الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-194-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٤٠

الفصل الثالث :

القتال في مكة

٨١
٨٢

خالد يقاتل في مكة!! :

وقالوا : إن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمر ، دعوا إلى قتال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وجمعوا أناسا بالخندمة (وهو جبل بمكة) ، وضوى إليهم ناس من قريش ، وناس من بني بكر ، وهذيل ، ولبسوا السلاح ، يقسمون بالله لا يدخلها محمد عنوة أبدا.

وكان رجل من بني الديل ، يقال له : جماش بن قيس بن خالد ، لما سمع بدخول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جعل يصلح سلاحه.

فقالت له امرأته (وكانت قد أسلمت سرا) : لمن تعدّ هذا؟

قال : لمحمد وأصحابه.

قالت : والله ، ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه شيء.

قال : والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم ، فإنك محتاجة إليه.

قالت : ويلك ، لا تفعل ، ولا تقاتل محمدا. والله ليضلن عنك رأيك لو قد رأيت محمدا ، وأصحابه.

قال : سترين. ثم قال :

إن يقبلوا اليوم فما لي علة

هذا سلاح كامل وألّه

وذو غرارين سريع السله

٨٣

ثم شهد الخندمة مع صفوان ، وسهيل بن عمرو ، وعكرمة ، فلما دخل خالد بن الوليد من حيث أمره رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وجد الجمع المذكور ، فمنعوه الدخول ، وشهروا له السلاح ، ورموه بالنبل ، وقالوا : لا تدخلها عنوة.

فصاح في أصحابه ، فقاتلهم ، وقتل منهم أربعة وعشرون رجلا من قريش ، وأربعة من هذيل (١).

وقالوا : أصيب من المشركين قريب من اثني عشر أو ثلاثة عشر ، وانهزموا أقبح الانهزام ، حتى قتلوا بالحزوّرة ، وهم مولون في كل وجه. وانطلقت طائفة منهم فوق رؤوس الجبال ، وأتبعهم المسلمون (٢).

وجعل خالد يتمثل بهذه الأبيات ، وهو يقاتل خارجة بن خويلد الكلبي :

إذا ما رسول الله فينا رأيته

كلجة بحر نال فيها سريرها

إذا ما ارتدينا الفارسية فوقها

ردينية يهدي الاصم خريرها

رأينا رسول الله فينا محمدا

لها ناصرا عزت وعز نصيرها (٣)

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٣ ص ٢٢٨ عن ابن إسحاق ، والواقدي ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٣ ، وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٢٥ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٣.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٢٨ عن ابن إسحاق ، والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٢٦.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٣ ص ٢٢٨ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٢٦.

٨٤

وكان شعار المهاجرين من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم فتح مكة ، وحنين ، والطائف : يا بني عبد الرحمن. وشعار الخزرج : يا بني عبد الله. ، وشعار الأوس : يا بني عبيد الله (١).

وجعل أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام يصيحان : يا معشر قريش ، علام تقتلون أنفسكم؟! من دخل داره فهو آمن ، ومن وضع السلاح فهو آمن ، فجعل الناس يقتحمون الدور ، ويغلقون عليهم ، ويطرحون السلاح في الطرق ، حتى يأخذه المسلمون (٢).

ورجع جماش منهزما حتى انتهى إلى بيته ، فدقه ، ففتحت له امرأته ، فدخل وقد ذهبت روحه ، فقالت له : أين الخادم الذي وعدتني؟ ما زلت منتظرة لك منذ اليوم ـ تسخر منه.

فقال : دعي هذا عنك ، واغلقي عليّ بابي ، ثم قال :

إنك لو شهدت يوم الخندمة

إذ فر صفوان وفر عكرمة

وأبو يزيد كالعجوز المؤتمة

واستقبلتهم بالسيوف المسلمة

يقطعن كل ساعد وجمجمه

ضربا فلا تسمع إلا الغمغمة

لهم نهيت خلفنا وهمهمه

لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة (٣)

وأقبل الزبير بمن معه من المسلمين حتى انتهى إلى الحجون ، فغرز

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٢٨ عن ابن هشام والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٥.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٣ ص ٢٢٨ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٢٦.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٣ ص ٢٢٨ و ٢٢٩ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٣ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٢٧ و ٨٢٨ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٣.

