الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-194-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٤٠

نشير إلى بعض ما يمكن أن يقال حولها ، فنقول :

بلغ عليا «عليه‌السلام» : أن أم هاني بنت أبي طالب آوت ناسا من بني مخزوم ، منهم : الحارث بن هشام ، وقيس بن السائب ، (وعند الواقدي عبد الله بن ربيعة) ، فقصد «عليه‌السلام» نحو دارها مقنّعا بالحديد ، فنادى : «أخرجوا من آويتم».

فجعلوا يذرقون كما تذرق الحبارى ، خوفا منه.

فخرجت إليه أم هانئ ـ وهي لا تعرفه ـ فقالت : يا عبد الله ، أنا أم هانئ ، بنت عمّ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأخت علي بن أبي طالب ، إنصرف عن داري.

فقال أمير المؤمنين «عليه‌السلام» : «أخرجوهم».

فقالت : والله لأشكونّك إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فنزع المغفر عن رأسه ، فعرفته ، فجاءت تشتد حتى التزمته ، وقالت : فديتك ، حلفت لأشكونك إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فقال لها : «إذهبي ، فبري قسمك ، فإنه بأعلى الوادي».

قالت أم هانئ : فجئت إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو في قبة يغتسل ، وفاطمة «عليها‌السلام» تستره ، فلما سمع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كلامي ، قال : «مرحبا بك يا أم هانئ وأهلا».

قلت : بأبي أنت وأمي ، أشكو إليك ما لقيت من علي «عليه‌السلام» اليوم.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «قد أجرت من أجرت».

فقالت فاطمة «عليها‌السلام» : «إنما جئت يا أم هانئ تشتكين عليا

١٤١

«عليه‌السلام» في أنه أخاف أعداء الله وأعداء رسوله»؟!

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «قد شكر الله لعلي «عليه‌السلام» سعيه ، وأجرت من أجارت أم هانئ ، لمكانها من علي بن أبي طالب» (١).

وعند الواقدي : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن حين تكلمت أم هانئ مع فاطمة «عليها‌السلام» ..

ثم جاء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأجار لأم هاني من أجارت ، ثم طلب من فاطمة «عليها‌السلام» أن تسكب له غسلا ، فاغتسل ، ثم صلى ثمان ركعات (٢).

وعن الحارث بن هشام قال : لما دخل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكة ، دخلت أنا وعبد الله بن أبي ربيعة دار أم هانئ ، ثم ذكر : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أجاز جوار أم هانئ.

قال : فانطلقنا ، فأقمنا يومين ، ثم خرجنا إلى منازلنا ، فجلسنا بأفنيتها لا يعرض لنا أحد ، وكنا نخاف عمر بن الخطاب ، فو الله إني لجالس في ملاءة مورّسة (٣) على بابي ما شعرت إلا بعمر بن الخطاب ، فإذا معه عدة من المسلمين ، فسلم ومضى.

وجعلت أستحي أن يراني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأذكر رؤيته

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ١٣١ و ١٣٢ عن إعلام الورى وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٢٩ و ٨٣٠.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٣٠.

(٣) مورسة : مصبوغة بلون أحمر.

١٤٢

إياي في كل موطن مع المشركين ، ثم أذكر بره ورحمته وصلته ، فألقاه وهو داخل المسجد ، فلقيني بالبشر ، فوقف حتى جئته فسلمت عليه ، وشهدت بشهادة الحق ، فقال : الحمد لله الذي هداك ، ما كان مثلك يجهل الإسلام.

قال الحارث : فو الله ما رأيت مثل الإسلام جهل (١).

وعن أم هانئ ـ رضي‌الله‌عنها ـ قالت : لما كان عام يوم الفتح فرّ إليّ رجلان من بني مخزوم فأجرتهما ، قالت : فدخل عليّ عليّ فقال : أقتلهما.

