الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-194-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٤٠

العرق واللون ، ليست من الأمور الإختيارية التي يمكن اعتبارها حيثية يصح إناطة التشريعات المرتبطة بالأعمال بها ..

الثاني : إنه لا شك في أن المرتد عن فطرة محكوم بالقتل من الناحية الشرعية ، سواء كان قرشيا أو غير قرشي. وهو إنما يقتل صبرا ، ولم يقل أحد : أن هذه الكلمة قد ألغت هذا الحكم ، مع أنه من موارد القتل على الكفر لمن هو من قريش أيضا.

هذا ما وعدني ربي :

عن عبد الله بن مغفل قال : رأيت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم فتح مكة على ناقته ، وهو يقرأ سورة الفتح ، يرجّع صوته بالقراءة.

قال معاوية بن قرة : لو لا أن يجتمع الناس حولي لرجّعت كما رجّع عبد الله بن مغفل ، يحكي قراءة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

قال شعبة : فقلت لمعاوية : كيف كان ترجيعه؟

قال : ثلاث مرات (١).

وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم الفتح : «هذا ما وعدني ربي» ثم قرأ : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) (٢)» (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣٠ عن البخاري في التفسير ، وفضائل القرآن ، والتوحيد ، والمغازي ، وعن مسلم في الصلاة ، والنسائي ، والحاكم ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٩٧.

(٢) الآية ١ من سورة النصر.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣٠ عن الطبراني.

١٢١

قالوا : ونزل يوم فتح مكة : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) (١).

فارتجت مكة من قول أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً» (٢).

ونقول :

١ ـ قد تحدثنا عن بعض ما يرتبط بقراءته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سورة الفتح عن قريب ، فلا ضرورة للإعادة ، فنحن نكتفي بما ذكرناه هناك ..

٢ ـ بالنسبة إلى ما ادّعوه في ترجيعه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في قراءة السورة المذكورة نقول :

إنه لا شك في أنه ترجيع لا يصل إلى حد ما نراه من ترجيع غنائي يقوم به القراء في زماننا ، وقد وصف ابن قتيبة لنا قراءة بعض قراء زمانه ، وإذ بها تشبه ما نراه في هذا الزمان.

فقد قال في معرض حديثه عن حمزة بن حبيب الزيات ، وهو أحد القراء السبعة :

«.. هذا إلى نبذه في قراءته مذاهب العرب ، وأهل الحجاز لإفراطه في المد ، والهمز والإشباع ، وإفحاشه في الإضجاع والإدغام. وحمله المتعلمين على المركب الصعب ، وتعسيره على الأمة ما يسر الله.

وقد شغف بقراءته عوام الناس وسوقهم ، وليس ذلك إلا لما يرونه من

__________________

(١) الآية ٨١ من سورة الإسراء.

(٢) البحار ج ٢١ ص ١١٤ عن تفسير القمي.

١٢٢

مشقتها ، وصعوبتها ..

إلى أن قال : ورأوه عند قراءته مائل الشدقين ، دارّ الوريدين ، راشح الجبينين ، توهموا : أن ذلك لفضيلة في القراءة ، وحذق فيها.

وليس هكذا كانت قراءة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا خيار السلف ، ولا التابعين ، ولا القراء العالمين ، بل كانت قراءتهم سهلة رسلة» (١).

وقد تحدثنا في موضع آخر عن موضوع التغني بالقرآن ، وأن ذلك ليس فقط لم يثبت عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بل النصوص تثبت خلافه ..

٣ ـ إن الآيات القرآنية التي نزلت ، والتي رددها المسلمون حتى ارتجت مكة ، تبين : أن المعيار عند صاحب هذا الفتح هو انتصار الحق على الباطل ، وليس المهم فتح البلاد ، وامتلاك أزمّة الأمر والنهي في العباد ، ولا أي شيء آخر من أمور الدنيا .. إلا إذا كان يقوي هذا الحق ويحميه ، ويزهق الباطل ويضعفه ، ويبطل أي حركة فيه ..

__________________

(١) تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص ٥٨ ـ ٦٣.

١٢٣
١٢٤

الفصل الرابع :

منزل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وجوار أم هاني

١٢٥
١٢٦

أين نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في مكة؟! :

روي عن ابن عباس أنه قال : دخل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكة يوم الإثنين (١).