٨٥

الراية عند منزل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ولم يقتل من المسلمين إلا رجلان من أصحاب الزبير ، أخطآ الطريق ، فسلكا غيره فقتلا. وهما كرز بن جابر الفهري ، وحبيش الكعبي (١).

وزعم بعضهم : أنهما كانا مع خالد بن الوليد فشذّا عنه فقتلا (٢).

ومضى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فدخل مكة من أذاخر ، فلما ظهر على أذاخر ، نظر إلى البارقة (٣) مع فضض (٤) المشركين ، فقال : «ما هذه البارقة؟! ألم أنه عن القتال»؟

قالوا : يا رسول الله ، خالد بن الوليد قوتل ولو لم يقاتل ما قاتل ، وما كان يا رسول الله ليعصيك ، ولا يخالف أمرك.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «قضاء الله خير» (٥).

وصرح الديار بكري : بأن المهاجرين هم الذين قالوا له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : نظن أن خالدا قوتل ، وبدئ بالقتال ، فلم يكن بد أن يقاتل من قاتله (٦).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٣ ص ٢٢٩.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٣ عن الإكتفاء.

(٣) البارقة : السلاح.

(٤) الفضض من الشيء : ما تفرق منه.

(٥) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٢٨ و ٢٢٩ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٣ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٢٦ و ٨٢٨ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٣.

(٦) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٣.

٨٦

وفي المنتقى : وكل الجنود لم يلقوا جنودا غير خالد (١).

وعن أبي هريرة قال : لما كان يوم فتح مكة ، وبشت (٢) قريش أوباشا لها وأتباعا ، فقالوا : نقدم هؤلاء ، فإن كان لهم شيء كنا معهم ، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا. فرآني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : «يا أبا هريرة».

قلت : لبيك.

قال : «اهتف بالأنصار ، ولا يأتيني إلا أنصاري».

قال : ففعلت ما أمرني به ، فأتوه ، فقال : «انظروا قريشا وأوباشهم فاحصدوهم حصدا» (حتى توافوني بالصفا. أي دخلوا من أعلى مكة) (٣) ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى.

فانطلقنا فما أحد يوجه إلينا شيئا ، وما منا أحد يريد أحدا منهم إلا أخذه. (أو قال : فما نشاء نقتل أحدا منهم إلا قتلناه) (٤).

فجاء أبو سفيان بن حرب ، فقال : يا رسول الله ، أبيدت خضراء قريش ، لا قريش بعد اليوم.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «من دخل دار أبي سفيان فهو

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٣.

(٢) بشّت : جمعت جموعا من قبائل شتى.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٣ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٤ عن المواهب اللدنية ، والمنتقى عن أحمد ومسلم والنسائي عن أبي هريرة.

(٤) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٤ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٤ عن المواهب اللدنية والمنتقى عن أحمد ، ومسلم ، والنسائي عن أبي هريرة.

٨٧

آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن».

فألقى الناس سلاحهم (١).

وقالوا : ووجه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اللوم على خالد ، وقال له : قاتلت ، وقد نهيت عن القتال؟!

قال : هم يا رسول الله بدأونا بالقتال ، ورمونا بالنبل ، ووضعوا فينا السلاح ، وقد كففت ما استطعت ، ودعوتهم إلى الإسلام وأن يدخلوا فيما دخل فيه الناس ، فأبوا ، حتى إذا لم أجد بدا من أن أقاتلهم قاتلتهم ، فظفرنا الله بهم ، فهربوا في كل وجه.

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : كف عن الطلب.

قال : قد فعلت.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : قضاء الله خير.

وقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر ، فحبطوهم ساعة ، وهي الساعة التي أحلت لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٢٩ و ٢٣٠ عن أحمد ، ومسلم ، والبيهقي ، وغيرهم ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٣ و ٨٤ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٤ عن المواهب اللدنية ، والمنتقى عن أحمد ، ومسلم ، والنسائي عن أبي هريرة.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٤ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٣٩ وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٣. وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣٣ و ٢٣٤ وعن موارد الظمآن للهيثمي (١٦٩٩) ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٧٧ وعن المصنف لابن أبي شيبة ج ٤ ص ٤٨٧.

٨٨

وكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نهى أن يقتل من خزاعة أحد (١).

