الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-194-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٤٠

كلمة الله تعالى ، ونشر التوحيد ، وتوجيه الناس إلى عبادة الله.

أما أهداف أصحاب الفيل ، فهي أهداف شريرة وباطلة ، وهي إطفاء نور الله ، وترسيخ قواعد الباطل والشرك والوثنية.

لا ينفر صيدها!! ولا يختلى شوكها!! :

قال العلامة الأحمدي «رحمه‌الله تعالى» حول قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في خطبته لا ينفر صيدها ، ولا يختلى شوكها ، ما يلي :

«هذه الجمل بيان لأخفى ما يحرم من مكة وأدنى ما هو حرام ، لأنها حرم ، فيحرم شوكها ولقطتها ، ويحرم نفر الحيوان البري الذي يصاد في غيرها ؛ ليعلم من ذلك حرمة الباقي.

فإنه إذا حرم الشوك الذي لا نفع فيه إلا الإحراق حرم ما سواه بالأولوية.

وإذا حرم نفر الحيوان البري يعلم منه حرمة جرحه ، وقتله ، وأخذه و.. وقتل الإنسان ، وإخافته ، وإزعاجه.

وإذا حرم لقطتها ، حرم أموال الناس بأي نحو أخذت إلا برضا صاحبها ، وإذا كانت أموال الناس حراما في غير هذه البلدة ، كانت حرمتها فيها أشد وآكد» (١). وهذا كلام سديد رحم الله قائله ، وحشره مع محمد وآله الطاهرين.

__________________

(١) مكاتيب الرسول ج ٣ ص ٥٩٤.

٢٦١

الإعلان الأول : التوحيد :

إن أول إعلان أطلقه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في خطبته الأولى في مكة هو التوحيد ، ورفض الشريك لله تبارك وتعالى فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لا إله إلا الله وحده لا شريك له».

والتوحيد هو غاية الغايات ، وأساس الكمالات ، ومنشأ السعادات ، شرط أن يكون حقيقيا ، وتاما ، وراسخا ، وشاملا لكل مناحي الحياة ، في الفكر ، وفي القول ، وفي العمل ، فلا يوحد الله بالقول ، ثم تكون شهوته ونفسه ، أو ولده ، أو زوجته ، أو زعيمه ، أو أي شيء آخر هو الذي يتحكم بقراراته ، ويهيمن على مواقفه ، وعلى حركته في الحياة ..

ولا يكون ممن وصفهم الله تعالى بقوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١).

لك بها دار في الجنة :

ويقولون : إنه حين فرغ «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من خطبته قام أبو أحمد ، عبد الله بن جحش على جمل له على باب المسجد ، وهو يصيح : أنشد بالله يا بني عبد مناف حلفي ، وأنشد بالله يا بني عبد مناف داري.

فدعا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عثمان بن عفان فأسر إليه بشيء ، فذهب عثمان إلى أبي أحمد فسارّه ، فنزل أبو أحمد عن بعيره ، وجلس مع القوم.

__________________

(١) الآية ١٠٦ من سورة يوسف.

٢٦٢

فما يسمع أبو أحمد ذاكرها حتى لقي الله تعالى.

وكان أبو أحمد قد حالف بني حرب بن أمية. وكان أبو سفيان قد باع دار أبي أحمد بأربع مائة دينار ، فثارت ثائرة أبي أحمد ، وقال أبياتا يلوم فيها أبا سفيان.

فقال له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لك بها دار في الجنة (١).

ونقول :

أولا : إن عبد الله بن جحش قد استشهد في غزوة أحد (٢) ، أي قبل فتح مكة بحوالي خمس سنوات.

وأما القول : بأن أبا أحمد هو عبيد الله بن جحش ـ كما ربما يظهر من الكلمات (٣) ـ فلا يصح أيضا ؛ لأن من المجمع عليه : أن عبيد الله بن جحش كان ممن هاجر إلى الحبشة ، وتنصر ، ومات هناك ، وهو زوج أم حبيبة ، التي زوجها النجاشي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لا نجد خلافا في ذلك (٤).

والظاهر : أن الصحيح هو : أن اسم أبي أحمد «عبد» بن جحش ، بغير

__________________

(١) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٤٠ و ٨٤١.

