الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-194-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٤٠

إحداها : يوم الفتح.

وبيعة أخرى : حين قدم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المدينة ، فقد روت أم عطية : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جمع نساء الأنصار في بيت ، ثم أرسل إليهن عمر بن الخطاب ، فقام على الباب ، فسلم ، فرددن عليه‌السلام ، فقال : أنا رسول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليكن ، يبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا .. وقرأ إلى قوله تعالى : (.. فِي مَعْرُوفٍ ..) (١).

فقلن : نعم.

فمد يده من خارج ، ومددن أيديهن من داخل البيت ، ثم قال : اللهم اشهد.

قال الحلبي : ولعل ذلك كان بحائل ، والفتنة مأمونة (٢).

والخلاصة : أن البيعة قد تكررت قبل الهجرة وبعدها ، وفي يوم الفتح ، وفي غيره ، فلعله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بايعهن مرة بواسطة غمس اليد في الإناء ، وأخرى بالكلام ..

وأما البيعة بالمصافحة من وراء الثوب ، فنحن لا نستطيع أن ننسبها إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقد تقدم التصريح بأنه لا يصافح النساء ، ولعل عمر هو الذي فعل ذلك ، فنسب ذلك إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لأنه زعم لهن أنه مرسل من قبله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ودعوى ذلك من قبل الشعبي ، الذي قد يتهم : بأنه يريد تبرير فعل

__________________

(١) الآية ١٢ من سورة الممتحنة.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٧.

٣٠١

بعض من كان يسعى لتأييد سلطانهم ، وإحكام بنيانهم ، تبقى غير قابلة للإعتماد ، فإن الشعبي لم يكن في زمان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا ندري عمن نقل هذه الكذبة الظاهرة.

جرأة هند :

أما ما أظهرته هند من جرأة في محضر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. حتى إنها كانت تعقب على كل كلمة قالها ، وكل شرط أخذه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على النساء ، فقد يحسب البعض أنه أمر تستحق المدح والثناء عليه ، كما أنه يشير إلى أنها تعيش معنى الحرية بمفهومها الأوسع ..

ويؤيد ذلك : أننا لم نجد من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما يشير إلى أي تبرم ، أو تضايق ، أو اعتراض على أقوالها ومداخلاتها ..

غير أننا نقول :

إن هذا الذي فعلته هند إن دل على شيء ، فإنما يدل على أنها لا توقر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا تلتزم بحدود الآداب معه ، بل في كلماتها ما يدل على حقدها الدفين ، وبغضها الراسخ لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلاحظ ما يلي :

١ ـ إنها تقول : «والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه على الرجال» وهذا يمثل محاولة منها للتشكيك بإنصاف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعدله .. بل هي تريد الإيحاء بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قاس وظالم ، ولا ينطلق في ممارساته من موازين العدل ، ولا مما تقضي به الفطرة ، ويحكم به العقل ، لأنه يأخذ على النساء ما لا يأخذه على الرجال .. مع أن الرجال

٣٠٢

أقوى من النساء.

٢ ـ ثم إنه لما قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ولا تقتلن أولادكن». قالت : «ربيناهم صغارا ، وقتلتهم كبارا ، فأنت وهم أعلم».

فقد تضمن كلامها هذا : التلويح بثاراتها عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والتصريح بأن النبي قاتل الأبناء والأحبة ، حين كبروا.

والتشكيك في أن يكون محقا في قتله إياهم ، حيث قالت : فأنت وهم أعلم.

وهل نسيت هند : أنها وزوجها ، وأهلها ، وعشيرتها كانوا باستمرارهم الذين يهاجمون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويسعون في محو ذكره ، وإبطال أمره ، واستئصال شأفته؟!

وهل نسيت هند : كبد الحمزة حين حاولت أن تأكلها ، فلاكتها ولم تستطع أن تسيغها ، فلفظتها ، حتى سميت بآكلة الأكباد؟!