وعن أبي جعفر قال : كان أبو رافع قد ضرب لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبة بالحجون (أي عند شعب أبي طالب) من أدم ، فأقبل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى انتهى إلى القبة ، ومعه أم سلمة ، وميمونة زوجتاه (٢).

وعن أسامة بن زيد أنه قال : يا رسول الله! أنّى تنزل غدا؟ تنزل في دارك؟

قال : «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دار»؟

وكان عقيل ورث أبا طالب هو وأخوه طالب ، ولم يرثه جعفر ولا

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٥.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣٠ عن الواقدي ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٥ وراجع : مجمع البيان ج ١٠ ص ٥٥٦ والبحار ج ٢١ ص ١٠٥ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٢٩.

١٢٧

علي ، لأنهما كانا مسلمين ، وكان عقيل وطالب كافرين ، أسلم عقيل بعد (١).

وعن أبي هريرة : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «منزلنا إن شاء الله تعالى ـ إذا فتح الله ـ بخيف بني كنانة ، حيث تقاسموا على الكفر».

يعني بذلك : المحصب.

وذلك أن قريشا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

وعن أبي رافع قال : قيل للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ألا تنزل منزلك من الشعب؟

فقال : «وهل ترك لنا عقيل منزلا»؟

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣٠ و ٢٣١ وقال في هامشه : أخرجه البخاري ٣ / ٥٢٦ في الحج (١٥٨٨) (٣٠٥٨ ، ٤٢٨٢ ، ٦٧٦٤) ، ومسلم في الحج (٤٣٩ ، ٤٤٠) وأبو داود حديث (٢٠١٠) وفي الفرائض باب (١٠) وابن ماجة (٢٧٣٠) والطحاوي في معاني الآثار ٤ / ٤٩ ، وأحمد ٥ / ٢٠٢ والدار قطني ٣ / ٦٢.

وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ق ١ ص ٧٩ والمصنف للصنعاني ج ٦ ص ١٥ وج ١٠ ص ٣٤٤.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣١ عن البخاري وأحمد ، وقال في هامشه : أخرجه البخاري (٤٢٨٤) (١٥٨٩) ، ومسلم في الحج (٣٥٥) والبيهقي في الدلائل ٥ / ٩٣ وأحمد ٢ / ٢٦٣ ، ٣٢٢ ، ٣٥٣ ، والطبراني في الكبير ١١ / ٦٢ وانظر مجمع الزوائد ٣ / ٢٥٠.

وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٥.

١٢٨

وكان عقيل قد باع منزل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكة ، فقيل لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : فانزل في بعض بيوت مكة غير منازلك.

فأبى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وقال : «لا أدخل البيوت».

ولم يزل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مضطربا بالحجون لم يدخل بيتا ، وكان يأتي المسجد لكل صلاة من الحجون (١).

وعن عطاء : لما هاجر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى المدينة لم يدخل بيوت مكة ، فاضطرب بالأبطح ، في عمرة القضية ، وعام الفتح ، وفي حجته (٢).

هذا منزلنا يا جابر :

عن جابر ـ رضي‌الله‌عنه ـ قال : كنت ممن لزم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فدخلت معه يوم الفتح ، فلما أشرف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أذاخر ، ورأى بيوت مكة ، وقف عليها ، فحمد الله وأثنى عليه ، ونظر إلى موضع قبته ، فقال :

«هذا منزلنا يا جابر ، حيث تقاسمت قريش علينا في كفرها».

قال جابر : فذكرت حديثا كنت سمعته منه قبل ذلك بالمدينة : «منزلنا إذا فتح الله علينا مكة في خيف بني كنانة ، حيث تقاسموا على الكفر».

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣١ عن الواقدي والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٥ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٢٩.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٢٩.

١٢٩

وكنا بالأبطح ، وجاه شعب أبي طالب ، حيث حصر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبنو هاشم ثلاث سنين (١).

ونقول :

إننا هنا نشير إلى الأمور التالية :

الحكمة في اختيار موضع النزول :

قال الصالحي الشامي :

«الحكمة في نزول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بخيف بني كنانة ، الذي تقاسموا فيه على الشرك ، أي تحالفوا فيه على إخراج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبني هاشم إلى شعب أبي طالب ، وحصروا بني هاشم وبني المطلب فيه ، كما تقدم ذلك في أبواب البعثة ، ليتذكر ما كان فيه من الشدة ، فيشكر الله تعالى على ما أنعم عليه من الفتح العظيم ، وتمكنه من دخول مكة ظاهرا على رغم من سعى في إخراجه منها ، ومبالغة في الصفح عن الذين أساؤوا ، ومقابلتهم بالمن والإحسان ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» (٢).

