الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-194-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٤٠

فأتى به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلما وقف به على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : غيروه ، ولا تقربوه سوادا (١).

وروى مسلم عن جابر نحوه ، لكنه لم يذكر من الذي جاء بأبي قحافة (٢).

قال ابن وهب : وأخبرني عمر بن محمد ، عن زيد بن أسلم : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هنأ أبا بكر بإسلام أبيه (٣).

وعن أنس قال : كأني أنظر إلى لحية أبي قحافة كأنه ضرام عرفج (٤) من شدة حمرته ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه» ـ تكرمة لأبي بكر ـ (٥).

وعن أنس أيضا قال : جاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يديه ، فقال لأبي بكر : «لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه» ـ تكرمة لأبي بكر ـ.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣٣ ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٩٦ والمستدرك على الصحيحين ج ٣ ص ٢٤٤ وتلخيص المستدرك للذهبي (مطبوع معه) نفس الجزء والصفحة. ومسند أحمد ج ٦ ص ٣٤٩ والرياض النضرة ج ١ ص ٦٥ و ٦٦.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣٣ عن مسلم ، وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٨ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٩٥.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣٣ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٢٤٤ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٨.

(٤) العرفج : شجر صغير سريع الإشتعال بالنار. وهو نبات الصيف.

(٥) المستدرك على الصحيحين ج ٣ ص ٢٤٥ وتلخيص المستدرك للذهبي بهامشه.

١٦١

فأسلم ورأسه ولحيته كالثغامة ، فقال : غيروهما.

قال قتادة : هو أول مخضوب في الإسلام (١).

والثغامة : نبت أبيض الثمر والزهر ، يشبه بياض الشيب.

وفي نص آخر : غيروا السواد ، ولا تتشبهوا باليهود والنصارى.

وفي رواية : اليهود والنصارى لا يصبغون ، فخالفوهم (٢).

وعند ذلك قال أبو بكر للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : والذي بعثك بالحق لإسلام أبي طالب أقر لعيني من إسلامه ، وذلك أن إسلام أبي قحافة كان أقر لعينك (٣).

عن محمد بن عمر بن سالم ، بن الجعابي ، عن أبي شعيب عبد الله بن الحسن الحراني ، عن جده أحمد بن أبي شعيب ، عن محمد بن سلمة ، عن هشام بن حسان ، عن ابن سيرين ، عن أنس : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لأبي بكر : لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه.

وروى الحاكم أيضا : عن القاسم بن محمد ، عن أبيه ، عن أبي بكر : أنه

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٢٣ عن أحمد ، وابن حبان.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٨ وفيه أحاديث أخرى عن الخضاب.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٨ وراجع : الإصابة ج ٤ ص ١١٦ و ١١٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٦٩ وحياة الصحابة ج ٢ ص ٣٤٤ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٧٤ عن الطبراني ، والبزار ، ومسند أحمد ج ١ ص ١٣١ وعن المصنف لابن أبي شيبة ج ٤ ص ١٤٢ و ٩٥ ونصب الراية ج ٦ ص ٢٨١ و ٢٨٢ والمصنف للصنعاني ج ٦ ص ٣٩ والحاكم وصححه على شرط الشيخين ، وعن أبي يعلى ، وأبي بشر سفويه في فوائده ، وعمر بن شبّة.

١٦٢

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال له : هلا تركت الشيخ حتى آتيه.

فقلت : بل هو أحق أن يأتيك.

فقال : إنا لنحفظه لأيادي ابنه عندنا (١).

ونقول :

إن لنا مع ما تقدم وقفات هي :

الحديثان الأخيران :

إننا نبدأ بالحديثين الأخيرين ، حيث نلاحظ ما يلي :

أولا : قال الذهبي معقبا على رواية أبي بكر : «القاسم لم يدرك أباه ، ولا أبوه أبا بكر» (٢).

وهذا صحيح ، فإن محمدا ولد عام حجة الوداع سنة عشر من الهجرة ، وتوفي أبوه في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة.