وأخيرا ، فإننا نلاحظ : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد تجاهل هذه المرأة تجاهلا تاما ، ولم يعلق على كلماتها بشيء ، رغم أنها كانت جارحة له ، حسبما أوضحناه.

وذلك هو الخلق النبيل ، وتلك هي سعة الصدر ، والسماحة ، والصفح ، والعفو عند المقدرة. ومن أولى من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بذلك كله؟

عمر في بيعة النساء :

وزعموا : أن عمر بن الخطاب كان يبايع النساء بأمره «صلى الله عليه

٣٠٣

وآله» ، ويبلغهن عنه ..

ولا نجد حاجة لأمر كهذا ، ولو احتاج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى من يعينه في بيعة النساء ، فلما ذا لا يحتاج إلى مثل هذا المعين في بيعة الرجال؟ فإنه لا فرق بين الجنسين من حيث كثرة العدد ، ولا في أي شيء يوجب المعونة هنا ، والإستغناء عنها هناك.

فلعل عمر قد حشر نفسه في هذا الأمر ، وحاول أن يعيد كلمات النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على مسامعهن ، ليظهر لهن أن له موقعا ، أو يوهم الناس أنه يقوم بعمل ما في هذا الفتح العظيم ، الذي لم نجد له فيه مكانا ، ولا سمعنا له فيه صوتا ، لا في تحطيم الأصنام ، ولا في ملاحقة المطلوبين للعدالة ، الذين أهدر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دمهم .. بل وجدناه فقط مع النساء كما يقولون.

وعمر رجل مغرم بالنساء بصورة غير عادية ، وقد ذكرنا في موضع سابق من هذا الكتاب : أنه كان إذا أراد الحاجة تقول له زوجته : تذهب إلى بنات فلان تنظر إليهن (١).

وهو الذي يقول : إنه لم يبق فيه شيء من أمر الجاهلية ، إلا أنه لا يبالي أي الناس نكح ، وأيهم أنكح (٢).

وقصته مع عاتكة بنت زيد ، التي كانت جميلة ، ومات زوجها فخطبها

__________________

(١) راجع : المصنف لعبد الرزاق ج ٧ ص ٣٠٣ ومجمع الزوائد ج ٤ ص ٣٠٤ عن الطبراني.

(٢) طبقات ابن سعد (ط بيروت سنة ١٣٧٧ ه‍) ج ٣ ص ٩٨٢.

٣٠٤

عمر ، فرفضته ، فعقد لنفسه ـ بزعمه ـ ثم ذهب إليها فعاركها حتى وطأها أشهر من أن تذكر (١).

بيعة معاوية .. وإسلامه!! :

وكان من جملة من بايع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» معاوية.

فقد روي عنه قوله : لما كان عام الحديبية وقع الإسلام في قلبي ، فذكرت ذلك لأمي.

فقالت : إياك أن تخالف أباك ، فيقطع عنك القوت.

فأسلمت ، وأخفيت إسلامي.

فقال لي يوما أبو سفيان ، وكأنه شعر بإسلامي : أخوك خير منك ، وهو على ديني.

فلما كان عام الفتح أظهرت إسلامي ، ولقيته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فرحب بي الخ .. (٢). ثم يستمر الحلبي في ذكر فضائل معاوية ومآثره ..

ونقول :

أولا : إن هذا الحديث مروي عن معاوية نفسه ، وهو غير مأمون على الرواية مطلقا ، فكيف إذا كان يحدث عن نفسه ، ويريد أن يثبت لها فضيلة ، أو يدفع عنها رذيلة؟

ثانيا : إن هذا الكلام غير صحيح ، إذ إن معاوية لو كان قد أسلم قبل ذلك لم يصح أن يعتبره المسلمون من الطلقاء. وقد تقدمت طائفة من

__________________

(١) طبقات ابن سعد (ط ليدن) ج ٨ ص ١٩٤ وكنز العمال ج ١٣ ص ٦٣٣.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٤ و ٩٥.