قالت : فلما سمعته يقول ذلك أغلقت عليهما باب بيتي ، ثم أتيت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو بأعلى مكة ، فلما رآني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رحّب وقال : «ما جاء بك يا أم هانئ».

قالت : قلت : يا رسول الله ، كنت أمنت رجلين من أحمائي ، فأراد علي «عليه‌السلام» قتلهما.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «قد أجرنا من أجرت».

ثم قام رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى غسله ، فسترته فاطمة «عليها‌السلام» ، ثم أخذ ثوبا فالتحف به ، ثم صلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثمان ركعات سبحة الضحى (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ١٤٩ و ١٥٠ عن الواقدي والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٣١ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٢.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣١ وفي هامشه عن صحيح مسلم (صلاة المسافرين) (٨٢) وعن أبي داود (٢٧٦٣) وعن مسند أحمد ج ٦ ص ٣٤١ و ٣٤٢ و ٣٤٣ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٧٥ ومستدرك الحاكم ج ٤ ص ٤٥ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٣ وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٣٠ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٤.

١٤٣

لكن في الحلبية وغيرها : فوجدته يغتسل من جفنة فيها أثر العجين ، وفاطمة ابنته تستره بثوب ، فسلمت عليه ، فقال : من هذه؟

إلى أن قال : وفي الرواية الأولى : فلما اغتسل أخذ ثوبه وتوشح به ، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى.

ثم أقبل علي ، فقال : مرحبا يا أم هاني ، ما جاء بك؟.

فأخبرته الحديث.

فقال : «أجرنا من أجرت الخ ..» (١).

وقيل : إن الرجلين هما : الحارث بن هشام ، وزهير بن أمية بن المغيرة (٢).

وعنهما : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اغتسل يوم فتح مكة في بيتها ، وصلى ثمان ركعات ، قالت : لم أره صلى صلاة أخف منها ، غير أنه يتم ركوعها وسجودها (٣).

وأطلقوا على صلاته هذه اسم «صلاة الفتح». وكان الأمراء يصلونها إذا فتحوا بلدا. ولا يفصل بينهما. وتصلى بغير إمام.

قال السهيلي : ولا يجهر فيها بالقراءة (٤).

وسموها أيضا صلاة الضحى ، وصلاة الإشراق ، وقد اختلفوا في

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٣ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٤.

(٢) راجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٤.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣١ و ٢٣٢ عن البخاري ، والبيهقي ، وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٤ عن المواهب اللدنية ، والبخاري.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٦٩.

١٤٤

أمرها بين منكر ومثبت. فراجع (١).

وعن معاوية بن وهب ، قال : لما كان يوم فتح مكة ضربت على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» خيمة سوداء من شعر بالأبطح ، ثم أفاض عليه الماء من جفنة يرى فيها أثر العجين ، ثم تحرى القبلة ضحى ، فركع ثمان ركعات ، لم يركعهما رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل ذلك ولا بعد (٢).

وأما الحديث عن أنها «رحمها الله» قد ذهبت إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو بأعلى مكة ، فوجدته يغتسل وفاطمة «عليها‌السلام» تستره (٣). ويؤيده ما روي عنها : من أن أبا ذر ستره لما اغتسل (٤). فيحمل على أن ذلك قد تكرر منه. ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكة ، وكانت هي في بيت آخر في مكة ، فجاءت إليه فوجدته يغتسل الخ .. (٥).

ونقول :

إننا نعلق على ما تقدم بما يلي :

الأمان .. والجوار :

تقدم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اعلن بالأمان لأهل مكة ، وعين مواضع يلجأ إليها المستأمنون ، مثل : المسجد ، ودار أبي سفيان ، وراية

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٣ فإنه ذكر شطرا من اختلافاتهم في هذا الأمر.

(٢) البحار ج ٢١ ص ١٣٥ عن الكافي ج ١ ص ١٢٥ و ١٢٦.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٦٨ عن مسلم.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٦٨ عن ابن خزيمة

(٥) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٦٨.