(٢) طبقات ابن سعد ج ٣ ق ١ ص ٦٤ وأسد الغابة ج ٣ ص ١٣١ والإصابة ج ٢ ص ٢٨٧ وصفة الصفوة ج ١ ص ٣٨٦ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٠٠.

(٣) راجع : السيرة الحلبية ج ٢ ص ٣٠٠.

(٤) راجع : أسد الغابة ج ٣ ص ١٣١ والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٢ ص ٢٧٢ ـ ٢٧٤ والإصابة ج ٤ ص ٤ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ق ١ ص ٦٢ والتنبيه والإشراف ص ٢٢٣.

٢٦٣

إضافة ، وقالوا : كان ضريرا ، وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان (١).

ثانيا : ما أبعد ما بين موقف هذا الرجل ، حيث وعده النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بدار في الجنة في مقابل داره ، فنزل عن بعيره ، وجلس مع القوم ، فما سمع ذاكرها حتى لقي الله تعالى .. وبين موقف سمرة بن جندب الذي كانت له نخلة في دار شخص آخر ، فصار يدخل إليها من دون إذن ، ورفض الإنصياع لطلب صاحب الدار بالإستئذان ، ورفض طلب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منه أن يستأذن ، ثم رفض أن يبيعها لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعذق في الجنة ، فلم يزل يزيده حتى بلغ عشرة أعذاق.

فقال : لا أريد.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : إنك رجل مضار ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن.

ثم أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالنخلة فقلعت ، ثم رمى بها إليه ، وقال له : اذهب فاغرسها حيث شئت (٢).

__________________

(١) راجع : الإصابة ج ٤ ص ٣ و ٤ والإستيعاب (مطبوع بهامش الإصابة) ج ٤ ص ١٢ و ١٣ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ق ١ ص ٦٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٩٤ وراجع ص ٢٩٢ وراجع أيضا : من لا يحضره الفقيه ج ٣ ص ٢٣٣ و ١٠٣ وتهذيب الأحكام ج ٧ ص ١٤٧ والوسائل ج ١٧ ص ٣٤٠ و ٣٤١ والبحار ج ١٠٠ ص ١٢٧ والفائق ج ٢ ص ٤٤٢ ومصابيح السنة للبغوي ج ٢ ص ١٤ والنظم الإسلامية ص ٣٢١ عن أبي داود ، وعن عون المعبود ج ٢ ص ٣٥٢.

٢٦٤

صدق وعده ، ونصر عبده :

١ ـ وقد بيّن «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن هذا الفتح العظيم قد كان وعدا من الله ، وقد أنجز تبارك وتعالى وعده ، وهذا يمثل دلالة أخرى لعبّاد الأصنام الذين ما زالوا يحاربونه حتى تلك اللحظة ، ويجهدون للاحتفاظ بشركهم وبأصنامهم ، على أن عليهم أن يتخلوا عن حالة الصلف والعناد ، فهم أحقر وأعجز من أن يتمكنوا من تحدي إرادة الله تبارك وتعالى ..

وها هم يرون بأم أعينهم كيف أن الله أنجز وعده لنبيه الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، رغم كل ما كادوه به.

٢ ـ ثم إنه تعالى لم ينسب النصر إلى نفسه ، ولا تبجح ـ والعياذ بالله ـ بتدبيره الذكي ، وخطته المحكمة ، ولا فاخر بجيشه الكبير ، بل نسبه إلى الله دون سواه ، بل هو لم يفسح المجال لاحتمال أن يكون لغير الله أدنى تأثير في هذا النصر حين صرح : بأن الله وحده قد هزم الأحزاب المختلفة التي كانت تتألب عليه ، وتجمع الجموع من كل قبيلة وحي ، ومن مختلف البلاد التي تجد فيها من يعينها ، ويشاركها في عدوانها على الحق وأهله ..

٣ ـ وقد احتفظ «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لنفسه بسمة العبودية التي يأنف الناس من إطلاقها على أنفسهم إلا بضروب من التأويلات ، وفنون من الإيحاءات ، ولو بمثل دعوى التواضع ، وهضم النفس.

