الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-194-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٤٠

وكلمات وتصرفات الخلفاء والحكام ، والشخصيات المعروفة ـ باستثناء علي وأهل بيته «عليهم‌السلام» ـ فراجع ما ينقل من ذلك عن عمر ، وأبي بكر ، وعائشة ، وخالد بن الوليد ، ومعاوية ، وعمر بن سعد ، والمنصور و.. و.. الخ ..

وبها بررت عائشة حرب الجمل التي خاضتها ضد أمير المؤمنين «عليه‌السلام» (١).

وبها برر عمر بن الخطاب بعض أعماله حتى حين مزق كتابا سجل فيه حكما في مسألة إرثية ..

وبها برر عثمان تمسكه بالحكم إلى أن قتل.

وبها احتج معاوية لعهده بالخلافة بعده ليزيد الخمور والفجور.

وبها برر عمر بن سعد قتله للإمام الحسين «عليه‌السلام».

وبها استدل خالد بن الوليد لقتل مالك بن نويرة ، ومن معه من المسلمين.

وبها برر معاوية والمنصور العباسي منع الناس من حقوقهم في بيت مال المسلمين.

إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه واستقصائه (٢).

__________________

(١) المحاسن والمساوي للبيهقي ج ١ ص ٤٧١ وراجع : شواهد التنزيل ج ٢ ص ٣٨ و ٣٩ وتفسير نور الثقلين ج ٤ ص ٢٧٦ ومجمع البيان ج ٨ ص ٣٥٧ وراجع :

البحار ج ٣٥ ص ٢٢٢ وفي هامشه عن الطرائف ص ٢٠.

(٢) إن ما تقدم من أمثلة وشواهد ، ومن أحاديث أيضا موجود في المصادر المختلفة بصورة متفرقة ، فمن أراد أن يقف على متفرقاته ويجمع بين شتاته ، فليلتقط بعضه من المصادر التالية : تأويل مختلف الحديث ص ٥ و ٦ و ٢٩ و ٤٥ و ٤٨ و ٨٢ و ٨٣ و ١٢٨ و ٢٣٥ و ٢٣٦ والهدى إلى دين المصطفى ج ٢ ص ١٦٢ و ٢٧١ ـ