غير أننا نقول :

إن الأمر لا يقتصر على ما ذكر آنفا ، فهناك أمور أخرى نشير إليها في الفقرات التالية :

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣٠ عن الواقدي ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٣ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٥ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٢٨.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٦٧.

١٣٠

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يصل الماضي بالحاضر :

قد عرفنا فيما سبق : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد نزل في نفس الموقع الذي حصره فيه أهل الكفر هو وسائر بني هاشم ، حينما تظاهروا عليه وعليهم بالإثم والعدوان ، وقد مكثوا فيه حوالي ثلاث سنوات يقاسمون الآلام ، ولا يقدرون على الاتصال بأحد من الناس ، إلا خفية ، وقد منع الناس من إقامة أية صلة بهم ، حتى صلة البيع والشراء لأبسط الأشياء ، فضلا عن منعهم الناس من مجالستهم ، ومن التزوج منهم ، والتزويج إليهم ، وما إلى ذلك.

وها هو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد عاد إلى مكة ، ومعه أكثر من عشرة آلاف مقاتل .. وأصبح محاصروه بالأمس هم أسراه ، وطبيعي أن يتوقعوا محاصرتهم من قبله ، جزاء لهم على ما كسبت أيديهم.

نعم ، لقد أصبح من لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منه ، أو يقيم معه أية صلة ولو عابرة ، موضع الحفاوة والتكريم ، والتبجيل والتعظيم ، ويتلهف الناس للاقتراب منه ، والتماس البركة به ، وبكل شيء ينسب إليه ، ويتمنون أن تشملهم منه نظرة أو لفتة ، حتى لو كانت عابرة ..

بل إن أعداءه بالأمس ، الذين تشهد تلك الشعاب التي نزل فيها على شدة ظلمهم له ، وبغيهم عليه ، يتوافدون إليه في نفس المكان الذي اضطهدوه فيه بالأمس ، لتقديم فروض الولاء ، والتفنن فيما يزجونه إليه من مدح وثناء. فيتذكرون ما ارتكبوه في حقه ، وفي حق الشيوخ والأطفال والنساء من صحبه وأهله ، فهل يخجلون من أنفسهم؟! أو هل يندمون؟! وهل يتوبون إلى الله ويستغفرون؟!

١٣١

وهل يفيدهم ذلك في إعادة النظر والمقارنة بين ما كانوا عليه ، وما آلت أمورهم إليه؟! فيضعون الأمور في نصابها ، ويتأكد لديهم أن الله هو الراعي ، والحامي ، والمدبر لنبيه ، والمعين والناصر لعباده وأوليائه ..

أين نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! :

وقال الصالحي الشامي أيضا :

«لا مخالفة بين حديث نزوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالمحصب ، وبين حديث أم هانئ : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نزل في بيت أم هانئ. لأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يقم في بيت أم هانئ ، وإنما نزل به حتى اغتسل وصلى ، ثم رجع إلى حيث ضربت خيمته عند شعب أبي طالب. وهو المكان الذي حصرت فيه قريش المسلمين قبل الهجرة كما تقدم» (١).

إرث عقيل لأبي طالب دون علي وجعفر :

وعن إرث عقيل لأبي طالب دون علي وجعفر نقول :

إن هذا الكلام لا يمكن أن يصح :

أولا : لأننا قدمنا في هذا الكتاب الكثير الكثير من الدلائل والشواهد على إيمان أبي طالب «عليه‌السلام» .. وقد كتب في إثبات إيمانه عشرات المؤلفات ، بأقلام العلماء من السنة والشيعة ، بالإضافة إلى بحوث كثيرة جدا كتبت حول هذا الموضوع.

ثانيا : إن المسلم يرث الكافر بلا ريب ، ولكن الكافر لا يرث المسلم ،

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٦٨.

١٣٢

فعلي «عليه‌السلام» يرث أبا طالب ، لأنهما كانا مسلمين ، ولا يرثه عقيل لأنه كان كافرا حين موت أبي طالب المؤمن .. فراجع كتابنا : «ظلامة أبي طالب» ، ففيه بعض ما يفيد في هذا المجال.