٣٠٥

النصوص التي تصرح بذلك ، وهي مروية عن : عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب «عليه‌السلام» ، وابن عباس ، والمسور بن مخرمة ، وسعنة بن عريض ، وصعصعة بن صوحان ، وعبد الرحمن بن غنم .. فراجع ما قدمناه في فصل سابق ، في فقرة بعنوان : «الطلقاء .. والخلافة».

والذي يبدو لنا : أن معاوية قد أراد أن يتخلص من وصمة العار هذه ، فاخترع لنفسه هذا الحديث ..

٣٠٦

الفصل العاشر :

أحداث .. ومتابعات

٣٠٧
٣٠٨

لا هجرة بعد الفتح :

قالوا : إن مكة شرفها الله تعالى كانت قبل الفتح دار حرب ، وكانت الهجرة منها واجبة إلى المدينة ، فلما فتحت مكة صارت دار إسلام ، فانقطعت الهجرة منها.

وعن ابن عباس قال : قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم فتح مكة : «لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا» (١).

وعن عطاء بن أبي رباح قال : زرت عائشة مع عبيد بن عمير الليثي ، وهي مجاورة بثبير ، فسألها عن الهجرة ، فقالت : «لا هجرة اليوم ، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله ورسوله ، مخافة أن يفتن عنه.

فأما اليوم فقد أظهر الله تعالى الإسلام ، فالمؤمن يعبد ربه حيث كان ، ولكن جهاد ونية» (٢).

البيعة على الجهاد :

وعن يعلى بن صفوان بن أمية قال : جئت بأبي يوم الفتح ، فقلت : يا

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٦٠ عن البخاري ، ومسلم.

(٢) المصدر السابق.

٣٠٩

رسول الله بايع أبي على الهجرة.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «بل أبايعه على الجهاد فقد انقضت الهجرة» (١).

عن مجاهد مرسلا ، قال : جاء يعلى بن صفوان بن أمية بعد الفتح ، فقال : يا رسول الله ، اجعل لأبي نصيبا في الهجرة.

فقال : «لا هجرة بعد اليوم».

فأتى العباس ، فقال : يا أبا الفضل ، ألست قد عرفت بلائي؟

قال : بلى ، وما ذا؟

قال : أتيت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأبي ليبايعه على الهجرة فأبى ، فقام العباس معه في قيظ ما عليه رداء ، فقال لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أتاك يعلى بأبيه لتبايعه على الهجرة فلم تفعل.

فقال : «إنه لا هجرة اليوم».

قال : أقسمت عليك يا رسول الله لتبايعه.

فمد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يده فبايعه ، فقال : «قد أبررت عمي ولا هجرة» (٢).

ونقول :

إن لنا ههنا وقفات للتوضيح والبيان وهي التالية :

١ ـ قد ذكرنا حين الكلام حول هجرة العباس وإسلامه :

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٦٠ عن أحمد ، والنسائي

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٦٠ و ٢٦١ عن ابن أبي أسامة.

٣١٠

أن الهجرة باقية ما دام هناك خوف على النفس من أعداء الله تعالى وأعداء أهل الإيمان ، وقد صرح بذلك أمير المؤمنين «عليه‌السلام» في خطبة له ، قرر فيها «عليه‌السلام» : أن الهجرة من أرض يضطهد فيها أهل الإيمان باقية وقائمة.

وصرح أيضا «عليه‌السلام» : بأن الهجرة هي لمن عرف حجة الله في الأرض ، وليست لأهل الضلال والإنحراف ، ومن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض ، وتعصب وكابر (١).

٢ ـ إن الهجرة التي نفاها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هي الهجرة من مكة بعد فتحها ، ولم يرد نفي موضوع الهجرة ، وقد أوضح حديث عائشة المتقدم ذلك.

