتى ما تكاد المطى ترفع أخفافها.

وفى كتاب الزهرى : ثم لحقوا أصحاب طليحة ، فقتلوا وأسروا ، وصاح خالد : لا يطبخن رجل قدرا ولا يسخنن ماء إلا على أثفية رأس رجل ، وتظلف رجل من بنى أسد ، فوثب على عجز راحلة خالد وهو يقول :

لن يخزى الله قوما أنت قائدهم

يا ابن الوليد ولن تشقى بك الدبر

كفاك كف عقاب عند سطوتها

على العدو وكف برة عقر

أنشدك الله أن يكون هلاك مضر اليوم على يديك ، قال : من أنت ويحك؟ قال : أنا

١٠٤

الآباء بن قيس يا خالد ، حكمك فى بنى أسد ، قال : حكمى فيهم أن يقيموا الصلاة ، ثم يؤتوا الزكاة ، ثم يرجعوا إلى بلادهم ، فمن كان له بها مال فليعمده ، وليسلم عليه ، فهو له. فأقروا بذلك ، فنادى خالد : من قام فهو آمن ، فقام الناس كلهم ، فآمن من قام.

وسمعت بذلك بنو عامر ، فأعلنوا بالإسلام ، وأمر خالد بالحظائر أن تبنى ، ثم أوقد فيها النار ، ثم أمر بالأسرى ، فألقيت فيها ، وألقى يومئذ حامية بن سبيع بن الحسحاس الأسدي ، وهو الذي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استعمله على صدقات قومه فارتد عن الإسلام.

وأخذ أم طليحة ، إحدى نساء بنى أسد ، فعرض عليها الإسلام ، فأبت ، وو ثبت فاقتحمت النار وهى تقول :

يا موت عم صباحا

كافحته كفاحا

إذا لم أجد براحا

وذكر الواقدى عن يعقوب بن يزيد بن طلحة : أن خالدا جمع الأسارى فى الحظائر ، ثم أضرمها عليهم ، فاحترقوا وهم أحياء ، ولم يحرق أحد من بنى فزارة ، فقلت لبعض أهل العلم : لم حرق هؤلاء من بين أهل الردة؟ فقال : بلغت عنهم مقالة سيئة ، شتموا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وثبتوا على ردتهم.

وذكر عن غير يعقوب : أن خالدا أمر بالأخدود يحفر ، فقيل له : ما تريد بهذا الأخدود؟ قال : أحرقهم بالنار ، فكلم فى ذلك ، فقال : هذا عهد الصديق أبى بكر إلى ، اقرءوه فى كل مجمع : إن أظفرك الله بهم فاحرقهم بالنار.

وعن عبد الله بن عمر ، قال : شهدت بزاخة فظفرنا الله على طليحة ، فكنا كلما أغرنا على القوم سبينا الذرارى واقتسمنا أموالهم.

ذكر رجوع بنى عامر وغيرهم إلى الإسلام

ولما أوقع الله ببنى أسد وفزارة ما أوقع ببزاخة بعث خالد بن الوليد السرايا ليصيبوا ما قدروا عليه ممن هو على ردته ، وجعلت العرب تسير إلى خالد راغبة فى الإسلام أو خائفة من السيف ، فمنهم من أصابته السرية ، فيقول : جئت راغبا فى الإسلام ، وقد رجعت إلى ما خرجت منه ، ومنهم من يقول : ما رجعنا ولكنا منعنا أموالنا وشححنا

١٠٥

عليها ، فقد سلمناها فليأخذ منها حقه ، ومنهم من لم تظفر به السرايا ، فانتهى إلى خالد مقرا بالإسلام ، ومنهم من مضى إلى أبى بكر الصديق ولم يقرب خالدا.

قال الواقدى : فاختلفوا علينا فى قرة بن هبيرة القشيرى (١) ، فقال قائل : هرب إلى أبى بكر وأسلم عنده ، وقال قائل : أخذته خيل خالد ، فأتت به إليه ، ومنهم من قال : جاء إلى خالد بن الوليد شاردا حين جاءت بنو عامر إلى خالد ، وهو أثبت عندنا.

قال بعضهم : وكانت بنو عامر تربص لمن الدبرة ، وصاحب أمرهم قرة بن هبيرة ، فقام فيهم أبو حرب ربيعة بن خويلد العقيلى ، وهو يومئذ ، فارس عامر ورجلها ، فقال : مهلا يا بنى عامر ، قد قتلتم رسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى بئر معونة ، وأخفرتم ذمة أبى براء ، وأرداكم عامر بن الطفيل ، وقد أظلكم خالد فى المهاجرين والأنصار ، فكسرهم قوله ، وقد رضوه ، وكان عرض لعمرو بن العاص مقدمه من عمان بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع قرة بن هبيرة ما نذكره ، وذلك أن عمرا كان عاملا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على عمان ، فجاءه يوما يهودى من يهود عمان ، فقال : أرأيتك إن سألتك عن شيء أأخشى على منك؟ قال : لا ، قال اليهودى : أنشدك الله ، من أرسلك إلينا؟ قال : اللهم ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال اليهودى : الله إنك لتعلم أنه رسول الله؟ قال عمرو : اللهم نعم ، فقال اليهودى : لئن كان حقا ما تقول لقد مات اليوم.

فلما رأى عمرو ذلك جمع أصحابه وحواشيه ، وكتب ذلك اليوم الذي قال له اليهودى فيه ما قال ، ثم خرج بخفراء من الأزد وعبد القيس ، يأمن بهم ، فجاءته وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهجر ، ووجد ذكر ذلك عند المنذر بن ساوى ، فسار حتى قدم أرض بنى حنيفة ، فأخذ منهم خفيرا حتى جاء أرض بنى عامر ، فنزل على قرة بن هبيرة القشيرى ، فقال له حين أراد عمرو أن يركب : إن لك عندى نصيحة ، وأنا أحب أن تسمعها ، إن صاحبك قد توفى ، قال عمرو : وصاحبنا هو لا أم لك ، يعنى دونك ، قال له قرة : وإنكم يا معشر قريش كنتم فى حرمكم تأمنون فيه ويأمنكم الناس ، ثم خرج منكم رجل يقول ما سمعت ، فلما بلغنا ذلك لم نكرهه ، وقلنا ، رجل من مضر يريد يسوق الناس ، وقد توفى ، والناس إليكم سراع ، وإنهم غير معطيكم شيئا ، فالحقوا بحرمكم تأمنون فيه ، وإن كنت غير فاعل ، فعدنى حيث شئت آتك ، فوقع به عمرو وقال : إنى أرد عليك نصيحتك ، وموعدك حفش أمك ، قال قرة : إنى لم أرد هذا ، وندم على مقالته ، ويقال :

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢١٣٨) ، الإصابة الترجمة رقم (٧١٢١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤٢٩٦) ، الجرح والتعديل (٧ / ٧٤٠) ، التاريخ الكبير (٧ / ١٨١).