١٤٥

أبي رويحة ، وإلقاء السلاح ، ودخول الإنسان داره وإغلاق بابه ، وما إلى ذلك ..

ولكننا نقرأ هنا : أن عليا «عليه‌السلام» يلاحق هذين الرجلين إلى دار أخته أم هاني ليقتلهما.

ونقرأ أيضا : أن أم هاني قد أجارتهما ، ولكن عليا «عليه‌السلام» لم يقتنع منها بذلك ، حتى قبل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه جوارها ..

فالإعلان السابق لا يشير إلى وجود حرب وقتال ، بل هناك أمان وسلام.

وحادثة علي «عليه‌السلام» وأم هانئ تدل على : أن حالة الحرب كانت قائمة ، وأن الحاكم هو أعرافها وقوانينها .. فكيف نوفق بين هاتين الحالتين المتخالفتين؟!

ويمكن أن نجيب بما يلي :

أولا : لماذا لم يلجأ هذان الرجلان إلى أي من تلك المواضع التي حددها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لطالبي الأمان؟!

ألا يدل ذلك : على أنهما كانا في حالة قتالية ، احتاجا إلى الخروج منها إلى جوار أم هاني؟!

ثانيا : إننا نعرف مدى طاعة علي «عليه‌السلام» لأوامر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومدى دقته في تنفيذها مما جرى في خيبر ، حيث قال له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : اذهب ولا تلتفت.

فسار «عليه‌السلام» قليلا ثم وقف ولم يلتفت ، وسأل النبي «صلى الله

١٤٦

عليه وآله» : علام أقاتلهم؟! الخ .. (١).

فملاحقته لهذين الرجلين يدل على : أنهما كانا محاربين ، ويدل على ذلك أيضا ثناء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على علي «عليه‌السلام» : «قد شكر الله سعيه ، وأجرت من أجارت أم هاني لمكانها من علي» (٢).

وعند الحلبي : «قد آمنا من آمنت ، وأجرنا من أجرت ، فلا نقتلهما» (٣).

ثم هو يقول : «فلا نقتلهما». وهو تعبير يشير إلى أن التصميم على قتلهما كان من قبل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه.

من الذين آوتهم أم هاني؟! :

ذكرت بعض الروايات : أن الرجلين اللذين آوتهما أم هاني هما الحارث بن هشام ، وزهير بن أبي أمية.

وبعضها ذكرت : الحارث وعبد الله بن ربيعة.

وذكرت ثالثة : الحارث ، وقيس بن السائب.

__________________

(١) صحيح البخاري (ط محمد علي صبيح بمصر) ج ٥ ص ١٧١ وصحيح مسلم ج ٧ ص ٢١ ومسند أحمد ج ٥ ص ٣٣٣ والخصائص للنسائي ص ٦ وحلية الأولياء ج ١ ص ٦٢ والسنن الكبرى ج ٩ ص ١٠٧ وتذكرة الخواص ص ٢٤ وأسد الغابة ج ٤ ص ٢٨ ومشكاة المصابيح (ط دهلي) ص ٥٦٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ١٨٤ فما بعدها وذخائر العقبى (ط مكتبة القدسي) ص ٧٤ وراجع : الرياض النضرة (ط محمد أمين بمصر) ج ٢ ص ١٨٤ و ١٨٨.

(٢) البحار ج ٢١ ص ١٣١ و ١٣٢ عن إعلام الورى.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٣.

١٤٧

والظاهر : أنها «رحمها الله» آوت الجميع ، وربما كان معهم غيرهم أيضا وذلك لرواية الطبرسي المتقدمة ، التي تقول : «آوت ناسا من بني مخزوم ، منهم الحارث الخ ..».

