الإكتفا - ج ٢

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي

الإكتفا - ج ٢

المؤلف:

أبي الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي الأندلسي


المحقق: محمّد عبد القادر أحمد عطا
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2943-0

الصفحات: ٦٣٢
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ذكر بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الملوك ، وكتابه إليهم

يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام

قال ابن هشام (١) : وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى الملوك رسلا من أصحابه ، وكتب معهم إليهم يدعوهم إلى الإسلام.

حدثني من أثق به عن أبى بكر الهذلى قال : بلغنى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج على أصحابه ذات يوم بعد عمرته التي صد عنها يوم الحديبية ، فقال : «أيها الناس ، إن الله قد بعثنى رحمة وكافة ، فلا تختلفوا على كما اختلف الحواريون على عيسى ابن مريم عليه‌السلام».

وفى حديث ابن إسحاق : «إن الله بعثنى رحمة وكافة ، فأدوا عنى يرحمكم الله ، ولا تختلفوا على كما اختلف الحواريون على عيسى» ، فقال أصحابه : «وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟» ، فقال : «دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه ، فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضى وسلم ، وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل ، فشكا ذلك عيسى إلى الله تعالى فأصبح المتثاقلون وكل واحد منهم يتكلم بلغة الأمة التي بعث إليها» (٢).

فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دحية بن خليفة الكلبى (٣) إلى قيصر ملك الروم ، وبعث عبد الله بن حذافة السهمى (٤) إلى كسرى ملك فارس ، وبعث عمرو بن أمية

__________________

(١) انظر : السيرة (٤ / ٢٣١).

(٢). انظر الحديث فى : مجمع الزوائد للهيثمى (٥ / ٣٠٥ ، ٣٠٦) ، فتح البارى لابن حجر(٧ / ٧٣٤).

(٣). انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٧٠٠) ، الإصابة الترجمة رقم (٢٣٩٥) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٥٠٧) ، التاريخ الكبير (٣ / ٢٥٤) ، تاريخ الطبرى (٢ / ٥٨٢) ، أنساب الأشراف (١ / ٣٧٧) ، الجرح والتعديل (٣ / ٤٣٩) ، العقد الفريد (٢ / ٣٤) ، مشاهير علماء الأمصار الترجمة رقم (٥٦) ، الأنساب لابن السمعانى (١٠ / ٤٥٢) ، تهذيب الكمال (٨ / ٤٧٣) ، تهذيب التهذيب (٣ / ٥٠٦) ، خلاصة تهذيب الكمال (١١٢) ، الوافى بالوفيات (٤ / ٥١) ، تاريخ الإسلام (١ / ٤٨).

(٤). انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٥٢٦) ، الإصابة الترجمة رقم (٤٦٤١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٨٩١) ، خلاصة تذهيب الكمال (٢ / ٤٩) ، المعرفة والتاريخ (١ / ٢٥٢).

٣

الضمرى (١) إلى النجاشى ملك الحبشة ، وبعث حاطب بن أبى بلتعة (٢) إلى المقوقس صاحب الإسكندرية ، وبعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعبد (*) ابنى الجلندى ملك عمان ، وبعث سليط بن عمرو (٣) أحد بنى عامر بن لؤيّ إلى ثمامة بن أثال ، وهوذة بن على الحنفيين ملكى اليمامة ؛ وبعث العلاء بن الحضرمى إلى المنذر بن ساوى العبدى ملك البحرين ؛ وبعث شجاع بن وهب الأسدي (٤) إلى الحارث بن أبى شمر الغسانى ملك تخوم الشام (٥).

ويقال : بعثه إلى حبلة بن أيهم الغسانى ، وبعث المهاجر بن أبى أمية المخزومى إلى الحارث بن عبد كلال الحميرى ملك اليمن.

ذكر كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قيصر ، وما كان من

خبر دحية معه (٦)

ذكر الواقدى من حديث ابن عباس ، ومن حديثه خرج فى الصحيحين : أن رسول

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٩١٣) ، الإصابة الترجمة رقم (٥٧٨١) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٣٨٦٢) ، سير أعلام النبلاء (٣ / ١٧٩) ، تهذيب التهذيب (٨ / ٦) ، تقريب التهذيب (٢ / ٦٥) ، خلاصة تهذيب الكمال (٢ / ٢٨٠) ، الاستبصار (٧٨) ، الأعلام (٥ / ٧٣) ، المعرفة والتاريخ (١ / ٣٢٥) ، الرياض المستطابة (٢١٤) ، التحفة اللطيفة (٣ / ٢٩١).

(٢) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٤٧٢) ، الإصابة الترجمة رقم (١٥٤٣) ، أسد الغابة الترجمة رقم (١٠١١) ، تاريخ خليفة (١٦٦) ، الجرح والتعديل (٣ / ٣٠٣) ، تهذيب التهذيب (٢ / ١٦٨) ، تاريخ الإسلام (٢ / ٨٥) ، شذرات الذهب (١ / ٣٧).

(*) كذا فى الأصل ، وفى السيرة : «عياذ».

(٣) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١٠٤٥) ، الإصابة الترجمة رقم (٣٤٣٥) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٢٠٣) ، تجريد أسماء الصحابة (١ / ٢٣٥) ، الجرح والتعديل (٤ / ١٢٢٨) ، الثقات (٣ / ١٨١) ، المصباح المضيء (١ / ٢٧٠ ، ٢ / ٧٤).

(٤) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (١١٩٩) «وفيه قال ابن عبد البر : شجاع بن أبى وهب ويقال : ابن وهب». الإصابة الترجمة رقم (٣٨٥٩) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٢٣٨٨).

(٥) انظر : السيرة (٤ / ٢٣١).

(٦) راجع : صحيح البخاري (٤ / ١١٩ ، ١٢٢) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (٣٤٣ ، ٣٤٨) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٣٧٧ ، ٣٨٦) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٦٤٤ ، ٦٤٦ ، ٦٥١) ، تاريخ اليعقوبى (٢ / ٧٧ ، ٧٨) ، المصباح المضيء (٢ / ٧٦ ، ١٢٤).

٤

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام ، وبعث بكتابه مع دحية الكلبى ، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ، ليدفعه إلى قيصر ، فدفعه عظيم بصرى إلى قيصر ، وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لله جل وعز فيما أبلاه من ذلك ، فلما جاء قيصر كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : التمسوا لنا هاهنا أحدا من قومه نسألهم عنه.