والحرب مع المشركين هي في واقعها حرب مع حالة الإستكبار عن الإنصياع لهذه الحقيقة ، والإباء عن الإعتراف بها. فإنهم لا يريدون أن يكونوا عبيدا لله ، بل يريدون أن يكونوا عبيدا لشهواتهم ، ولأهوائهم ، ولعتاتهم ، وساداتهم ، وكبرائهم ، الذين يتخذونهم أربابا من دون الله تعالى.

٢٦٥

ولكن الرسول العظيم ، والنبي الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يرى أن أعظم وسام ، وأسمى مقام هو وسام ومقام العبودية لله سبحانه ، وكلما تحقق الإنسان في هذه العبودية ، وأوغل فيها كلما سما في مدارج الكمال ، وحصل على مقام القرب والزلفى من الله ، ويكون مع الله ، ويكون الله تعالى معه ، يحب ما يحب ، ويكره ما يكره ، ويريد ما يريد .. فإن لله عبادا إذا أرادوا أراد (١).

وفي الحديث القدسي : عبدي أطعني تكن مثلي ، تقول للشيء : كن ، فيكون (٢).

نعم .. إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يعط لنفسه ألقابا ، ولا منحها أوصافا ، بل هو لم يشر إليها بأية كلمة تدل على أن لها أي درجة من الإستقلال ، والإنفصال ، ولو بمقدار كلمة «أنا» ، بل حين تحدث عن نفسه قد وصفها بما دل على سلب أية خصوصية من هذا القبيل ، ألا وهو وصف العبودية له تعالى ..

إلا الإذخر :

وذكروا : أن العباس هو الذي استثنى الإذخر ، من بين الأمور التي حرم على الناس العدوان عليها .. قالوا : «فقال العباس ، وكان شيخا مجربا :

__________________

(١) أضواء على السنة المحمدية لأبي رية ص ١٢٥ ونظرات في التصوف والكرامات لمحمد جواد مغنية ٨٩.

(٢) مستند الشيعة ج ١ ص ٦ والإمام علي للهمداني ص ٣٦٢ والفوائد الرجالية لبحر العلوم ج ١ ص ٢٩ وراجع : الفوائد العلية ج ٢ ص ٣٩٤ والجواهر السنية ٣٦١ والبحار ج ١٠٢ ص ١٦٥ وشجرة طوبى ج ١ ص ٣٣ ومشارق أنوار اليقين ص ١٠.

٢٦٦

إلا الإذخر يا رسول الله ، فإنه لا بد لنا منه ، للقين ، وظهور البيوت.

فسكت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ساعة ، ثم قال : إلا الإذخر ، فإنه حلال».

ونقول :

إن هذا الموقف يحتاج إلى تبصر وتأمل ، ولكننا نكتفي هنا بالإلماح إلى بعض ما يظهر لنا فيه.

فأولا : هل كان النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، الذي لم يزل يخبر الناس بالمغيبات ، لا يعرف أن الإذخر مما يحتاج إليه للقين ، ولأسقف البيوت؟! وعرف ذلك العباس دونه؟!

ثانيا : هل عرف ذلك العباس ولم يعرفه سائر شيوخ قريش ، وسواها من ساكني مكة ، من بني بكر وخزاعة ، و.. و..؟!

ثالثا : هل كان النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يحلل ويحرم من عند نفسه؟! أم كان يتكلم بوحي من الله تعالى؟!

فإن كان ما يأتي به هو الوحي الإلهي ، فما معنى تدخل العباس فيه؟ فهل لم يكن الله ـ والعياذ بالله ـ يعرف قيمة الإذخر ، وأهميته لأهل مكة ، حتى نطق العباس؟ أم انه كان يعرف ذلك ، لكنه كان يريد تصعيب الأمور عمدا على أهل مكة؟! ثم تراجع استجابة لطلب العباس؟!

وإن كان ما يأتي به إنما يأتي به من عند نفسه ، فلما ذا يقول القرآن عنه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)؟! (١).

__________________

(١) الآيتان ٣ و ٤ من سورة النجم.

٢٦٧

وكيف نستطيع أن نفرق بين ما يكون من عند نفسه ، وما يكون من عند ربه ، فنتدخل في الأول ، ونسكت في الثاني؟!

وإذا كان يتكلم من عند نفسه ، فهل هو يخطئ فيه ، ويسهو و.. و.. الخ ..؟! أم أنه معصوم فيه؟!

