السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-194-7
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٤٠
فكره رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مقالته ، ثم دعا عثمان بن طلحة ، فدفع المفتاح إليه وقال : «غيبوه» (١). فلذلك يغيب المفتاح (٢).
وعند الحلبي : أن عليا «عليهالسلام» أخذ المفتاح وقال : يا رسول الله ، إجمع لنا الحجابة مع السقاية.
فقال «صلىاللهعليهوآله» لعلي «عليهالسلام» : أكرهت وآذيت ، وأمره «صلىاللهعليهوآله» أن يرد المفتاح على عثمان ويعتذر إليه ، فقد أنزل الله في شأنك. أي أنزل الله عليه ذلك وهو في جوف الكعبة. وقرأ عليه الآية ، ففعل ذلك علي» (٣).
وسياق هذه الرواية يدل : على أن عليا كرم الله وجهه أخذ المفتاح على أن لا يرده لعثمان ، فلما نزلت الآية أمره «صلىاللهعليهوآله» أن يرد المفتاح لعثمان .. (٤).
وعن ابن جريح عن ابن مليكة : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قال لعلي يومئذ حين كلمه في المفتاح : «إنما أعطيتكم ما ترزؤون ، ولم أعطكم ما ترزؤون».
يقول : «أعطيتكم السقاية لأنكم تغرمون فيها ، ولم أعطكم البيت».
قال عبد الرزاق : أي أنهم يأخذون من هديته (٥).
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٥ عن عبد الرزاق ، والطبراني.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٤ عن الفاكهي.
(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٠.
(٤) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٠.
(٥) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٥ عن عبد الرزاق والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٠ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٥.
وعند الحلبي : إنما أعطيتكم ما تبذلون فيه أموالكم للناس ، أي وهو السقاية ، لا ما تأخذون منه من الناس أموالهم ، وهي الحجابة ، لشرفكم ، وعلو مقامكم (١).
واللافت هنا : أن الواقدي يذكر نفس هذه القضية ، بعين ألفاظها ، وينسبها إلى العباس لا إلى علي «عليهالسلام» (٢).
عن ابن أبي مليكة : أن العباس ـ رضياللهعنه ـ قال للنبي «صلىاللهعليهوآله» : يا نبي الله!! اجمع لنا الحجابة مع السقاية.
ونزل الوحي على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فقال : «ادعوا لي عثمان بن طلحة» ، فدعي له ، فدفع له النبي «صلىاللهعليهوآله» المفتاح ، وستر عليه.
قال : فرسول الله «صلىاللهعليهوآله» أول من ستر عليه ، ثم قال : «خذوها يا بني طلحة ، لا ينتزعها منكم إلا ظالم» (٣).
وفي رواية : «أنه لما دعا عثمان بن طلحة ، وقال له : أرني المفتاح ، فأتاه به ، فلما بسط يده إليه قام العباس ، فقال : يا رسول الله ، اجعله لي مع السقاية ، فكف عثمان يده.
فقال «صلىاللهعليهوآله» : أرني المفتاح ، فبسط يده يعطيه.
فقال العباس مثل كلمته الأولى ، فكف عثمان يده.
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٠.
(٢) راجع : المغازي ج ٢ ص ٨٣٣ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٥ عن البحر العميق.
(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٥ عن عبد الرزاق.
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : يا عثمان ، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح.
فقال : هاك بأمانة الله».
(فأعطاه إياه ، ونزلت الآية. قال ابن ظفر في الينبوع : وهذا أولى) (١).
ولعل هذا كان قبل دخوله «صلىاللهعليهوآله» الكعبة ، فيكون طلب العباس رضياللهعنه أن يكون المفتاح له تكرر قبل دخوله الكعبة وبعده (٢).
وبعد أن ذكر الحلبي : أن عليا «عليهالسلام» دفع المفتاح إلى عثمان .. ثم ذكر أن النبي «صلىاللهعليهوآله» طلب من عثمان أن يأتي به ، قال عثمان : فأتيته به ، فأخذه ثم دفعه إليّ وقال : خذوها خالدة تالدة ، لا ينزعها منكم إلا ظالم الخ ..
قال الحلبي : «ولا مانع أن يكون ذلك بعد أن دفعه علي كرم الله وجهه له بأمره «صلىاللهعليهوآله» ، وكأنه «صلىاللهعليهوآله» أحب أن يؤدي الأمانة بيده الشريفة من غير واسطة ..» (٣).