١٠٦

خرج مع عمرو فى مائة من قومه خفراء له. وأقبل عمرو بن العاص يلقى الناس مرتدين ، حتى أتى على ذى القصة ، فلقى عيينة بن حصن خارجا من المدينة ، وذلك حين قدم على أبى بكر يقول : إن جعلت لنا شيئا كفيناك ما وراءنا ، فقال له عمرو بن العاص : ما وراءك يا عيينة؟ من ولى الناس أمورهم؟ قال : أبو بكر. فقال عمرو : الله أكبر ، قال عيينة : يا عمرو ، استوينا نحن وأنتم ، فقال عمرو : كذبت يا ابن الأخابث من مضر ، وسار عيينة فجعل يقول لكل من لقى من الناس : احبسوا عليكم أموالكم. قالوا : فأنت ما تصنع؟ قال : لا يدفع إليه رجل من فزارة عناقا واحدة ، ولحق عند ذلك بطليحة الأسدي ، فكان معه.

وقدم عمرو المدينة ، فأخبر أبا بكر بما كان فى وجهه ، وبمقالة قرة بن هبيرة ، وبمقالة عيينة بن حصن ، وأتى عمرو خالدا حين بعثه أبو بكر إلى أهل الردة ، فجعل يقول : يا أبا سليمان ، لا يفلت منك قرة بن هبيرة ، فلما صنع الله بأهل بزاخة ما صنع ، عمد خالد إلى جبلى طيء فأتته عامر وغطفان يدخلون فى الإسلام ، ويسألونه الأمان على مياههم وبلادهم ، وأظهروا له التوبة ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، فأمنهم خالد ، وأخذ عليهم العهود والمواثيق ليبايعن على ذلك أبناءكم ونساءكم آناء الليل وآناء النهار ، فقالوا : نعم نعم ، ولما اجتمعوا إليه ، قال خالد : أين قرة بن هبيرة القشيرى؟ قال : ها أنا ذا ، قال : قدمه فاضرب عنقه ، وقال : أنت المتكلم لعمرو بن العاص بما تكلمت به وأنت المتربص بالمسلمين الدوائر ، ولم تنصر وقلت إن كانت الدائرة على المسلمين فمالي بيدى ، وجمعت قومك على ذلك ، ورأسك قومك ، ولم تكن بأهل أن ترأس ولا تطاع. قال : يا ابن المغيرة ، إن لى عند عمرو بن العاص شهادة ، فقال خالد : عمرو الذي نقل عنك إلى الخليفة ما تكلمت به.

ويروى أنه قال له هذا ما قال لك عمرو : سيأتيك فى حفش أمك. فقال له قرة : يا أبا سليمان ، إنى قد أجرته فأحسنت جواره ، وأنا مسلم لم ارتد ، فقال : لو لا ما تذكر لضربت عنقك ، ولكن لا بد أن أبعث بك فى وثاق إلى أبى بكر فيرى فيك رأيه ، فلما فرغ من بيعة بنى عامر أوثق عيينة بن حصن ، وقرة بن هبيرة ، وبعث بهما إلى أبى بكر الصديق.

قال ابن عباس : فقدم بهما المدينة فى وثاق ، فنظرت إلى عيينة مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ينخسه غلمان المدينة بالجريد ، ويضربونه ، ويقولون : أى عدو الله ، أكفرت بالله بعد إيمانك؟ فيقول : والله ما كنت آمنت بالله.

١٠٧

قالوا : ووقف عليه عبد الله بن مسعود ، فقال : خبت وخسرت ، إنك لموضع فى الباطل قديما ، فقال له عيينة : اقصر أيها الرجل ، فلو لا ما أنا فيه لم تكلمنى بما تكلمنى به ، فانصرف ابن مسعود ، وأتى بقرة بن هبيرة ، فقال : يا خليفة رسول الله ، والله ما كفرت ، وسل عمرو بن العاص ، فإن لى عنده شهادة ، لما أقبل من عمان خرجت فى مائة من قومى خفراء له ، وقبل ذلك ما أكرمت منزله ، ونحرت له ، فسأل أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، عمرا ، فقال : نزلت به ، فلم أر للضيف خيرا منه ، لم يترك ، وخرج معى فى مائة من قومه ؛ ثم ذكر عمرو ما قال له قرة ، فقال قرة : انزع يا عمرو ، فقال عمرو : لو نزعت نزعت ، فلم يعاقبه أبو بكر ، وعفا عنه ، وكتب له أمانا ، وقبل منه.

وكان فيمن ارتد من بنى عامر ولم يرجع معهم علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر ، فبعث أبو بكر إلى ابنته وامرأته ليأخذهما ، فقالت امرأته : ما لي ولأبى بكر ، إن كان علقمة قد كفر فإنى لم أكفر ، فتركها ، ثم راجع علقمة الإسلام زمن عمر رضي‌الله‌عنه ، فرد عليه زوجته.

وأخذ خالد بن الوليد من بنى عامر وغيرهم من أهل الردة ممن جامعهم وبايعه على الإسلام كل ما ظهر من سلاحهم ، واستحلفهم على ما غيبوا عنه ، فإن حلفوا تركهم ، وإن أبوا شدهم أسرا حتى أتوا بما عندهم من السلاح ، فأخذ منهم سلاحا كثيرا ، فأعطاه أقواما يحتاجون إليه فى قتال عدوهم ، وكتبه عليهم ، فلقوا به العدو ثم ردوه بعد ، فقدم به على أبى بكر ، رضي‌الله‌عنه.

وحدث يزيد بن شريك الفزارى ، عن أبيه ، قال : قدمت مع أسد وغطفان على أبى بكر وافدا حين فرغ خالد من بزاخة ، وجعلت أسد وغطفان تسلل ، فاجتمعوا عند أبى بكر ، فمنهم من بايع خالدا ، ومنهم من لم يبايعه ، فجاءوا إلى أبى بكر ، فقال أبو بكر : اختاروا بين خصلتين : حرب مجلية أو سلم مخزية ، قال خارجة بن حصن : هذه الحرب المجلية قد عرفتها ، فلما السلم المخزية؟.