قال ابن عباس : فأخبرنى أبو سفيان بن حرب أنه كان بالشام فى رجال من قريش ، قدموا تجارا ، وذلك فى الهدنة التي كانت بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين كفار قريش ، قال : فأتانا رسول قيصر ، فانطلق بنا حتى قدمنا إيلياء ، فأدخلنا عليه ، فإذا هو جالس فى مجلس ملكه عليه التاج ، وحوله ، عظماء الروم ، فقال لترجمانه : سلهم ، أيهم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبى ، قال أبو سفيان : فقلت : أنا أقربهم نسبا ، وليس فى الركب يومئذ رجل من بنى عبد مناف غيرى ، قال قيصر : أدنوه منى ، ثم أمر بأصحابى فجعلوا خلف ظهرى ، ثم قال لترجمانه : قل لأصحابه ، إنما قدمت هذا أمامكم لأسأله عن هذا الرجل الذي يزعم أنه نبى ، وإنما جعلتم خلف كتفيه لتردوا عليه كذبا إن قاله ، قال أبو سفيان : فو الله لو لا الحياء يومئذ من أن يأثروا على كذبا لكذبت عنه ، ولكنى استحييت فصدقته وأنا كاره ، ثم قال لترجمانه : قل له : كيف نسب هذا الرجل فيكم؟ فقلت هو فينا ذو نسب قال : قل له هل قال هذا القول منكم أحد قبله؟ ، قلت : لا ، قال : فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال : قلت : لا ، قال : هل كان من آبائه ملك؟ قلت : لا ، قال : فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت : بل ضعفاؤهم قال : فهل يزيدون أو ينقصون؟ قلت : بل يزيدون ، قال : فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن دخل فيه؟ قلت : لا ، قال : فهل يغدر؟ قلت : لا ، ونحن الآن منه فى مدة ، ونحن لا نخاف غدره ، وفى رواية : ونحن منه فى مدة لا ندرى ما هو فاعل فيها.

قال أبو سفيان : ولم تمكنى كلمة أغمزه بها لا أخاف على فيها شيئا غيرها. قال : فهل قاتلتموه؟ ، قلت : نعم ، قال : فكيف حربكم وحربه؟ ، قلت : دول سجال ، ندال عليه مرة ويدال علينا أخرى ، قال : فما يأمركم به؟ ، قلت : يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا ، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا ، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة ، فقال لترجمانه : قل له : إنى سألتك عن نسبه فزعمت أنه فيكم ذو نسب ، وكذلك الرسل تبعث فى نسب قومها ، وسألتك : هل قال هذا القول منكم أحد قبله ، فزعمت أن لا ، فلو كان أحد منكم قال هذا القول قبله لقلت : رجل يأتم بقول قيل قبله ،

٥

وسألتك : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ، فزعمت أن لا ، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله ، وسألتك هل كان من آبائه ملك ، فقلت : لا ، فقلت : لو كان من آبائه ملك ، قلت : رجل يطلب ملك أبيه ، وسألتك : أأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم ، فقلت : ضعفاؤهم ، وهم أتباع الرسل ، وسألتك هل يزيدون أو ينقصون ، فزعمت أنهم يزيدون ، وكذلك الإيمان حتى يتم ، وسألتك : هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ، فزعمت أن لا ، وكذلك الإيمان حتى تخالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد ، وسألتك : هل قاتلتموه ، فقلت : نعم ، وأن حربكم وحربه دول سجال ، ويدال عليكم مرة ، وتدالون عليه أخرى وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة ، وسألتك : ما ذا يأمركم به ، فزعمت أنه يأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ، وهو نبى ، وقد كنت أعلم أنه خارج لكم ولكن لم أظن أنه فيكم ، وإن كان ما أتانى عنه حقا ، فيوشك أن يملك موضع قدمي هاتين ، ولو أعلم أنى أخلص إليه لتجشمت لقيه ، ولو كنت عنده لغسلت قدميه.

قال أبو سفيان : «ثم دعا بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرئ ، فإذا فيه : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله ، إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإنى أدعوك بداعية الإسلام ، أسلم لتسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ، أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ، فإن تولوا فقولوا : اشهدوا بأنا مسلمون».

قال أبو سفيان : فلما قضى مقالته وفرغ الكتاب علت أصوات الذين حوله وكثر لغطهم ، فلا أدرى ما قالوا ، وأمر بنا فأخرجنا ، فلما خرجت أنا وأصحابى وخلصنا ، قلت لهم : لقد أمر أمر ابن أبى كبشة ، هذا ملك بنى الأصفر يخافه ، قال : فو الله ما زلت ذليلا مستيقنا أن أمره سيظهر حتى أدخل الله على الإسلام (١).

وفى حديث غير هذا ، ذكره أيضا الواقدى عن محمد بن كعب القرظى أن دحية الكلبى لقى قصر بحمص لما بعثه إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيصر ماش من قسطنطينة إلى إيلياء فى نذر كان عليه إن ظهرت الروم على فارس أن يمشى حافيا من قسطنطينة ، فقال لدحية قومه لما بلغ قيصر : إذا رأيته فاسجد له ، ثم لا ترفع رأسك أبدا حتى يأذن لك.

__________________

(١) انظر الحديث فى : صحيح البخاري (٦ / ٤٥) ، سنن أبى داود (٥١٣٦) ، تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (٣ / ٤١٤).

٦

قال دحية : لا أفعل هذا أبدا ، ولا أسجد لغير الله عزوجل ، قالوا : إذ لا يؤخذ كتابك ، ولا يكتب جوابك ، قال : وإن لم يأخذه ، فقال له رجل منهم : أدلك على أمر يأخذ فيه كتابك ، ولا يكلفك فيه السجود. قال دحية : وما هو؟ قال : إن له على كل عقبة منبرا يجلس عليه ، فضع صحيفتك تجاه المنبر ، فإن أحد لا يحركها حتى يأخذها هو ، ثم يدعو صاحبها فيأتيه. قال : أما هذا فسأفعل ، فعمد إلى منبر من تلك المنابر التي يستريح عليها قيصر ، فألقى الصحيفة ، فدعا بها فإذا عنوانها كتاب العرب ، فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية ، فإذا فيه : «من محمد رسول الله إلى قيصر صاحب الروم» ، فغضب أخ لقيصر يقال له : نياق ، فضرب فى صدر الترجمان ضربة شديدة ، ونزع الصحيفة منه ، فقال له قيصر : ما شأنك ، أخذت الصحيفة؟ فقال : تنظر فى كتاب رجل بدأ بنفسه قبلك؟ وسماك قيصر صاحب الروم ، وما ذكر لك ملكا. فقال له قيصر : إنك والله ما علمت أحمق صغيرا ، مجنون كبيرا ، أتريد أن تخرق كتاب رجل قبل أن أنظر فيه ، فلعمرى لئن كان رسول الله كما يقول ، لنفسه أحق أن يبدأ بها منى ، وإن كان سمانى صاحب الروم لقد صدق ، ما أنا إلا صاحبهم وما أملكهم ، ولكن الله عزوجل سخرهم لى ، ولو شاء لسلطهم على كما سلط فارس على كسرى فقتلوه. ثم فتح الصحيفة ، فإذا فيها :

«بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى قيصر صاحب الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) الآية إلى قوله : (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ٦٤] فى آيات من كتاب الله يدعوه إلى الله ويزهده فى ملكه ويرغبه فيما رغبه الله فيه من الآخرة ، ويحذره بطش الله وبأسه» (١).

وفى حديث غير الواقدى أن دحية لما لقى قيصر قال له : يا قيصر ، أرسلنى إليك من هو خير منك ، والذي أرسله خير منه ومنك ، فاسمع بذل ، ثم أجب بنصح ، فإنك إن لم تذلل لم تفهم ، وإن لم تنصح لم تنصف. قال : هات. قال : هل تعلم أن المسيح كان يصلى؟. قال : نعم ، قال : فإنى ادعوك إلى من كان المسيح يصلى له ، وأدعوك إلى من دبر خلق السموات والأرض والمسيح فى بطن أمه ، وأدعوك إلى هذا النبيّ الأمى ، الذي بشر به موسى وبشر به عيسى ابن مريم بعده ، وعندك من ذلك أثاره من علم تكفى عن العيان وتشفى عن الخبر فإن أجبت كانت لك الدنيا والآخرة ، وإلا ذهبت عنك الآخرة

__________________

(١) انظر الحديث فى : تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر (٥ / ٢٢٢) ، كنز العمال للمتقى الهندى (٣٠٢٧٨ ، ٣٠٣٣٧) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (١٢١) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٥ / ٣٠٦).

٧

وشوركت فى الدنيا ، وأعلم أن لك ربا يقصم الجبابرة ويغير النعم.

فأخذ قيصر الكتاب فوضعه على عينيه ورأسه ، وقبله ، ثم قال : أما والله ، ما تركت كتابا إلا قرأته ، ولا عالما إلا سألته ، فما رأيت إلا خيرا ، فأمهلنى حتى أنظر من كان المسيح يصلى له ، فإنى أكره أن أجيبك اليوم بأمر أرى غدا ما هو أحسن منه ، فأرجع عنه ، فيضرنى ذلك ولا ينفعنى ، أقم حتى أنظر.

ويروى أن قيصر لما سأل أبا سفيان بن حرب عما سأله عنه من أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسبما تقدم ، وأخبره به قال : والذي نفسى بيده ليوشكن أن يغلب على ما تحت قدمي ، يا معشر الروم ، هلم إلى أن نجيب هذا الرجل إلى ما دعا إليه ، ونسأله الشام أن لا توطأ علينا أبدا ، فإنه لم يكتب نبى من الأنبياء قط إلى ملك من الملوك يدعوه إلى الله فيجيبه إلى ما دعاه إليه ، ثم يسأله عندها مسألة إلا أعطاه مسألته ما كانت ، فأطيعوني ، فلنجبه ونسأله أن لا توطأ الشام. قالوا : لا نطاوعك فى هذا أبدا ، تكتب إليه تسأله ملكك الذي تحت رجليك ، وهو هنالك لا يملك من ذلك شيئا ، فمن أضعف منك.

وفى هذا الحديث عن أبى سفيان أنه قال لقيصر لما سأله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى جملة ما أجابه :

أيها الملك ، ألا أخبرك خبرا تعرف به أنه قد كذب؟. قال : وما هو؟ قلت : إنه زعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم فى ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء ورجع إلينا فى تلك الليلة قبل الصباح. قال : وبطريق إيلياء عند رأس قيصر ، فقال : قد علمت تلك الليلة ، قال : فنظر إليه قيصر ، وقال : وما علمك بهذا؟ قال : إنى كنت لا أنام ليلة أبدا حتى أغلق أبواب المسجد ، فلما كانت تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبنى ، فاستعنت عليه عمالى ومن يحضرنى فلم نستطع أن نحركه ، كأنما نزاول جبلا ، فدعوت النجارين فنظروا إليه فقالوا : هذا باب سقط عليه النجاف والبنيان ، فلا نستطيع أن نحركه حتى نصبح ، فننظر من أين أتى ، فرجعت وتركت البابين مفتوحين ، فلما أصبحت غدوت عليهما فإذا الحجر الذي فى زاوية المسجد مثقوب ، وإذا فيه أثر مربط الدابة ، فقلت لأصحابى : ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبى ، وقد صلى الليلة فى مسجدنا هذا.

فقال قيصر لقومه : يا معشر الروم ، ألستم تعلمون أن بين عيسى وبين الساعة

٨

نبى بشركم به عيسى ابن مريم ، ترجون أن يجعله الله فيكم؟ قالوا : بلى ، قال : فإن الله قد جعله فى غيركم ، فى أقل منكم عددا ، وأضيق منكم بلدا ، وهى رحمة الله عزوجل يضعها حيث يشاء (١).

وفى الصحيح من الحديث أن هرقل لما تحقق أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما كان يجده فيما عندهم من العلم أذن لعظماء الروم فى دسكرة له بحمص ، وأمر بالأبواب فغلقت ، ثم طلع عليهم ، فقال : يا معشر الروم ، هل لكم فى الفلاح والرشد ، وأن يثبت لكم ملككم ، وأن تتبعوا ما قال عيسى ابن مريم؟ قالوا : وما ذاك أيها الملك؟ قال : تتبعون هذا النبيّ العربى. قال : فحاصوا حيصة حمر الوحش واستجالوا فى الكنيسة وتناخروا ، ورفعوا الصلب ، وابتدروا الأبواب ، فوجدوها مغلقة ، فلما رأى هرقل ما رأى يئس من إسلامهم وخافهم على ملكه ، فقال : ردوهم على ، فردوهم ، فقال : إنما قلت لكم ما قلت لأخبر كيف صلابتكم فى دينكم ، فقد رأيت منكم الذي أحب ، فسجدوا له ورضوا عنه ، فكان ذلك آخر شأنهم(٢).