قال الديار بكري : «أما خالد بن الوليد فدخل من الليط أسفل مكة ، فلقيه قريش وبنو بكر والأحابيش ، فقاتلوه ، فقتل منهم قريبا من عشرين رجلا ، ومن هذيل ثلاثة أو أربعة ، وانهزموا ، وقتلوا بالحزوّرة ، حتى بلغ قتلهم باب المسجد ، وهرب فضيضهم حتى دخلوا الدور ، وارتفعت طائفة منهم على الجبال ، واتبعهم المسلمون بالسيوف ، وهربت طائفة منهم إلى البحر ، وإلى صوب اليمن» (٢).

وروى الطبراني عن ابن عباس : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خطب فقال : إن الله عزوجل حرم هذا البلد (٣). فبينما هو كذلك قيل : هذا خالد يقتل.

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : قم يا فلان .. الى آخر الحديث التالي ..

وقال الديار بكري : دخل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقدم خالد بن الوليد ، فأنا لهم شيئا من قتل ، فجاء رجل من قريش ، فقال : يا رسول الله ، هذا خالد بن الوليد قد أسرع في القتل.

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لرجل من الأنصار عنده : يا فلان.

قال : لبيك يا رسول الله.

قال : ائت خالد بن الوليد ، قل له : إن رسول الله يامرك أن لا تقتل

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٣٩.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٢ و ٨٣.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٢٩ والمعجم الكبير ج ١١ ص ٤٨.

٨٩

بمكة أحدا.

فجاء الأنصاري ، فقال : يا خالد إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يأمرك أن تقتل من لقيت.

فاندفع خالد فقتل سبعين رجلا من مكة.

فجاء إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رجل من قريش ، فقال : يا رسول الله ، هلكت قريش ، لا قريش بعد اليوم.

قال : ولم؟!

قال : هذا خالد لا يلقى أحدا من الناس إلا قتله.

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ادع لي خالدا.

فلما أتى إليه خالد ، قال : يا خالد ، ألم أرسل إليك أن لا تقتل أحدا؟!

قال : بل أرسلت إلي أن أقتل من قدرت عليه.

قال : ادع لي الأنصاري.

فدعاه له ، فقال : ألم آمرك أن تأمر خالدا أن لا يقتل أحدا؟!

قال : بلى. ولكنك أردت أمرا وأراد الله غيره ، فكان ما أراد الله ..

فسكت «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولم يقل للأنصاري شيئا ، وقال : يا خالد!

قال : لبيك ، يا رسول الله!

قال : لا تقتل أحدا.

قال : لا (١).

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٤ عن شفاء الغرام ، والمعجم الكبير ج ١١ ص ٤٨ ومجمع الزوائد ج ٣ ص ٢٨٤ وج ٧ ص ٣٤ وعن الأوسط للطبراني ص ١٥٤

٩٠

ونقول أخيرا :

روى الكليني ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، والقاساني جميعا عن الأصفهاني ، عن المنقري ، عن فضيل بن عياض ، عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» قال : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم فتح مكة لم يسب لهم ذرية ، وقال : من أغلق بابه فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن (١).

ولنا مع ما ذكر العديد من الوقفات ، وإليك بعضها :

من الخندمة إلى البحر :

الخندمة : جبل معروف بمكة ، يقع خلف جبل أبي قبيس ، ويمتد منه إلى المعلّاة على طول شعب علي ، وشعب عامر.

فلو صح ما زعموه : من أن جماعة من أهل مكة قد تصدوا لخالد ، فنقول :

١ ـ المفروض هو : أن يواجههم خالد بما يردعهم ، ويبطل حركتهم ، ومقاومتهم. وأما أن يلاحقهم بعد هزيمتهم إلى الحزوّرة ، ثم يمتد قتلهم حتى باب المسجد ، وإلى الجبال ، حتى يضطر بعضهم إلى الهرب إلى البحر ، وإلى صوب اليمن .. فهذا لا مبرر له على الإطلاق ..

٢ ـ إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان قد نهى خالدا عن القتال. ولامه على فعله هذا ، وقال له : لم قاتلت ، وقد نهيت عن القتال؟!

__________________

وعن الدر المنثور للسيوطي ج ٣ ص ٢٧١ و ٢٧٢ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٣ و ٨٤.

(١) البحار ج ٢١ ص ١٣٦ وفي هامشه عن الكافي ج ٣ ص ٣٢٩.

٩١

فاعتذر له : بأنهم هم بدأوا بالقتال ..