ونقول :
إن لنا مع ما تقدم عدة وقفات ، نجملها على النحو التالي :
__________________
(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٧ والدر المنثور ج ٢ ص ١٧٤ عن ابن مردويه ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠١.
(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠١.
(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠١.
السقاية :
ذكرت الرواية المتقدمة : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قبض مفتاح السقاية من العباس.
والسؤال هو : هل كان للسقاية من زمزم مفتاح أيضا؟! أم المقصود هو جعل السقاية في عداد الحجابة؟!
والذي نعرفه هو : أن السقاية كانت أحواضا من أدم ، يوضع فيها الماء العذب من زمزم لسقاية الحاج ، وقد يطرح فيها التمر ، لتزيد عذوبة الماء ، ويلذ طعمه لشاربه.
فلعلهم كانوا قد وضعوا موانع تمنع الناس من الوصول إلى تلك الأحواض ، وجعلوا لها أقفالا ومفاتيح.
توضيح أكرهت وآذيت :
ذكرت بعض الروايات المتقدمة : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قال لعلي «عليهالسلام» حين طلب منه أن يجمع لهم الحجابة إلى السقاية : أكرهت وآذيت. وأمره أن يرد المفتاح إلى عثمان ، ويعتذر إليه.
ونقول :
المقصود : أن عليا «عليهالسلام» أكره وآذى عثمان بن طلحة حين امتنع عن دفع المفتاح ، حيث لحقه إلى سطح الكعبة ، ولوى يده ، وأخذ المفتاح منه ، وهو إكراه وأذى يحبه الله سبحانه ، وفي سياق امتثال أوامره تعالى ، فإن امتناع عثمان عن إعطاء المفتاح يفرض إكراهه على ذلك ، لأن امتناعه يمثل تمردا على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» الذي لا ينطق عن
الهوى .. فإذا لجّ في ذلك ، فلا بد من إيذائه لدفع أذاه ، ورد كيده ..
فكأن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يريد تطييب خاطر عثمان وبني شيبة ، ورد المفتاح إليهم تألفا على الإسلام ، كما كان يتألف أبا سفيان ، وغيره من رؤوس الكفر والشرك.
أعطيتكم ما ترزؤون :
وقول رسول الله «صلىاللهعليهوآله» للعباس : أعطيتكم ما ترزؤون.
أي ما تبذلون فيه اموالكم للناس ، لا ما تأخذون فيه من الناس أموالا يوضح : أن إعطاء الحجابة لبني شيبة يراد منه إفساح المجال لهم لأخذ ما يقدمه الناس لهم ، وهذا يؤيد ما ذكرناه آنفا من أن المقصود من بذل تلك المنافع لهم هو : تألفهم على الإسلام ، وسل سخيمتهم عليه ، ليعيشوا في أجوائه بسكينة ورضا.
ولو أن بني هاشم أخذوا الحجابة منهم ، لوجد المنافقون والحاسدون والطامعون مجالا خصبا لاتهام النبي «صلىاللهعليهوآله» بمحاباة أهل قرابته ، وابتغاء المنافع لهم ، وتخصيصهم بالمغانم ، والأموال ، والمناصب ، الأمر الذي قد يؤثر على ضعفاء العقول ، ومن هو رقيق الدين ، حديث الإيمان والإسلام.
ولا نشك في أن عليا «عليهالسلام» كان يدرك هذه الحقيقة ، فلم يكن ليفكر بطلب الحجابة لنفسه ، ولا لبني هاشم أصلا كما سنرى .. ولكن الأمر بالنسبة للعباس ليس كذلك ، فقد دلتنا بعض النصوص على أنه كان يسعى للحصول على بعض المنافع.
وقد أشرنا إلى شيء من ذلك فيما سبق ، ولسنا بصدد تحقيق هذا الأمر.
الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات :
وحول نزول آية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ..) (١)
نقول :
إن هذه الآية قد وردت في سورة النساء التي انتهى نزولها قبل فتح مكة بعدة سنوات ، ولو قبلنا جدلا بأن هذه الآية قد ألحقت بموضعها من السورة بعد سنوات من تمامية نزولها ، وهو أمر لا شاهد له سوى الإدعاء والتحكم ، فإننا نقول :
قد روي في شأن نزول هذه الآية ما يدل على أنها لم تنزل في شأن عثمان بن طلحة في فتح مكة فلاحظ ما يلي :
١ ـ عن زيد بن أسلم : أنزلت هذه الآية في ولاة الأمر ، وفيمن ولي من أمور الناس شيئا (٢).