ويروى أن قيصر لما انتهى مع قومه إلى ما ذكر ، ويئس من إجابتهم كتب مع دحية جواب كتابه الذي جاءه به ، يقول فيه للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنى مسلم ، ولكنى مغلوب على أمرى.

وأرسل إليه بهدية ، فلما قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابه قال : «كذب عدو الله ، ليس بمسلم ، بل هو على نصرانيته» ، وقبل هديته ، وقسمها بين المسلمين.

وقال دحية فى قدومه :

ألا هل أتاها على نأيها

بأنى قدمت على قيصر

فقررته بصلاة المسيح

وكانت من الجوهر الأحمر

وتدبير ربك أمر السما

ء والأرض فأغضى ولم ينكر

وقلت تفز ببشرى المسيح

فقال سأنظر قلت انظر

فكاد يقر بأمر الرسول

فمال إلى البدل الأعور

فشك وجاشت له نفسه

وجاشت نفوس بنى الأصفر

على وضعه بيديه الكتاب

على الرأس والعين والمنخر

فأصبح قيصر فى أمره

بمنزلة الفرس الأشقر

__________________

(١) انظر : التخريج السابق.

(٢) انظر : التخريج السابق.

٩

ذكر توجه عبد الله بن حذافة إلى كسرى

بكتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما كان من خبره معه (١)

وكسرى هذا هو أبرويز بن هرمز ، أنو شروان ، ومعنى أبرويز : المظفر ، فيما ذكره المسعودى ، وهو الذي كان غلب الروم ، فأنزل الله فى قصتهم : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) [١ ـ ٣ : الروم] ، وأدنى الأرض فيما ذكر الطبرى هى بصرى وفلسطين ، وأذرعات من أرض الشام.

وذكر الواقدى من حديث الشفاء بنت عبد الله ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث عبد الله بن حذافة السهمى منصرفه من الحديبية إلى كسرى ، وبعث معه كتابا مختوما فيه :

«بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس ، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله ، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، ادعوك بداعية الله ، فإنى أنا رسول الله إلى الناس كافة ، لأنذر من كان حيا ، ويحق القول على الكافرين ، أسلم تسلم ، فإن أبيت ، فعليك إثم المجوس». قال عبد الله بن حذافة ، فانتهيت إلى بابه ، فطلبت الإذن عليه حتى وصلت إليه ، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرئ عليه ، فأخذه ومزقه ، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مزق ملكه» (٢).

وذكر أبو رفاعة ، وثيمة بن موسى بن الفرات ، قال : لما قدم عبد الله بن حذافة على كسرى قال : يا معشر الفرس ، إنكم عشتم بأحلامكم لعدة أيامكم بغير نبى ولا كتاب ، ولا تملك من الأرض إلا ما فى يديك ، وما لا تملك منها أكثر ، وقد ملك الأرض قبلك ملوك أهل الدنيا وأهل الآخرة ، فأخذ أهل الآخرة بحظهم من الدنيا ، وضيع أهل الدنيا حظهم من الآخرة ، فاختلفوا فى سعى الدنيا واستووا فى عدل الآخرة ، وقد صغر هذا الأمر عندك ، أنا أتيناك به ، وقد والله جاءك من حيث خفت ، وما تصغيرك إياه بالذى يدفعه عنك ، ولا تكذيبك به بالذى يخرجك منه ، وفى وقعة ذى قار على ذلك دليل. فأخذ الكتاب فمزقه ، ثم قال : لى ملك هنى ، لا أخشى أن أغلب عليه ، ولا أشارك فيه ،

__________________

(١) راجع : صحيح البخاري (٤ / ١١٩) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٦٤٤ ، ٦٥٤ ، ٦٥٧) ، دلائل النبوة لأبى نعيم (٣٤٨ ، ٣٥١) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٣٨٧ ، ٣٩٢) ، المصباح المضيء (٢ / ١٨٠ ، ٢٢٧) ، أعلام النبوة للماوردى (٩٧ ، ٩٨).

(٢) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٦ / ٣٤٤).

١٠

وقد ملك فرعون بنى إسرائيل ، ولستم بخير منهم ، فما يمنعنى أن أملككم وأنا خير منه ، فأما هذا الملك فقد علمنا أنه يصير إلى الكلاب ، وأنتم أولئك تشبع بطونكم وتأبى عيونكم ، فأما وقعة ذى قار فهى بوقعة الشام.

فانصرف عنه عبد الله ، وقال فى ذلك :

أبى الله إلا أن كسرى فريسة

لأول داع بالعراق محمدا

تقاذف فى فحش الجواب مصغرا

لأمر العريب الخائفين له الردا

فقلت له أرود فإنك داخل

من اليوم فى بلوى ومنتهب غدا

فأقبل وأدبر حيث شئت فإننا

لنا الملك فابسط للمسالمة اليدا

وإلا فأمسك قارعا سن نادم

أقر بذل الخرج أو مت موحدا

سفهت بتخريق الكتاب وهذه

بتمزيق ملك الفرس يكفى مبددا

ويروى أن كسرى رأى فى النوم بعد أن أخبر بخروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزوله يثرب أن سلما وضع فى الأرض إلى السماء ، وحشر الناس حوله ، إذ أقبل رجل عليه عمامة ، وإزار أو رداء ، فصعد السلم حتى إذا كان بمكان منه نودى : أين فارس ورجالها ونساؤها ولامتها وكنوزها؟ فأقبلوا ، فجعلوا فى جوالق ، ثم رفع الجوالق إلى ذلك الرجل ، فأصبح كسرى تعس النفس ، محزونا لتلك الرؤيا ، وذكرها لأساورته ، فجعلوا يهونون عليه الأمر ، فيقول كسرى : هذا أمر تراد به فارس ، فلم يزل مهموما حتى قدم عليه عبد الله بن حذافة بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعوه إلى الإسلام.