قال : تقرون أن قتلانا فى الجنة ، وأن قتلاكم فى النار ، وأن تردوا علينا ما أخذتم منا ، ولا نرد عليكم مما أخذنا منكم شيئا ، وأن تدوا قتلانا دية كل قتيل مائة بعير ، منها أربعون فى بطونها أولادها ، ولا ندى قتلاكم ، ونأخذ منكم الحلقة والكراع ، وتلحقون بأذناب الإبل حتى يرى الله خليفة نبيه والمؤمنين ما شاء فيكم أو يرى منكم إقبالا إلى ما خرجتم منه. فقال خارجة بن حصن : نعم يا خليفة رسول الله ، قال أبو بكر : عليكم

١٠٨

عقد الله وميثاقه أن تقوموا بالقرآن آناء الليل وآناء النهار ، وتعلموه أولادكم ونساءكم ، ولا تمنعوا فرائض الله فى أموالكم ، قالوا : نعم ، فقال عمر : يا خليفة رسول الله ، كل ما قلت كما قلت إلا أن يدوا من قتلوا منا ، فإنهم قوم قتلوا فى سبيل الله ، واستشهدوا.

وفى رواية : فتتابع الناس على قول عمر ، وقبض أبو بكر رضي‌الله‌عنه ، كل ما قدر عليه من الحلقة والكراع ، فلما توفى ، رأى عمر رضي‌الله‌عنه ، أن الإسلام قد ضرب بجرانه ، فدفعه إلى أهله ، أو إلى عصبة من مات منهم.

ولما فرغ خالد من بزاخة وبنى عامر ومن يليهم ، أظهر أن أبا بكر عهد إليه أن يسير إلى أرض بنى تميم وإلى اليمامة ، فقال ثابت بن قيس بن شماس ، وهو على الأنصار ، وخالد على جماعة المسلمين : ما عهد إلينا ذلك ، وما نحن بسائرين ، وليست بنا قوة ، وقد كلّ المسلمون ، وعجف كراعهم. فقال خالد : أما أنا فلست بمستكره أحدا منكم ، فإن شئتم فسيروا ، وإن شئتم فأقيموا ، فسار خالد ومن تبعه من المهاجرين وأبناء العرب ، عامدا لأرض بنى تميم ، واليمامة ، وأقامت الأنصار يوما أو يومين ، ثم تلاومت فيما بينها ، وقالوا : والله ما صنعنا شيئا ، والله لئن أصيب القوم ليتولن : أخذلتموهم وأسلمتموهم ، وإنها لسبة باق عارها آخر الدهر ، ولئن أصابوا خيرا وفتح الله فتحا ، إنه لخير منعتموه ، فابعثوا إلى خالد يقيم لكم حتى تلحقوه ، فبعثوا إليه مسعود بن سنان ، ويقال : ثعلبة بن غنمة ، فلما جاءه الخبر أقام حتى لحقوه ، فاستقبلهم فى كثرة من معه من المسلمين ، لما أطلوا على العسكر حتى نزلوا ، وساروا جميعا حتى انتهى خالد بهم إلى البطاح من أرض بنى تميم ، فلم يجد بها جمعا ، ففرق السرايا فى نواحيها ، وكان فى سرية منها أبو قتادة الأنصاري.

قال : فلقينا رجل ، فقلنا : ممن أنت؟ قال : من بنى حنظلة ، فقلنا : أين من يمنع الصدقة منا الآن؟ قال : هم بمكان كذا وكذا ، فقلت : كم بيننا؟ قال : مائة ، فانطلقنا سراعا حتى أتيناهم حين طلعت الشمس ، ففزعوا حين رأونا ، وأخذوا السلاح ، وقالوا : من أنتم؟ قلنا : نحن عباد الله المسلمون ، قالوا : ونحن عباد الله المسلمون ، وكانوا اثنى عشر رجلا ، فيهم مالك بن نويرة ، قلنا : فضعوا السلاح واستسلموا ، ففعلوا ، فأخذناهم ، فجئنا بهم خالدا. وذكر من خبرهم ما يأتى بعد إن شاء الله تعالى.

وكان مالك بن نويرة قد بعثه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مصدقا إلى قومه بنى حنظلة ، وكان سيدهم ، فجمع صدقاتهم ، فلما بلغته وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جفل إبل الصدقة ، أى ردها من حيث

١٠٩

جاءت ، فلذلك سمى الجفول ، وجمع قومه ، فقال : إن هذا الرجل قد هلك ، فإن قام قائم من قريش بعد نجتمع عليه جميعا ، إن رضى منكم أن تدخلوا فى أمره ، ولم يطلب ما مضى من هذه الصدقة أبدا ، ولم تكونوا أعطيتم الناس أموالكم ، فأنتم أولى بها وأحق ، فتسارع إليه جمهور قومه وفرحوا بذلك ، فقام ابن قعنب ، وكان سيد بنى يربوع ، فقال : يا بنى تميم ، بئس ما ظننتم ، أن ترجعوا فى صدقاتكم ولا يرجع الله فى نعمه عليكم ، وأن تجردوا للبلاء ويلبسكم الله العافية ، وأن تستشعروا خوف الكفر ، وأن تسكنوا فى أمن الإسلام ، إنكم أعطيتم قليلا من كثير ، والله مذهب الكثير بالقليل ومسلط على أموالكم غدا من لا يأخذها على الرضى ولا يخيركم فى الصدقة ، وإن منعتموها قتلتم ، فأطيعوا الله واعصوا مالكا.