٢ ـ عن شهر بن حوشب قال : نزلت في الأمراء خاصة ، (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ..) (٣).
٣ ـ عن ابن عباس في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ
__________________
(١) الآية ٥٨ من سورة النساء.
(٢) الدر المنثور ج ٢ ص ١٧٥ عن المصنف لابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم.
(٣) الدر المنثور ج ٢ ص ١٧٥ عن ابن جرير ، وابن أبي حاتم.
إِلى أَهْلِها ..) قال : يعني السلطان ، يعطون الناس (١).
علي عليهالسلام لا يطلب الحجابة :
وقد ذكرت الروايات : أن عليا «عليهالسلام» طلب الحجابة لنفسه أو لبني هاشم ، وقد تضمنت تلك الروايات نفسها أمورا تدل على أنها مفتراة ، ونحن نجمل ملاحظاتنا عليها على النحو التالي :
١ ـ إن ثمة تناقضا ظاهرا بين الروايات ، بل قد تجد التناقض في الرواية الواحدة ونذكر من ذلك على سبيل المثال لا الحصر :
ألف : أن الرواية تقول : إن النبي «صلىاللهعليهوآله» أخذ المفتاح من عثمان ، ثم دفعه إليه ، وقال : خذوها خالدة تالدة الخ ..
ثم إن الرواية نفسها تتبع ذلك بالقول : فقام علي بن أبي طالب «عليهالسلام» ومفتاح الكعبة بيده ، فقال : يا رسول الله ، اجمع لنا الحجابة مع السقاية.
فقال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : أين عثمان بن طلحة؟
فدعي ، فقال «صلىاللهعليهوآله» : هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء.
قالوا : وأعطاه المفتاح ورسول الله «صلىاللهعليهوآله» مضطبع بثوبه عليه ..
فهل أعطى النبي «صلىاللهعليهوآله» عثمان المفتاح قبل طلب علي
__________________
(١) الدر المنثور ج ٢ ص ١٧٥ عن ابن جرير ، وابن أبي حاتم.
«عليهالسلام»؟! أم بعده؟!
وهل كان المفتاح مع علي «عليهالسلام»؟! أم مع النبي «صلىاللهعليهوآله»؟!
وهل استعاد النبي «صلىاللهعليهوآله» المفتاح من عثمان ، وصار معه ، واضطبع عليه بثوبه؟ أم استعاده من علي «عليهالسلام» ، كما هو صريح بعض الروايات المتقدمة؟!
ب : هل قال النبي «صلىاللهعليهوآله» : ادعوا لي عثمان ، فدعوه ، فأعطاه المفتاح حين كلمه علي «عليهالسلام» في أمر الحجابة؟! أم حين كلمه العباس؟!
ج : هل نزلت آية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ..)
لحظة استلام النبي «صلىاللهعليهوآله» المفتاح قبل دخول الكعبة؟! أم نزلت حين كان النبي «صلىاللهعليهوآله» داخل الكعبة؟!
د : هل إن طلب العباس من النبي «صلىاللهعليهوآله» أن يجعل الحجابة له كان قبل دخول النبي «صلىاللهعليهوآله» للكعبة؟! أم كان بعد خروجه منها؟!
طريقة جمع فاشلة :
وقد احتمل الحلبي الشافعي : أن يكون طلب العباس للحجابة قد تكرر ، فكان مرة قبل دخول النبي «صلىاللهعليهوآله» إلى الكعبة ، ومرة بعد خروجه منها (١).
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠١.
وهو كلام غير مقبول .. فإن هذا الطلب قد جوبه بالرفض ، وجعل الحجابة لبني شيبة ، ونزول آية أداء الأمانة إلى أهلها .. فبعد هذا وذاك لا يبقى مجال لتكرار الطلب من العباس ، فإنه سيكون أمرا منافيا للتسليم لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ومخالفا للأدب معه ، فلا يقدم عليه العباس ، ولا غيره ، فإن الكل يعلم : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» لا يخالف ما يأمره الله تبارك وتعالى به.
أو فقل : إن الآية قد نزلت لتحسم أمر المفتاح ، فمعنى معاودة الطلب هو رفض القرار الإلهي أو الاعتراض عليه ، وهذا مما لا يمكن أن يقدم عليه مثل العباس.