كما أن محمد بن أبي بكر توفي سنة ٣٨ ه‍ ، وتوفي ولده القاسم سنة ١٠٨ ه‍ أو ١٠٩ ه‍ (٣) وهو ابن سبعين سنة ، أو اثنتين وسبعين ، فيكون قد ولد سنة وفاة أبيه ، أو نحوها.

وقال ابن سعد : إن القاسم قد توفي سنة ١١٢ ه‍ وعمره سبعون سنة ،

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين ج ٣ ص ٢٤٤ وتلخيص المستدرك للذهبي بهامش نفس الجزء والصفحة ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٥٠ عن البزار.

(٢) تلخيص المستدرك ج ٣ ص ٢٤٤.

(٣) صفة الصفوة ج ٢ ص ٩٠.

١٦٣

فيكون عمره حين وفاة والده حوالي أربع سنين (١).

ثانيا : إن الجعابي لا يمكن أن يروي عن أبي شعيب ، لأن الجعابي ولد سنة ٢٨٥ ه‍ وتوفي أبو شعيب سنة ٢٩٢ ه‍.

والغريب في الأمر هنا : سكوت الذهبي عن هذا الحديث ، بل هو قد وافق الحاكم على تصحيحه ، لكن الحاكم قال : إنه صحيح على شرط الشيخين.

أما الذهبي فصححه على شرط البخاري (٢).

ثالثا : بالنسبة لأيادي أبي بكر عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نقول :

قد تقدم بعض الحديث عن ذلك ، حين الكلام حول هجرة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وعن شرائه الراحلتين من أبي بكر بالثمن ، فراجع فصل : هجرة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

رابعا : إن من المعيب جدا أن يزعم هؤلاء : أن آية : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) (٣) قد نزلت في أبي بكر (٤). ثم يقولون : إنه قد كانت لأبي بكر أياد عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يستطع أن يجازيه عليها.

__________________

(١) الطبقات الكبرى ج ٥ ص ٧٤.

(٢) راجع : المستدرك للحاكم وتلخيصه للذهبي ج ٣ ص ٢٤٤.

(٣) الآية ١٩ من سورة الليل.

(٤) راجع : الدر المنثور ج ٦ ص ٣٥٨ ـ ٣٦٠ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٢٩٩ والعثمانية ص ٣٥ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ٢٧٣.

١٦٤

أبو بكر يريد طوق أخته :

وأما ما ذكرته الرواية : من أن أبا بكر طلب من الناس أن يرجعوا لأخته طوقها .. وأنه ناشدهم الله ثلاثا ، فلم يجبه أحد ، ثم قال : إن الأمانة في الناس اليوم قليل .. ففيه أكثر من مورد يحتاج إلى بحث.

فأولا : إن أموال المشركين ليست من قبيل الأمانات عند المسلمين ، بحيث يجب عليهم ردّها لأصحابها ، بل هي غنائم إن أخذت من محارب منهم. وإن أخذت من قبل أن يعلموا بمقتضى الأمان الذي أعطاهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إياه ، أي قبل دخولهم في البيوت وإغلاق الأبواب ، وقيل : دخول المسجد ، أو دار أبي سفيان ، أو اللجوء إلى راية أبي رويحة.

وأقصى ما يمكن أن يقال : هو أن أمرها في كيفية تقسيمها ، وفي إرجاعها إلى أصحابها ، إن اقتضت المصلحة ذلك ، أو تسويغها لآخذيها .. يرجع إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا يحق لأبي بكر ولا لغيره أن يطالب من أخذها بها ..

ثانيا : هل يمكن أن يرضى القائلون بعدالة الصحابة باتهام أبي بكر لأحد أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالخيانة ، أو بقلة الأمانة؟!

ثالثا : من أين حصل أبو قحافة على الورق (أي الفضة) ، ليصنع منه طوقا لابنته ، وهو رجل فقير لا مال له؟! ومن أين يكون له المال ، وهو إنما كان صيادا ثم صار ينش الذباب عن مائدة ابن جدعان بشبع بطنه ، وستر عورته (١).

__________________

(١) تلخيص الشافي ج ٣ ص ٢٣٨ ، ودلائل الصدق ج ٢ ص ١٣٠ ، والإفصاح ص ١٣٥ وراجع الغدير ج ٨ ص ٥١.