فإن كان يخطئ فيه ، فلا شيء يدعو إلى الوثوق بما يأتي به. وهل يمكن تجزئة العصمة؟ وإن كان معصوما فيه ، فلما ذا يتدخل العباس أو غيره في شأن لا يمكن أن يقع فيه خطأ ولا سهو ، ولا تقصير؟! ..

رابعا : لماذا سكت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هذا الوقت الطويل ولم ينطق بالحكم مباشرة ألا يدل سكوته هذا على أنه قد تبرم وتضايق من تدخل العباس في أمر إلهي ، ووحي رباني ، وحكم شرعي ، لا يحق لأحد التدخل فيه؟!

أم أنه سكت ليتأمل في صحة كلام العباس ، وخطئه ، فلما ظهر له وجه الصواب فيه أقره؟!

ألا يعدّ هذا النوع من الإحتمالات إهانة لمقام النبوة الأقدس ، وإساءة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ما بعدها إساءة؟!

خامسا : هل جاء قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن الإذخر : «فإنه حلال» حكاية لحكم الله الواقعي ، أم جاء مجاراة للعباس ، وإرضاء لخاطره الشريف ، وإنفاذا لأمره ، الذي جاء بطريقة تضمنت إساءة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وخروجا عن حدود الآداب.

سادسا : إذا كان الناس يحتاجون الإذخر ، وهو الحشيش الأخضر لظهور البيوت ، فإنهم يحتاجون الأشجار لأمور أخرى ، مثل صنع الأبواب ، وعمل

٢٦٨

الكراسي ، والمناضد ، وسائر الحاجات .. فلما ذا منع من قطع الشجر أيضا ، مع أن الحاجة إلى قطعه أشد من الحاجة إلى الحشيش الأخضر؟

كما أنهم يحتاجون إلى العظاة ـ هو الشجر الذي له شوك ـ لأجل الوقود وإنضاج الأطعمة ، والتدفئة ، ونحو ذلك ، فلما ذا لم يرخص لهم به أيضا. واقتصرت الرخصة على الإذخر؟!

إن الحقيقة هي : أن هؤلاء الناس يريدون أن يمنحوا العباس شرفا ، فمنحوه ما يوجب نقصا وتقززا وقرفا. وأرادوا أن يسموه بسمات الأخيار والأبرار ، فوصموه بما يهين ويشين من وصمات الأشقياء والأشرار ..

اجتهاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وقد زعم بعض الناس : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان متعبدا بالاجتهاد فيما لا نص فيه .. وقد استدلوا على ذلك بأدلة واهية .. ومن ذلك في فتح مكة حسبما ذكره الآمدي :

١ ـ روي عنه : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال في مكة : لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها.

فقال العباس : إلا الإذخر.

فقال «عليه‌السلام» : إلا الإذخر.

قال : «ومعلوم أن الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة ، فكان الإستثناء بالإجتهاد» (١).

__________________

(١) الإحكام في أصول الأحكام ج ٤ ص ١٤٤ و ١٤٥ ..

٢٦٩

وقال في موضع آخر : «معلوم أن ذلك لم يكن إلا من تلقاء نفسه ، لعلمنا : بأن الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة ، ولو لا أن الحكم مفوض إليه لما ساغ ذلك» (١).

ولكن الآمدي نفسه قد ذكر : أن بعضهم أجاب عن ذلك بقوله : «إن الإذخر ليس من الخلا ، فلا يكون داخلا فيما حرم. وعلى هذا ، فإباحته تكون بناء على استصحاب الحال. والإستثناء من العباس والنبي «عليه‌السلام» كان تأكيدا. وبتقدير أن يكون مستثنى حقيقة مما حرم بطريق التأسيس ، لكن من المحتمل أن يكون ذلك بوحي سابق ، وهو الأولى ، لقوله تعالى في حق رسول الله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٢). أما أن يكون ذلك من تلقاء نفسه من غير دليل فلا» (٣).

ونقول :

ألف : إن من الواضح : أن العباس قد قطع على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كلامه ، ولم يمهله ليستثني الإذخر ولا غيره .. ولعل سكوت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لفترة قصيرة في تلك اللحظة كان لإظهار انزعاجه من هذه المداخلة ، التي تخرج عن حدود المقبول في التعامل مع الأنبياء ، بل ومع غيرهم أيضا ..