ولكنه عذر غير مقبول ، إذ إن بدأهم له بالقتال لا يمنعه من أن يراجع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في أمرهم ..

٣ ـ إن ظاهر الكلام الذي جرى بين رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبين خالد يدل على أن خالدا كان لا يزال يلاحقهم ويطلبهم ليقتلهم حتى تلك اللحظة ، ولذلك قال له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : كف عن الطلب.

واحتمال بعض الإخوة أن يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال له ذلك ، لاعتقاده ـ ولو على ظاهر الأمر ـ باستمراره في طلب أهل مكة ليقتلهم إلى تلك اللحظة لا مجال لقبوله. فإن الأمر بالكف عن الشيء ظاهر بأنه مستمر في فعله ، ويطلب منه الكف عنه ، كما أنه لا مجال للقول بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اعتقد بذلك ـ بأنه لا يزال يطلبهم ـ فنهى خالدا عن ذلك ، مع كون اعتقاده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مخالفا للواقع .. فإن ما يعتقده النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو عين ما يحصل ويجري.

ولا يمكن أن يعتقد بما هو خطأ. كما أن احتمال أن يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد علم بأن خالدا قد كف عن طلبهم ، لكنه أمره بالكف كي لا يكون ترك الأمر به ذريعة لخالد في استئناف الطلب .. مرفوض أيضا ، إذ كان ينبغي أن يقول له : لا تطلبهم بعد الآن ، لا أن يقول له : كف عن الطلب الذي قلنا : إن ظاهره هو أنه كان لا يزال يطلبهم فعلا كما أوضحنا ..

٤ ـ ما معنى قول خالد : إنه دعاهم إلى الإسلام ، وأن يدخلوا فيما دخل فيه الناس؟! هل كان هذا من المهمات التي أوكلت إليه أيضا؟!.

٥ ـ إذا كان أبو سفيان زعيم مكة يأمر الناس بالإستسلام ، فما معنى أن

٩٢

يبادر أوباش من الناس لقتال هذه الألوف التي جاءتهم على حين غفلة منهم؟!

وهل يمكن أن يفكر أوباش من الناس بإحراز أي نصر على عشرة آلاف مقاتل؟! وهم على غير استعداد ، ولا سيما مع ذلك النداء الذي صدر لهم من أهم زعيم في مكة ، ومعه بديل بن ورقاء الزعيم الخزاعي ، وحكيم بن حزام ، وهو زعيم أيضا في قريش ، فضلا عن العباس؟!

أوقف الطلب :

والأعجب من ذلك : أن بعض النصوص المتقدمة تعطي : أن خالدا كان لا يزال يلاحق الفارين في الجبال ، والشعاب ، حتى حين طلبه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وطالبه بما فعل ؛ فقد قال له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أوقف الطلب.

ونعتقد : أن هذا التصرف من خالد يتضمن جرأة غير عادية .. فإنه بالرغم من إقدامه على مخالفة نهي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن القتال ، ورغم إحساسه بتغيظ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مما يجري ، وإحضاره للمساءلة ، يتابع نشاطه العسكري المخالف لإرادة وتوجيهات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ليحقق أكبر قدر ممكن من أهدافه التي توخاها من مباشرة ذلك القتال .. وكأنه يرى أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يعلم بحقيقة ما يجري من خلال إعلام الله تعالى له!!

كفوا السلاح إلا خزاعة :

ثم إننا لا نكاد نحتمل صحة ما زعموه من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد

٩٣

طلب من جيشه أن يكفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر ، وذلك لما يلي :

١ ـ لقد كانت سياسة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في دخول مكة هي أن يدخلها بعنفوان يضع حدا لاستكبار المستكبرين فيها ويمنعهم من التفكير بالمقاومة ، مع حرص شديد وتصميم أكيد على عدم إراقة أي نقطة دم فيها ، وذلك حفاظا منه على حرمة بيت الله وحرمه .. فكيف يمكن أن نتصوره يسمح لخزاعة بأن تنفذ مذبحة في بني بكر في نفس حرم الله وفي جوار بيته؟!

٢ ـ إن السماح لخزاعة بالفتك ببني بكر ينافي الأمان الذي أعطاه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأهل مكة ، حيث لم يستثن منه بني بكر ..