١٦٥

ولم نسمع أن حاله قد تغير إلى الأفضل ، وبماذا وكيف؟!

وحتى لو كان يملك أموالا ، فهل يمكن أن يلبس ابنته الصغيرة طوق فضة ، ثم يتركها تتجول في أزقة مكة ، ولا يسلبها سالب من كل أولئك الناس المعدمين الذين كانت مكة تعج بهم؟! مع العلم بأنه لم يكن لأبي قحافة قبيلة تمنعه ، ولم يكن قادرا على ملاحقة المعتدي بسبب عماه.

رابعا : إنه لم يثبت وجود بنت صغيرة لأبي قحافة في فتح مكة ، بل لا يعرف لأبي قحافة بنت إلا أم فروة ، التي كانت تحت تميم الداري ، ثم أنكحها أبو بكر الأشعث بن قيس.

وقد زعم الحلبي الشافعي : أن أم فروة هي صاحبة الطوق المأخوذ في فتح مكة (١) ، ثم احتمل أن يكون المقصود : بنتا أخرى اسمها عريبة ، زعموا أنها كانت لأبي قحافة (٢).

أربعة أسلمواهم وآباؤهم :

وقال بعضهم : لم يكن أحد من الصحابة ، المهاجرين والأنصار ، أسلم هو ووالده ، وجميع أبنائه وبناته غير أبي بكر (٣).

وقال بعضهم : «لا يعرف في الصحابة أربعة أسلموا ، وصحبوا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكل واحد أبو الذي بعده إلا في بيت أبي بكر : أبو قحافة ، وابنه أبو بكر ، وابنه عبد الرحمن ، وابن عبد الرحمن محمد ، ويكنّى

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٩.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٩.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٩.

١٦٦

بأبي عتيق» (١).

وفي نص آخر : أربعة رأوا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، كلهم ابن الذي قبله ، وهم من الذكور الذين أسلموا (٢).

ونقول :

إن هذا الكلام غير دقيق ، فهناك : «حارثة أبو زيد ، فإنه أسلم ـ كما ذكره الحافظ المنذري ـ ورأى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وابنه زيد ، وابنه أسامة ، وجاء أسامة بولد في حياته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (أي يحتاج إلى إثبات كونه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رأى ذلك المولود).

إلا أن يقال : كان من شأنهم إذا ولد لأحدهم مولود جاء به إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فيحنكه ، ويسميه» (٣).

وكذلك الحال بالنسبة لأياس بن عمرو ، بن سلمة ، بن لال.

وزعم الحلبي : أنه لا اتفاق على صحبة هؤلاء (٤). فراجع.

إسلام أبوي أبي بكر :

عن عائشة قالت : ما أسلم أبو أحد من المهاجرين إلا أبو أبي بكر (٥).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٩.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

(٤) المصدر السابق.

(٥) تاريخ الخلفاء ص ١٠٠ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٤ وتاريخ الإسلام للذهبي (عهد الخلفاء الراشدين) ص ١٠٦.

١٦٧

وعن علي «عليه‌السلام» : أنه قال في أبي بكر : أسلم أبواه جميعا ، ولم يجتمع لأحد من الصحابة المهاجرين أن أسلم أبواه غيره (١).

ونقول :

أولا : قال مسدد : لم يكن في المهاجرين من أبواه مسلمان غير عمار بن ياسر (٢).

ثانيا : ذكر التاريخ لنا عشرات من المهاجرين أسلم آباؤهم أيضا ..

ويكفي أن نذكر :

١ ـ عمار بن ياسر ، فإنه أسلم هو وأبوه ياسر ، وأمه سمية ..

٢ ـ عبد الله بن عمرو وأمه زينب بنت مظعون ، أسلم هو وأبواه.

٣ ـ علي «عليه‌السلام» ، فإنه كان مسلما هو وأبوه أبو طالب ، وأمه فاطمة بنت أسد.

٤ ـ عبد الله بن الزبير ، وأمه أسماء بنت أبي بكر ..

٥ ـ سلمة بن أبي سلمة بن عبد الأسد ، وأمه أم سلمة ..

إلى عشرات آخرين ، ذكرهم العلامة الأميني في كتاب الغدير ، فيمكن الرجوع إليه.