إن قلت : لعلهم قد جروا في هذا الإرث على أحكام الجاهلية وقوانينها ..

قلت :

ألف : إن الذين ذكروا هذا الأمر لا يقصدون بكلامهم أحكام الجاهلية.

ب : لم يكن لأهل الجاهلية أحكام وقوانين في هذا الأمر ، بل كان هناك ظلم وتعد على المؤمنين ، فلو فرضنا : أن عقيلا كان قويا بحيث استطاع أخذ أموال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعلي وجعفر «عليهما‌السلام» ، فهل كان قويا إلى حد أنه يأخذ حصة أخواته وأخيه طالب ، الذين لم يكونوا قد أسلموا بعد ، حسب قول هؤلاء الرواة؟!

ولماذا رضي سائر أقارب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعلي وجعفر «عليهما‌السلام» بتسلط خصوص عقيل على أموال أبيه ، وعلى أموال ابن عمه ـ أعني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ دونهم.

ثالثا : إن عقيلا لم يبع خصوص ما ورثه هو من أبيه ، بل باع أيضا منزل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومنزل إخوته من الرجال والنساء ، كما صرحت به النصوص المتقدمة.

فإن كان علي وجعفر «عليهما‌السلام» قد أسلما ، وسلمنا جدلا أنهما لا يرثان ـ وسلمنا على مضض أيضا بموت أبي طالب على الشرك ـ فإن رسول

١٣٣

الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن من ورثة أبي طالب .. فلما ذا يبيع عقيل أملاكه ، ولماذا رضي العباس من عقيل بأن يفعل ذلك ، والعباس أقرب إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منه ، فكيف لم يعترض عليه؟!

كما أن أم هاني أخت علي «عليه‌السلام» كانت هي وأخواتها ـ كما يزعمون ـ على الشرك أيضا ، فلما ذا باع عقيل منزلها ومنازل ورباع أخواتها؟! ولماذا باع منزل طالب أيضا؟!

فلما ذا لم يمنعوه من إتمام هذا البيع ، ولماذا تركوا أهل مكة يشترون من هذا البائع ما ليس له؟!

رابعا : كان بإمكان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن ينزل في أحد بيوت مكة على سبيل العارية ، أو الشراء ، فلما ذا لم يفعل ذلك؟!

بل لقد كان يمكنه أن ينزل في بيت عمه العباس ، أو في أي بيت آخر من بيوت المؤمنين الذين كانوا في مكة ، وما أكثرهم!! وسيدخل ذلك عليهم السرور بلا ريب.

وقد نزل على أبي أيوب حين هاجر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى المدينة مدة شهر أو أشهر أو سنة.

خامسا : إن قول الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لا أدخل البيوت» ثم لم يدخل بيتا أبدا لا في عمرة القضاء ، ولا في عام الفتح ، ولا في حجة الوداع ، يشير إلى أن الأمر ليس لأجل عدم وجود بيت ينزل فيه ، بل هو يتعدى ذلك ليكون قرارا إلهيا نبويا ، وقد بدا بمثابة قاعدة يلتزم بها ..

وأما دخوله بيت أم هاني فلم يكن دخول سكنى ، بل دخول تكريم لها ولأخيها علي «عليه‌السلام».

١٣٤

الإخبار بالغيب عن موضع نزوله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

إن الحديث المتقدم عن اختيار موضع نزوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في مكة يدل على أن القرار بذلك لم يكن وليد ساعته ، بل يدخل ضمن خطة كانت قد رسمت منذ وقت طويل ، حيث إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان قد أخبر جابرا بذلك في المدينة ، قبل مدة ، فلما سمعه جابر يذكر ذلك في مكة تذكّر ما كان في المدينة.

وإذا كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا ينطق عن الهوى ، ولا يفعل إلا ما يريده الله سبحانه ، ويرضاه ، فالنتيجة هي أن ذلك لا بد من أن يكون من مفردات السياسة الإلهية في تربية أهل الإيمان ، وتقديم العبر والعظات للناس جميعا ، مؤمنهم وكافرهم ، فيقيم الحجة على الكافر ليكبته بها ، ويرسخ يقين المؤمن ليسعده به ، ويبعث فيه نفحة أخرى من الوعي للحقائق ويثبّته بالقول الثابت والصادق.