٤١

__________________

والمصنف للصنعاني ج ١٠ ص ١١٩ و ١٢٢ و ١٨ وج ٦ ص ٣٥٦ وحياة الصحابة ج ٢ ص ١٢ و ٩٥ و ٩٤ و ٢٣٠ وج ٣ ص ٤٨٧ و ٤٩٢ و ٥٠١ و ٥٢٩. وراجع : الغدير ج ٧ ص ١٤٧ و ١٥٤ و ١٥٨ وج ٨ ص ١٣٢ وج ٩ ص ٣٤ و ٩٥ و ١٩٢ وج ١٠ ص ٣٣٣ و ٢٤٥ و ٢٤٩ وج ٥ ص ٣٦٥ وج ٦ ص ١٢٨ و ١١٧ ونور القبس ص ٣١ و ٢٦٦ و ٦٥ وعيون الأخبار لابن قتيبة ج ٤ ص ٦٩ ومدارك التنزيل (مطبوع بهامش تفسير الخازن) ج ١ ص ٤٠١ وقاموس الرجال ج ٦ ص ٣٦ والفتوح لابن أعثم ج ٤ ص ٢٣٩ وربيع الأبرار ج ٢ ص ٦٤ و ٦٥ وج ١ ص ٨٢١ والمعجم الصغير ج ١ ص ١٥٨ و ٧٤ و ١٣٠ و ٢٥٥ وج ٢ ص ٦٧ و ٥٥ والطبقات الكبرى (ط دار صادر) ج ٥ ص ١٤٨ و ٥٤٣ وج ٧ ص ١٦٣ و ٤١٧ وج ٣ ص ٧٢ و ٦٦ وكلمة الأديان الحية ص ٧٧ و ٨٠ والإلمام ج ٦ ص ١١٩ ولسان الميزان ج ١ ص ٤٤٨ والكفاية في علم الرواية ص ١٦٦ وجامع بيان العلم ج ١ ص ٢٠ وج ٢ ص ١٤٨ و ١٤٩ و ١٥٠ وضحى الإسلام ج ٣ ص ٨١ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ١ ص ٣٤٠ وج ١٢ ص ٧٨ و ٧٩ والإمامة والسياسة ص ١٨٣ والأخبار الدخيلة (المستدرك) ج ١ ص ١٩٣ و ١٩٧ ومقارنة الأديان (اليهودية) ص ٢٧١ و ٢٤٩ وأنيس الأعلام ج ١ ص ٢٧٩ و ٢٥٧ والتوحيد وإثبات صفات الرب ص ٨٠ ـ ٨٢ والمقدمة لابن خلدون ص ١٤٣ و ١٤٤ والأغاني ج ٣ ص ٧٦ والعقد الفريد ج ١ ص ٢٠٦ وج ٢ ص ١١٢ وتاريخ الأمم والملوك (ط مطبعة الاستقامة) ج ٢ ص ٤٤٥ وبحوث مع أهل السنة والسلفية ص ٤٣ و ٤٩ عن العديد من المصادر وتذكرة الخواص ص ١٠٤ و ١٠٥ وتاريخ بغداد ج ١ ص ١٦٠ وبهج الصباغة ج ٧ ص ١٢٠ والدر المنثور ج ٦ والمغازي للواقدي ج ٣ ص ٩٠٤ والموطأ (مطبوع مع تنوير الحوالك) ج ٣ ص ٩٢ و ٩٣ ومصابيح السنة للبغوي ج ٢ ص ٦٧ ومناقب الشافعي ج ١ ص ١٧ وصحيح البخاري ج ٨ ص ٢٠٨ والمعتزلة ص ٧ و ٣٩ ـ

٤٢

هذا .. وقد تصدى أمير المؤمنين وأهل البيت «عليهم‌السلام» وكذلك شيعتهم «رضوان الله عليهم» لهذه العقيدة الفاسدة ، بكل ما أمكنهم .. كما تصدوا لكل فاسد وافد ، وبينوا زيفه بالأدلة وبالشواهد ..

بنو بكر أهل شؤم :

وقد قال أبو سفيان عن بني بكر ، حين مروا به : «نعم ، أهل شؤم والله! هؤلاء الذين غزانا محمد بسببهم».

ونقول :

إنه كلام غير سليم ، وهو يستبطن نوعا من التدليس للحقيقة ، والمغالطة

__________________

و ٤٠ و ٨٧ و ٩١ و ٢٠١ و ٢٦٥ عن المنية ، والأمل ص ١٢٦ والخطط للمقريزي ج ٤ ص ١٨١ والملل والنحل ج ١ ص ٩٧ و ٩٨ والعقائد النسفية ص ٨٥ ووفيات الأعيان ص ٤٩٤.

وفي «الإمام الصادق والمذاهب الأربعة» ج ٣ ص ٤٥ عن الطبري ج ٦ ص ٣٣ وج ٣ ص ٢٠٧ وعن الترمذي ص ٥٠٨.

وفي حياة الصحابة نقله عن المصادر التالية : كنز العمال ج ٣ ص ١٣٨ و ١٣٩ وج ٨ ص ٢٠٨ وج ١ ص ٨٦ وصحيح مسلم ج ٢ ص ٨٦ وأبي داود ج ٢ ص ١٦ والترمذي ج ١ ص ٢٠١ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٢٠٩ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٥٠ وج ٦ ص ٣٤٩ ومسند أحمد ج ٥ ص ٢٤٥ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ٣ وج ١ ص ١٣٥ وتاريخ الأمم والملوك للطبري (مقتل برير) ج ٤ ص ١٢٤ وج ٣ ص ٢٨١ والبداية والنهاية ج ٧ ص ٧٩.

ونقل أيضا عن : جامع البيان ج ٦ ص ٦٠ وعن تفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٥٩٤ وعن أنساب الأشراف ج ٥ ص ٢٤.