آيات في بر أبي بكر بأبويه :

روي عن علي «عليه‌السلام» وعن ابن عباس «رحمه‌الله» أن قوله تعالى :

__________________

(١) الرياض النضرة ج ١ ص ٦٨ والجامع لأحكام القرآن ج ١٦ ص ١٩٤ وعن الواحدي ، ونور الأبصار.

(٢) تهذيب التهذيب ج ٧ ص ٣٥٧.

١٦٨

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (١). قد نزل في أبي بكر.

فقد كان حمله وفصاله ثلاثين شهرا ، حملته أمه تسعة أشهر ، وأرضعته واحدا وعشرين شهرا ، أسلم أبواه جميعا ، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره ، فأوصاه الله تعالى بهما ، ولزم ذلك من بعده.

فلما نبئ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو ابن أربعين سنة ، صدّق أبو بكر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ، فلما بلغ أربعين سنة قال : «ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك الّتي أنعمت عليّ وعلى والديّ» واستجاب الله له ، فأسلم ووالداه وأولاده كلهم (٢).

ونقول :

إن للعلامة الأميني ملاحظات على هذا الحديث المزعوم نشير إليها وإلى غيرها في ضمن النقاط التالية :

أولا : إن كون أم أبي بكر أرضعته واحدا وعشرين شهرا ، وحملت به

__________________

(١) الآية ١٥ من سورة الأحقاف.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ج ١٦ ص ١٩٣ و ١٩٤ والكشاف ج ٤ ص ٣٠٣ وفتح القدير ج ٥ ص ٢٠ والرياض النضرة ج ١ ص ٦٨ وتفسير الخازن ج ٤ ص ١٣٢ وتفسير النسفي (مطبوع بهامش الخازن) ج ٤ ص ١٣٢ وعن مرقاة الوصول ص ١٢١ والدر المنثور ج ٦ ص ٤٠ و ٤١ عن ابن عساكر ، وعن ابن مردويه.

١٦٩

تسعة أشهر .. لا يختص بأبي بكر ، فإن سائر الناس تحمل أمهاتهم بهم تسعة أشهر ، ولعل كثيرات منهن يرضعن أبناءهن واحدا وعشرين شهرا ، فلا خصوصية تستحق التنويه بهذا الأمر ، ولذلك نقول :

إن الأقرب في معنى الآية هو : الإخبار عن أمر له آثار تشريعية ، ومن حيث هو خصوصيته في التكوين ، وهو ما أشار إليه أمير المؤمنين «عليه‌السلام» : من أن ضم هذه الآية إلى قوله تعالى : (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) (١).

أو قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (٢). ينتج : أن أقل مدة الحمل ستة أشهر (٣).

ثانيا : إن أبا بكر أسلم في سنة سبع من البعثة ، أي بعد أن تجاوز سن الأربعين بعدة سنوات ، حسبما قدمناه في تاريخ إسلامه .. وأما أبوه فلم

__________________

(١) الآية ١٤ من سورة لقمان.

(٢) الآية ٢٣٣ من سورة البقرة.

(٣) راجع : تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ٤ ص ١٥٧ وتيسير الوصول ج ٢ ص ٩ و ١١ والموطأ ج ٢ ص ١٧٦ وعمدة القاري ج ٢١ ص ١٨ والبرهان ج ١٤ ص ١٧٤. وراجع : المصنف للصنعاني ج ٧ ص ٣٥٠ و ٣٥٢ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٧ ص ٤٤٢ وتذكرة الخواص ص ١٤٨ والدر المنثور ج ١ ص ٢٨٨ وج ٦ ص ٤٠ والمناقب للخوارزمي ص ٩٤ ومختصر جامع بيان العلم ص ٢٦٥ والرياض النضرة ج ٣ ص ١٤٢ وكفاية الطالب ص ٢٢٦ وتفسير النيسابوري ج ٦ ص ١٢٠ وذخائر العقبى ص ٨٢ والتفسير الكبير للرازي ج ٢٨ ص ١٥ والأربعين للرازي ص ٤٦٦ وكنز العمال ج ٥ ص ٤٥٧ وج ٦ ص ٢٠٥ وعن ابن أبي حاتم ، والعقيلي ، وابن السمان ، وعبد بن حميد ، وجامع بيان العلم ص ٣١١.