لقاء علي عليه‌السلام بأم هاني :

واللافت هنا : أن عليا «عليه‌السلام» يأتي إلى دار أخته مقنعا بالحديد ، ولا يعرّف أخته بنفسه في بادئ الأمر ، ولكنه لا يقتحم الدار ، ولعله لأنه لا يريد أن يروع أخته ، بل ينادي من خارج الدار : أخرجوا من آويتم!!

فخرجت إليه أخته ، فلم يبادر إلى تعريفها بنفسه ، بل تركها تعرّف هي بنفسها ، بأنها بنت عم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأخت علي «عليه‌السلام» ، ثم تأمره بالانصراف عن دارها ..

ولكن عليا «عليه‌السلام» لا يزال مصرا على موقفه ، ويعيد النداء : أخرجوهم.

فلم تضعف ، ولم تتراجع ، بل قالت له : والله ، لأشكونك إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وفي هذه اللحظة ينزع علي «عليه‌السلام» المغفرة عن رأسه ، فعرفته أخته ، فجاءته تشتد حتى التزمته.

فنلاحظ : أن عليا «عليه‌السلام» قد أجرى الأمور على طبيعتها ، وفي أية حالة أخرى ، وفي أي بيت أو شخص آخر ، وهو «عليه‌السلام» رغم أنه كان يواجه أخته لم يتراجع عن أداء واجبه الشرعي مراعاة لها ، أو انسياقا مع عاطفته تجاهها ، كما أنه أراد لها أن تبر بقسمها الذي أطلقته.

١٤٨

وهي ترى أنها محقة في إعطائها الأمان لأولئك المشركين فلم يمنعها من ممارسة حقها في الدفاع عنهما ، بل كان هو الذي دلها على مكان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالتحديد ، وطلب منها أن تذهب إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وتشكوه عنده ، ليأتي القرار بالعفو من مصدره الأساس ، وهو رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». وبذلك يسقط التكليف عن أمير المؤمنين بصورة تلقائية ..

خوف الجبناء :

لقد أظهرت بعض الروايات المتقدمة : مدى خوف أولئك الظالمين من سيف عدل علي «عليه‌السلام» ، رغم أن عددهم كان وافرا ، حتى جعلوا يذرقون كما يذرق الحبارى خوفا من رجل واحد ، ولم يجرؤوا على الخروج إلى ساحة المواجهة؟

فبماذا قوي علي «عليه‌السلام» عليهم؟! أليس بإيمانه الراسخ بالله ، واعتزازه وثقته بربه ودينه؟! وعزوفه عن زخارف هذه الدنيا؟! وطلبه لما عند الله الذي هو خير وأبقى؟!

لم تصرح أم هاني بما تطلب :

وفي رواية الطبرسي : أن أم هاني لم تصرح لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بما تشكوه من علي «عليه‌السلام» ، بل هي بمجرد أن ذكرت له : أنها لقيت من علي «عليه‌السلام» أمرا شديدا عليها ، قال لها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «قد أجرت من أجرت».

ألا يشير إلى أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان عارفا بتفاصيل ما يجري ، من

١٤٩

دون حاجة إلى إخبار أحد؟! كما أن فيه إشارة لأم هاني بأن تثق بالغيب ، وتيقن بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يستمد معرفته من الوحي الإلهي ، الذي يسدده ويرعاه ..

موقف الزهراء عليها‌السلام من أم هاني :

ولم تكن الزهراء «عليها‌السلام» بصدد تأنيب أم هاني لشكواها عليا «عليه‌السلام» ، وإنما أرادت أن تطمئن إلى سلامة أهداف أم هاني من هذه الشكوى ، وأنها لم تكن بصدد الدفاع عن أعداء الله ، ولا لأنه أخاف أعداء الله ، بل هي تسعى كما يسعى أخوها علي «عليه‌السلام» إلى دفع شر أولئك الأشرار بأقل قدر ممكن من الخسائر.