السدانة والسقاية مردودتان إلى أهليهما :
وقد صرحت الخطبة المتقدمة : بأن الحجابة (السدانة) والسقاية مردودتان إلى أهليهما ..
وتقدم أيضا : أنه «صلىاللهعليهوآله» بعد أن طمس الصور التي كانت في داخل الكعبة ، أخذ بعضادتي الباب ، فخطب خطبته الآنفة الذكر .. وقد ورد في خطبته تلك قوله : «إلا سدانة البيت ، وسقاية الحج ، فإنهما مردودتان إلى أهليهما».
فرد السقاية والسدانة إلى أهليهما قد حصل قبل أن يغادر النبي «صلىاللهعليهوآله» باب الكعبة ..
ولكن الروايات المتقدمة تدّعي : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد وضع المفتاح في كمه ، وتنحى ناحية المسجد ، فجلس عند السقاية ، ثم رد الحجابة
والسقاية على أهليهما.
وهناك طلب العباس ، أو علي «عليهالسلام» ، أو كلاهما ـ حسب زعمهم ـ الحجابة لنفسه ، أو لعشيرته ..
فكيف يطلبانها بعد أن صرح «صلىاللهعليهوآله» بردها إلى أهلها قبل أن يغادر باب الكعبة؟!
أعطينا النبوة والسقاية والحجابة :
وأما ما نسب إلى علي «عليهالسلام» من أنه قال : أعطينا النبوة ، والسقاية ، والحجابة. ما قوم بأعظم نصيبا منا ، فهو :
إما لم يحصل إن كان يقصد به إعطاء المفتاح لهم ، وإيكال أمر الحجابة إليهم. لأن ما حصل هو مجرد أخذ النبي «صلىاللهعليهوآله» المفتاح لفتح باب الكعبة ، لإزالة ما في داخلها مما يسيء إليها ، ولم يعط النبي «صلىاللهعليهوآله» الحجابة لأحد. لا لبني هاشم ولا لغيرهم ، ولا تعرض لهذا الأمر بعد ، لا بالسلب ولا بالإيجاب ، ولم تظهر منه أية إشارة إلى الجهة التي سوف يوكل إليها أمر الحجابة ..
وإما أنه قد حصل ، ولكن قد قصد به معنى آخر ، وهو : أن أمر الحجابة والسقاية قد أصبح لرسول الله يضعه حيث يشاء.
فرسول الله «صلىاللهعليهوآله» من بني هاشم ، وله النبوة ، وله أمر السقاية والحجابة ، فيصح للهاشمي أن يقول : «أعطينا النبوة ، والسقاية ، والحجابة ، ما قوم بأعظم نصيبا منا». ولا يخفى أنه بهذا المعنى تكون كل الأمور بيد النبي «صلىاللهعليهوآله» ، فلا خصوصية للسقاية والحجابة.
إلا أن يدّعى : أن الخصوصية كون المقام مقام جعل هذين الأمرين ـ السقاية والحجابة ـ في أهليهما دون غيرهما من الأمور!!
والحاصل : أن المقصود إن كان هذا المعنى ، فلا معنى لما تذكره الرواية من أن النبي «صلىاللهعليهوآله» كره مقالته .. بل المتوقع منه هو أن يؤيدها ، ويصدقها.
وإن كان المقصود : هو المعنى الأول ، فذلك لا يقصده علي «عليهالسلام» ، لأنه أمر لا واقع له.
البيعة في فتح مكة :
عن الأسود بن خلف : أنه رأى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يبايع الناس يوم الفتح. قال : جلس عند قرن مسفلة ، فبايع الناس على الإسلام ، فجاءه الكبار والصغار ، والرجال والنساء ، فبايعهم على الإيمان بالله تعالى ، وشهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله (١).
وقال ابن جرير : اجتمع الناس بمكة لبيعة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على الإسلام ، فجلس لهم ـ فيما بلغني ـ على الصفا ، وعمر بن الخطاب أسفل من مجلس رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، فأخذ على الناس السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا (٢).
فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء ، وفيهن هند بنت عتبة ، امرأة أبي
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٧ عن أحمد ، والبيهقي ، وفي هامشه عن : مسند أحمد ج ٣ ص ٤١٥ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٤.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٧ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٩.
سفيان متنقبة متنكرة خوفا من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أن يخبرها بما كان من صنيعها بحمزة ، فهي تخاف أن يأخذ بحدثها ذلك.