فقام مالك ، فقال : يا معشر بنى تميم ، إنما رددت عليكم أموالكم إكراما لكم ، وبقيا عليكم ، وإنه لا يزال يقوم قائم منكم يخطئنى فى ردها عليكم ويخطئكم فى أخذها ، فما أغنانى عما يضرنى ولا ينفعكم ، فو الله ما أنا بأحرصكم على المال ، ولا بأجزعكم من الموت ، ولا بأخفاكم شخصا إن أقمت ، ولا بأخفكم رحلة إن هربت ، فترضاه عند ذلك بنو حنظلة ، وأسندوا إليه أمرهم ، وقالوا : حربنا حربك وسلمنا سلمك ، فأخذوا أموالهم ، وأبى الله إلا أن يتم أمره فيهم ، وقال فى ذلك مالك :

وقال رجال سدد اليوم مالك

وقال رجال مالك لم يسدد

فقلت دعونى لا أبا لأبيكم

فلم أخط رأيا فى المعاد ولا البد

وقلت خذوا أموالكم غير خائف

ولا ناظر فيما يجىء به غد

فدونكموها إنها صدقاتكم

مصررة أخلافها لم تحرد

سأجعل نفسى دون ما تحذرونه

وأرهنكم يوما بما قلته يدى

فإن قام بالأمر المخوف قائم

أطعنا وقلنا الدين دين محمد

ولما بلغ ذلك أبا بكر والمسلمين حنقوا على مالك ، وعاهد الله خالد بن الوليد لئن أخذه ليقتلنه ، ثم ليجعلن هامته أثفية للقدر ، فلما أتى به أسيرا فى نفر من قومه ، أخذوا معه كما تقدم.

اختلف فيه الذين أخذوهم ، فقال بعضهم : قد والله أسلموا ، فما لنا عليهم من سبيل وفيمن شهد بذلك أبو قتادة الأنصاري ، وكان معهم فى تلك السرية ، وقالوا : إنا قد أذنا فأذنوا ، ثم أقمنا فأقاموا ، ثم صلينا فصلوا.

١١٠

وكان من عهد أبى بكر إلى خالد أن : أيما دار غشيتموها فسمعتم الأذان فيها بالصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ما ذا نقموا وما ذا يبغون ، وأيما دار غشيتموها فلم تسمعوا فيها الأذان ، فشنوا عليها الغارة ، فاقتلوا وحرقوا.

وشهد بعض من كان فى تلك السرية أنهم لم يسلموا ، وأنهم لم يسمعوهم كبروا ولا أذنوا ، وأن قتلهم وسبيهم حلال ، وكان ذلك رأى خالد فيهم.

قال أبو قتادة : فجئته فقلت : أقاتل أنت هؤلاء القوم؟ قال : نعم ، قلت : والله ما يحل لك قتلهم ، ولقد اتقونا بالإسلام ، فما عليهم من سبيل ، ولا أتابعك على قتلهم ، فأمر بهم خالد فقتلوا.

قال أبو قتادة : فتسرعت حتى قدمت على أبى بكر ، فأخبرته الخبر ، وعظمت عليه الشأن ، فاشتد فى ذلك عمر ، وقال : ارجم خالدا ، فإنه قد استحل ذلك ، فقال أبو بكر:والله لا أفعل ، إن كان خالد تأول أمرا فأخطأه.

وذكر يعقوب بن محمد الزهرى والواقدى فى مقتل مالك بن نويرة روايات غير ما تقدم ، استغنى عن إيرادها بما ذكر هنا. وفى بعض ذلك أن خالدا أمر برأسه فجعل أثفية لقدر حسب ما تقدم من نذره ذلك ، وكان من أكثر الناس شعرا ، فكانت القدر على رأسه ، فراحوا وإن شعره ليدخن وما خلصت النار إلى شواة رأسه.

وعاتب أبو بكر خالدا لما قدم عليه فى قتل مالك بن نويرة مع ما شهد له به أبو قتادة وغيره ، فاعتذر إليه خالد ، وزعم أنه سمع منه كلاما استحل به قتله ، فعذره أبو بكر وقبل منه.

ورثا متمم بن نويرة (١) أخاه مالكا بقصائد كثيرة منها قصيدته المشهورة المتخيرة فى مراثى العرب التي يقول فيها (٢) :

وكنا كندمانى جذيمة حقبة

من الدهر حتى قيل لن نتصدعا

فلما تفرقنا كأنى ومالكا

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

ويروى أن عمر بن الخطاب رحمه‌الله ، قال لمتمم بن نويرة : لوددت أنى رثيت أخى زيدا بمثل ما رثيت به مالكا أخاك ، وكان زيد أصيب يوم اليمامة ، فقال له متمم : يا أبا

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٥٤١) ، الإصابة الترجمة رقم (٧٧٣٣) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤٦٦٦).

(٢) انظر الأبيات فى ديوانه ص (١١).

١١١

حفص ، والله لو علمت أن أخى صار حيث صار أخوك ما رثيته ، فقال عمر : ما عزانى أحد عن أخى بمثل تعزيته.

قصة مسيلمة الكذاب وردة أهل اليمامة (١)

عن رافع بن خديج قال : قدمت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفود العرب ، فلم يقدم علينا وفد أقسى قلوبا ولا أحرى أن يكون الإسلام لم يقر فى قلوبهم من بنى حنيفة.

وقد تقدم ذكر قدوم مسيلمة فى قومه ، وأنه ذكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «أما أنه ليس بشركم مكانا ، لما كانوا أخبروه به من أنهم تركوه فى رحالهم حافظا لها» (٢).

ويروى من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكر له مسيلمة ، قال عند ما قدم فى قومه : لو جعل لى محمد الخلافة من بعده لاتبعته ، فجاءه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، معه ثابت بن قيس بن شماس ، وفى يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ميتخة من نخل فوقف عليه ، ثم قال : «لئن أقبلت ليفعلن الله بك ، ولئن أدبرت ليقطعن الله دابرك ، وما أراك إلا الذي رأيت فيه ما رأيت ، ولئن سألتنى هذه الشظية ، لشظية من الميتخة التي فى يده ، ما أعطيتكها ، وهذا ثابت يجيبك».

قال ابن عباس : فسألت أبا هريرة عن قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أراك إلا الذي رأيت فيه ما رأيت ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «بينا أنا نائم ، رأيت فى يدى سوارين من ذهب ، فنفختهما فطارا ، فوقع أحدهما باليمامة ، والآخر باليمن ، قيل : ما أولتهما يا رسول الله؟ قال : أولتهما كذابين يخرجان من بعدى» (٣).

ولما انصرف فى قومه إلى اليمامة ، ارتد عدو الله ، وادعى الشركة فى النبوة مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال للوفد الذين كانوا معه : «ألم يقل لكم حين ذكرتمونى له : أما أنه ليس بشركم مكانا ، ما ذاك إلا لما علم أنى أشركت فى الأمر معه» ، وكتب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله ، أما بعد ، فإنى قد أشركت فى الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ، ولكن قريشا قوم يعتدون.

__________________

(١) راجع : المنتظم (٤ / ٧٩ ـ ٨٣) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٢٨٠ ـ ٢٨١).