ب : على أننا في غنى عن التذكير بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان

__________________

(١) الإحكام في أصول الأحكام ج ٤ ص ١٨٤.

(٢) الآيتان ٣ و ٤ من سورة النجم.

(٣) الإحكام في أصول الأحكام ج ٤ ص ١٤٤ و ١٤٥ ..

٢٧٠

واقفا على ملاكات الأحكام ، عارفا بحدود الحلال والحرام ، فلا حاجة إلى الوحي الفعلي والتفصيلي في كل كبيرة وصغيرة ، ولذلك فوض الله تعالى إليه حق وضع الأحكام وتشريعها في الوقت الذي تكتمل فيه عناصره ..

وقد أوضحنا ذلك في كتابنا : «الولاية التشريعية» فراجع.

٢ ـ واستدلوا ـ كما ذكره الآمدي أيضا ـ بما روي عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أنه أمر مناديا يوم فتح مكة : «أن اقتلوا ابن حبابة ، وابن أبي سرح ، ولو كانا متعلقين بأستار الكعبة» ثم عفا عن ابن أبي سرح ، بشفاعة عثمان. ولو كان قد أمر بقتله بوحي لما خالفه بشفاعة عثمان» (١).

وأجابوا أيضا : «يجوز أن يكون قد أبيح القتل ، وتركه بالوحي ، بدليل ما سبق في الآية» (٢).

أي بدليل أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يقول ما يقول إلا بوحي ، لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).

غير أننا بنحو آخر من البيان نقول :

إن الحكم بالقتل كان متعلقا بهؤلاء الناس ، من حيث أن جرمهم يوجب ذلك .. فإذا استجدت أمور ، مثل ظهور التعصب القبلي أو حدوث انشقاقات خطيرة توجب فسادا كبيرا ، وتضييعا لحقوق الكثيرين ، وصدا عن سبيل الله ، بحيث يمنع ذلك من دخول بعض الناس في الإسلام أو نحو ذلك ، فإن الحكم بالقتل يرتفع ويحل محله العفو. أي أن الحكم يتبدل

__________________

(١) الإحكام في أصول الأحكام ج ٤ ص ١٨٢.

(٢) الإحكام في أصول الأحكام ج ٤ ص ١٨٤.

٢٧١

بسبب تبدل طرأ على موضوعه.

وهذا نظير ما لو استحق ولدك عقوبة على ذنب ارتكبه ، فإذا شفع له إنسان عزيز تحب أن تكرمه وتظهر للناس موقعه ومكانته ، فإنك تعفو عنه من أجله ، وكذلك الحال فيما إذا شفع فيه إنسان ظالم يخشى من أن يتسبب رد أمره ورود ظلم أو أذى على أناس أبرياء ، فإنك تغض النظر عن عقوبة ذلك المذنب ، وتظهر أنك قد عفوت عنه رعاية لهذه الخصوصية.

فظهر أن هناك حكمين قد اختلفا بسبب اختلاف موضوعيهما ، وقضية ابن سرح من هذا القبيل.

كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر :

وأما ما ورد في الخطبة : من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال فيها : «.. كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر ، من ضحوة نهار الفتح إلى صلاة العصر منه».

فخبطوهم ساعة ، وهي الساعة التي أحلت لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ولم تحل لأحد قبله.

فنقول فيه :

أولا : إن هذا النص إنما ورد في بعض نصوص الخطبة دون بعض .. وهذا وإن كان لا يدل على عدم صحة هذه الفقرة ، ولكنه يفسح المجال للتأمل في صحتها ، وإن وجد ما يقتضي ذلك. كما هو الحال في هذا المورد كما سنرى.

ثانيا : إذا كانت بنو بكر قد هاجمت جزاعة وقتلت منها ، فإن قريشا قد

٢٧٢

شاركت في هذا الأمر ، وكانت مع من هاجم ، ثم أرسلت أبا سفيان ليخدع المسلمين ، ويبطل دم المقتولين المظلومين .. فلما ذا لا يشرك قريشا مع بني بكر في إعطاء خزاعة حق قتلهم؟

ثالثا : إذا كان ثأر خزاعة عند بني بكر ، وقريش بريئة منه ، فلما ذا اعتبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما جرى نقضا للعهد من قبل قريش بالذات؟! وما المبرر لجمع هذا الجيش العظيم ، ومهاجمة مكة ، وفتحها؟!