٤٣

فيها ، فلاحظ ما يلي :

أولا : إن بني بكر لم يكونوا وحدهم حين قتلوا الأطفال ، والنساء ، والضعفاء من رجال خزاعة ، بل كان معهم من قريش جماعة فيهم زعماء ، وكبار ، ولم يكن بنو بكر ليجبروهم على اتخاذ موقفهم ، بل اتخذوه بملء اختيارهم.

فما معنى : أن يعتبرهم شؤما ، فضلا عن أن يجعلهم سبب غزو محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لقريش؟!

ثانيا : لو صح قول أبي سفيان هذا ، فقد كان بإمكانه أن يتلافى ما حصل ، بالعمل على القصاص من المجرمين ، أو على الأقل أن يعطي أولئك القتلة الظالمون خزاعة دية قتلاها ..

ثالثا : لماذا ساهم هو في التستر على مرتكبي الجريمة ، وفي السعي لخداع المسلمين ، وإعطائهم انطباعا خاطئا عن حقيقة ما جرى؟!

موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من كلام سعد :

وعن قول سعد بن عبادة : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ، اليوم أذل الله قريشا ، نقول :

إنه مرفوض جملة وتفصيلا ، بعد أن صدرت الأوامر الصارمة من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وظهرت رغبته الأكيدة بحفظ حرمة بيت الله ، وحرمه.

وهذا ينم عن جهل ، أو عن عصبية جاهلية اعترت سعدا في ذلك الموقف .. إلا إذا كان يريد أن يخيف أبا سفيان ، أو أنه أطلق كلماته تلك انسياقا

٤٤

مع مشاعره الجياشة ، وانسجاما مع عواطفه الثائرة ، بعد كل ما رآه من بغي وطغيان ، وظلم مارسته قريش ضد الإسلام وأهله طيلة أكثر من عشرين سنة.

وفي جميع الأحوال نقول :

إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يريد حفظ حرم الله والتأكيد على كرامة بيته ، لأن في ذلك حفظ الإسلام .. حتى لو أدى ذلك إلى أن يتمكن بعض الظلمة من أن يفلتوا من العقوبة التي يستحقونها في هذه الدنيا ، ولم يكن يريد حفظ أقاربه وقومه ، بما هم قوم وأقارب ، فقد أثبتت الأيام : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يفكر بهذه الطريقة ، ولا ينطلق في مواقفه من مثل هذه المفاهيم والمعاني.

كما أنه يريد : أن يفسح المجال للناس الذين استضعفهم أولئك المستكبرون ، ليمارسوا حريتهم في الاختيار وفي الممارسة ، وأن يمنع حدوث أي شيء يؤسس لأحقاد ، أو لطلب ثارات ، قد تتسبب في تفجير أوضاع خطيرة على مستقبل الدين وأهله ..

وقد نسبت بعض الروايات إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قوله : «كذب سعد». وهي كلمة قوية وحادة ، إن كان يريد أن سعدا تعمد أن يكذب.

وإن كان يريد أنه لم يصب الواقع ، لاشتباه الأمر عليه ، فظن أن يوم المرحمة هو يوم الملحمة ، فليس في هذه الكلمة إهانة لسعد ، بل هو يريد تخطئته وحسب.

يوم المرحمة ويوم عزّ قريش :

ولا شك في أن الرحمة الإلهية قد شملت أهل مكة بهذا الفتح الذي

٤٥

فرض عليهم الإسلام ، وأدى إلى هيمنة أحكامه وشرائعه ، التي هي محض الحق والعدل ، وبها يكون لهم بلوغ درجات الكرامة والفضل.

إنه يوم رفع الظلم ، والجبرية ، ويوم إعلان الحرب على الفساد والمفسدين ، وإبطال حكومة الأهواء والنزوات ، وإسقاط هيمنة العصبيات والشهوات.

