الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-194-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٤٠

تسلم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مفتاح الكعبة ، الذي يشير إلى انتهاء كل شيء واستسلام عتاة المشركين ، وقريش بالذات.

ثم جاءت حجة الوداع فدخل المسلمون إلى مكة آمنين أمنا حقيقيا ، لا شبهة فيه ، وكانوا محلقين رؤوسهم ومقصرين.

عثمان بن طلحة في فتح مكة :

تقدم أنهم زعموا : أن عثمان بن طلحة أسلم بالمدينة مع خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وبقي فيها إلى أن جاء مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى مكة يوم الفتح (١).

ولكن الروايات المتقدمة قد تناقضت في بيانها لموقف عثمان بن طلحة ، حتى لقد نسب إليه بعضها : أنه رفض تسليم المفتاح ، وقال : لو أعلم أنه رسول الله لم أمنعه.

فإن كان حقا قد أسلم قبل ذلك ، فهذا ارتداد صريح كما قاله ابن ظفر في ينبوع الحياة (٢).

على أن بعض الروايات المتقدمة قد صرحت : بأنه إنما أسلم حين أرجع علي «عليه‌السلام» المفتاح إليه برفق.

ولعل ملاحظة الروايات المتقدمة وسواها تعطي : أن ثمة خلطا بين عثمان بن طلحة ، وبين شيبة بن طلحة ، فلعل المفتاح كان عند شيبة أولا ، فرفض إعطاءه للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ثم أودعه عند أمه سلافة ، ثم

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٨ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٨ و ١٠٠.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٧.

٢٤١

أرسل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عثمان بن طلحة فأخذه منها ، بعد أن جرى معها له ما جرى.

وسيأتي قولهم : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أعطى المفتاح إلى عثمان ..

ويصرح البعض : بأن عثمان دفعه إلى أخيه شيبة ، فهي في ولده إلى اليوم (١).

آية : أداء الأمانات إلى أهلها :

وقد زعمت بعض الروايات المتقدمة : أنه لما نزل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ..) (٢) أرسل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المفتاح إليهم مع علي «عليه‌السلام» ، وأمره أن يدفعه إلى عثمان بن طلحة متلطفا ، فأخذه منه ، وأسلم ..

وسيأتي بعد إيراد خطبة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الشهيرة على باب الكعبة ، بيان بعض ما فيها من إشارات ودلالات ترتبط بجعل حجابة البيت وإعطاء المفتاح لبني شيبة ، وسنتحدث إن شاء الله عن شأن نزول هذه الآية أيضا هناك ، فانتظر.

لمن هذا التهديد؟! :

إن قوله في رواية بشر النبال عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» : لترسلن

__________________

(١) شرح بهجة المحافل للأشخر اليمني ج ١ ص ٤٠٩ عن ابن كثير.

(٢) الآية ٥٨ من سورة النساء.

٢٤٢

به (يعني المفتاح) أو لأقتلنك ، إن كان من كلام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يهدد به شيبة ، فلا بد من الإجابة على سؤال :

ما معنى هذا التهديد من النبي الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعثمان بالقتل في حين أن أمه هي التي امتنعت عن تسليم مفتاح الكعبة إليه ، وقد قال الله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)؟.

وقد يجاب عن ذلك : بأن من الممكن أن يكون المفتاح بيد شيبة ، ثم أودعه عند أمه ، في محاولة منه للضغط الهادف إلى الإحتفاظ بهذه المكرمة ، فيصح تهديده ، باعتبار أنه هو المسؤول عن أمر المفتاح.

ولكن هذا الجواب إنما يصح لو أن شيبة الذي كان لا يزال على شركه هو صاحب المفتاح ، أما إن كان صاحبه والمسؤول عنه هو أخوه عثمان الذي كان قد أسلم قبل ذلك التاريخ ، فلا يصح تهديده بالقتل إلا إذا كان امتناعه عن تسليم المفتاح قد بلغ حد التمرد على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والإرتداد عن الدين.

وإن كانت عبارة التهديد المتقدمة قد صدرت عن شيبة أو عثمان نفسه ، في مواجهة أمه سلافة .. فلا يرد إلا إشكال من ناحية عصيان أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بل يصبح الإشكال أخلاقيا ، كما هو ظاهر.