ولماذا نهى خالد بن الوليد عن القتال؟ وأمره أن يكف عن ملاحقة الناس؟!

وكيف سيفهم الناس ذلك كله ، خصوصا أهل مكة الذين استسلموا ولم يسلموا ، ولما يدخل الإيمان في قلوبهم؟!

رابعا : إن وقت صلاة العصر إذا كان يبدأ من حين الإنتهاء من صلاة الظهر إلى حين الغروب ، فإن معنى قوله : «من ضحوة نهار الفتح إلى صلاة العصر منه» يصبح غير واضح المعنى. إلا إذا أريد الحديث عن وقت فضيلة العصر ..

وعلى كل حال ، فقد أشرنا إلى ما هو الحق في وقت صلاة العصر في فصل : المسير إلى حصون قريظة ، تحت عنوان : لماذا لم يعنف النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تاركي الصلاة؟!

خامسا : لم يذكر لنا التاريخ شيئا عن قتلى بني بكر على يد خزاعة ، ولا قتلى خزاعة على يد المدافعين من بني بكر ، فهل يعقل أن تستمر معركة ساعات طوالا ، ولا يسقط فيها عشرات القتلى والجرحى؟!

سادسا : الضحوة : هي ارتفاع النهار ، فإذا كانوا قد خبطوهم من ضحوة النهار إلى وقت صلاة العصر ، فإن ذلك يكون ساعات لا ساعة

٢٧٣

واحدة ، وكيف إذا كان «يقصرها بيده هكذا»؟!

وأخيرا ما معنى : أن يكرر نفس العبارة في نفس تلك الخطبة ، فيذكرها في وسطها ، ثم يذكرها في آخرها؟!.

اكتبوا لأبي شاة :

وقوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : اكتبوا لأبي شاة ، وعشرات الروايات الأخرى الآمرة بتقييد العلم وبكتابته حجة دامغة على الذين منعوا من كتابة الحديث بعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

على أن ما زعموه مبررا لذلك ، وهو : أنهم خافوا من اختلاط الحديث بالقرآن ، أو أنه لا كتاب مع كتاب الله ، ما هو إلا رد للنص من أجل مآرب خاصة ، لا نريد الإفاضة في بيانها. وقد ذكرنا طائفة مما يفيد في هذا البحث في الجزء الأول من هذا الكتاب ، فراجع.

التبرك بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

عن عبد الله بن عبيدة : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعد خطبته عدل إلى جانب المسجد ، فأتي بدلو من ماء زمزم ، فغسل منها وجهه ، ما يقع منه قطرة إلا في يد إنسان ، إن كانت قدر ما يحسوها حساها ، وإلا مسح جلده.

والمشركون ينظرون ، فقالوا : ما رأينا ملكا قط أعظم من اليوم. ولا قوما أحمق من القوم (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٣ عن ابن أبي شيبة.

٢٧٤

الفصل التاسع :

مفتاح الكعبة .. والبيعة

٢٧٥
٢٧٦

مفتاح الكعبة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ثم خرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من البيت والمفتاح في يده ، وخالد بن الوليد يذب الناس عن الباب حتى خرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وعن برة بنت أبي تجراة ، قالت : نظرت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وفي يده المفتاح ، ثم جعله في كمه (١).

قال الزهري : إنه بعد أن خطب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خطبته المتقدمة ، نزل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ومعه المفتاح ، فتنحى من المسجد ، فجلس عند السقاية (٢).

وكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قبض مفتاح السقاية من العباس ، ومفتاح البيت من عثمان. فأرجع المفتاح إلى عثمان ودفع السقاية إلى

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٢ عن الواقدي ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٠ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٣٥.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٣ عن عبد الرزاق ، والطبراني ، والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٣٧ و ٨٣٨.

٢٧٧

العباس (١).