فلما دنين من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قال : «بايعنني على ألا تشركن بالله شيئا».
فرفعت هند رأسها وقالت : والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه على الرجال.
فقال : «ولا تسرقن».
فقالت : والله إني كنت أصبت من مال أبي سفيان الهنة ، وما كنت أدري أكان ذلك حلالا أم لا؟
فقال أبو سفيان ـ وكان شاهدا لما تقول ـ : أما ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حل ، عفا الله عنك.
ثم قال : «ولا تزنين».
فقالت : يا رسول الله ، أو تزني الحرة؟!
ثم قال : «ولا تقتلن أولادكن».
قالت : قد ربيناهم صغارا ، وقتلتهم كبارا ، فأنت وهم أعلم.
فضحك رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وعمر ، ثم قال : «ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن».
فقالت : والله ، إن إتيان البهتان لقبيح ، ولبعض التجاوز أمثل.
ثم قال : «ولا تعصين».
فقالت : في معروف.
وفي الحلبية : لما قال «صلىاللهعليهوآله» : ولا تعصين في معروف.
قالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك (١).
وفيها أيضا : أن هندا قالت : ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟
قال : لا تصحن (أو لا تنحن) ، ولا تخمشن وجها ، ولا تنشرن شعرا ، ولا تحلقن قرنا ، ولا تشققن جيبا ، ولا تدعين بالويل (٢).
ثم قال رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لعمر : «بايعهن ، واستغفر لهن الله ، إن الله غفور رحيم».
فبايعهن عمر ، وكان رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لا يصافح النساء ، ولا يمس جلدة امرأة لم يحلها الله تعالى له ، أو ذات محرم.
وروى الشيخان ، عن عائشة قالت : لا والله ما مست يد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يد امرأة قط.
وفي رواية : ما كان يبايعهن إلا كلاما ، ويقول : إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة (٣).
زاد في نص آخر قوله : ولا تلحقن بأزواجكن غير أولادهم (٤).
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٦.
(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٦.
(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٧ و ٢٤٨ عن ابن جرير ، وفي هامشه عن : مسند أحمد ج ٦ ص ٣٥٧ وزاد المسير ج ٨ ص ١٤٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣١٩ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٤ و ٩٦ والبحار ج ٢١ ص ٩٨ عن مجمع البيان ج ٩ ص ٢٧٥ و ٢٧٦ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٩.
(٤) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٦.
وجاءه «صلىاللهعليهوآله» رجل ، فأخذته الرعدة ، فقال له «صلىاللهعليهوآله» : هون عليك ، فإني لست بملك ، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد (١).
وروى علي بن إبراهيم : عن أبيه ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر (البزنطي) ، عن أبان ، عن أبي عبد الله «عليهالسلام» قال : لما فتح رسول الله «صلىاللهعليهوآله» مكة بايع الرجال. ثم جاء النساء يبايعنه ، فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢).
فقالت هند : أما الولد فقد ربيناهم صغارا ، وقتلتهم كبارا.
وقالت أم حكيم بنت الحارث بن هشام ، وكانت عند عكرمة بن أبي جهل : يا رسول الله ، ما ذلك المعروف الذي أمرنا الله أن لا نعصيك فيه؟
قال : لا تلطمن خدا ، ولا تخمشن وجها ، ولا تنتفن شعرا ، ولا تشققن جيبا ، ولا تسودن ثوبا ، ولا تدعين بويل.
فبايعهن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على هذا.
فقالت : يا رسول الله ، كيف نبايعك؟
قال : إنني لا أصافح النساء.
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٤.
(٢) الآية ١٢ من سورة الممتحنة.
فدعا بقدح من ماء فأدخل يده ثم أخرجها ، فقال : أدخلن أيديكن في هذا الماء ، فهي البيعة.
وفي الكافي : رواه عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله «عليهالسلام» مثله (١).
وفي مدارك التنزيل : أنه «صلىاللهعليهوآله» لما فرغ من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا ، وعمر جالس أسفل منه يبايعهن بأمره ، ويبلغهن عنه.
فقال «صلىاللهعليهوآله» : أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا.
فبايع عمر النساء على أن لا يشركن بالله شيئا الخ .. (٢).