لا ينزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بيوت مكة :

كأن هؤلاء الناس حين يذكرون امتناع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن النزول في بيوت مكة ، يريدون الإيحاء بأن السبب في ذلك : أنه لم يكن له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بيت ينزل فيه ، لأن عقيلا كان قد باع الرباع والمنازل.

والحقيقة هي : أن هذا يدخل في سياق تزوير الحقائق الذي طالما شاهدناه في المواضع المختلفة .. إذ عدم وجود بيت يملكه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يعني أن يتخذ قرارا بعدم دخول أي بيت من بيوت مكة ، ولو كضيف على عمه العباس إن لم يكن يريد شراء بيت فيها .. تماما كما جرى له

١٣٥

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» حينما هاجر إلى المدينة ، فإنه نزل على أبي أيوب الأنصاري .. وبقي عنده شهرا ، أو سبعة أشهر ، أو سنة (١).

ولنفترض : أن عقيلا قد باع البيوت ، لكن أم هاني كان لها بيت تسكن فيه ، وبيت عمه العباس لا يزال على حاله ، ولم يبعه عقيل ، وكذلك بيوت سائر بني هاشم. ألم يكن يمكنه أن ينزل في أحدها؟! ألم يكن العباس وغيره من المؤمنين الذين كانوا في مكة ، وما أكثرهم ، في غاية اللهفة لنيل هذا الشرف العظيم؟! وهو نزول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في بيوتهم ، وإذا كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أكرم أم هاني ، فأكل عندها .. فلما ذا لا يكرمها بالنزول في بيتها أياما يسيرة؟!

فإن كانت لا تزال على شركها ، ولا يريد أن تكون لها منة عليه ، فلما ذا أكل وصلى واغتسل عندها؟! (٢) ألا يدل ذلك على أنها كانت مسلمة؟!

والخلاصة : إن ذلك كله يدل على أن ما يذكرونه من الاستناد إلى ما فعله عقيل من بيع البيوت والرباع لم يكن هو السبب في اتخاذ هذا القرار.

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يدخل دور مكة :

وفي سياق آخر نقول :

بالنسبة لما تقدم : من أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يدخل دور مكة ، لا في الفتح ولا في عمرة القضاء ، ولا في حجة الوداع : فقد روي عن

__________________

(١) راجع : البدء والتاريخ ج ٤ ص ١٧٨ ووفاء الوفاء ج ١ ص ٢٦٥ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٤.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٦٧.

١٣٦

الإمام الصادق «عليه‌السلام» أنه كره المقام بمكة ، وذلك أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أخرج عنها ، والمقيم بها يقسو قلبه (١).

وروي أيضا عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» أنه قال : «إذا قضى أحدكم نسكه فليركب راحلته ، وليلحق بأهله ، فإن المقام بمكة يقسي القلب» (٢).

وعن الإمام الصادق «عليه‌السلام» : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نهى أهل مكة أن يؤاجروا دورهم ، وأن يعلقوا عليها أبوابا. وقال : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) (٣).

وفي حديث آخر : لم يكن ينبغي أن يصنع على دور مكة أبوابا ، لأن للحاج أن ينزل في دورهم في ساحة الدار ، حتى يقضوا مناسكهم.

وإن أول من جعل لدور مكة أبوابا معاوية» (٤).

وعن جعفر بن عقبة ، عن أبي الحسن الرضا «عليه‌السلام» : إن عليا «عليه‌السلام» لم يبت بمكة بعد أن هاجر منها حتى قبضه الله عزوجل إليه.

قال : قلت : ولم ذلك؟

__________________

(١) البحار ج ٩٦ ص ٨٠ وسفينة البحار ج ٨ ص ٩٢ و ٩٣ وعن علل الشرائع ص ٤٤٦.

(٢) البحار ج ٩٦ ص ٨١ وسفينة البحار ج ٨ ص ٩٣ وعن علل الشرائع ص ٤٤٦.

(٣) الآية ٢٥ من سورة الحج. والحديث في سفينة البحار ج ٨ ص ٩٣ عن قرب الإسناد والبحار ج ٩٦ ص ٨١ عن قرب الإسناد ص ٦٥.

(٤) البحار ج ٩٦ ص ٨٢ عن علل الشرائع ص ٣٩٦ وسفينة البحار ج ٨ ص ٩٣.

١٣٧

قال : يكره أن يبيت بأرض هاجر منها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». وكان يصلي العصر ويخرج منها ويبيت بغيرها (١).