وهو أيضا : يوم تعظيم الكعبة وكسوتها .. بعد أن خرجت من يد المشركين بربهم ، الذين هتكوا حرمة حرم الله بذبح أطفال ، ونساء ، وضعفاء رجال خزاعة فيه .. وتجرؤوا على الله بعبادة الأصنام في بيته والدعوة إلى الشرك به تعالى فيه ..

وهو يوم عزّ قريش التي أعلنت براءتها من الشرك ، والتزامها بالإيمان بالله ، وبأنبيائه ورسله ، وقبول دينه ، فمنحها ذلك حصانة ، وعزة ، حتى لو كان إيمانها لا يزال في مراحله الأولى ، الذي يقتصر على مجرد الإعلان اللساني ، ولم يلامس بعد شغاف القلوب ، ولم يتمازج مع الأرواح ، ولا طبعت به النفوس.

أخذ الراية من سعد :

ولم يكن أخذ الراية من سعد يهدف إلى إهانته ، أو المسّ بمقامه. ولذلك أخذت منه لكي تعطى لمن هو أولى بها منه ومن كل أحد ، ألا وهو علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» ، ليدخلها إلى مكة إدخالا رفيقا ، بعيدا عن أجواء الإثارة والتحدي ، والرهج (١) ، والحركات المؤذية للناس ..

__________________

(١) الرهج : الشغب.

٤٦

ويعيدها إلى قيس بن سعد بن عبادة ، ليركزها عند الحجون ، لأن إعطاء الراية للولد يرضي الوالد ، ويحفظ ماء وجهه ، ويطمئنه إلى أن المقصود ليس هو الطعن بمقامه ، وإنما تهدئة الأمور ، وتبريد الأجواء.

وبذلك نستطيع أن ندرك : أن الروايات التي ذكرت أخذ الراية من سعد ، لتعطى لعلي «عليه‌السلام» ، أو لقيس بن سعد ليست متنافرة.

كما أنها لا تتضمن إهانة أو حطا من مقام سعد. وإن كان محبو أبي بكر وعمر قد يرضيهم إعطاؤها هذا الطابع ، لأن سعدا لا يحظى بالإحترام ، والتقدير لديهم ، ولا يتمتع بالحصانة التي تمنع من نسبة ذلك إليه ، لأنه بنظرهم يستحق كل مهانة ، لأنه نافس أبا بكر على الخلافة في يوم السقيفة ، في حديث معروف ومشهور ..

ومما يدل على أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يقصد ذلك : ما تقدم من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نزع اللواء من يده ، وجعله إلى ابنه قيس. وقد قالوا : ورأى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن اللواء لم يخرج من يد سعد ، حتى صار إلى ابنه.

سعد لم يكن ينوي البطش بأهل مكة :

ومما يؤكد : على أن سعدا لم يكن ينوي البطش بأهل مكة ، وإنما قال ما قال على سبيل التهديد والتخويف لأبي سفيان .. أو لأنه فهم أن الأمور ستؤول إلى ذلك ، ما رووه : من أنه بعد أن صار اللواء إلى ولده خاف أن يقدم ولده على شيء من العنف ، فطلب من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن

٤٧

يأخذ اللواء حتى من ولده (١).

وأما احتمال أن يكون قد طلب من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يأخذ اللواء من ولده قيس بسبب انزعاجه من عزله وتولية ولده ، فهو احتمال رديء يؤدي إلى إتهام سعد في دينه ، من حيث إنه يتضمن اعتراضا منه على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وأما القول : بأن لا شيء يدل على أن سعدا قد خاف على ولده من أن يرتكب مخالفة فيبادر إلى الطلب من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يأخذ منه الراية أيضا.

فيقال في جوابه : إنه يمكن أن يكون راوي الحديث قد رأى قرائن ودلالات ، أعطته الانطباع بأن سعدا يريد حفظ ولده من أن يقع في خلاف ما يريده رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

علي عليه‌السلام صاحب اللواء :

ولسنا بحاجة إلى إعادة التذكير بأن عليا «عليه‌السلام» كان صاحب لواء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في كل مشهد ، وفي يوم فتح مكة أيضا. وقد تقدم ذلك في أوائل غزوة أحد.