ما الذي أضحك عمر بن الخطاب؟! :
وذكروا : أن هندا لما قالت : قد ربيناهم صغارا ، وقتلتهم كبارا ، فأنت وهم أعلم. ضحك عمر حتى استلقى ، وتبسم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» (٣) ، ولم يذكروا عن سبب ضحك أو تبسم عمر شيئا.
والظاهر هو : أن ثمة تصرفا وحذفا متعمدا ، ويدل عليه ما رواه
__________________
(١) الكافي ج ٣ ص ٦٦ والبحار ج ٢١ ص ١٣٤ و ١١٣ و ١١٧ وج ٦٤ ص ١٧٨ عنه وعن تفسير القمي ج ٢ ص ٣٦٤ ، والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٢٠ ص ٢١١ وتفسير الصافي ج ٥ ص ١٦٦ وتفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٣٠٧ وتفسير الميزان ج ١٩ ص ٢٤٦ وتحف العقول (ط ٢) ص ٤٥٧ عن أبي جعفر.
(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٩.
(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٦.
الطبرسي وغيره ، قال :
«فقال : ولا تزنين.
فقالت هند : أو تزني الحرة؟
فتبسم عمر بن الخطاب لما جرى بينها وبينه في الجاهلية.
فقال «صلىاللهعليهوآله» : ولا تقتلن أولادكن.
فقالت هند : ربيناهم صغارا ، وقتلتموهم كبارا ، فأنتم وهم أعلم.
وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله علي بن أبي طالب «عليهالسلام» يوم بدر.
فضحك عمر حتى استلقى ، وتبسم النبي «صلىاللهعليهوآله» ..» (١).
ولكن النص الذي أورده الديار بكري قد حرّف الحقيقة ، وأصبح بحيث يوحي : بأن ضحك النبي «صلىاللهعليهوآله» إنما كان لأجل أنه عرفها وهي متنقبة ومتنكرة ، فقد قال : «فقالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح ، فإن أصبت من ماله هناة؟
فقال أبو سفيان : ما أصبت فهو لك حلال.
فضحك النبي «صلىاللهعليهوآله» وعرفها ، وقال لها : وإنك لهند؟!
فقالت : نعم ، فاعف عما سلف يا نبي الله ، عفا الله عنك» (٢).
إلا أن يقال : إنه «صلىاللهعليهوآله» قد ضحك لما عرفها ، فلا مانع من أن يضحك مرة أخرى حين قالت ما قالت من أجل ما يعرفه عنها.
__________________
(١) مجمع البيان ج ٩ ص ٢٧٥ و ٢٧٦ والبحار ج ٢١ ص ٩٨.
(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٩.
مع تذكيرنا القارئ الكريم بأننا لا نوافق على زعمهم : من أنه «صلىاللهعليهوآله» لم يعرفها في بادئ الأمر.
بل نقول :
إنه قد ضحك منها ، لظنها أنه لم يكن قد عرفها.
أو تزني الحرة؟! :
إننا لا نحب أن نذكر بعض الأمور التي قد يسعى البعض لتصنيفها في عداد الأمور الشخصية ، التي يحسن التستر عليها ما دام أنها لا فائدة من إثارة الحديث حولها ، لا من الناحية التربوية والسلوكية ، ولا من الناحية الإيمانية والإعتقادية ، كما لا أثر لها في استفادة المعنى والمفهوم الذي يفيد في تحديد النهج ، أو يؤثر على المسار السياسي ، أو ما إلى ذلك.
غير أننا نقول :
إن هناك ميزات أو حالات شخصية لبعض الأفراد يفيد التعرف عليها في وضوح المفهوم العقائدي أحيانا ، وربما يؤثر على المسار والسلوك حتى في النواحي السياسية لأمة بأسرها. من حيث إنه يطبعه في إطار تلك الخصوصية بطابع الشرع والتدين والإعتقاد ، والممارسة السياسية وغيرها ..
ويأتي موضوع هند بنت عتبة في هذا السياق .. لأن هندا هي أم معاوية مؤسس الدولة الأموية ، التي حكمت الأمة عشرات السنين باسم خلافة النبوة ، وباسم الدين والشرع.
فإذا أثبتت الأحداث والنصوص : أن معاوية كان من الطلقاء ..
وأثبتت وجود شكوك وشبهات في طهارة مولده ، من خلال ما ينسب
لأمه ، فإن تصديه لأمر الخلافة ، بل لأي مقام هو أقل من ذلك بمراتب ، يصبح بلا مبرر حتى بنظر من لا يرون أن الإمامة إنما تجب بالنص والتعيين من الله ورسوله ..