وذكر الواقدى من حديث أبى هريرة وغيره أن كسرى بينا هو فى بيت كان يخلو فيه إذا رجل قد خرج إليه فى يده عصا ، فقال : يا كسرى ، إن الله قد بعث رسولا ، وأنزل عليه كتابا ، فأسلم تسلم ، واتبعه يبق لك ملكك قال كسرى : أخر هذا عنى أثرا ما ، فدعا حجابه وبوابيه ، فتواعدهم ، وقال : من هذا الذي دخل على؟ قالوا : والله ، ما دخل عليك أحد ، وما ضيعنا لك بابا ، ومكث حتى إذا كان العام المقبل أتاه فقال له مثل ذلك ، وقال : إن لا تسلم أكسر العصا. قال : لا تفعل ، أخر ذلك أثرا ما ، ثم جاء العام المقبل ، ففعل مثل ذلك ، وضرب بالعصا على رأسه فكسرها ، وخرج من عنده ، ويقال أن ابنه قتله فى تلك الليلة ، وأعلم الله بذلك رسوله عليه‌السلام بحدثان كونه فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك رسل باذان إليه.

وكان باذان عامل كسرى على اليمن ، فلما بلغه ظهور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعاؤه إلى الله ، كتب إلى باذان : أن ابعث إلى هذا الرجل الذي خالف دين قومه ، فمره فليرجع إلى دين قومه ، فإن أبى فابعث إلى برأسه ، وإلا فليواعدك يوما تقتتلون فيه ، فلما ورد كتابه إلى

١١

باذان ، بعث بكتابه مع رجلين من عنده ، فلما قدما على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزلهما وأمرهما بالمقام فأقاما أياما ، ثم أرسل إليهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات غداة ، فقال : «انطلقا إلى باذان فأعلماه أن ربى عزوجل قد قتل كسرى فى هذه الليلة» ، فانطلقا حتى قدما على باذان ، فأخبراه بذلك ، فقال : إن يكن الأمر كما قال فو الله إن الرجل لنبى ، وسيأتى الخبر بذلك إلى يوم كذا ، فأتاه الخبر كذلك ، فبعث باذان بإسلامه وإسلام من معه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ويقال : إن الخبر أتاه بمقتل كسرى وهو مريض ، فاجتمعت إليه أساورته ، فقالوا : من تؤمر علينا. فقال لهم : ملك مقبل وملك مدبر ، فاتبعوا هذا الرجل ، وادخلوا فى دينه وأسلموا. ومات باذان ، فبعث رءوسهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفدهم يعرفونه بإسلامهم.

ذكر إسلام النجاشى ، وكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

إليه مع عمرو بن أمية الضمرى (١)

قال ابن إسحاق : لما وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسله إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام ، وجه إلى النجاشى عمرو بن أمية ، فقال له : يا أصحمة ، إن على القول ، وعليك الاستماع ، إنك كأنك فى الرقة علينا منا ، وكأنا فى الثقة بك منك ، لأنا لن نظن بك خيرا قط إلا نلناه ، ولم نخفك على شيء قط إلا أمناه ، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك ، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد ، وقاض لا يجور ، وفى ذلك وقع الحز وإصابة المفصل ، وإلا فأنت فى هذا النبيّ الأمى كاليهود فى عيسى ابن مريم ، وقد فرق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسله إلى الناس ، فرجاك لما لم يرجهم له ، وأمنك على ما خافهم عليه ، لخير سالف وأجر ينتظر ، فقال النجاشى : أشهد بالله أنه للنبى الأمى الذي ينتظره أهل الكتاب ، وأن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل ، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر.

وذكر الواقدى أن الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النجاشى مع عمرو ابن أمية الضمرى هو هذا : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله إلى النجاشى ملك الحبشة. سلم أنت ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن

__________________

(١) راجع : صحيح البخاري (٢ / ١٨٤ ، ١٨٥) ، صحيح مسلم (٣ / ٥٤ ، ٥ / ١١٦) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٤١٠ ، ٤١٢) ، تاريخ الطبرى (٣ / ٦٤٤ / ٦٥٢ ، ٦٥٤) ، المصباح المضيء لابن حديدة (٢ / ١٧ ، ٧٥) ، الأسماء المبهمة للخطيب البغدادى (٢١ ، ٢٢).

١٢

المهيمن ، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة ، فحملت بعيسى ، فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده.

وإنى أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته ، وأن تتبعنى وتؤمن بالذى جاءنى ، فإنى رسول الله ، وإنى أدعوك وجنودك إلى الله عزوجل ، فقد بلغت ونصحت ، فأقبلوا نصيحتى ، والسلام على من اتبع الهدى».

فكتب إليه النجاشى : بسم الله الرحمن الرحيم. إلى محمد رسول الله ، من النجاشى أصحمة. سلام عليك يا رسول الله من الله ورحمة الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو.أما بعد ، فقد بلغنى كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى ، فو رب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت ثفروقا ، إنه كما ذكرت ، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا ، وقد قربنا ابن عمك وأصحابه ، فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا ، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك ، وأسلمت على يديه لله رب العالمين (١).

وذكر الواقدى عن سلمة بن الأكوع أن النجاشى توفى فى رجب سنة تسع ، منصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تبوك ، قال سلمة : صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصبح ، ثم قال : «إن أصحمة النجاشى قد توفى هذه الساعة ، فاخرجوا بنا إلى المصلى حتى نصلى عليه» ، قال سلمة : فحشد الناس وخرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المصلى ، فرأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقدمنا وإنا لصفوف خلفه ، وأنا فى الصف الرابع ، فكبر بنا أربعا (٢).

كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

إلى المقوقس صاحب الإسكندرية

مع حاطب بن أبى بلتعة (٣)

ولما وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسله إلى الملوك ، بعث حاطبا إلى المقوقس صاحب الإسكندرية بكتاب فيه : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله رسول الله ، إلى

__________________

(١) ذكره ابن كثير فى البداية والنهاية (٣ / ٨٣).

(٢) انظر الحديث فى : سنن ابن ماجه (١٥٣٤) ، مجمع الزوائد للهيثمى (٣ / ٣٩).

(٣) راجع تاريخ الطبرى (٣ / ٦٤٤ ، ٦٤٥) ، دلائل النبوة للبيهقى (٤ / ٣٩٥ ، ٣٩٦) ، المصباح المضيء لابن حديدة (٢ / ١٢٥ ـ ١٧٩) ، مروج الذهب للمسعودى (٢ / ٢٨٩).

١٣

المقوقس عظيم القبط ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإنى أدعوك بداعية الإسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإن عليك إثم القبط (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران : ٦٤]». وختم الكتاب (١).