وإنما قلنا ذلك : لأننا نعلم أن أم هاني المؤمنة بالله ، والتي تلجأ إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لا يمكن أن تشتكي ناصر رسول الله ومن يخيف أعداءه وأعداء الله.

وقد كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أوضح لها : أن عليا «عليه‌السلام» يسعى إلى رضا الله تعالى ، فكان أن تصرفت بنحو لم يغضب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بل هي قد فعلت ما هو حقها ، والمتوقع منها ..

أم هاني لا تجير على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

والنقطة التي تحتاج إلى بيان هي : أن أم هاني لم تجر أولئك المشركين لتحميهم من قرار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وحكمه فيهم.

بل أجارتهم لتحميهم من سائر المقاتلين حتى يصلوا سالمين إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ثم يكون هو الذي يحكم فيهم بما يرضي الله سبحانه.

١٥٠

والشاهد على ما نقول : شكواها لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه.

ولكنّ أبا سفيان حين ذهب إلى المدينة يطلب تأكيد عهد الحديبية بعد نقضه طلب من الزهراء «عليها‌السلام» أن تجير بين الناس ، لأنه أراد ذلك منها ليحمي به أولئك القتلة للنساء ، والصبيان ، والضعفاء من حكم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيهم.

فهو جوار ضد حكم وقرار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الظالمين والناكثين .. وليس لحمايتهم من الناس إلى أن يصلوا إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليكون هو الحاكم فيهم.

ما مثلك يجهل الإسلام :

وذكروا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال للحارث بن هشام : «ما مثلك يجهل الإسلام».

ويبدو أنهم أرادوا بهذا الكلام التنويه برجاحة عقل الحارث ، وسلامة تفكيره ، وسداد رأيه ، باعتبار ثناء حظي به على لسان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من بين الكثير من أقرانه.

غير أننا نرى : أن هذا الكلام لا يقصد منه الثناء عليه بقدر ما يقصد به تقريعه ، وتأنيبه على اتباعه لأهوائه ، وعلى ضعفه أمام شهواته وانقياده لميوله ورغباته ، وترك ما يحكم به عقله ، وما ترشده إليه فطرته ، وتقوده إليه الدلائل الظاهرة ، والحجج القاهرة ..

١٥١

خوف المشركين من عمر :

وقد تحدث الحارث بن هشام : بأنه بعد أن أجاز النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جوار أم هاني ، خرج أولئك النفر إلى منازلهم ، وجلسوا بأفنيتها ، لا يعرض لهم أحد ، لكنهم كانوا يخافون من عمر .. ثم مر بهم عمر في نفر من المسلمين ، فسلم ومضى ..

ونقول :

إن هذا الثناء التبرعي على عمر قد يفهم هنا على أنه ذم له ، من حيث دلالته على أن عمر يتطفل على الناس ، ويبادر إلى أذيتهم ، حتى مع علمه بأن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أجاز جوار بعض الناس فيهم ، فهو إذن إنسان متهور ، لا يبالي بما يصدر عنه ، ولا يراعي أبسط قواعد التعامل الصحيح والموزون حتى مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. أو أن ذلك كان على الأقل هو الانطباع الشائع فيهم عن عمر بن الخطاب.

رنة إبليس .. وحديث نائلة و.. :

عن ابن عباس قال : لما فتح رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكة رنّ (١) إبليس رنة ، فاجتمعت إليه ذريته ، فقال : إيأسوا أن تردّوا أمة محمد إلى الشرك بعد يومكم هذا ، ولكن أفشوا فيها ـ يعني مكة ـ النوح والشعر (٢).

وقيل : إنه رن ثلاث رنات : رنة حين لعن ، فتغيرت صورته عن صورة

__________________

(١) رنّ : صوّت وصاح.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣٢ عن أبي يعلى ، وأبي نعيم.