غير أننا نرجح : أن الرواية : تتحدث عن تهديد صادر من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى ولدها .. كما هو ظاهر سياق الكلام.

ويؤيده : أن رواية أخرى ـ تقدمت أيضا ـ قد ذكرت : أن عثمان بن طلحة قد قال لأمه : «إن لم تفعلي قتلت أنا وأخي ؛ فأنت قتلتنا».

كما أننا نرجح : أن يكون علي «عليه‌السلام» هو الذي أخذ المفتاح من

٢٤٣

عثمان بن طلحة بالقوة والقهر ، وأن حديث إسلام عثمان هذا قبل ذلك في المدينة ، مع عمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد ، موهون في أكثر من جهة وسبب حسبما أوضحناه في موضعه ، ولتكن هذه الروايات الدالة على تمرده على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من دلائل وهن هذه المزاعم ..

٢٤٤

الفصل الثامن :

الخطبة الأولى في مكة

٢٤٥
٢٤٦

خطبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكة :

لقد خطب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خطبة هامة بمجرد خروجه من الكعبة أعزها الله تعالى ، فقد روي عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» أنه قال :

«فتح باب الكعبة ، فأمر بصور في الكعبة فطمست ، ثم أخذ بعضادتي الباب ، فقال : الخ ..» (١).

وزعموا : أن خالد بن الوليد في هذه الحال كان على باب الكعبة يذب عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الناس (٢).

وقالوا : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما خرج من البيت استكفّ له الناس ، وأشرف على الناس حول الكعبة وهم جلوس ، فقام على بابه فقال :

«لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده».

وفي نص آخر أنه قال : «الحمد لله الذي صدق وعده». ثم اتفقوا «ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، يا معشر قريش ما ذا تقولون؟ ماذا

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ١٣٥ عن الكافي ج ١ ص ٢٢٧.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٩ عن تاريخ مكة للأزرقي.

٢٤٧

تظنون (أني فاعل بكم؟

فقال سهيل بن عمرو :)؟ (١).

قالوا : نقول خيرا ، ونظن خيرا. نبي كريم ، وأخ كريم ، وابن أخ كريم ، وقد قدرت.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «فإني أقول كما قال أخي يوسف : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٢). إذهبوا فأنتم الطلقاء».

فخرجوا كأنما نشروا من القبور ، فدخلوا في الإسلام.

ثم قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ألا إن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مأثرة أو مال يدّعى فهو تحت قدمي هاتين ، وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث ، إلا سدانة البيت ، وسقاية الحاج (فإنهما مردودتان إلى أهليهما).

ألا وفي قتيل العصا والسوط والخطأ شبه العمد الدية مغلظة ، مائة ناقة ، منها أربعون في بطونها أولادها.

ألا وإن الله تعالى قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية ، وتكبرها بآبائها ، كلكم لآدم وآدم من تراب» (٣).

ثم تلا هذه الآية : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ

__________________

(١) هذه الفقرة في : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٨ والبحار ج ٢١ ص ١٣٢ عن إعلام الورى.

(٢) الآية ٩٢ من سورة يوسف.

(٣) راجع : دلائل النبوة للبيهقي ج ٩ ص ١١٨.

٢٤٨

خَبِيرٌ) (١).

«يا أيها الناس!! الناس رجلان ، فبر تقي كريم ، وكافر شقي هين على الله.

ألا إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، ووضع هذين الأخشبين ، فهي حرام بحرام الله ، لم تحل لأحد كان قبلي ، ولن تحل لأحد كائن بعدي ، لم تحل لي إلّا ساعة من نهار ـ يقصرها «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بيده هكذا ـ ولا ينفر صيدها ، ولا يعضد عضاهها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ، ولا يختلى خلاها».

فقال العباس ، وكان شيخا مجربا : إلا الإذخر يا رسول الله ، فإنه لا بد لنا منه للقين ، وظهور البيوت.

فسكت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ساعة ثم قال : «إلا الإذخر فإنه حلال.

ولا وصية لوارث ، وإن الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ولا يحل لامرأة أن تعطي من مال زوجها إلا بإذن زوجها ، والمسلم أخو المسلم ، والمسلمون إخوة ، والمسلمون يد واحدة على من سواهم ، تتكافأ دماؤهم ، وهم يردّ عليهم أقصاهم ، ويعقل عليهم أدناهم ، ومشدّهم على مضعفهم ، ومثريهم على قاعدهم ، ولا يقتل مسلم بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين ، ولا جلب ولا جنب.

ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا في بيوتهم وبأفنيتهم ، ولا تنكح المرأة

__________________

(١) الآية ١٣ من سورة الحجرات.

٢٤٩

على عمتها ولا على خالتها. والبينة على من ادّعى ، واليمين على من أنكر ، ولا تسافر امرأة مسيرة ثلاث إلا مع ذي محرم ، ولا صلاة بعد العصر ، وبعد الصبح ، وأنهاكم عن صيام يومين : يوم الأضحى ، ويوم الفطر ، وعن لبستين ألا يحتبي أحدكم في ثوب واحد يفضي بعورته إلى السماء ، وألا يشتمل الصماء».

فقام رجل فقال : يا رسول الله ، إني قد عاهرت في الجاهلية.

فقال : «من عاهر بامرأة لا يملكها ، أو أمة قوم آخرين لا يملكها ، ثم ادّعى ولده بعد ذلك فإنه لا يجوز له ، ولا يرث ولا يورث ، ولا إخالكم إلا قد عرفتموها.

يا معشر المسلمين كفوا السلاح إلا خزاعة عن بني بكر من ضحوة نهار الفتح إلى صلاة العصر منه».

فخبطوهم ساعة ، وهي الساعة التي أحلت لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ولم تحل لأحد قبله.

ثم قال لهم : «كفوا السلاح».

فقام أبو شاة ، فقال : اكتب لي يا رسول الله.

فقال : «اكتبوا لأبي شاة».

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٤٢ و ٢٤٣ ، وقال : أخرجه البخاري (٢٤٣٤) ، ومسلم في الحج (٤٤٧ ، ٤٤٨) ، وأبو داود (٢٠١٧) (٣٦٤٩ ، ٤٥٠٥) والترمذي (٢٦٦٧) وأحمد ٢ / ٢٣٨ والبيهقي ٨ / ٥٢ والدار قطني ٣ / ٩٧.

وذكر الصالحي الشامي : أن رواة الخطبة المشار إليها هم : الإمام أحمد ، وأبو داود ،

٢٥٠

__________________

والنسائي ، وابن ماجة عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، والبخاري في صحيحه عن مجاهد. وابن أبي شيبة .. وابن إسحاق عن صفية بنت شيبة ، والبيهقي عن عبد الله بن عمر ، وابن أبي شيبة عن عبد الله بن عبيدة.

وواضح : أن نصوص الخطبة تتفاوت ، من حيث الإختصار والتطويل ، والتقديم ، والتأخير ، واختلافات أخرى. وكيف كان فهي موجودة في المصادر التالية : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٨ والبحار ج ٢١ ص ١٣٢ و ١٣٥ و ١٣٦ و ١٠٥ و ١٠٦ والكافي ج ٣ ص ٢٢٧ و ٢٢٨ و ٣٢٨ وعن صحيح مسلم ج ٢ ص ٩٨٨ و ٩٨٩ وعن صحيح البخاري ج ١ ص ٣٩ وج ٣ ص ١٦٥ وج ٤ ص ١٢٧ وج ٥ ص ١٩٤ وج ٩ ص ٦ و ١٧ ومجمع البيان ج ١ ص ٢٠٦ وج ١٠ ص ٥٥٧ عن إعلام الورى ، وسنن أبي داود ج ٢ ص ٢١٢ وج ٣ ص ٣١٩ وج ٤ ص ١٧٢ والجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٣٩ ومسند أحمد ج ١ ص ٢٥٩ وج ٢ ص ٢٣٨ ومقدمة ابن الصلاح ص ١٧٠ ومعالم السنن ج ٤ ص ١٨٤ وجامع بيان العلم ج ٢ ص ٨٤ وتدريب الراوي ج ٢ ص ٦٦ والسنة قبل التدوين ص ٣٠٥ عن فتح الباري ج ١ ص ١٨٣ و ١٨٤ و ٢١٧ وج ٥ ص ٦٣ وج ١٢ ص ١٨١ ـ ١٨٣ والتراتيب الإدارية ج ٢ ص ٢٤٩ ومعادن الجواهر ج ١ ص ١٠ والمحدث الفاصل ص ٣٦٣ و ٣٦٤ وإرشاد الساري ج ١ ص ١٦٨ وعمدة القاري ج ١ ص ٥٦٧ وج ٢ ص ١٦٣ وج ١٢ ص ٢٧٥ وج ٢٤ ص ٤٢ وأسد الغابة ج ٢ ص ٣٨٤ وج ٥ ص ٢٢٤ وتيسير الوصول ج ٣ ص ١٧٦ وصحائف الصحابة ص ٣١ والفقيه والمتفقه ج ١ ص ٩١ وسنن الدار قطني ج ٣ ص ٩٧ وتدوين السنة ص ٨٨ وعن المصنف لابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٤٩٥ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٤ و ٨٥ و ٩٠ وتهذيب الآثار ج ١ ص ٢٥٥ ورسالات نبوية ص ٥٣ والدر المنثور ج ١ ص ١٢٢ وفتوح البلدان للبلاذري ص ٥٧ ومعجم البلدان ج ٥ ص ١٨٣ وسنن ابن ماجة ج ٢ ص ١٠٣٨ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢

٢٥١

وفي نص آخر أنه قال : إن الله تبارك وتعالى حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنها لا تحل لأحد كان قبلي ، وإنما أحلت لى ساعة من نهار ، وإنها لا تحل لأحد بعدي .. فقام أبو شاة رجل من اليمن الخ .. (١).

نص آخر للخطبة :

وذكر الشيخ الطبرسي «رحمه‌الله» نصا آخر للخطبة ، وهو التالي : لما دخل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكة دخل صناديد قريش الكعبة ، وهم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم ، فأتى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ووقف قائما على باب الكعبة ، فقال :

«لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ،

ألا إن كل مال ومأثرة ودم يدّعى تحت قدمي هاتين ، إلا سدانة الكعبة ،

__________________

ق ١ ص ٩٩ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ٥٢ والإصابة ج ٢ ص ١٣٥ وج ٤ ص ١٠ والكفاية للخطيب ص ٥٣ وتاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٥٠ وأحكام القرآن للجصاص ج ٢ ص ٣٠٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٨١ وزاد المعاد ج ٢ ص ١٦٦ و ١٨٥ و ٢٠٣ والإستيعاب ج ٤ ص ١٠٦ والتاج الجامع للأصول ج ٢ ص ١٧٢ والفتح الرباني ج ٢٣ ص ٢٤١ و ٢٤٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٠٤ ومدينة البلاغة ج ١ ص ٧٢ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٣٥ و ٨٣٦ و ٨٣٧ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٠ ص ١٠٢ والجامع لأحكام القرآن ج ٢ ص ١١٨ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٢ ص ٣٢٧ وغير ذلك.

(١) تقييد العلم ص ٨٦.

٢٥٢

وسقاية الحاج ، فإنهما مردودتان إلى أهليهما.

ألا إن مكة محرمة بتحريم الله ، لم تحل لأحد كان قبلي ، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار. وهي محرمة إلى أن تقوم الساعة ، لا يختلى خلاها ، ولا يقطع شجرها ، ولا ينفر صيدها ، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد».

ثم قال : «ألا لبئس جيران النبي كنتم ، لقد كذّبتم ، وطردتم ، وأخرجتم ، وآذيتم ، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلوني!!

اذهبوا فأنتم الطلقاء».

فيخرج القوم ، فكأنما أنشروا من القبور ، ودخلوا في الإسلام ، وقد كان الله سبحانه أمكنه من رقابهم عنوة ، وكانوا له فيئا ، فلذلك سمّي أهل مكة الطلقاء (١).

عن ابن رئاب ، عن أبي عبيدة قال : سمعت أبا عبد الله «عليه‌السلام» يقول : لما فتح رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكة قام على الصفا ، فقال :

«يا بني هاشم ، يا بني عبد المطلب ، إني رسول الله إليكم ، وإني شفيق عليكم ، لا تقولوا : إن محمدا منا ، فو الله ما أوليائي منكم ولا من غيركم إلا المتقون ، فلا أعرفكم تأتوني يوم القيامة تحملون الدنيا على رقابكم ، ويأتي الناس يحملون الآخرة ، ألا وإني قد أعذرت فيما بيني وبينكم ، وفيما بين الله عزوجل وبينكم ، وإن لي عملي ولكم عملكم» (٢).