٣ ـ إن الذين كانوا يأتون إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد الفتح ، ويصرون أن يبايعوه على الهجرة إنما كانوا يفعلون ذلك لأنهم عرفوا أن للهجرة قيمة في الإسلام ، وأن للمهاجر مقاما منيفا ، وموقعا رفيعا وشريفا. فأرادوا أن ينالوا شرفا ليس فيهم ، ومقاما ليس لهم ، فمنعوا من ذلك على لسان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولذلك صاروا يوسطون الآخرين للحصول على ما منعوا منه ، فلم تنفعهم الوساطات شيئا.

ولكن إذا كان أهل الحق والصدق يواجهون في بلد آخر ضغوطا واضطهادا من أجل دينهم ، ثم هاجروا فرارا بدينهم إلى بلد الإسلام ،

__________________

(١) راجع : خطبة رقم ١٨٧ في نهج البلاغة ، والبحار ج ٦٦ ص ٢٢٧ والإيجاز والإعجاز للثعالبي ص ٣٢.

٣١١

وحيث يحميهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أو الإمام «عليه‌السلام» ، فإن لهم مقام المهاجر إلى الله ورسوله ، وأجره ، وشرفه ، وعزته ..

إن ظهر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على مكة آمن به :

عن ابن إسحاق السبيعي قال : قدم ذو الجوشن الكلابي على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال له : «ما يمنعك من الإسلام»؟.

قال : رأيت قومك كذبوك ، وأخرجوك ، وقاتلوك ، فانظر ، فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك ، وإن ظهروا عليك لم أتبعك.

فقال له رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «يا ذا الجوشن ، لعلك إن بقيت قليلا أن ترى ظهوري عليهم».

قال : فو الله إني لبضرية (١) ، إذ قدم علينا راكب من قبل مكة ، فقلنا ما الخبر؟

قال : ظهر محمد على أهل مكة. فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه إليه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

قلت : وأسلم بعد ذلك ، وروى عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

وقال الحسن البصري : «لما فتح رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكة ، قالت العرب : أما ظفر محمد بأهل الحرم ، وقد أجارهم الله من أصحاب

__________________

(١) ضرية : اسم مكان. قرية في طريق مكة ، من البصرة من نجد (معجم البلدان).

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٦١ عن ابن سعد ، وفي هامشه عن : مسند أحمد ج ٤ ص ٦٨ والمصنف لابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٣٧٥ والطبقات لابن سعد ج ٦ ص ٣١.

٣١٢

الفيل ، فليس لكم به يد. فكانوا يدخلون في دين الله أفواجا ، بعد أن كانوا يدخلون فيه واحدا واحدا ، واثنين. فصارت القبيلة تدخل بأسرها في الإسلام» (١).

ونقول :

إن لنا الحق في أن نسجل بعض الملاحظات ، التي نوجزها كما يلي :

إسلام العرب :

١ ـ إن ما تقدم يوضح لنا حقيقة هامة هي : أن إسلام العرب لم يكن عن قناعة ، وإنما لأنه لم يعد لهم بمحمد يد. أي أنهم كانوا يتوقعون أن تتمكن قريش من التغلب عليه ، وإذ بها قد عجزت عن ذلك. فجاءهم ما لا قبل لهم به ، فاضطروا إلى إظهار الإسلام.

٢ ـ ومن الواضح : أن المقصود بالعرب هو : قسم منهم ، ولعلهم الأعراب الذين حكى الله عنهم هذا المعنى ، فقال : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ ..) (٢).

وإلا فقد كان في العرب طوائف كبيرة دخلت في الإسلام طوعا ، قبل فتح مكة ، وحيث لم يكن هناك ما يدعو إلى الخوف منه ، بل لأنهم وجدوا في الإسلام ضالتهم ، وما بهر عقولهم ، وما من شأنه أن يحل مشاكلهم.