فخرج به حاطب حتى قدم عليه الإسكندرية ، فانتهى إلى حاجبه ، فلم يلبثه أن أوصل إليه كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال حاطب للمقوقس لما لقيه : «إنه قد كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى ، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى ، فانتقم به ، ثم انتقم منه ، فاعتبر بغيرك ، ولا يعتبر بك». قال : هات. قال : «إن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير منه ، وهو الإسلام الكافى به الله ، فقد ما سواه ، إن هذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا الناس ، فكان أشدهم عليه قريش ، وأعداهم له يهود ، وأقربهم منه النصارى ، ولعمرى ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل ، وكل نبى أدرك قوما ، فهم من أمته ، فالحق عليهم أن يطيعوه ، فأنت ممن أدركه هذا النبيّ ، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ، ولكنا نأمرك به». فقال المقوقس : «إنى قد نظرت فى أمر هذا النبيّ ، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ، ولا ينهى إلا عن مرغوب عنه ، ولم أجده بالساحر الضال ، ولا الكاهن الكاذب ، ووجدت معه آلة النبوة بإخراج الخبء والإخبار بالنجوى ، وسأنظر.

وأخذ كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعله فى حق من عاج وختم عليه ، ودفعه إلى جارية له ، ثم دعا كاتبا له يكتب بالعربية ، فكتب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بسم الله الرحمن الرحيم. لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط ، سلام عليك. أما بعد ، فقد قرأت كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه ، وما تدعو إليه. وقد علمت أن نبيا قد بقى ، وكنت أظن أنه يخرج بالشام ، وقد أكرمت رسولك ، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان فى القبط عظيم ، وبكسوة ، وأهديت لك بغلة لتركبها. والسلام عليك». ولم يزد على هذا ، ولم يسلم. وهاتان الجاريتان اللتان ذكرهما ، إحداهما مارية أم إبراهيم ابن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأختها سيرين ، وهى التي وهبها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحسان بن ثابت فولدت له ابنه عبد الرحمن ، والبغلة هى دلدل ، وكانت بيضاء. وقيل : إنه لم يكن فى العرب يومئذ غيرها ، وإنها بقيت إلى زمان معاوية.

__________________

(١) انظر : التخريج السابق.

١٤

وذكر الواقدى بإسناد له : أن المقوقس أرسل إلى حاطب ليلة وليس عنده أحد إلا ترجمان له يترجم بالعربية ، فقال له : ألا تخبرنى عن أمور أسألك عنها وتصدقنى؟ فإنى أعلم أن صاحبك قد تخيرك من بين أصحابه حيث بعثك ، فقال له حاطب : لا تسألنى عن شيء إلا صدقتك ، فسأله عن : ما ذا يدعو إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن أتباعه ، وهل يقاتل قومه؟ فأجابه حاطب عن ذلك كله ، ثم سأله عن صفته ، فوصفه حاطب ولم يستوف ، فقال له : بقيت أشياء لم أرك تذكرها ، فى عينيه حمرة ، قل ما تفارقه ، وبين كتفيه خاتم النبوة ، ويركب الحمار ، ويلبس الشملة ، ويجتزى بالتمرات والكسرة ، ولا يبالى من لاقى من عم وابن عم.

قال حاطب : فهذه صفته. قال : كنت أعلم أنه بقى نبى ، وكنت أظن أن مخرجه ومنبته بالشام ، وهناك تخرج الأنبياء من قبله ، فأراه قد خرج فى العرب فى أرض جهد وبؤس ، والقبط لا يطاوعونى فى اتباعه ، ولا أحب أن تعلم بمحاورتى إياك ، وأنا أضن بملكى أن أفارقه ، وسيظهر على البلاد ، وينزل بساحتنا هذه أصحابه من بعده حتى يظهر على ما هاهنا ، فارجع إلى صاحبك ، فقد أمرت له بهدايا وجاريتين أختين فارهتين ، وبغلة من مراكبى ، وألف مثقال ذهبا ، وعشرين ثوبا من لين ، وغير ذلك ، وأمرت لك بمائة دينار وخمسة أثواب. فارحل من عندى ولا تسمع منك القبط حرفا واحدا.

فرجعت من عنده وقد كان لى مكرما فى الضيافة ، وقلة اللبث ببابه ، ما أقمت عنده إلا خمسة أيام ، وإن الوفود ، وفود العجم ببابه منذ شهر وأكثر. قال حاطب : فذكرت قوله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ضن الخبيث بملكه ، ولا بقاء لملكه».

ذكر كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى

المنذر بن ساوى العبدى مع العلاء

بن الحضرمى بعد انصرافه من الحديبية (١)

ذكر الواقدى بإسناد له عن عكرمة قال : وجدت هذا الكتاب فى كتب ابن عباس بعد موته ، فنسخته ، فإذا فيه : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العلاء بن الحضرمى ، إلى المنذر بن

__________________

(١) راجع : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٤٥) ، الروض الأنف للسهيلى (٤ / ٢٥٠) ، المصباح المضيء (٢ / ٣٣٥ ، ٣٣٨) ، تاريخ اليعقوبى (٢ / ٧٨).

١٥

ساوى (١) ، وكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام ، فكتب يعنى المنذر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أما بعد ، يا رسول الله ، فإنى قرأت كتابك على أهل هجر ، فمنهم من أحب الإسلام ، وأعجبه ، ودخل فيه ، ومنهم من كرهه ، وبأرضى مجوس ويهود ، فأحدث إلى فى ذلك أمرك».

فكتب إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى المنذر ابن ساوى ، سلام عليك ، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله. أما بعد ، فإنى أذكرك الله عزوجل فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه ، وإنه من يطع رسلى ويتبع أمرهم فقد أطاعنى ، ومن نصح لهم فقد نصح لى ، وإن رسلى قد أثنوا عليك خيرا ، وإنى قد شفعتك فى قومك ، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه ، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم ، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك ، ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية» (٢).

وذكر غير الواقدى أن العلاء بن الحضرمى لما قدم على المنذر بن ساوى قال له : يا منذر ، إنك عظيم العقل فى الدنيا ، فلا تصغرن من الآخرة ، إن هذه المجوسية شردين ، ليس فيها تكرم العرب ، ولا علم أهل الكتاب ، ينكحون ما يستحى من نكاحه ، ويأكلون ما يتكرم عن أكله ، ويعبدون فى الدنيا نارا تأكلهم يوم القيامة ، ولست بعديم عقل ولا أرى ، فانظر : هل ينبغى لمن لا يكذب أن تصدقه ، ولمن لا يخون أن تأتمنه ، ولمن لا يخلف أن تثق به ، فإن كان هذا هكذا فهو هذا النبيّ الأمى الذي والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول : ليت ما أمر به نهى عنه ، أو ما نهى عنه أمر به أو ليته زاد فى عفوه أو نقص من عقابه ، إن كل ذلك منه على أمنية أهل العقل وفكر أهل البصر.