١٧٠

يسلم إلا بعد سنة الفتح .. أي بعد أكثر من عشرين سنة من البعثة النبوية الشريفة. وحيث كان لأبي بكر ـ كما يقال ـ ست وخمسون سنة أو أكثر ..

وأما أمه فأسلمت بعد البعثة أيضا بسنوات ، فما معنى قولهم : إنه حين بلغ أبو بكر أربعين سنة قال : «ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك الّتي أنعمت عليّ وعلى والديّ»؟!. مع أنه قد أسلم هو وأبواه بعد هذا السن بسنوات عديدة.!!

وما معنى قولهم : إن الله تعالى قد استجاب لأبي بكر ، فأسلم والداه ، وأولاده كلهم؟!

ثالثا : قد تقدم عدم صحة ما صرحت به الرواية : من أنه لم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غير أبي بكر ..

ونضيف إلى ما تقدم أيضا ما يلي :

١ ـ ما معنى قولهم : «فأوصاه الله بهما ، ولزم ذلك من بعده»؟! فهل لم تكن الوصية بالوالدين موجودة قبل ذلك التاريخ؟! ..

٢ ـ قالت عائشة ردا منها على مروان : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن غير أنه أنزل عذري (١).

فإن قيل : هي تقصد : أنه لم ينزل الله في ذمهم شيئا من القرآن ..

فالجواب : إن عذرها الذي استثنته يراد به آيات حديث الإفك ، وإنما

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ٤١ عن البخاري ، وصحيح البخاري (ط ١٣٠٩ ه‍) ج ٣ ص ١٢١ وتفسير القرآن العظيم ج ٤ ص ١٥٩ وفتح القدير ج ٤ ص ٢١ وراجع : الغدير ج ٨ ص ٢٤٧.

١٧١

يقصد بها : التبرئة والمدح والثناء على من نزلت فيه لا الذم له ..

٣ ـ هناك نصوص كثيرة تقول : إن هذه الآية قد نزلت في الإمام الحسين «عليه‌السلام» ، وقد ولد لستة أشهر (١). فراجع.

أبو بكر يضرب أباه :

روي من طريق ابن جريج : أن أبا قحافة سب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فصكه أبو بكر ابنه صكة ، فسقط منها على وجهه.

ثم أتى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فذكر له ذلك ، فقال : أو فعلته؟! لا تعد له.

فقال : والذي بعثك بالحق نبيا ، لو كان السيف مني قريبا لقتلته ، فنزل قوله تعالى :

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢).

__________________

(١) تفسير البرهان ج ٤ ص ١٧٢ و ١٧٣ و ١٧٤.

(٢) الآية ٢٢ من سورة المجادلة ، وراجع الحديث في : الدر المنثور ج ٦ ص ١٨٦ عن المنذر ، والجامع لأحكام القرآن ج ١٧ ص ٣٠٧ وتفسير الآلوسي ج ٢٨ ص ٣٦ والكشاف ج ٤ ص ٤٩٧ ومرقاة الوصول ص ١٢١.

١٧٢

ونقول :

أولا : روي : أن هذه الآية نزلت في الجرّاح ، الذي كان يتصدى لابنه أبي عبيدة يوم بدر ، فكان أبو عبيدة يحيد عنه ، فلما أكثر قصده أبو عبيدة فقتله (١).

ثانيا : قال سفيان عن هذه الآية : إنها نزلت في من يخالط السلطان (٢).

ثالثا : إن قتل إنسان لا يتوقف على وجود سيف بالقرب منه ، فيمكنه أن يقتله بغير السيف كالخنق ، أو ضرب رأسه على صخرة ، أو بإلقائه من شاهق. كما أن بإمكانه استحضار السيف ، لو كان قاصدا لذلك الفعل.

رابعا : إن ما صدر من أبي بكر لا يتناسب مع ما ادّعاه : من أنه لو كان السيف قريبا منه لقتل أباه ، فإن هذا الحرص على إلحاق الأذى لا يتناسب مع مجرد صكة أوجبت سقوط المصكوك على الأرض.