٣ ـ من هم الخزاعيون الذين سمح لهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقتل بني بكر؟ هل هم خزاعيو مكة ، أم خزاعيون جاؤوا معه؟

٤ ـ لماذا سمح لخزاعة بقتل بني بكر ، ولم يسمح لها بقتل قريش ، التي شاركت بني بكر في المجزرة التي ارتكبت في حق الخزاعيين .. وقريش هي التي أرسلت زعيمها أبا سفيان إلى المدينة ليدلس الأمر على المسلمين ، ويضيع دماء المظلومين!!

٥ ـ لقد أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأن ينادى في الناس : من ألقى سلاحه فهو آمن ، أو دخل بيته ، أو كان تحت راية أبي رويحة الخ .. فهل سمع هؤلاء الناس هذا النداء ، وأصروا على القتال وحمل السلاح؟!

وإذا كانوا أصروا على ذلك ، فلما ذا يهربون إلى البحر وإلى اليمن؟!

وإذا كانوا قد ألقوا سلاحهم ، فلما ذا يلاحقونهم بالقتل إلى الحزوّرة ، والمسجد ، وإلى البحر ، أو إلى اليمن؟!

٩٤

احصدوهم حصدا :

وأغرب من ذلك كله ، ما زعمه أبو هريرة : من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» طلب منه أن يهتف بالأنصار ، ولا يأتيه إلا أنصاري ، فجاؤوه ، فأمرهم أن يحصدوا قريشا وأوباشهم حصدا ، ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى.

قال أبو هريرة : فما نشاء نقتل أحدا منهم إلا قتلناه.

ونحن لا نشك في أن هذا من المكذوبات المتناهية في الجرأة والوقاحة.

فأولا : إن هذا لا يتلاءم مع إعلانه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالأمان لكل من دخل داره وأغلق بابه ، ودخل المسجد ، ودار أبي سفيان ، وابن حزام ، ومن يلتجي إلى راية أبي رويحة ، ومن ألقى سلاحه ، فهل يريد منهم أن يلقوا سلاحهم ليحصدهم الأنصار حصدا؟!

أو هل كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» غادرا؟! والعياذ بالله. أو هل كان قاسيا إلى هذا الحد؟!

ثانيا : لم نسمع أن الأنصار فتكوا بقريش ، أو قتلوا منهم ، بل سمعنا أن خالدا فعل ذلك ، وخالد من المهاجرين ، ولم يكن الأنصار معه ، بل كان معه بنو سليم.

ثالثا : هل صحيح أن النبي الكريم ، والوصول ، والرحيم والحليم كان يتعامل وفق المنطق القبائلي والعشائري والعنصري ، فيحرض الأنصار على قريش ، وأوباشها ، حيث يطلب أن لا يأتيه إلا أنصاريّ؟!

وما معنى : أن يأمرهم بالإطباق على قريش كما تطبق إحدى اليدين على الأخرى؟!

رابعا : إذا كان الأمر كذلك ، فلما ذا لم يقتل أحد من الذين حرضوا على

٩٥

قتل خزاعة ، مثل صفوان ، وعكرمة ، وسهيل بن عمرو؟! وكيف أفلتوا من يد الأنصار؟ وكيف يلوم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خالدا على ما فعل؟! ولماذا يسأله عن ذلك؟! أو لماذا يسأل عن شأن تلك البارقة التي رآها؟! ألم يكن هو الذي أمر بها وأثارها؟! كما يزعمون!!

المهاجرون يظنون أن خالدا قوتل :

لقد صرحت بعض النصوص : بأن المهاجرين أجابوا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنهم يظنون أن خالدا قوتل.

وهذا معناه : أنهم لم يحضروا ما جرى ، ولا تحققوا منه بأي من وسائل التحقق ، بل أطلقوا كلامهم على سبيل التخمين والحدس.

والسؤال هو : إذا كان المهاجرون لا يعرفون أزيد مما يعرفه أي إنسان آخر لم يحضر الواقعة ، فلما ذا يتصدون للدفاع عن خالد؟! ولماذا لم يجب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أحد من غير المهاجرين؟!

بل إن قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ألم أنه عن القتال؟ يعطي : أنه كان قد رتب الأمور بنحو ينمع أهل مكة من أن يفكروا في أي حركة قتالية ، فإن كان ثمة من قتال ، فهو يتوقع أن يكون مصدره أولئك الذين نهاهم عنه.