وقد صرحت النصوص هنا : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أضاف إلى علي لواء سعد بن عبادة أيضا.

غير أن ثمة من يدّعي : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أعطى راية سعد

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٢٢ و ٢٢٣ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٢ عن البزار.

٤٨

للزبير ، وزعموا : أن الزبير دخل مكة بلواءين.

وهي رواية الزبيريين لصالح سيدهم وكبيرهم ، بل يظهر من ملاحظة بعض الروايات : أن الزبير قد روى ذلك أيضا لنفسه ، في محاولة منه لجر النار إلى قرصه ..

غير أننا نقول :

لنفترض : أن لهذا الكلام نصيبا من الصحة ، فلعل أمير المؤمنين «عليه‌السلام» بعد أن أدخل الراية إلى مكة إدخالا رفيقا ، إمتثالا لأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ لعله ـ أعطاها بعد ذلك للزبير ، مكتفيا هو بحمل لواء الجيش كله ، حسبما ألمحنا إليه ..

فإنهم يقولون : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمر عليا ، فأخذ الراية ، فذهب بها إلى مكة حتى غرزها عند الركن (١). فلعله جعلها مع الزبير مدة يسيرة بعد ذلك إلى أن جاء قيس بن سعد ، فأخذها من الزبير وأوصلها إلى الحجون.

عمر بن الخطاب يتعاطف مع قريش :

واللافت هنا : أن عمر بن الخطاب الذي أظهر حرصه على قتل أبي سفيان قبل قليل ، ولم يزل يظهر الشدة على المشركين ، ويطالب بسفك دمهم ، هو الذي سمع سعدا يقول : اليوم يوم الملحمة الخ .. فجاء إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وقال له : «يا رسول الله ، اسمع ما قال

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٢٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٢٢.

٤٩

سعد!! ما نأمن أن يكون له في قريش صولة» (١).

ثم تابعه على ذلك عبد الرحمن بن عوف ، وعثمان بن عفان (٢).

ثم دس ضرار بن الخطاب بشعره المتقدم مع امرأة لتنشده النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو يستعطفه فيه أيضا على أهل مكة ، بعد أن سمع هو الآخر مقالة سعد بن عبادة.

فما هذا الحرص من خصوص هؤلاء على سلامة قريش من صولات سعد؟!

ولماذا يكون عمر شديدا هناك ، في حين كان واضحا لكل أحد أن المصلحة هي في عدم التعرض لأحد من أولئك الناس ، وأن الأمر فيهم لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دون سواه ، ثم يكون حريصا على سلامة قريش هنا ، حيث لا يوجد ما يمنع سعدا من أن تكون له في قريش صولة إلا تدخّل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» معه لمنعه من ذلك .. مع توفر الدواعي للبطش بقريش ، وكسر عنفوانها ، ومجازاتها على بعض ما صدر منها من ظلم ، وما ارتكبته من جرائم في حق سائر أهل الإيمان في المنطقة بأسرها.

وأما استبعاد البعض : أن يكون عمر قد فعل ذلك ، لكونه كان معروفا بشدة البأس عليهم (٣) ، فقد تقدم في غزوة أحد ما يفيد في بيان عدم صحة هذا الكلام ، حيث قلنا : إن هناك ما يشير إلى وجود عطف متبادل فيما بين

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٢١ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٢.

(٢) تقدمت المصادر لذلك.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٢١.

٥٠

المشركين وبين عمر.

وأما المواقف التي كان يظهر فيها عمر شدته عليهم ، فإنما هي في المواقع التي كان يعلم أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اتخذ قرارا بعدم التعرض لهم. ولأجل ذلك لم نجده «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أذن له ولو مرة واحدة بإلحاق الأذى بأي فرد منهم ، رغم كثرة طلبه ذلك منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

أبو سفيان يقبّل غرز رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

وقد أشرنا أكثر من مرة إلى مشروعية التقبيل للأنبياء والأولياء وآثارهم ، وقد ذكر في الروايات الكثير من الشواهد والدلالات على ذلك ، والروايات المتقدمة أظهرت سعي أبي سفيان ، ومزاحمته للناس حتى مر تحت الرماح ، ووصل إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأخذ بغرزه فقبله ..