(٢) انظر الحديث فى : فتح البارى لابن حجر (٧ / ٦٩١) ، الطبقات الكبرى لابن سعد (١ / ٣١٧).

(٣) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٥ / ٢١٧ ، ٩ / ٥٢) ، مسند الإمام أحمد (١ / ٢٦٣) ، البداية والنهاية لابن كثير (٥ / ٥٠) ، فتح البارى لابن حجر (١٢ / ٤٢٠).

١١٢

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بهذا الكتاب رسولان لمسيلمة ، فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قرءا كتابه : «فما تقولان أنتما؟» قالا : نقول كما قال ، فقال : «أما والله لو لا أن الرسل ما تقتل لضربت أعناقكما» ، ثم كتب إلى مسيلمة : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى مسيلمة الكذاب ، أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين (١)».

قال ابن إسحاق : وكان ذلك فى آخر سنة عشر ، وذكر غيره أن ذلك كان بعد انصراف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من حجة الوداع ، ووقوعه فى المرض الذي توفاه الله فيه ، فالله تعالى أعلم.

وجد بعدو الله ضلاله بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأصفقت معه حنيفة على ذلك ، إلا أفدادا من ذوى عقولهم ، ومن أراد الله به الخير منهم ، وكان من أعظم ما فتن به قومه شهادة الرجال بن عنفوة له بإشراك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إياه فى الأمر ، وكان من قصة الرجال أنه قدم مع قومه وافدا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرأ القرآن وتعلم السنن.

قال ابن عمر : وكان من أفضل الوفد عندنا ، قرأ البقرة وآل عمران ، وكان يأتى أبيا يقرئه فقدم اليمامة ، وشهد لمسيلمة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه أشركه فى الأمر من بعده ، فكان أعظم أهل اليمامة فتنة من غيره ، لما كان يعرف به.

وقال رافع بن خديج : كان بالرجال من الخشوع ولزوم قراءة القرآن والخير فيما نرى شيء عجيب ، خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يوما وهو معنا جالس مع نفر ، فقال : «أحد هؤلاء النفر فى النار» (٢). قال رافع : فنظرت فى اليوم ، فإذا بأبى هريرة وأبى أروى الدوسى وطفيل بن عمرو الدوسى ، والرجال بن عنفوة ، فجعلت أنظر وأعجب ، وأقول : من هذا الشقى؟ فلما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رجعت بنو حنيفة ، فسألت : ما فعل الرجال؟ قالوا : افتتن ، هو الذي شهد لمسيلمة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه أشركه فى الأمر من بعده ، فقلت : ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو حق.

قالوا : وسمع الرجال يقول : كبشان انتطحا ، فأحبهما إلينا كبشنا. وكان ابن عمير اليشكرى من سراة أهل اليمامة وأشرافهم ، وكان مسلما يكتم إسلامه ، وكان صديقا

__________________

(١) انظر الحديث فى : البداية والنهاية لابن كثير (٦ / ٣٨٤) ، مسند أبى حنيفة (١٨٠).

(٢) انظر الحديث فى : معجم الطبرانى الكبير (٤ / ٣٣٨) ، إتحاف السادة المتقين للزبيدى (٧ / ١٨١) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٨ / ٢٩٠).

١١٣

للرجال ، فقال شعرا فشا فى اليمامة حتى كانت المرأة والوليدة والصبى ينشدونه ، فقال :

يا سعاد الفؤاد بنت أثال

طال ليلى بفتنة الرجال

إنها يا سعاد من حديث الده

ر عليكم كفتنة الرجال

فتن القوم بالشهادة والل

ه عزيز ذو قوة ومحال

لا يساوى الذي يقول من الأم

ر قبالا وما احتذى من قبال

إن دينى دين النبيّ وفى القو

م رجال على الهدى أمثالى

أهلك القوم محكم بن طفيل

ورجال ليسوا لنا برجال

بزهم أمرهم مسيلمة اليو

م فلن يرجعوه أخرى الليالى

قلت للنفس إذ تعاظمها الصب

ر وساءت مقالة الأقوال

ربما تجزع النفوس من الأم

ر له فرجة كحل العقال

إن تكن ميتتى على فطرة الل

ه حنيفا فإننى لا أبالى

فبلغ ذلك مسيلمة ، ومحكما ، وأشراف أهل اليمامة ، فطلبوه ، ففاتهم ، ولحق بخالد بن الوليد ، فأخبره بحال أهل اليمامة ، ودله على عوراتهم ، وقالوا : إن رجلا من بنى حنيفة كان أسلم ، وأقام عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحسن إسلامه ، فأرسله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى مسيلمة ليقدم به عليه ، وقال الحنفى : إن أجاب أحدا من الناس أجابنى ، وعسى أن يجيبه الله ، فخرج حتى أتاه ، فقال : إن محمدا قد أحب أن تقدم عليه ، فإنك لو جئته لم يفارقك إلا عن رضى ، ورفق له ، وجعل يأتيه خاليا ، فيلقى هذا القول إليه ، فلما أكثر عليه قال : انظر فى ذلك ، فشاور الرجال بن عنفوة وأصحابه ، فقالوا : لا تفعل ، إن قدمت عليه قتلك ، ألم تسمع كلامه وما قال.

فأبى مسيلمة أن يقدم معه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبعث معه رجلين ممن يصدق به ليكلماه ويخبراه بما قال الحنفى ، فخرج الرسولان حتى قدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مع رسوله ، فتشهد أحدهما برسول الله وحده ، ثم كلمه بما بدا له ، فلما قضى كلامه تشهد الآخر ، فذكر رسول الله وذكر مسيلمة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذبت ، خذوا هذا فاقتلوه» ، فثار المسلمون إليه يلببونه ، وأخذ صاحبه بحجزه وجعل يقول : يا رسول الله ، اعف عنه ، بأبى أنت وأمى ، فيجاذبه إياه المسلمون ، فلما أرسلوه تشهد بذكر رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده ، وأسلم هو وصاحبه ، فلما توفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرجا فقدما على أهليهما باليمامة ، وقد فتن الذي أمسك بحجزة صاحبه ذلك ، فقتل مع مسيلمة ، وثبت الممسك بحجزته ، وكان بعد يخبر خالد بن الوليد بعورة بنى حنيفة ، وأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، رسوله

١١٤

إلى مسيلمة كيف رفق به حتى أراد أن يقدم لو لا أن الرجال نهاه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يقتله الله ، ويقتل الرجال معه ، ففعل الله ذلك بهما ، وأنجز وعده فيهما.