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ١٠٥ و ١٠٦ و ١٣٢ ومجمع البيان ج ١٠ ص ٥٥٧ عن إعلام الورى.

(٢) البحار ج ٢١ ص ١١١ عن كتاب صفات الشيعة للصدوق ص ٤.

٢٥٣

وقفات مع الخطبة الشريفة :

إن هذه الخطبة الشريفة تحتاج إلى دراسة متأنية لاستكناه معانيها ، والوقوف على مراميها ، ولعل بيان ذلك يفرض إفراد كتاب مستقل ، ويستغرق وقتا طويلا ، ويحتاج إلى جهد مضن ، يبذله أناس أكفاء ، ومتمرسون أفذاذ ..

فماذا عسانا نقدم في هذه النظرة العابرة والمحدودة ، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله .. فتلك هي بعض اللمحات المختارة من هذا الروض الفواح بالأطياب .. والزاخر بالمعاني العذاب ، كأنها الشهد المذاب ..

وسنذكر هذه اللمحات اليسيرة في فقرات تبين وجهتها عناوين نختارها لها ، وهي التالية :

عتقهم دليل فتح مكة عنوة :

علق الديار بكري على قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأهل مكة : إذهبوا ، فأنتم الطلقاء ، فقال :

«فأعتقهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوة ، فلذلك تسمى أهل مكة «الطلقاء» أي الذين أطلقوا ، فلم يسترقوا ، ولم يؤسروا ، والطليق هو الأسير إذا أطلق» (١).

وكنا قد تحدثنا عن هذا الأمر في فصل سابق ، وقلنا : إن هذه الكلمة من أدلة فتح مكة عنوة ، لا صلحا .. فلا بأس بمراجعة ما ذكرناه هناك ..

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٥.

٢٥٤

الطلقاء .. والخلافة :

إنه لا ريب في أن الإمامة شأن إلهي وقرار رباني ، لا خيار لأحد فيه ، وهي تثبت بالنص القاطع للعذر عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولكن السياسة الإلهية قد قضت بوضع معايير ، وحدود ، وضوابط ، وقيود ، من شأنها أن تسقط أي تعلل ، وترد أية شبهة ، حتى حينما يحاصر الطامعون والحاقدون النص بحرابهم ، وسيوفهم ، أو يثيرون حوله الشبهات والأقاويل ، وينسجون حوله الترهات والأباطيل.

وقد صرحت النصوص بكثير من الأمور التي حددها للناس أمين الله على وحيه ، وعزائم أمره ، ومن هذه الأمور :

أن الطلقاء لا يحق لهم الاضطلاع بأمر الإمامة ..

ويبدو أن هذا الأمر كان متسالما عليه لدى السلف ، فقد روي عن عمر بن الخطاب : أنه اعترف بذلك ، وأنه قال :

هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد ، ثم في أهل أحد ، ثم في كذا وكذا ، وليس لطليق ولا لولد طليق ، ولا لمسلمة الفتح شيء (١).

وقال أيضا : «إن هذا الأمر لا يصلح للطلقاء ، ولا لأبناء الطلقاء» (٢).

وعن أمير المؤمنين «عليه‌السلام» في كتاب له إلى معاوية : «واعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ، ولا تعقد معهم الإمامة ، ولا يدخلون

__________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٣ ص ٣٤٢ وأسد الغابة ج ٤ ص ٣٨٧ وفتح الباري ج ١٣ ص ٢٠٧.

(٢) الإصابة ج ٢ ص ٣٠٥.

٢٥٥

في الشورى» (١).

وكتب ابن عباس لمعاوية : «ما أنت وذكر الخلافة؟! وإنما أنت طليق وابن طليق. والخلافة للمهاجرين الأولين ، وليس الطلقاء منها في شيء».

وفي نص آخر : ما أنت والخلافة ، وأنت طليق الإسلام الخ .. (٢).

وقال ابن عباس لأبي موسى : «اعلم يا أبا موسى أن معاوية طليق الإسلام» (٣).

وكتب المسور بن مخرمة إلى معاوية أيضا : «وما أنت والخلافة يا معاوية ، وأنت طليق ، وأبوك من الأحزاب» (٤).

وهذا المعنى بالذات روي عن سعنة بن عريض في كلام له مع معاوية (٥).