خامسا : يقول الله تبارك وتعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) (٣). فما معنى أن يقدم أبو بكر على مخالفة هذه الأوامر الإلهية الصارمة؟!

سادسا : إن الآية المذكورة قد نزلت بعد بدر وأحد. وآية : (.. رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦ ص ١٨٦ عن ابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، وأبي نعيم في الحلية ، والبيهقي في سننه ، وابن عساكر.

(٢) الدر المنثور ج ٦ ص ١٨٦ عن ابن مردويه.

(٣) الآية ١٥ من سورة لقمان.

١٧٣

تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (١) قد نزلت في أوائل بعثة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أي قبل أكثر من عشر سنوات (٢).

سابعا : إن سورة المجادلة مدنية ، ولم يأت أبو قحافة إلى المدينة في كل تلك السنوات.

ثامنا : إن ما ذكر في هذه الرواية لا يتناسب مع ما زعموه : من بره بوالديه الذي بلغ إلى حد أن الله تعالى أنزل فيه آيات الثناء ، وهي آيات سورة الأحقاف : (وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ ..).

أسلم تسلم :

ونكاد نلمس قدرا كبيرا من عدم الإنسجام بين ما زعمته الروايات : من أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أظهر استعداده للذهاب إلى منزل أبي قحافة ، الذي كان لا يزال على شركه ، تكرمة لابنه ، ولأيادي ابنه عنده ، وبين قوله لأبي قحافة : «أسلم تسلم» ، المتضمن للتهديد بالعقوبة على ما كان يقترفه من جرائم إذا استمر على شركه ..

أي أن هذه الكلمة تعني : أن الأمان الذي أعلنه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأهل مكة لا يشمل أبا قحافة لو أصر على ما هو عليه ..

وقد يفهم من هذا : أن أبا قحافة كان له دور سيئ في مناهضة هذا الدين ، وفي الكيد للإسلام والمسلمين.

__________________

(١) الآية ١٥ من سورة الأحقاف.

(٢) التفسير الكبير ج ٢٩ ص ٢٧٦ وتفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ٤ ص ٣٣٠.

١٧٤

مفارقات لا علاج لها :

ويلاحظ هنا : وجود العديد من المفارقات في إسلام أبي قحافة.

فرواية تزعم : أن عمر بن الخطاب هو الذي جاء بأبي قحافة إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وأخرى تقول : إن أبا بكر هو الذي جاء بأبيه.

وفي حين نجد رواية تقول : إن أبا بكر لم يعلم بإسلام أبيه حتى بشره به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١)

هناك روايات أخرى تتحدث : عن أن أبا بكر هو الذي جاء بإبيه ، وأسلم أبوه بحضوره.

ورواية تقول : إنه جاء بأبيه يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وأخرى تقول : أخذ بيد أبيه فأتى به.

الأمانة اليوم قليل :

ثم إن قول أبي بكر : «.. فو الله إن الإمانة في الناس اليوم لقليل» لا يخلو عن مجازفة .. خصوصا مع إضافة كلمة «اليوم» التي قد تفهم على أن الأمانة كانت موجودة لدى المشركين ، وأهل الجاهلية ، وقد تناقصت وقلّت بمجيء الإسلام ..

على أن من الواضح : أن خيانة رجل للأمانة لا يعني أن الباقين لا أمانة لهم ..

__________________

(١) المحاسن والمساوئ ج ١ ص ٥٧.

١٧٥

بل ربما كانت الأمانة قليلة ، ثم تنامت وزادت أضعافا كثيرة عما كانت عليه في الجاهلية ، وإن لم تبلغ حد الإستقطاب التام.

فما معنى : أن يحكم أبو بكر ، بل هو يقسم للناس : بأن الأمانة قد قلّت فيهم ، بمجرد أن سالب طوق أخته لم يبادر إلى الإقرار به؟!

يضاف إلى ذلك كله : أنه إذا كان في الذين نفروا مع الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى مكة المسلم وغير المسلم ، ومن هو حديث عهد بالإسلام ، فلا يمكن أن نتوقع منهم الالتزام التام بحدود الشريعة ، وبالأحكام العقلية والأخلاقية ، وما تقضي به الفطرة.