واستضاف مسيلمة إلى ضلاله فى دين الله وتكذبه على الله ضلالة سجاح ، وكانت امرأة من بنى تميم ، أجمع قومها أنها نبية ، فادعت الوحى ، واتخذت مؤذنا وحاجبا ومنبرا ، فكانت العشيرة إذا اجتمعت تقول : الملك فى أقربنا من سجاح ، وفيها يقول عطارد بن حاجب بن زرارة :

أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها

وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا

ثم إن سجاح رحلت تريد حرب مسيلمة ، وأخرجت معها من قومها من تابعها على قولها وهم يرون أن سجاح أولى بالنبوة من مسيلمة ، فلما قدمت عليه خلا بها ، وقال لها : تعالى نتدارس النبوة ، أينا أحق؟ فقالت سجاح : قد أنصفت ، وفى الخبر بعد هذا من قوله ما يحق الإعراض عن ذكره.

وقد قيل إن سجاح إنما توجهت إلى مسيلمة مستجيرة به لما وطئ خالد العرب ورأت أنه لا أحد أعز لها منه ، وقد كانت أمرت مؤذنها شبت بن ربعى أن يؤذن بنبوة مسيلمة ، فكان يفعل ، فلما قدمت على مسيلمة قالت : اخترتك على من سواك ونوهت باسمك ، حتى إن مؤذنى ليؤذن بنبوتك ، فخلا بها ليتدارسا النبوة.

ولما قتل مسيلمة ، أخذ خالد بن الوليد سجاح ، فأسلمت ورجعت إلى ما كانت عليه ، ولحقت بقومها.

وعظمت فتنة بنى حنيفة بكذابهم هذا حتى كان يدعو لمريضهم ويبرك على مولودهم ، ولا ينهاهم عن اغترارهم به ما يشاهدون من قلة غنائه عنهم. جاءه قوم بمولود ، فمسح رأسه فقرع وقرع كل مولود له ، وجاءه آخر ، فقال : يا أبا ثمامة ، إنى ذو مال ، وليس لى مولود يبلغ سنتين حتى يموت غير هذا المولود ، وهو ابن عشر سنين ، ولى مولود ولد أمس ، فأحب أن تبارك فيه وتدعو أن يطيل الله عمره ، فقال : سأطلب لك الذي طلبت ، فجعل عمر المولود أربعين سنة ، فرجع الرجل إلى منزله مسرورا ، فوجد الأكبر قد تردى فى بئر ، ووجد الصغير ينزع فى الموت ، فلم يمس من ذلك اليوم حتى ماتا جميعا ، تقول أمهما : فلا والله ما لأبى ثمامة عند إلهه مثل منزلة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قالوا : وحفرت بنو حنيفة بئرا ، فأعذبوها نتاحا ، فجاءوا إلى مسيلمة ، فطلبوا إليه أن يأتيها ، وأن يبارك فيها ، فأتاها ، فبصق فيها ، فعادت أجاجا.

١١٥

وكان أبو بكر الصديق رضي‌الله‌عنه ، قد عاهد خالدا إذا فرغ من أسد وغطفان والضاحية أن يقصد اليمامة ، وأكد عليه فى ذلك ، فلما أظفر الله خالدا بأولئك تسلل بعضهم إلى المدينة يسألون أبا بكر أن يبايعهم على الإسلام ويؤمنهم ، فقال لهم : بيعتى إياكم وأمانى لكم أن تلحقوا بخالد بن الوليد ومن معه من المسلمين ، فمن كتب إلى خالد بأنه حضر معه اليمامة فهو آمن ، فليبلغ شاهدكم غائبكم ، ولا تقدموا على ، اجعلوا وجوهكم إلى خالد.

قال أبو بكر بن أبى الجهم : أولئك الذين لحقوا خالد بن الوليد من الضاحية الذين كانوا انهزموا بالمسلمين يوم اليمامة ثلاث مرات ، وكانوا على المسلمين بلاء.

وقال شريك الفزارى : كنت ممن حضر بزاخة مع عيينة بن حصن ، فرزق الله الإنابة ، فجئت أبا بكر ، فأمرنى بالمسير إلى خالد ، وكتب معى إليه : أما بعد ، فقد جاءنى كتابك مع رسولك تذكر ما أظفرك الله بأهل بزاخة ، وما فعلت بأسد وغطفان ، وإنك سائر إلى اليمامة ، وذلك عهدى إليك ، فاتق الله وحده لا شريك له ، وعليك بالرفق بمن معك من المسلمين ، كن لهم كالوالد ، وإياك يا خالد بن الوليد ونخوة بنى المغيرة ، فإنى قد عصيت فيك من لم أعصه فى شيء قط ، فانظر بنى حنيفة إذا لقيتهم إن شاء الله ، فإنك لم تلق قوما يشبهون بنى حنيفة كلهم عليك ، ولهم بلاد واسعة ، فإذا قدمت فباشر الأمر بنفسك ، واجعل على ميمنتك رجلا وعلى ميسرتك رجلا ، واجعل على خيلك رجلا ، واستشر من معك من الأكابر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من المهاجرين والأنصار ، واعرف لهم فضلهم ، فإذا لقيت القوم وهم على صفوفهم ، فالقهم إن شاء الله وقد أعددت للأمور أقرانها ، فالسهم للسهم ، والرمح للرمح ، والسيف للسيف ، فإذا صرت إلى السيف فهو الثكل ، فإن أظفرك الله بهم فإياك والإبقاء عليهم ، اجهز على جريحهم ، واطلب مدبرهم ، واحمل أسيرهم على السيف ، وهول فيهم القتل ، واحرقهم بالنار ، وإياك أن تخالف أمرى ، والسلام عليك.

فلما انتهى الكتاب إلى خالد اقترأه ، وقال : سمع وطاعة.