ونفس هذا المضمون قاله صعصعة بن صوحان لمعاوية (٦).

وجاء في كلام لعبد الرحمن بن غنم الأشعري الصحابي ، يعاتب فيه أبا هريرة ، وأبا الدرداء قوله : «وأي مدخل لمعاوية في الشورى ، وهو من

__________________

(١) الإمامة والسياسة ج ١ ص ٨٥ و (في طبعة) ٧١ و (في أخرى) ٨١ والعقد الفريد ج ٤ ص ١٣٦ ونهج البلاغة ج ٢ ص ٥ وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج ٣ ص ٧٦ وج ١٤ ص ٣٦.

(٢) راجع : الإمامة والسياسة ج ١ ص ١٠٠ و (في طبعة أخرى) ٨٥ و (في طبعة ثالثة) ٩٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ٨ ص ٦٦.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٤٦.

(٤) الإمامة والسياسة ج ١ ص ٩٨ و (في طبعة أخرى) ٧٥ و (في طبعة ثالثة) ٨٥.

(٥) الغدير ج ١٠ ص ٣١.

(٦) مروج الذهب ج ٣ ص ٥٢.

٢٥٦

الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة»؟! (١).

تعظيم بيت الله :

إن الله سبحانه وتعالى قد جعل الكعبة ومكة حرما آمنا. ولكن هل حصل ذلك بدعاء إبراهيم حينما قال : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً)؟! (٢).

وفي آية أخرى : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) (٣).

مع ملاحظة : أن الآية الثانية تشير إلى أن هذا الدعاء قد كان بعد صيرورة مكة بلدا ، وأما الآية الأولى ، فليس فيها دلالة على ذلك ، بل هي تتلاءم مع ما قبل صيرورة مكة بلدا ، ومع ما بعد صيرورتها بلدا.

ولكن ثمة ما يدل : على أن إبراهيم قد دعا بذلك مرتين ، وفي زمانين مختلفين ، كما ربما يظهر من كلام العلامة الطباطبائي وغيره (٤).

إذ ليس ثمة ما يحتم أن يكون إبراهيم يطلب من الله تشريع الأمن لمكة ، وأن يجعلها حرما ، ثم يلتزم الناس بأوامره سبحانه ، لتنشأ عن ذلك حالة الأمن لها .. إذ لعله كان يطلب حصول الأمن الخارجي لذلك البلد والمنع من تعرضها للنكبات على أيدي الجبارين ، وأن يوجد حرمة وهيبة لها في نفوس الناس تردعهم عن التعرض لها بسوء ، إذ لو كان «عليه‌السلام» يطلب أمرا تشريعيا لكان ذلك البلد قبل إبراهيم كسائر البلاد ، مع أن ثمة ما يدل على أنها

__________________

(١) الإستيعاب ج ٢ ص ٤٠٢ وأسد الغابة ج ٣ ص ٣١٨.

(٢) الآية ١٢٦ من سورة البقرة.

(٣) الآية ٣٥ من سورة إبراهيم.

(٤) تفسير الميزان ج ١٢ ص ٦٨ و ٦٩ والتفسير الكبير للرازي ج ٤ ص ٥٥.

٢٥٧

كانت حراما أيضا قبل ذلك ، فقد ورد في خطبة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المتقدمة في فتح مكة : أن الله قد «حرّم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة ، لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي» (١). فراجع.

ويؤيد ذلك ، بل يدل عليه : أن إبراهيم «عليه‌السلام» قد وصف البيت ب «المحرم» بمجرد إسكانه لذريته في تلك البقعة ، فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ..) (٢).

ومن الواضح : أن إبراهيم على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام لم يؤسس البيت ، بل رفع قواعده ، وقد تقدم في الجزء الثاني من هذا الكتاب : أن البيت قد وضع من لدن آدم «عليه‌السلام» وهو البيت العتيق ، وهو أول بيت وضع للناس ، كما دلت عليه الآيات الكريمة.

كلكم لآدم ، وآدم من تراب :

وقد ظهر من خلال تلك الخطبة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعالج أدواء كان يراها رأي العين في الناس ، ويعرف ما لها من آثار سلبية على حياتهم ، وعلى علاقاتهم ، وطريقة تعاملهم مع بعضهم ، وعلى روحياتهم .. ومن ذلك ظاهرة الطبقية والتمييز على أسس قبائلية ، وعرقية ، وغير ذلك ..