١٥٢

الملائكة ، ورنة حين رأى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يصلي قائما بمكة ، ورنة حين افتتح «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكة ، فاجتمعت ذريته فقال : إيأسوا أن تردوا أمة محمد إلى الشرك الخ .. (١).

وعن مكحول : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما دخل مكة تلقته الجن يرمونه بالشرر ، فقال جبريل «عليه‌السلام» : تعوّذ يا محمد بهؤلاء الكلمات :

«أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر ، من شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، ومن شر ما بث في الأرض ، وما يخرج منها ، ومن شر الليل والنهار ، ومن شر كل طارق يطرق إلا بخير ، يا رحمن» (٢).

وعن ابن أبزى قال : لما فتح رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكة جاءت عجوز حبشية شمطاء ، تخمش وجهها ، وتدعو بالويل ، فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «تلك نائلة ، أيست أن تعبد ببلدكم هذا أبدا» (٣).

ونقول :

ألف : أما بالنسبة للحديث عن رنة إبليس ، فقد ورد في ذيله : أن إبليس قال لذريته : إيأسوا من أن تردوا أمة محمد إلى الشرك ، ولكن أفشوا فيها ـ يعني مكة ـ النوح والشعر.

ونحن نشك في صحة ذلك ، إذ ليس في النوح والشعر ما يصلح لأن

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٤١ و ٨٤٢.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣٢ عن ابن أبي شيبة.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣٢ عن البيهقي في دلائل النبوة ج ٥ ص ٧٥ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٤١.

١٥٣

يكون بديلا ـ حسب منطق إبليس لعنه الله ـ عن الشرك بالله ، مهما بالغنا في الحديث عما يوجبه الشعر من الفساد والإفساد ، فلذلك نقول :

إن الصحيح هو ما روي عن الإمام الباقر «عليه‌السلام» : إن إبليس رن أربع رنات : يوم لعن ، ويوم أهبط إلى الأرض ، ويوم بعث النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويوم الغدير (١).

وهذا الحديث هو الأولى بالصحة ، والأقرب إلى الاعتبار ، فإن يوم الغدير قد جعل إبليس ييأس من طمس الحق ، لأن ولاية أمير المؤمنين «عليه‌السلام» هي سبب بقاء هذا الدين ، وبها تمت النعمة على الخلق ، حسبما نصت عليه الآيات الكريمة ، فراجع كتابنا : «الغدير .. والمعارضون» ففيه بعض ما يفيد في هذا الموضوع.

ب : بالنسبة لحديث رمي الجن للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالنار حين دخول مكة ، فنزل جبرئيل وعلّم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يتعوذ بكلمات الله التامات ، نقول :

روي : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان يعوّذ الحسنين ، فيقول : أعيذكما بكلمات الله التامات ، من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة.

وكان إبراهيم يعوذ بها إسماعيل وإسحاق «عليهم‌السلام» (٢).

على أن هذه الرواية إنما رويت عن مكحول ، الذي لم يكن في زمان

__________________

(١) البحار ج ٣٧ ص ١٢١ عن قرب الإسناد ص ٧.

(٢) البحار ج ٤٣ ص ٢٨٢ عن حلية الأولياء ، وسنن ابن ماجة ، والسمعاني في الفضائل.

١٥٤

رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلما ذا لم يروها صحابة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنفسهم؟

فلعلهم كانوا قد شاهدوا ذلك بأنفسهم ، لكي يصفوا لنا الجن ، وأشكالهم ، وسماتهم!! ولنعرف إن كان الشرر قد أصاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أم لم يصبه؟!

وبعد .. فيا ليتهم ذكروا لنا كيف انصرف الجن عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

وهل تصدى أحد من المسلمين لهم حتى أجبرهم على الإنصراف؟! أم أن تلك العوذة التي جاءه بها جبرئيل «عليه‌السلام» هي التي أوجبت انصرافهم؟!