إسلام أبي طالب أقر لعينيه من إسلام أبيه :

وتعود نفس الترنيمة السابقة لتردد من جديد وتؤكد إصرار هؤلاء الناس على نسبة الشرك إلى أبي طالب رضوان الله عليه.

وقد ذكرنا في الفصول المتقدمة في الأجزاء الأولى من هذا الكتاب فصولا أثبتنا فيها إيمان أبي طالب بما لا مجال للريب فيه إلا لمكابر جاحد وشانئ ..

أبو قحافة أول مخضوب في الإسلام :

وقد ذكرت بعض الروايات عن قتادة : أن أبا قحافة أول مخضوب في الإسلام (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٢٣ عن أحمد ، وابن حبان.

١٧٦

ونقول :

١ ـ إن قتادة لم يكن في زمن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لنكتفي بقوله في تحديد الشخص الذي كان أول مخضوب في الإسلام. على اعتبار أنه إنما يتحدث عما عاينه وشاهده.

٢ ـ إننا نكاد نطمئن إلى أن الخضاب قد كان قبل فتح مكة بزمان .. فإنه كان في زمان قلة المسلمين ، وضعفهم ، فأريد من خلال أمر المسلمين به الإيحاء بالقوة للأعداء ، وبعث الرهبة في قلوبهم. وكان المسلمون في فتح مكة أكثر من عشرة الآف مقاتل ، فإن كان ثمة خضاب فهو في عمرة القضاء أو قبلها ..

ويؤيد ذلك : الروايات التالية :

١ ـ ما ورد : من أن الخضاب تفرح به الملائكة ، ويستبشر به المؤمن ، ويغيظ به الكافر (١).

٢ ـ عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال عن الخضاب بالسواد : نور وإسلام ، وإيمان ، ومحبة إلى نسائكم ، ورهبة في قلوب عدوكم (٢).

٣ ـ عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» : الخضاب بالسواد مهابة للعدو ، وأنس للنساء (٣).

__________________

(١) البحار ج ٧٣ ص ٩٧ و ٩٩ عن ثواب الأعمال ص ٢١ والخصال ج ٢ ص ٩٠ ومكارم الأخلاق (ط دار البلاغة) ص ٧٩.

(٢) البحار ج ٧٣ ص ١٠٠ ومكارم الأخلاق (ط دار البلاغة) ص ٧٩.

(٣) البحار ج ٧٣ ص ١٠٠ ومكارم الأخلاق (ط دار البلاغة) ص ٨٠.

١٧٧

٤ ـ عن الإمام السجاد «عليه‌السلام» : أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أصحابه في غزوة غزاها أن يخضبوا بالسواد ، ليقووا به على المشركين (١).

٥ ـ عن أبي الحسن «عليه‌السلام» قال : في الخضاب ثلاث خصال : مهيبة في الحرب ، ومحبة إلى النساء ، ويزيد في الباه (٢).

٦ ـ سئل أمير المؤمنين «عليه‌السلام» عن قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «غيروا الشيب ولا تتشبهوا باليهود» ، فقال :

إنما قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك ، والدين قلّ. وأما الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار (٣).

وواضح : أن الدين كان قبل فتح مكة ، أي في عمرة القضاء والحديبية وقبلهما ، أضعف وأقل منه في فتح مكة ، فالأمر بالخضاب في عمرة القضاء أولى.

__________________

(١) البحار ج ٧٣ ص ١٠٠ و ١٠١ ومكارم الأخلاق (ط دار البلاغة) ص ٨٠.

(٢) البحار ج ٧٣ ص ١٠٢ ومكارم الأخلاق (ط دار البلاغة) ص ٨١.

(٣) نهج البلاغة (بتحقيق عبده) ج ٤ ص ٥ والوسائل (ط أهل البيت) ج ٢ ص ٨٧ والبحار ج ٧٣ ص ١٠٤ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٨ ص ١٢٢ ومكارم الأخلاق.

١٧٨

الفصل السادس :

طواف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتحطيم الأصنام

١٧٩
١٨٠