ومعنى ذلك : أنه سيكون قتالا عدوانيا ، قد عصي فيه أمر رسول الله ، وخولفت به تعليماته ..

خالد لا يعصي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وأما قولهم عن خالد : وما كان ليعصيك ، ولا يخالف أمرك ، فهو غير ظاهر الوجه ، فإن خالدا كان حديث عهد بالإسلام ، ولم يتعمق الإيمان بعد

٩٦

في داخل نفسه ، ولا ظهرت دلائل انقياده التام لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وقد أظهرت الوقائع اللاحقة : أنه كان من أعظم الناس جرأة على مخالفة أوامر الله ورسوله ، فراجع ما صنع ببني جذيمة في عهد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ثم ما صنعه بعد ذلك بمالك بن نويرة ، حيث قتله ، وزنى بزوجته في نفس ليلة قتله ، كما ألمحنا إليه أكثر من مرة.

كل الجنود لم يلقوا جنودا غير خالد :

ويبقى السؤال يراود ذهن كل عاقل عن السر في أن جميع تلك الحشود التي دخلت مكة ، وهي أكثر من عشرة أضعاف التسع مائة الذين كانوا بقيادة خالد ، لم تواجه أية مشكلة ، ولم يلقوا أي مسلح. ألا يضع ذلك علامة استفهام على زعمهم القائل : إن هذه الثلة اليسيرة وقفت لتتحدى الذي يرفده عشرة أضعافه من المقاتلين الذين يتدفقون على مكة من كل جهة؟!

قضاء الله خير :

ولا يمكننا أن نقتنع بأن النبي الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أنحى باللائمة على قضاء الله تعالى ، واعتبره هو المسؤول عما جرى في أمر عصي الله فيه بمخالفة أمر رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وقد تضمنت هذه المعصية : هتك حرمة الحرم ، وقتل أناس كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أعطاهم الأمان ..

وهل يصح وصف ذلك كله : بأنه خير ، وبأنه قضاء من الله ، الذي يريد أن يوحي بأنه تعالى هو الذي فعله ، أو أنه هو الذي قضاه على الأقل؟!

٩٧

ولم يقتصر الأمر على مجرد مهاجمة أولئك الناس ، بل تجاوز ذلك إلى ملاحقتهم حتى قتلوا على باب المسجد ، واتبعوهم إلى الجبال ، بل لقد اضطروا الى الهرب إلى البحر ، وإلى التفكير بالهرب إلى اليمن ..

وقد كان من الوضوح بمكان : أن المقاومة لهجوم خالد وصحبه كانت في غاية الضعف ، كما تشير إليه رواية أبي هريرة ، التي يقول فيها : «فما نشاء أن نقتل أحدا منهم إلا قتلناه ..».

بل ذكر أبو هريرة في روايته المتقدمة ما يدل على أن الذين قصدوهم بالقتل لم يقاوموا أصلا ، فقد قال : «فانطلقنا فما أحد يوجه إلينا شيئا ، وما منا أحد يريد أحدا منهم إلا أخذه ..».

فكيف يصح بعد هذا أن يقال : إن المشركين كانوا هم البادئين بالقتال؟!

بل إن الرواية التي ذكرت : أن ذلك الأنصاري قد أبلغ خالدا بعكس ما أمره رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهي خير دليل على أن المبادرة لقتل الناس في مكة كانت من خالد نفسه ..

ولكنهم عوضا من تقبيح فعل خالد ، برؤوه من جرمه وألقوا المسؤولية على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، واتهموه بذلك الفعل القبيح ، الذي ظهر قبحه من نفس نهي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للمسلمين عن فعله ..

لم يسب صلى‌الله‌عليه‌وآله لقريش ذرية :

وحين نقرأ في تلك الرواية المتقدمة عن أبي عبد الله الصادق «عليه‌السلام» حول ما يرتبط بسيرة علي «عليه‌السلام» في أهل الجمل :

٩٨

«كانت السيرة فيهم من أمير المؤمنين علي «عليه‌السلام» ما كان من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في أهل مكة يوم فتح مكة ، فإنه لم يسب لهم ذرية ، وقال : من أغلق بابه فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، الخ ..» (١).