٣ ـ وفي حديث ذي الجوشن الكلابي دلالة ظاهرة على موقع القوة التي تصنع النصر في تفكير ذلك الرجل ، واعتبارها هي المعيار. وإليها

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٩٩ ومجمع البيان ج ١٠ ص ٥٥٤.

(٢) الآية ١٤ من سورة الحجرات.

٣١٣

يستند القرار بالإيمان والكفر ، مع أن القوة المادية قد تتوفر للحق وأهله ، وقد لا تتوفر لهم ، بل تكون لدى أهل الباطل. فالقوة لا تستطيع أن تعطي الإنسان أية فرصة لتمييز الحق من الباطل ، كيف وقد قتل الأقوياء أنبياء الله وأوصياءهم ، واعتدوا على الضعفاء ، وعلى النساء والصبيان وقتلوهم؟

٤ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قدم لذي الجوشن دليلا على صحة نبوته ، تمثّل في إخباره الغيبي القريب عن ظهوره وانتصاره على أهل مكة ، فقال له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لعلك إن بقيت قليلا أن ترى ظهوري عليهم».

هذا عدا عن أنه قد رأى كما رأى غيره معجزات وكرامات كثيرة له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا تبقي أمام عقله أي فرصة للتهرب من الإعتراف بنبوته ..

أذان بلال فوق الكعبة :

وعن ابن عباس ، ورواه عن بعض أهل العلم ، وعن عروة ، وعن أبي سلمة ، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، وعن ابن أبي مليكة ، ومحمد بن عمر عن شيوخه : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما حان وقت الظهر أمر بلالا أن يؤذن بالظهر يومئذ فوق الكعبة ، ليغيظ بذلك المشركين ، وقريش فوق رؤوس الجبال ، وقد فرّ جماعة من وجوههم وتغيبوا.

(قال الواقدي : خوفا أن يقتلوا ، فمنهم من يطلب الأمان ، ومنهم من قد أومن).

وأبو سفيان بن حرب ، وعتّاب ـ ولفظ ابن أبي شيبة : خالد بن أسيد ،

٣١٤

والحارث بن هشام ـ جلوس بفناء الكعبة.

فقال عتّاب ـ أو خالد ـ بن أسيد : لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون يسمع هذا ، فيسمع ما يغيظه.

وقال الحارث : أما والله ، لو أعلم أنه محق لا تبعته.

فقال أبو سفيان : لا أقول شيئا ، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصا.

وقال بعض بني سعيد بن العاص : لقد أكرم الله سعيدا إذ قبضه قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة.

وقال الحكم بن أبي العاص : هذا والله الحدث العظيم ، أن يصيح عبد بني جمح على بنية أبي طلحة.

وقال الحارث بن هشام : إن يكن الله تعالى يكرهه فسيعيره.

وفي رواية : أن سهيل بن عمرو قال مثل قول الحارث.

فأتى جبريل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فأخبره خبرهم ، فخرج عليهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : «قد علمت الذي قلتم».

فقال الحارث وعتاب : نشهد إنك رسول الله ، ما اطلع على هذا أحد كان معنا ، فنقول : أخبرك (١).

وفي رواية : أن الحارث بن هشام قال : ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذنا؟!

__________________

(١) دلائل النبوة للبيهقي ج ٥ ص ٧٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٨ و ٢٤٩ عن أي يعلى ، وابن هشام ، والبيهقي عن ابن إسحاق ، وابن أبي شيبة ، والأزرقي والواقدي ، وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠١ و ١٠٢ وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٤٦ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٧ و ٨٨.

٣١٥

ولا مانع من وجود الأمرين منه ، أي وتقدم في عمرة القضاء وقوع مثل ذلك من جماعة لما أذن بلال رضي‌الله‌عنه على ظهر الكعبة أيضا.

أي وقال غير هؤلاء من كفار قريش : لقد أكرم الله فلانا ـ يعني أباه ـ إذ قبضه قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة.