ولما اتصل بأهل اليمامة مسير خالد إليهم بعد الذي صنع الله له فى أمثالهم حيرهم ذلك وجزع له محكم بن الطفيل سيدهم ، وهم أن يرجع إلى الإسلام ، فبات يتلوى على فراشه ، وهو يقول :

أرى الركبان تخبر ما كرهنا

أكل الركب يكذب ما يقول

١١٦

ألا لا ليس كلهم كذوبا

وقد كذبوا وكذبهم قليل

وقد صدقوا لهم منا ومنهم

لنا إن حاربوا يوم طويل

فقل لابن الوليد وللمنايا

على السراء والضراء دليل

أيقطع بيننا حبلا وصال

فليس إليهما أبدا سبيل

وما فى الحرب أعظم من جريح

وعان خر بينهما قتيل

فلما سمع القوم كلامه ، عرفوا أنه ثابت على ضلالته معهم ، وفرح بذلك منه مسيلمة ، وكان محكم سيد أهل اليمامة ، وكان صديقا لزياد بن لبيد بن بياضة من الأنصار ، فقال له خالد فى بعض الطريق : لو ألقيت إلى محكم شيئا تكسره به ، فإنه سيد أهل اليمامة ، وطاعة القوم له ، فبعث إليه مع راكب ، ويقال : بل بعث بها إليه حسان بن ثابت من المدينة :

يا محكم بن طفيل قد أتيح لكم

لله در أبيكم حية الوادى

يا محكم بن طفيل إنكم نفر

كالشاء أسلمها الراعى لآساد

ما فى مسيلمة الكذاب من عوض

من دار قوم وإخوان وأولاد

فاكفف حنيفة عنه قبل نائحة

تنعى فوارس شاخ شجوها بادى

لا تأمنوا خالدا بالبرد معتجرا

تحت العجاجة مثل الأغضف العاد

ويل اليمامة ويلا لا فراق له

إن جالت الخيل فيها بالقنا الصاد

والله لا تنثنى عنكم أعنتها

حتى تكونوا كأهل الحجر أو عاد

ووردت على محكم ، وقيل له : هذا خالد بن الوليد فى المسلمين ، فقال : رضى خالد أمرا ورضينا غيره ، وما ينكر خالد أن يكون فى بنى حنيفة من قد أشرك فى الأمر ، فسيرى خالد إن قدم علينا يلق قوما ليسوا كمن لقى ، ثم خطب أهل اليمامة فقال : يا معشر أهل اليمامة إنكم تلقون قوما يبذلون أنفسهم دون صاحبهم ، فابذلوا أنفسكم دون صاحبكم ، فإن أسدا وغطفان إنما أشار إليهم خالد بذباب السيف ، فكانوا كالنعام الشارد ، وقد أظهر خالد بن الوليد بأوا حيث أوقع ببزاخة ما أوقع ، وقال : هل حنيفة إلا كمن لقينا.

وكان عمير بن ضابئ اليشكرى فى أصحاب خالد ، وكان من سادات اليمامة ، ولم يكن من أهل حجر ، كان من أهل ملمم ، وهى لبنى يشكر ، فقال له خالد : تقدم إلى قومك ، فاكسرهم ، فأتاهم ، ولم يكونوا علموا بإسلامه ، وكان مجتهدا فارسا سيدا ، فقال : يا معشر أهل اليمامة ، أظلكم خالد فى المهاجرين والأنصار ، تركت القوم يتتابعون

١١٧

إلى فتح اليمامة ، قد قضوا وطرا من أسد وغطفان وعليا وهوازن ، وأنتم فى أكفهم ، وقولهم : لا قوة إلا بالله ، إنى رأيت أقواما إن غلبتموهم بالصبر غلبوكم بالنصر ، وإن غلبتموهم على الحياة غلبوكم على الموت ، وإن غلبتموهم بالعدد غلبوكم بالمدد ، لستم والقوم سواء ، الإسلام مقبل ، والشرك مدبر ، وصاحبهم نبى ، وصاحبكم كذاب ، ومعهم السرور ، ومعكم الغرور ، فالآن والسيف فى غمده والنبل فى جفيره قبل أن يسل السيف ويرمى بالسهم سرت إليكم مع القوم عشرا.

فكذبوه واتهموه ، فرجع عنهم ، وقام ثمامة بن أثال الحنفى (١) فى بنى حنيفة ، فقال : اسمعوا منى وأطيعوا أمرى ترشدوا ، إنه لا يجتمع نبيان بأمر واحد ، وإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا نبى بعده ، ولا نبى مرسل معه ، ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم : (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [غافر : ١ ، ٣].

هذا كلام الله عزوجل ، أين هذا من : يا ضفدع نقى كم تنقين ، لا الشرب تمنعين ، ولا الماء تكدرين ، والله إنكم لترون أن هذا الكلام ما يخرج من إل ، وقد استحق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أمرا أذكره به ، مر بى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا على دين قومى ، فأردت قتله ، فحال بينى وبينه عمير ، وكان موفقا ، فأهدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دمى ، ثم خرجت معتمرا ، فبينا أنا أسير قد أظللت على المدينة أخذتنى رسله فى غير عهد ولا ذمة ، فعفا عن دمى وأسلمت ، فأذن لى فى الخروج إلى بيت الله ، وقلت : يا رسول الله ، إن بنى قشير قتلوا أثالا فى الجاهلية ، فأذن لى أغزهم ، فغزوتهم ، وبعثت إليه بالخمس ، فتوفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقام بهذا الأمر من بعده رجل هو أفقههم فى أنفسهم ، لا تأخذه فى الله لومة لائم ، ثم بعث إليكم رجلا لا يسمى باسمه ولا اسم أبيه ، يقال له : سيف الله ، معه سيوف لله كثيرة ، فانظروا فى أمركم (٢) ، فآذاه القوم جميعا ، أو من آذاه منهم ، فقال ثمامة :

مسيلمة ارجع ولا تمحك

فإنك فى الأمر لم تشرك

كذبت على الله فى وحيه

فكان هواك هوى الأنوك

ومناك قومك أن يمنعوك

وإن يأتهم خالد تترك

فما لك من مصعد فى السماء

ولا لك فى الأرض من مسلك

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٨٢) ، الإصابة الترجمة رقم (٩٦٣) ، الوافى بالوفيات (١١ / ٢١٩) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٦٩).

(٢) راجع ما ذكره ابن عبد البر فى الاستيعاب فى قصة ثمامة الترجمة رقم (٢٨٢).

١١٨

ذكر تقديم خالد بن الوليد الطلائع أمامه من البطاح (١)

قالوا : ولما سار خالد بن الوليد من البطاح ، ووقع فى أرض بنى تميم ، قدم أمامه مائتى فارس عليهم معن بن عدى العجلانى ، وبعث معه فرات بن حيان العجلى دليلا ، وقدم عينين له أمامه ، مكنف بن زيد الخيل الطائى ، وأخاه.