فذكّرهم بأصلهم الأصيل ، الذي يعطي الدليل الصريح والصحيح على عدم وجود تميز بين الناس فالأصل هو آدم ، وأصل آدم هو التراب.

__________________

(١) راجع نص خطبة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في مكة في المصادر المختلفة المتقدمة.

(٢) الآية ٣٧ من سورة إبراهيم.

٢٥٨

فإن حصل تميز من أي نوع ، فلا بد أن يكون بأمور عارضة اختارها الإنسان وصنعها ، وأما القبائل والشعوب ، فلم يكن لأحد في صيرورتها كذلك أي اختيار ، بل هي فعل إلهي ، فما معنى : أن يدّعي الناس لأنفسهم امتيازات استنادا إلى أمر لم يختاروه ، ولا بذلوا أي جهد في سبيل الحصول عليه؟!

ولذلك يلاحظ : أنه بعد أن قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : كلكم لآدم وآدم من تراب ثنّى بذكر الآية الكريمة ، التي تقول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (١). فقد صرح بأن الإختلاف في الشعوب والقبائل هو من صنع الله تعالى ، موضحا : أنه سبحانه إنما جعل فيهم هذه الخصوصيات من أجل أن يستفيد بعضهم من بعض ، ويكتسبوا من هذا التنوع معرفة إلى معارفهم .. ويكون ذلك سببا في إنشاء العلاقات ، وإقرار الروابط المفيدة ، والرشيدة .. ولم يجعل ذلك سببا للتفاخر والتعالي ، والإنفصال والتباعد.

ثم بيّن أن التفاضل إنما هو بتقوى الله تبارك وتعالى حين قال سبحانه : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ).

السلاح في مكة في عام الفيل ويوم الفتح :

وقد ورد في كلام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما يلي : «إن الله تعالى حبس الفيل ، وسلط عليهم (أو عليها) ، رسوله والمؤمنين ..» (٢).

__________________

(١) الآية ١٣ من سورة الحجرات.

(٢) راجع : المحلى لابن حزم ج ١٠ ص ٤٩٧ وصحيح ابن حبان ج ٩ ص ٢٨ والتنبيه والإشراف للمسعودي ص ٢٣٢.

٢٥٩

وقد تقدمت في غزوة الحديبية بعض الإشارات إلى بعض ما تضمنته قصة حبس الفيل من دلالات وعبر فراجع ما ذكرناه هناك ، حين التعرض لقوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن ناقته : «حبسها حابس الفيل».

غير أننا نشير هنا : إلى أن ما ورد في هذه الخطبة ، حول نفس هذا الأمر ، قد أريد به لفت النظر إلى أمر مهم ، وهو :

أن دخوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكة بالسلاح ، وبدون إحرام ، وعلى هيئة القتال ، ليس على حد دخول أبرهة الذي جاء للعدوان على بيت الله ، وهتك حرمة الحرم ، إذ ليس كل دخول لمكة بالسلاح هتك لحرمتها ، أو مناف لما يدعوهم الله إليه من تعظيمها ، إذ لو كان كذلك لتدخل الله تبارك وتعالى لمنعه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من ذلك ، كما تدخل لمنع أبرهة وجيشه منه ، حيث حبس الفيل عن مكة ، ليكون آية للمعتدين ، وعبرة للمعتبرين ، فلما اصروا على هتك حرمتها ، ولم يعودوا إلى الله ، ولم يتوبوا إليه ، أرسل عليهم (طَيْراً أَبابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ).

وذلك يدل وشواهد كثيرة أخرى على : أن دخول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» والمسلمين كان دخول تعظيم للحرم ودفاع عن مكة والكعبة. وليس دخول إهانة أو استهانة ..

وحمل السلاح إنما هو من أجل رفع الحيف عن مكة وعن البيت ، وإبعاد مظاهر الشرك ، الذي هو أعظم مظاهر الإهانة ، وتطهيرها من الظلم والعدوان ، وإخراجها من أيدي العتاة والمستكبرين.

والخلاصة : أن تسليط المسلمين على مكة ، إنما هو لإعزازها ، وإعزاز الكعبة ، ولإحقاق الحق ، وإبطال الباطل ، واقتلاع الشرك والوثنية ، وإعلاء

٢٦٠