ولم يمنعه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من ذلك ، ولا أشار إلى أي تحفظ على هذا التقبيل ، فيدخل تحت قاعدة مشروعية فعل ما سكت المعصوم عن الاعتراض على فاعله ..

ومن جهة أخرى ، فإن أبا سفيان الذي لم يزل يجد في داخله إرهاصات الانتقام من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمين استكبارا منه ، وظلما وعتوا قد أصبح في موقع المستجدي لعطفهم ، والمتملق لهم ، والمقبّل لغرز النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والمعلن بالمدح والثناء عليه ، فهو يقول له : أنت أبر الناس ، وأوصل الناس ، وأرحم الناس.

فهل يعتبر هذا الرجل ، ويكف عن التآمر ، والكيد ، وبث الفتن والأحقاد؟!

٥١

تأثير المرأة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله!! :

وقد تقدم في بعض الروايات : أن ضرار بن الخطاب الفهري حين سمع مقالة سعد أرسل أبياتا مع امرأة من قريش ، فعارضت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بها ، «فكأن ضرارا أرسل به المرأة ليكون أبلغ في انعطاف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على قريش».

ونقول :

إن هذا تفكير تافه وسخيف ، يتناسب مع ذهنية المشركين الذين لا يعرفون معنى النبوة ، ولا يعيشون آفاقها.

فإن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وإن كان إنسانا كامل المزايا الإنسانية ومنها العاطفة الجياشة ، ولكن عاطفته هذه تبقى خاضعة لعقله ، ومحكومة بالشرع والدين ، وبرضا الله تبارك وتعالى ..

فإذا كان هذا العطف متوافقا مع الباطل ، ويسخط الله ، فإنه يتحول إلى غضب حازم ، وقرار جازم لا يحابي ، ولا يجامل ، ولا تخالطه عاطفة ، ولا عصبيات باطلة.

وإن كان متوافقا مع الحق ، ومع رضا الله ، فرضاه تعالى هو الذي يحرك النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والحق هو الذي يهيمن على تلك الحركة.

إيحاءات لا تجدي شيئا :

وقد ذكرت بعض الروايات المتقدمة : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد دخل مكة وهو بين أبي بكر (الصديق) وأسيد بن حضير ، وهو يحدثهما ..

٥٢

فقال العباس لأبي سفيان : هذا رسول الله!!

ونقول :

إن مجرد أن يمشي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بين هذا وذاك لا يدل على فضيلة لأي منهما.

إلا إذا ثبت : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي طلب منهما أن يكونا معه وإلى جانبه.

وثبت أيضا : أنه أراد تكريمهما بذلك ..

ولم يثبت أي من هذين الأمرين .. لكننا نعرف أن من المألوف أن يسعى الناس أنفسهم للتقرب من العظماء ، فكيف لا يتقربون من الأنبياء؟ ولا سيما في مثل هذا الفتح العظيم.

بل إن التحدث عن أن هذا الأمر يشير إلى خصوصية امتاز بها أبو بكر وأسيد بن حضير على من سواهما يوجب الريب فيما يدّعيه أتباع ومحبو نفس هؤلاء ، من تقدم لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وسواهما على أسيد بن حضير ، فكيف اختص أسيد بهذه الفضيلة دون هؤلاء ، بما فيهم عمر بن الخطاب؟!

وأما قولهم : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يحدث أبا بكر ، وأسيد بن حضير .. فإن كان على تقدير أن يكون أحدهما قد سأل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن أمر مّا ، فكان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يجيبه عنه ، فهو مقبول ..

وأما إن كان يراد تعظيم أبي بكر وأسيد ، ولو بقيمة تصغير شأن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقد خاب من اعتدى وافترى على مقام النبوة الأقدس.