وذكر الواقدى : أن خالدا لما نزل العارض ، قدم مائتى فارس ، وقال : من أصبتم من الناس فخذوه ، فانطلقوا حتى أخذوا مجاعة بن مرارة الحنفى فى ثلاثة وعشرين رجلا من قومه قد خرجوا فى طلب رجل من بنى نمير أصاب فيهم دما ، فخرجوا وهم لا يشعرون بمقبل خالد ، فسألوهم : ممن أنتم؟ قالوا : من بنى حنيفة ، فظن المسلمون أنهم رسل من مسيلمة إلى خالد ، فلما أصبحوا وتلاحق الناس ، جاءوا بهم إلى خالد ، فلما رآهم ظن أيضا ، أنهم رسل من مسيلمة ، فقال : ما تقولون يا بنى حنيفة فى صاحبكم؟ فشهدوا أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لمجاعة : ما تقول أنت؟ فقال : والله ما خرجت إلا فى طلب رجل من بنى نمير أصاب فينا دما ، وما كنت أقرب مسيلمة ، ولقد قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأسلمت ، وما غيرت ولا بدلت ، فقدم القوم ، فضرب أعناقهم على دم واحد ، حتى إذا بقى سارية بن مسيلمة بن عامر قال : يا خالد ، إن كنت تريد بأهل اليمامة خيرا أو شرا فاستبق هذا ، يعنى مجاعة (٢) ، فإنه لك عون على حربك وسلمك.

وكان مجاعة شريفا ، فلم يقتله ، وأعجب بسارية وكلامه ، فتركه أيضا ، وأمر بهما فأوثقا فى جوامع حديد ، وكان يدعو مجاعة وهو كذلك فيتحدث معه ، ومجاعة يظن أن خالدا يقتله ، فبينما هما يتحدثان ، قال له : يا ابن المغيرة ، إن لى إسلاما ، والله ما كفرت ، ولقد قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرجت من عنده مسلما ، وما خرجت لقتال ، وأعاد ذكر خروجه فى طلب النميرى ، فقال خالد : إن بين القتل والترك منزلة ، وهى الحبس حتى يقضى الله فى حربنا ما هو قاض ، ودفعه إلى أم متمم امرأته التي تزوجها لما قتل زوجها مالك بن نويرة وأمرها أن تحسن إساره ، فظن مجاعة أن خالدا يريد حبسه لأن يشير عليه ويخبره عن عدوه ، فقال : يا خالد ، إنه من خاف يومك خاف غدك ، ومن

__________________

(١) راجع : المنتظم لابن الجوزى (٤ / ٧٨ ـ ٧٩) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٢٧٦) ، الأغانى (١٥ / ٢٢٩ ـ ٣٠٢).

(٢) هو : مجاعة بن مرارة اليمامى. انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٥٤٥) ، الإصابة الترجمة رقم (٧٧٣٨) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٤٩٧١) ، تهذيب الكمال (٣ / ١٣٠٤) ، تقريب التهذيب (٢ / ٢٢٩) ، تجريد أسماء الصحابة (٢ / ٥١).

١١٩

رجاك رجاهما ، ولقد خفتك ورجوتك ، ولقد علمت أنى قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبايعته على الإسلام ، ثم رجعت إلى قومى ، وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس ، فإن يكن كذاب خرج فينا ، فإن الله يقول : (لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [فاطر : ١٨].

وقد عجلت فى قتل أصحابى قبل التأنى بهم ، والخطأ مع العجلة ، فقال خالد : يا مجاعة ، تركت اليوم ما كنت عليه أمس ، وكان رضاك بأمر هذا الكذاب ، وسكوتك عنه وأنت أعز أهل اليمامة ، وقد بلغك مسيرى ، إقرارا له ، ورضى بما جاء به ، فهلا أبليت عذرا ، فتكلمت فيمن تكلم ، فقد تكلم ثمامة بن أثال فرد وأنكر ، وقد تكلم اليشكرى ، فإن قلت أخاف قومى ، فهلا عمدت إلىّ تريد لقائى ، أو كتبت إلىّ كتابا أو بعثت إلىّ رسولا ، وأنت تعلم أنى قد أوقعت بأهل بزاخة ، وزحفت بالجيوش إليك. فقال مجاعة : إن رأيت يا ابن المغيرة أن تعفو عن هذا كله فعلت. فقال خالد : قد عفوت عن دمك ، ولكن فى نفسى من تركك حوجا بعد ، فقال مجاعة : أما إذا عفوت عن دمى فلا أبالى.

وكان خالد كلما نزل منزلا واستقر به دعا مجاعة فأكل معه وحدثه ، فقال له ذات يوم : أخبرنى عن صاحبك يعنى مسيلمة ، ما الذي يقرأ عليكم؟ هل تحفظ منه شيئا؟ قال:نعم ، فذكر له شيئا من رجزه ، قال خالد وضرب بإحدى يديه على الأخرى : يا معشر المسلمين ، اسمعوا إلى عدو الله كيف يعارض القرآن ، ثم قال : ويحك يا مجاعة ، أراك رجلا سيدا عاقلا ، اسمع إلى كتاب الله عزوجل ، ثم انظر كيف عارضه عدو الله ، فقرأ عليه خالد : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ، فقال مجاعة : أما إن رجلا من أهل البحرين كان يكتب ، أدناه مسيلمة وقربه حتى لم يكن يعد له فى القرب عنده أحد ، فكان يخرج إلينا فيقول : يا أهل اليمامة ، صاحبكم والله كذاب ، وما أظنكم تتهموننى عليه ، إنكم لترون منزلتى عنده ، وحالى ، هو والله يكذبكم ويأتيكم بالباطل.

قال خالد : فما فعل ذلك البحرانى؟ قال : هرب منه ، كان لا يزال يقول هذا القول حتى بلغه ، فخافه على نفسه ، فهرب ، فلحق بالبحرين ، قال خالد : فما كان فى هذا ناه ولا زاجر ، ثم قال : هات زدنا من كذب الخبيث ، فقال مجاعة : أخرج لكم حنطة وزؤانا ، ورطبا وتمراتا ، فى رجز له ، فقال خالد : وهذا كان عندكم حقا؟ وكنتم تصدقونه؟ قال مجاعة : لو لم يكن عندنا حقا لما لقيتك غدا أكثر من عشرة آلاف سيف يضاربونك فيه حتى يموت الأعجل ، قال خالد : إذا يكفيناهم الله ويعز دينه ، فإياه تقاتلون ودينه تريدون.

١٢٠