إلى أن قال : فخرج عليهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال لهم : لقد علمت الذي قلتم.

ثم ذكر ذلك لهم ، فقال : أما أنت يا فلان فقد قلت كذا ، وأما أنت يا فلان فقد قلت كذا ، وأما أنت يا فلان فقد قلت كذا.

فقال أبو سفيان : أما أنا يا رسول الله فما قلت شيئا ، فضحك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فقالوا : نشهد أنك رسول الله ، والله ما اطلع على هذا أحد معنا فنقول أخبرك (١).

.. وصار بعض قريش يستهزئون ويحكون صوت بلال غيظا ، وكان من جملتهم أبو محذورة ، وكان من أحسنهم صوتا ، فلما رفع صوته بالأذان مستهزئا سمعه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأمر به ، فمثل بين يديه ، وهو يظن أنه مقتول.

فمسح رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ناصيته وصدره بيده الشريفة ، قال : فامتلأ قلبي والله إيمانا ويقينا ، فعلمت أنه رسول الله.

فألقى عليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الأذان ، وعلمه إياه ، وأمره أن يؤذن

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠١ و ١٠٢.

٣١٦

لأهل مكة ، وكان سنه ست عشرة سنة ، وعقبه بعده يتوارثون الأذان بمكة.

وتقدم : أن أذان أبي محذورة وتعليمه الأذان كان مرجعه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من حنين ، وتقدم طلب تأمل الجمع بينهما (١).

وعند الراوندي : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمر بلالا عند وقت صلاة الظهر ، فصعد على الكعبة ، فقال عكرمة : أكره أن أسمع صوت أبي رباح ينهق على الكعبة.

وحمد خالد بن أسيد الله على أن أبا عتاب توفي ولم ير ذلك.

وقال أبو سفيان : لا أقول شيئا ، لو نطقت لظننت أن هذه الجدر ستخبر به محمدا.

فبعث إليهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأتي بهم ، فقال عتاب : نستغفر الله ونتوب إليه ، قد والله يا رسول الله قلنا ، فأسلم وحسن إسلامه ، فولاه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكة (٢).

وفي نص آخر : أنه لما بلغ بلال : «أشهد أن محمدا رسول الله» قالت جويرية بنت أبي جهل : قد لعمري رفع لك ذكرك ، أما الصلاة فسنصلي ، والله لا نحب من قتل الأحبة أبدا. ولقد كان جاء أبي بالذي جاء به محمدا من النبوة فردها ، ولم يرد خلاف قومه (٣).

قالوا أيضا : دخل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكة ، وكان وقت الظهر ،

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٢.

(٢) البحار ج ٢١ ص ١١٨ و ١١٩ و ١٣٣ عن الخرائج والجرائح ، وعن إعلام الورى.

(٣) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٤٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٢ عن تاريخ الأزرقي.

٣١٧

فأمر بلالا فصعد على ظهر الكعبة فأذن ، فما بقي صنم بمكة إلا سقط على وجهه ، فلما سمع وجوه قريش الأذان قال بعضهم في نفسه : الدخول في بطن الأرض خير من سماع هذا.

وقال آخر : الحمد لله الذي لم يعش والدي إلى هذا اليوم.

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «يا فلان قد قلت في نفسك كذا ويا فلان قلت في نفسك كذا».

فقال أبو سفيان : أنت تعلم أني لم أقل شيئا.

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» (١).

ونقول :

قد تكلمنا حول هذه النصوص في عمرة القضاء ، وأكثرها بعمرة القضاء أنسب ، ولسياقها أقرب. وإنما أوردناها هنا مجاراة لكتّاب السيرة.

وسوف لا نعلق عليها ههنا بشيء ، بل نكتفي بما ذكرناه هناك ، ونقتصر هنا على الإشارة التالية :

وقد ذكر النص المتقدم ، وتقدم أيضا عن مصادر عديدة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دخل البيت يوم الفتح وقت الظهر (٢).