ج : وأما حديث مجيء نائلة في صورة عجوز شمطاء (عريانة) ، فقد ذكروا نفس هذا الحديث بالنسبة للعزى أيضا.

وذكروا : أن خالدا ضربها بسيفه فقطعها نصفين فماتت.

ويذكرون مثل ذلك أيضا : عن مناة ، وأن سعيد بن زيد قتلها أيضا ..

وقد ناقشنا هذه القضية في قصة قتل العزى ، وطرحنا العديد من الأسئلة التي لن تجد لها جوابا مقنعا ومقبولا ..

على أننا نستغرب : أن لا يكون حديث نائلة قد تداولته الرواة ، ونقله لنا العشرات ممن حضروا وشاهدوها ، وهي عارية. وهو أمر لافت للأنظار ، مثير للفضول .. وكان من المناسب أيضا أن يذكروا لنا بعض صفاتها ، وتركيبتها الجسدية ، فإن للجن أحوالا تختلف عن أحوال الإنس لا محالة ..

١٥٥
١٥٦

الفصل الخامس :

ما جرى لأبى قحافة

١٥٧
١٥٨

إسلام أبي قحافة :

عن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت : لما كان عام الفتح ، ونزل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بذي طوى ، قال أبو قحافة لابنة له ـ قال البلاذري : اسمها أسماء ، وقال محمد بن عمر تسمى : قريبة ـ كانت من أصغر ولده : يا بنية ، أشرفي بي على أبي قبيس ـ وقد كف بصره ـ فأشرفت به عليه.

فقال : أي بنية!! ماذا ترين؟

قالت : أرى سوادا مجتمعا كثيرا ، وأرى رجلا يشتد بين ذلك السواد مقبلا ومدبرا.

فقال : ذلك الرجل الوازع (١) ، ثم قال : ما ذا ترين؟

قالت : أرى السواد قد انتشر وتفرق.

فقال : والله إذن انتشرت الخيل ، فاسرعي بي إلى بيتي.

فخرجت سريعا حتى إذا هبطت به الأبطح لقيتها الخيل ، وفي عنقها طوق لها من ورق ، فاقتلعه إنسان من عنقها.

__________________

(١) الوازع : الموكّل بإصلاح الصفوف في الحرب.

١٥٩

فلما دخل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المسجد ، خرج أبو بكر بأبيه يقوده ، وكان رأس أبي قحافة ثغامة (١) ، فلما رآه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه»؟

فقال أبو بكر : يا رسول الله ، هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه.

فأجلسه بين يدي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فمسح رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» صدره ، وقال : أسلم تسلم ، فأسلم.

ثم قام أبو بكر فأخذ بيد أخته ، فقال : أنشدكم بالله والإسلام طوق أختي ، فو الله ما جاء به أحد. ثم قال الثالثة فما جاء به أحد.

فقال : يا أخية ، احتسبي طوقك ، فو الله إن الأمانة في الناس اليوم لقليل (٢).

وقال البلاذري : ورمى بعض المسلمين أبا قحافة فشجه ، وأخذت قلادة أسماء ابنته ، فأدركه أبو بكر وهو يستدمي ، فمسح الدم عن وجهه (٣).

وروى البيهقي بسند جيد قوي ، عن ابن وهب قال : أخبرني ابن جريج ، عن أبي الزبير ، عن جابر : أن عمر بن الخطاب أخذ بيد أبي قحافة ،

__________________

(١) الثغام : شجر أبيض الزهر واحدته : ثغامة. يقال : صار الرأس ثاغما. أي أبيض.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣٢ و ٢٣٣ عن الواقدي ، وأحمد والطبراني ، والبيهقي ، ودلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٩٥ والرياض النضرة ج ١ ص ٦٥ و ٦٦ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٨ و ٨٩ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٢٤ و ٨٢٥ وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٢ و ٩٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٣٠ ص ٢٣ ومسند أحمد ج ٦ ص ٣٤٩.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣٣.

١٦٠