على أن من الجائز أن يكونا قد حشرا نفسيهما في هذا الموقع ، وبادرا إلى

٥٣

طرح بعض الأسئلة لكي يرى الناس أن لهما من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» موقعا خاصا.

أسلم بنا :

وعن قول العباس لأبي سفيان ، حين بعث النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أسلم بنا ، نقول :

إنه لمن الغريب حقا : أن يكون ابن عبد المطلب سيد الحجاز ، وشيخ بني عبد مناف يعيش هذه التبعية الذليلة والمهينة أمام أبي سفيان ، حتى إنه يعتبر إسلام أبي سفيان أساسا لإسلامه ، وإسلام من هم على شاكلته من الناس .. فأبو سفيان هو المتصرف بهم ، حتى في قضايا الإيمان والإسلام.

ويا ليت العباس كان قد تستر على هذا الضعف المهين ، أو أخفى طرفا من هذه التبعية المشينة ، فإن إظهارها بهذه الطريقة ، وكأنها من الأمور العادية والمسلمة ، حيث يقول : أسلم بنا!! فذلك يؤلم روح الإنسان الحر ، ويؤذي مشاعره ، لأنه يعتبر ذلك إهانة للإنسانية واستخفافا بالضمير ، وتحقيرا للعقل.

وعلى كل حال ، فإن العباس بقي على تبعيّته لأبي سفيان طيلة عشرين سنة ، بل إنه حتى حين لم يعد له مناص هو وأبو سفيان من إعلان الإسلام لم يضعف اهتمامه بحفظ أبي سفيان ، ولم يفتر عن السعي في مصالحه ، وما يرضيه .. ولم نجده متحمسا لحفظ أهل الإيمان ، حتى لابن أخيه علي «عليه‌السلام» حين اعتدى عليه المعتدون بعد وفاة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بمقدار عشر حماسته لأبي سفيان في يوم الفتح .. وذلك ظاهر لا يخفى.

٥٤

الفصل الثاني :

دخول مكة

٥٥
٥٦

أدوار مخترعة للعباس رحمه‌الله :

هذا .. وقد رووا : عن أبي سلمة ، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، وعن عروة : أن العباس قال : يا رسول الله!! لو أذنت لي فأتيتهم ـ أي أهل مكة ـ فدعوتهم فأمنتهم ، فركب العباس بغلة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الشهباء ، وانطلق.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ردوا عليّ أبي ، ردوا عليّ أبي ، فإن عم الرجل صنو أبيه. إني أخاف أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود ، دعاهم إلى الله ـ تعالى ـ فقتلوه ، أما والله لئن ركبوها منه لأضر منها عليهم نارا».

فكره العباس الرجوع ، وقال : يا رسول الله ، إن ترجع أبا سفيان راغبا في قلة الناس ، فيكفر بعد إسلامه.

فقال : «احبسه» فحبسه.

فذكر عرض القبائل ومرورها بأبي سفيان ، وفيه : فقال أبو سفيان : امض يا عباس.

فانطلق العباس حتى دخل مكة ، فقال : يا أهل مكة!! أسلموا تسلموا

٥٧

قد استبطنتم بأشهب بازل (١).

وفي حديث عروة : وكفهم الله عزوجل ـ عن العباس ـ انتهى.

قال : ثم إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لأبي سفيان : تقدم إلى مكة فأعلمهم الأمان (٢).

قال العباس : فقلت لأبي سفيان بن حرب : أنج ويحك ، فأدرك قومك قبل أن يدخل عليهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فخرج أبو سفيان ، فتقدم الناس كلهم حتى دخل مكة من كداء ، فصرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش ، هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به ، أسلموا تسلموا ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

قالوا : قاتلك الله! وما تغني دارك؟!

قال : ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن.

فقامت إليه هند بنت عتبة زوجته ، فأخذت بشاربه ، وقالت : أقتلوا الحميت الدسم الأحمس ، قبّح من طليعة قوم.