فقال المنذر : قد نظرت فى هذا الذي فى يدى فوجدته للدنيا دون الآخرة ، ونظرت فى دينكم فوجدته للآخرة والدنيا ، فما يمنعنى من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الموت ، ولقد عجبت أمس ممن يقبله ، وعجبت اليوم ممن يدره ، وإن من إعظام ما جاء به أن يعظم رسوله ، وسأنظر.

وذكر ابن إسحاق والواقدى وسيف والطبرى وغيرهم أن المنذر لما وصله العلاء

__________________

(١) انظر ترجمته فى : الاستيعاب الترجمة رقم (٢٥١٥) ، الإصابة الترجمة رقم (٨٢٣٤) ، أسد الغابة الترجمة رقم (٥١٠٦).

(٢) انظر التخريج السابق.

١٦

برسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابه أسلم فحسن إسلامه. وزاد الواقدى : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم استقدم العلاء بن الحضرمى ، فاستخلفه العلاء مكانه على عمله.

وذكر ابن إسحاق وغيره أن المنذر توفى قبل ردة أهل البحرين والعلاء عنده أميرا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على البحرين.

وذكر ابن قانع أن المنذر وفد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يصح ذلك إن شاء الله.

ذكر كتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى

جيفر وعبد ابنى الجلندى الأزديين ، ملكى

عمان ، مع عمرو بن العاص (١)

ذكر الواقدى بإسناد له إلى عمرو بن العاص أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث نفرا سماهم إلى جهات مختلفة برسم الدعاء إلى الإسلام.

قال عمرو : فكنت أنا المبعوث إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى ، وكتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معى كتابا.

قال : وأخرج عمرو الكتاب ، فإذا صحيفة أقل من الشبر ، فيها : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد بن عبد الله ، إلى جيفر وعبد ابنى الجلندى ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد ، فإني أدعوكما بداعية الإسلام ، أسلما تسلما ، فإنى رسول الله إلى الناس كافة ، لأنذر من كان حيا ، ويحق القول على الكافرين ، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما ، وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما ، وخيلى تحل بساحتكما ، وتظهر نبوتى على ملككما» وكتب أبى بن كعب ، وختم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكتاب.

ثم خرجت حتى انتهيت إلى عمان ، فلما قدمتها عمدت إلى عبد ، وكان أحلم الرجلين وأسهلهما خلقا ، فقلت : إنى رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليك وإلى أخيك ، فقال : أخى المقدم على بالسن والملك ، وأنا أوصلك إليه حتى يقرأ كتابك ، ثم قال لى : وما تدعو إليه؟ قلت : أدعوك إلى الله وحده لا شريك له ، وتخلع ما عبد من دونه ، وتشهد أن محمدا عبده ورسوله. قال : يا عمرو ، إنك ابن سيد قومك ، فكيف صنع أبوك؟ فإن لنا

__________________

(١) راجع : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٤٥) ، الروض الأنف للسهيلى (٤ / ٢٥٠) ، تاريخ اليعقوبى (٢ / ٧٨).

١٧

فيه قدوة. قلت : مات ، ولم يؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وودت أنه كان أسلم وصدق به ، وقد كنت أنا على مثل رأيه حتى هدانى الله للإسلام. قال : فمتى تبعته؟ قلت : قريبا ، فسألنى أين كان إسلامى؟ قلت : عند النجاشى ، وأخبرته أن النجاشى قد أسلم ، قال : فكيف صنع قومه بملكه؟ قلت : أقروه واتبعوه ، قال : والأساقفة والرهبان تبعوه ، قلت : نعم. قال : انظر يا عمرو ما تقول ، إنه ليس من خصلة فى رجل واحد أفضح له من كذب. قلت : ما كذبت ، وما نستحله فى ديننا. ثم قال : ما أرى هرقل علم بإسلام النجاشى.

قلت : بلى. قال : بأى شيء علمت ذلك؟ قلت : كان النجاشى يخرج له خرجا ، فلما أسلم وصدق بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : لا ، والله لو سألنى درهما واحدا ما أعطيته ، فبلغ هرقل قوله ، فقال له نياق أخوه : أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا ، ويدين دينا محدثا؟ قال هرقل : رجل رغب فى دين واختاره لنفسه ، ما أصنع به ، والله لو لا الضن لملكى لصنعت كما صنعوا. قال : انظر ما تقول يا عمر ، قلت : والله صدقتك. قال عبد : فأخبرنى ما الذي يأمر به وينهى عنه. قلت : يأمر بطاعة الله عزوجل وينهى عن معصيته ، ويأمر بالبر وصلة الرحم ، وينهى عن الظلم والعدوان ، وعن الزنا وشرب الخمر ، وينهى عن عبادة الحجر والوثن والصليب. فقال : ما أحسن هذا الذي يدعو إليه ، لو كان أخى يتابعنى لركبنا حتى نؤمن بمحمد ونصدق به ، ولكن أخى أضن بملكه من أن يدعه ويصير ذنبا. قلت : إنه إن أسلم ملكه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قومه ، فأخذ الصدقة من غنيهم فردها على فقيرهم. فقال : إن هذا لخلق حسن ، وما الصدقة؟ فأخبرته بما فرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصدقات فى الأموال حتى انتهيت إلى الإبل. فقال : يا عمرو ، تؤخذ من سوائم مواشينا التي ترعى الشجر وترد المياه. فقلت : نعم.