مفتاح الكعبة لبني شيبة :

وقالوا : قال عثمان بن طلحة : لقيني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بمكة قبل الهجرة ، فدعاني إلى الإسلام ، فقلت : يا محمد ، العجب لك حيث تطمع أن أتبعك ، وقد خالفت دين قومك ، وجئت بدين محدث.

وكنا نفتح الكعبة في الجاهلية الإثنين والخميس ، فأقبل يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس ، فأغلظت عليه ، ونلت منه.

فحلم عني ، ثم قال : «يا عثمان ، لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت».

فقلت : لقد هلكت قريش وذلت.

قال : «بل عمرت يومئذ وعزت».

ودخل الكعبة ، فوقعت كلمته مني موقعا ، فظننت أن الأمر سيصير كما قال ، فأردت الإسلام ، فإذا قومي يزبرونني زبرا شديدا.

فلما كان يوم الفتح قال لي : «يا عثمان ، ائت بالمفتاح».

فأتيته به. فأخذه مني ، ثم دفعه إلي وقال : «خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم ، يا عثمان ، إن الله استأمنكم على بيته ، فكلوا مما وصل إليكم من هذا البيت بالمعروف».

فلما وليت ناداني ، فرجعت إليه ، فقال : «ألم يكن الذي قلت لك؟

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٣ عن الواقدي ، عن شيوخه ، والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٣٧ و ٨٣٨.

٢٧٨

فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة : «لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي أضعه حيث شئت».

فقلت : بلى. أشهد أنك رسول الله.

فقام علي بن أبي طالب ، ومفتاح الكعبة بيده ، فقال : يا رسول الله ، اجمع لنا الحجابة مع السقاية!

(وفي رواية : أن العباس تطاول يومئذ لأخذ المفتاح في رجال من بني هاشم. أي منهم علي «عليه‌السلام») (١).

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أين عثمان بن طلحة؟

فدعي ، فقال : «هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء».

قالوا : وأعطاه المفتاح ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مضطبع (٢) بثوبه عليه ، وقال : «غيبوه. إن الله تعالى رضي لكم بها في الجاهلية والإسلام» (٣).

وعن ابن جريح : أن عليا «عليه‌السلام» قال للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : اجمع لنا الحجابة والسقاية ، فنزلت : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ..) (٤).

__________________

(١) راجع هذه الفقرة في : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٤ وفي هامشه عن البداية والنهاية ج ٤ ص ٣٠١.

(٢) اضطبع : أدخل الرداء تحت إبطه الأيمن وغطى به الأيسر.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٤ عن ابن سعد والواقدي ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٠ و ١٠١ وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٣٧ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٥ و ٨٨ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٣٠١.

(٤) الآية ٥٨ من سورة النساء.

٢٧٩

فدعا عثمان ، فقال : «خذوها يا بني شيبة خالدة مخلدة».

وفي لفظ : «تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم» (١).

وعن جابر ومجاهد : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دخل في الكعبة يوم الفتح ، فخرج «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو يتلو هذه الآية ، فدعا عثمان بن طلحة ، فدفع إليه المفتاح ، وقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله سبحانه وتعالى لا ينزعها منكم إلا ظالم» (٢).

وعن سعيد بن المسيب : «لا يظلمكموها إلا كافر» (٣).

وفي لفظ ابن سابط : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لعثمان بن طلحة : «إني لم أدفعها إليكم ، ولكن الله تعالى دفعها إليكم» (٤).

وعن الزهري : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما خرج من البيت قال علي «عليه‌السلام» : «إنا أعطينا النبوة والسقاية والحجابة ، ما قوم بأعظم نصيبا منّا».

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٤ و ٢٤٥ عن ابن عائذ ، والأزرقي ، وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٠.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٥ عن الأزرقي وقال في هامشه : أخرجه الطبراني في الكبير ج ١١ ص ١٢٠ ، وانظر المجمع ج ٣ ص ٢٨٥ وابن سعد ج ٢ ق ١ ص ٩٩ وأبا نعيم في تاريخ أصفهان ج ١ ص ٢٤٨ والسيوطي في الدر المنثور ج ٢ ص ١٧٥ و ١٧٤ عن ابن جرير وابن المنذر.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٥ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠١.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٤ عن ابن عائذ ، وابن أبي شيبة ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠١.

٢٨٠