فإذا كان الوقت ظهرا ، وكان علي «عليه‌السلام» في هذا الوقت على ظهر الكعبة ، فمن أولى منه بالأذان على ظهرها ، أو ما هي الحاجة لإصعاد بلال على ظهر الكعبة من جديد ، من أجل الأذان؟!

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ١١٩ عن الخرائج والجرائح.

(٢) راجع ما ذكرناه تحت عنوان : إزالة الصور والتماثيل من داخل الكعبة.

٣١٨

ولذلك نقول : إنه قد روى يزيد بن قعنب ، عن فاطمة بنت أسد : أنها لما ولد علي «عليه‌السلام» في جوف الكعبة ، وأرادت أن تخرج به هتف بها هاتف : يا فاطمة سميه عليا ، فهو علي ..

إلى أن قال عن علي «عليه‌السلام» : «وهو الذي يكسر الأصنام ، وهو الذي يؤذن فوق ظهر بيتي الخ ..» (١).

فالذي أذن فوق ظهر الكعبة حين دخول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليها ، هو علي بن أبي طالب «عليه‌السلام».

ولكن ذلك لا يمنع من أن يكون بلال قد أذن في المسجد الحرام ، أو على ظهر الكعبة في سائر الأوقات ، فأغاظ المشركين.

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يعود إلى مكة :

عن أبي هريرة : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما فرغ من طوافه ، أتى الصفا فعلا منه حتى يرى البيت ، فرفع يديه ، وجعل يحمد الله تعالى ويذكره ، ويدعو ما شاء الله أن يدعو. والأنصار تحته ، فقال بعضهم لبعض : أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ، ورأفة بعشيرته.

قال أبو هريرة : وجاء الوحي ، وكان إذا جاء لم يخف علينا : فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى يقضى ، فلما قضي الوحي ، قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «يا معشر الأنصار».

قالوا : لبيك يا رسول الله.

__________________

(١) إحقاق الحق (الملحقات) ج ٥ ص ٥٧ عن بشائر المصطفى ، وعن تجهيز الجيش للدهلوي العظيم آبادي.

٣١٩

قال : «قلتم : أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ، ورأفة في عشيرته».

قالوا : قد قلنا ذلك يا رسول الله.

قال : «فما أسمّى إذن!! كلا ، إني عبد الله ورسوله ، هاجرت إلى الله وإليكم ، المحيا محياكم ، والممات مماتكم».

فأقبلوا إليه يبكون ، يقولون : والله يا رسول الله ، ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله وبرسوله.

فقال رسول الله : «فإن الله ورسوله يعذرانكم ويصدقانكم» (١).

ونقول :

إن الأنصار حين قالوا ، أو قال بعضهم : أدركته رغبة في قريته ، ورأفة في عشيرته ، قد جروا على مقتضيات الطبع البشري الإنساني ، الذي يختزن الحنين إلى الأوطان ، والرحمة ، والرأفة بذوي الأرحام ، وقد غفلوا عن أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد صنعه الله تعالى على عينه ، وأصبح فانيا في الطاعة والعبودية له تعالى ، يرى ما يرى ، ويرضيه ما يرضيه ، ويغضبه ما يغضبه ، ولا يريد إلا ما يريد.

وهو أيضا رسوله الذي جاءهم بالهدى ودين الحق ، الذي لا يحابي قومه على حساب دينه وعقيدته ، ولا يحن إلى شيء إلا إذا كان في ذلك الحنين رضا الله وطاعته.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٦ عن الطيالسي ، وابن أبي شيبة ، ومسلم ، وأحمد.

وأشار في هامشه إلى : مسلم ٣ / ١٤٠٧ في الجهاد والسير باب فتح مكة ٨٦ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٥ ص ٥٦ ومعاني الآثار ج ٣ ص ٣٢٥. وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٩.

٣٢٠