بالإضافة إلى آثار أخرى تترتب على ظهور هذه الشكوك ..
من أجل ذلك نقول :
إن النصوص حول هذا الموضوع كثيرة نختار منها ما يلي :
قالوا :
١ ـ كانت هند تذكر في مكة بفجور وعهر (١).
٢ ـ كانت كما يقول الكلبي : مغيلمة (أي تغلبها شهوتها) ، وكانت تميل إلى السودان من الرجال (٢).
٣ ـ قد اعترف معاوية نفسه : بأن بعض قريش في الجاهلية يزعمون : أن معاوية للعباس بن المطلب .. وقد عرّض إسحاق بن طلحة بذلك ليزيد بن معاوية (٣).
٤ ـ وقد كتب زياد بن أبيه لمعاوية : «وأما تعييرك لي بسمية ، فإن كنت ابن سمية ، فأنت ابن جماعة» (٤).
٥ ـ وقال الإمام الحسن «عليهالسلام» لمعاوية : «وقد علمت الفراش
__________________
(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١ ص ٣٣٦ الخطبة رقم (٢٥) والبحار ج ٣٣ ص ٢٠٠ والغدير ج ١٠ ص ١٧٠.
(٢) راجع : الغدير (ط سنة ١٤٢٤ ه) ج ١١ ص ٢٤٢ وتذكرة الخواص ص ٢٠٣.
(٣) ربيع الأبرار ج ٣ ص ٥٥١ وتذكرة الخواص ص ٢٠٣ والغدير ج ١٠ ص ١٧٠.
(٤) شرح النهج للمعتزلي ج ١٦ ص ١٨٣.
الذي ولدت عليه» (١).
٦ ـ وتقدم : أن عمر تبسم حين قالت : أو تزني الحرة ، لما جرى بينه وبينها في الجاهلية (٢).
إسلام هند بعد أبي سفيان بليلة :
قالوا : «وفي إسلام أبي سفيان قبل هند ، وإسلامها قبل انقضاء عدتها ، أي لأنها أسلمت بعده بليلة واحدة ، وإقرارها على نكاحهما حجة لشافعي ..» (٣).
ونقول :
قد تقدم : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد أرجع زينب على أبي العاص حين أسلم قبل انقضاء عدتها.
كما أن من الواضح : أن مئات من الناس قبل إسلام هند وأبي سفيان قد أسلموا قبل إسلام نسائهم ، ولم يفرق النبي «صلىاللهعليهوآله» بينهم لأنهن أسلمن قبل انقضاء عدتهن ، فلا حاجة للاستدلال بهند وزوجها.
إني لا أصافح النساء :
وجاء : أن بعض النساء ـ وصرح الواقدي بأنها هند ـ قالت : يا رسول الله ، نماسحك ، أو قالت : هلم نبايعك يا رسول الله.
__________________
(١) تذكرة الخواص ص ٢٠١ و ٢٠٢.
(٢) وراجع : تذكرة الخواص ص ٢٠٣.
(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٦ و ٩٧.
فقال «صلىاللهعليهوآله» : لا أصافح النساء. وإنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة.
وفي نص آخر : لألف امرأة (١).
ونقول :
لعل طلب النساء منه «صلىاللهعليهوآله» أن يبايعنه بطريقة المصافحة قد تكرر من قبل عدة نساء ، فتكررت الإجابة ، فعبر تارة بمائة امرأة ، وأخرى بألف ..
وعن عائشة : لم يصافح رسول الله «صلىاللهعليهوآله» امرأة قط ، وإنما كان يبايعهن بالكلام (٢).
وعن الشعبي : بايع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» النساء وعلى يده ثوب.
وقيل : إنه غمس يده في إناء ، وأمرهن فغمسن أيديهن فيه. فكانت هذه البيعة.
قال ابن الجوزي : والقول الأول أثبت (٣).
ونقول :
لقد كانت هناك عدة بيعات للنساء مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٤٨ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٥٠ و ٨٥١.
(٢) البحار ج ٢١ ص ٩٨ ومجمع البيان ج ٩ ص ٢٧٥ و ٢٧٦ عن صحيح البخاري.
(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٧ والبحار ج ٢١ ص ٩٨ ومجمع البيان ج ٩ ص ٩٩ و ٢٧٦ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٥١.