فقد دلت هذه الرواية : على أن سياسته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في أهل مكة يوم الفتح هي الكف عنهم ، وهذا لا يتلاءم أبدا مع دعواهم أنه قال للأنصار : «احصدوهم حصدا» كما أن ذلك يدل على أن مكة قد فتحت عنوة ، لا صلحا.

الأنصاري الخائن :

وعن قصة ذلك الأنصاري الذي زعمت الرواية : أنه لم يكن أمينا في إبلاغ أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى خالد .. نقول :

إن لنا على تلك الرواية ملاحظات عديدة هي :

١ ـ لماذا لم يعاقب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك الأنصاري على فعله الذي أدى إلى إزهاق أرواح كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الذي لا ينطق عن الهوى يريد حفظها؟!

كما أنه قد كان سببا في سل السيوف ، وإراقة الدماء في حرم الله تعالى ، وفي جوار بيته ، وإنما اكتفى «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالسكوت ، فلم يوجه لذلك الكاذب على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ولو كلمة تأنيب أو تخطئة على أقل تقدير ، وقد كان من المناسب جدا أن يذكّره بقوله «صلى الله

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٢ وراجع البحار ج ٢١ ص ١٣٦ عنه.

٩٩

عليه وآله» : فمن كذب عليّ عامدا متعمدا فليتبوأ مقعده من النار (١).

__________________

(١) راجع المصادر التالية : الكافي ج ١ ص ٦٢ الإعتقادات في دين الإمامية للصدوق ص ١١٨ والخصال ص ٢٥٥ وتحف العقول ص ١٩٣ وشرح أصول الكافي ج ٢ ص ٣٠٥ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٢٧ ص ٢٠٧ و (ط دار الإسلامية) ج ١٨ ص ١٥٣ ومستدرك الوسائل ج ٩ ص ٩١ و ٩٢ و ٩٣ وج ١٧ ص ٢٨٨ و ٣٤٠ وكتاب سليم بن قيس ص ١٨١ وشرح الأخبار ج ١ ص ٢٢٨ وج ٢ ص ٢٧٧ وكتاب الغيبة للنعماني ص ٨١ والمسترشد ص ٢٣٢ والإستنصار للكراجكي ص ١١ والإحتجاج للطبرسي ج ١ ص ٣٩٣ وج ٢ ص ٢٤٦ والعمدة لابن البطريق ص ٢٢٤ والطرائف لابن طاووس ص ٤٥٤ والصراط المستقيم ج ٣ ص ١٥٦ و ٢٥٨ وعوالي اللآلي ج ١ ص ١٨٦ ووصول الأخيار إلى أصول الأخبار للشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي ص ١٦٧ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٣٠٩ والبحار ج ٢ ص ١٦١ و ٢٢٥ و ٢٢٩ وج ٣٤ ص ١٦٩ وج ٣٦ ص ٢٧٣ وج ٣٧ ص ٢٢٣ وج ٥٠ ص ٨٠ وكتاب الأربعين للماحوزي ص ٢٤١ والنص والإجتهاد ص ٥٢١ وجامع أحاديث الشيعة ج ١ ص ١٥ و ١٤٢ وج ١٣ ص ٥٧٩ ومستدرك سفينة البحار ج ٩ ص ٨٠ ومكاتيب الرسول ج ٢ ص ٧٦ ومسند أحمد ج ٤ ص ٢٥٢ وج ٥ ص ٤١٢ وصحيح مسلم ج ١ ص ٨ وسنن الترمذي ج ٤ ص ٢٦٨ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٤ ص ٧٢ وشرح مسلم للنووي ج ١ ص ٦٥ ومجمع الزوائد ج ١ ص ١٤٨ والمصنف للصنعاني ج ٦ ص ١٠٩ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٦ ص ٢٠٤ و ٢٠٥ والآحاد والمثاني للضحاك ج ٥ ص ٣٤٤ و ٣٥٢ والسنن الكبرى للنسائي ج ٢ ص ٤٤٤ والمعجم الكبير للطبراني ج ٣ ص ١٨ والجامع الصغير ج ١ ص ٢٦ و ٣٥٧ وكنز العمال ج ٣ ص ٦٢٥ وج ٥ ص ١٢٦ وج ١٠ ص ٢٢٢ و ٢٣١ وتذكرة الموضوعات للفتني ص ٦ وفيض القدير ج ١ ص ١٧١ وج ٢ ص ٦٠٤ وتفسير القرطبي ج ١

١٠٠