فقال : والله ، ما أرى قومى فى بعد دارهم وكثرة عددهم يطيعون بهذا. قال : فمكثت ببابه أياما وهو يصل إلى أخيه فيخبره كل خبرى ، ثم إنه دعانى يوما فدخلت عليه ، فأخذ أعوانه بضبعى ، فقال : دعوه ، فأرسلت ، فذهبت لأجلس ، فأبوا أن يدعونى أجلس ، فنظرت إليه ، فقال : تكلم بحاجتك ، فدفعت إليه الكتاب مختوما ، ففض خاتمه ، فقرأه حتى انتهى إلى آخره. ثم دفعه إلى أخيه فقرأه مثل قراءته ، إلا أنى رأيت أخاه أرق منه ، ثم قال : ألا تخبرنى عن قريش ، كيف صنعت؟ فقلت : تبعوه ، إما راغب فى الدين ، وإما مقهور بالسيف. قال : ومن معه؟ قلت : الناس ، قد رغبوا فى الإسلام ، واختاروه على غيره ، وعرفوا بعقولهم مع هدى الله إياهم أنهم كانوا فى ضلال ، فما أعلم أحدا بقى غيرك فى هذه الحرجة ، وأنت إن لم تسلم اليوم وتتبعه يوطئك الخيل ، ويبيد خضراءك ،

١٨

فأسلم تسلم ويستعملك على قومك ، ولا تدخل عليك الخيل والرجال. قال : دعنى يومى هذا وارجع إلى غدا.

فرجعت إلى أخيه ، قال : يا عمرو ، إنى لأرجو أن يسلم إن لم يضن بملكه حتى إذا كان الغد أتيت إليه ، فأبى أن يأذن لى ، فانصرفت إلى أخيه ، فأخبرته أنى لم أصل إليه ، فأوصلنى إليه. فقال : إنى فكرت فيما دعوتنى إليه ، فإذا أنا أضعف العرب إن ملكت رجلا ما فى يدى وهو لا تبلغ خيله هاهنا ، وإن بلغت خيله ألفت قتالا ليس كقتال من لاقى. قلت : فأنا خارج غدا ، فلما أيقن بمخرجى خلا به أخوه ، فقال : ما نحن فيما قد ظهر عليه ، وكل من أرسل إليه قد أجابه ، فأصبح ، فأرسل إلى ، فأجاب إلى الإسلام هو وأخوه جميعا ، وصدقا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخليا بينى وبين الصدقة ، وبين الحكم فيما بينهم ، وكانا لى عونا على من خالفنى (١).

وفى حديث غير الواقدى أن عمرا قال له فيما دار بينهما من الكلام : إنك وإن كنت منا بعيدا فإنك من الله غير بعيد ، إن الذي تفرد بخلقك أهل أن تفرده بعبادتك ، وأن لا تشرك به من لم يشركه فيك ، وأعلم أنه يميتك الذي أحياك ، ويعيدك الذي أبدأك ، فانظر فى هذا النبيّ الأمى الذي جاءنا بالدنيا والآخرة ، فإن كان يريد به أجرا فامنعه ، أو يميل به هوى فدعه ، ثم انظر فيما يجىء به ، هل يشبه ما يجىء به الناس؟ فإن كان يشبهه فسله العيان وتخير عليه فى الخبر ، وإن كان لا يشبهه فاقبل ما قال ، وخف ما وعد.

قال ابن الجلندى : إنه والله لقد دلنى على هذا النبيّ الأمى أنه لا يأمر بخير إلا كان أول من أخذ به ، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له ، وأنه يغلب فلا يبطر ، ويغلب فلا يضجر ، وأنه يفى بالعهد ، وينجز الموعود ، وأنه لا يزال سر قد اطلع عليه يساوى فيه أهله ، وأشهد أنه نبى.

كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى

هوذة بن على مع سليط بن عمرو العامرى ، وما

كان من خبره معه (٢)

ولما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسله إلى الملوك يدعوهم إلى الله ، بعث سليط بن عمرو إلى

__________________

(١) انظر التخريج السابق.

(٢) راجع : تاريخ الطبرى (٣ / ٦٤٤ ، ٦٤٥) ، المصباح المضيء لابن حديدة (٢ / ٣٥٤ ، ٣٥٩) ، تاريخ اليعقوبى (٢ / ٧٨).

١٩

هوذة بن على الحنفى صاحب اليمامة والمتوج بها وهو الذي يقول فيه الأعشى ، ميمون ابن قيس من كلمة :

إلى هوذة الوهاب أعلمت ناقتى

أرجى عطاء فاضلا من عطائكا

فلما أتت آطام جو وأهلها

أنيخت وألقت رحلها بقبائكا

وذكر الواقدى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتب إلى هوذة مع سليط حين بعثه إليه : «بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله ، إلى هوذة بن على ، سلام على من اتبع الهدى ، واعلم أن دينى سيظهر إلى منتهى الخف والحافر ، فأسلم تسلم ، وأجعل لك ما تحت يديك». فلما قدم عليه سليط بكتاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مختوما أنزله وحياه ، واقترأ عليه الكتاب ، فرد ردا دون رد ، وكتب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله ، وأنا شاعر قومى وخطيبهم ، والعرب تهاب مكانى فاجعل إلى بعض الأمر أتبعك.

وأجاز سليطا بجائزة ، وكساه أثوابا من نسج هجر ، فقدم بذلك كله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، وقرأ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كتابه ، وقال : «لو سألنى سبابة من الأرض ما فعلت ، باد وباد ما فى يده» ، فلما انصرف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الفتح جاءه جبريل عليه‌السلام بأن هوذة مات ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ ، يقتل بعدى» ، فقال قائل : يا رسول الله ، فمن يقتله؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت وأصحابك» ، فكان من أمر مسيلمة وتكذبه ما كان ، وظهر المسلمون عليه فقتلوه ، وكان ذلك القاتل من قتله وفق ما قاله الصادق المصدوق صلوات الله وبركاته عليه.

وذكر وثيمة بن موسى أن سليط بن عمرو لما قدم على هوذة بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان كسرى قد توجه ، وقال له : يا هوذة ، إنه قد سودتك أعظم حائلة وأرواح فى النار ، وإنما السيد من متع الإيمان ثم زود التقوى ، إن قوما سعدوا برأيك ، فلا تشقين به ، وإنى آمرك بخير مأمور به ، وأنهاك عن شر منهى عنه ، آمرك بعبادة الله ، وأنهاك عن عبادة الشيطان ، فإن فى عبادة الله الجنة ، وفى عبادة الشيطان النار ، فإن قبلت نلت ما رجوت وأمنت ما خفت ، وإن أبيت فبيننا وبينك كشف الغطاء وهو المطلع.

فقال هوذة : يا سليط ، سودنى من لو سودك شرفت به ، وقد كان لى رأى اختبر به الأمور فقدته ، فموضعه من قلبى هواء ، فاجعل لى فسحة يرجع إلى رأيى فأجيبك به إن شاء الله (١).

__________________

(١) انظر التخريج السابق.

٢٠