فقال أبو سفيان : ويلكم! لا تغرنكم هذه من أنفسكم ، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٢٣ عن ابن أبي شيبة ، والطبراني ، وتهذيب تاريخ دمشق ج ٧ ص ٢٣٦ ومعاني الآثار ج ٣ ص ٣١٥ وعن المصنف ج ١٤ ص ٤٨٤.

(٢) البحار ج ٢١ ص ١١٩.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٢٣ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٨١ وراجع : البحار ج ٢١ ص ١٣٠ وراجع ص ١١٩ وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٢٢ و ٨٢٣ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨١.

٥٨

وفي نص آخر : أن أبا سفيان أقبل يركض حتى دخل مكة وقد سطع الغبار من فوق الجبال (١) ، ثم صاح : يا آل غالب ، البيوت البيوت. من دخل داري فهو آمن ، فعرفت هند فأخذت تطردهم ..

إلى أن قالت الرواية : أن أبا سفيان قال لها : ويلك إني رأيت ذات القرون ، ورأيت فارس أبناء الكرام ، ورأيت ملوك كندة وفتيان حمير ، يسلمن (يسلمون) آخر النهار ، ويلك اسكتي ، فقد والله جاء الحق ، ودنت البلية (٢).

ونقول :

إن لنا مع ما تقدم وقفات ، نذكرها فيما يلي :

خوف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على العباس :

وبالنسبة لما ذكر من خوف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على عمه العباس ، وطلبه أن يردوه عليه ، نقول :

إننا نكاد نطمئن إلى أنها رواية مفتعلة في معظمها ، فلاحظ ما يلي :

١ ـ كيف يرضى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يذهب العباس إلى أهل مكة ، ويأذن له بأن يركب بغلته .. إذ لم يكن ليركب العباس بغلة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من دون إذنه .. ثم يغير قراره مباشرة ، ويطلب من الناس إرجاع العباس.

__________________

(١) سطع الغبار : إرتفع.

(٢) البحار ج ٢١ ص ١٣٠ و ١٣١ عن المناقب ، وإعلام الورى ، وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٢٢ و ٨٢٣.

٥٩

فإن لم يكن ملتفتا في بادئ الأمر إلى أن أهل مكة قد يؤذون عمه ، وقد يجري له معهم كما جرى لعروة بن مسعود حيث قتلته ثقيف حينما دعاهم إلى الله تعالى ، فذلك يشير إلى نقص لا يصح نسبته إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وإن كان قد التفت إلى ذلك وكان قرارا مصيبا ، فلما ذا عدل عنه؟! وإن كان قرارا خاطئا فلما ذا اتخذه ، وأصدر أمره على أساسه؟!

وهل يمكن أن يكون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مترددا إلى هذا الحد؟ ثم ألا يوجب ذلك وهن أمره ، وضعف أثره؟

ومن تكون هذه حاله ، كيف يستطيع أن يجمع هذه الجموع ويحقق هذه الإنجازات؟!

٢ ـ إن عروة بن مسعود حين دعا ثقيفا إلى الله لم يكن وراءه من تخشاه ثقيف ولا كان معه ، عشرة آلاف مقاتل ، ولا كان قد أخذ من زعمائهم من هو مثل أبي سفيان ، وبديل بن ورقاء ، وحكيم بن حزام ..

أما العباس ، فكان كل ذلك متوفرا بالنسبة إليه ، فلا معنى لقياس حاله بحال ابن مسعود الثقفي ، الذي قتلته ثقيف ..

٣ ـ إن واضع الرواية لم تكن لديه خبرة كافية بالتاريخ. فإن ما ذكره من خشية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أن يجري على عمه مثل ما جرى على عروة بن مسعود ، حيث قتلته ثقيف حين ذهب إليهم يدعوهم إلى الله ، لا يمكن أن يصح ، لأن عروة ـ كما صرحت به النصوص ـ إنما قتلته ثقيف في سنة تسع بعد رجوع أبي بكر من الحج (١).

__________________

(١) الإصابة ج ٢ ص ٤٧٧ عن موسى بن عقبة.

٦٠