ولسنا بحاجة إلى التذكير : بأن امتناع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من المبيت بمكة لم يكن استجابة لحنق شخصي فرض عليه هذا القرار ، بل هو ـ كما أشرنا إليه ـ قرار يرضاه الله ويريده ، وهو من مظاهر طاعة الله سبحانه .. وقد كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد ذكر هذا القرار وهو في المدينة قبل الفتح ، وقد ذكره مرة أخرى في مكة ..

وفي جميع الأحوال نقول :

إن التحدي الذي واجهه الرسول الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يكن لشخصه ، إنما هو لنبوته ولرسوليته ، ولذلك أخرج من مكة.

وحين فتح مكة ، فإن أهلها انقادوا له لأنه قوي ، لا مجال لمقاومته ، ولم تقبل قلوبهم نبوته ورسوليته ، إلا على سبيل الإقرار اللساني .. ولذلك احتاج إلى أن يتألفهم على هذا الدين ، ويصبر على الكثير من الأذايا والبلايا التي أوصلوها إليه بنحو أو بآخر. وكان كثير منهم يتخذ سبيل النفاق ، فهو يظهر الإسلام ، ثم يكيد له ولأهله الحقيقيين المخلصين.

أي أن محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كرسول ، لم يدخل مكة بعد .. بل ما جرى هو مجرد نسيم هب على مكة ، لا بد من العمل على أن يتحول إلى ريح تقل سحابا ثقالا بماء الحق والصدق الذي ينعش الأرواح ، وتحيا به النفوس ..

__________________

(١) سفينة البحار ج ٨ ص ٩٣ عن علل الشرائع ص ٣٩٦ وعن عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٨٤ والبحار ج ٩٦ ص ٨٢ عنهما.

١٣٨

فدخول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى منازل يستولي عليها أولئك الذين حاربوه لربما يستتبع الكثير من التخمينات والحيثيات التي تثير مخاوف أهل مكة وشكوكهم ، ولكنه إذا لم يدخل منزلا ، واكتفى بخيمة تنصب له ، فإن ذلك سوف يطمئنهم إلى أن هذا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يريد المقام في البلاد ولا يرغب في الهيمنة على العباد ، وإنما يريد أن يفسح الطريق أمام الناس للتعرف على الإسلام ، وأن يمنع أعداءه من التعرض له بفنون من المكر والكيد ليمنعوه من الوصول إلى العقول والقلوب ..

إنه لا يريد أموالا ، ولا بلادا ، ولا دارا ، ولا عقارا ، بل يريد لهم العيش الرغيد والسعيد في بلادهم وديارهم ، وبين أهلهم ، فهو حتى في أحرج ساعة تواجههم ، يقدم لهم الدليل تلو الدليل على أنه لا مطمع له بشيء من دنياهم ، وأنه يتعامل معهم بالإنصاف ، وبالرحمة ، والإيثار ، لا بمنطق المنتصر الحانق الذي يتعامل بالنقمة ، ويريد أخذ الثار.

تكريم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لأم هاني :

عن ابن عباس قال : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لأم هانئ يوم الفتح : «هل عندك من طعام نأكله»؟

قالت : ليس عندي إلا كسر يابسة ، وإني لأستحي أن أقدمها إليك.

فقال : «هلمّي بهنّ» فكسّرهنّ في ماء.

وجاءت بملح فقال : «هل من أدم»؟.

فقالت : ما عندي يا رسول الله إلا شيء من خل.

فقال : «هلميه» ، فصبّه على الطعام ، وأكل منه ، ثم حمد الله ، ثم قال :

١٣٩

«نعم الأدم الخلّ ، يا أم هانئ لا يفقر بيت من أدم فيه خلّ» (١).

ونقول :

ما أروع وأجمل هذا التكريم النبوي العفوي ، وما أجلّ هذه المبادرة للإعلان عن صافي المودة ، وجميل الوفاء والإخاء لامرأة فاضلة ونبيلة ، يريد أن يعلن للناس كلهم ، وللأجيال اللاحقة ، بعظيم احترامه وتقديره لها ولفضلها ونبلها ، فيخصها بشرف لم ينله أحد من رجالات مكة وعظمائها ، فيدخل منزلها ، ويصلي ويأكل عندها .. ويعاملها بعفوية ظاهرة ، ومودة طافحة بالإجلال والتعظيم ، والمودة والتكريم ..

وقد تجلت وحدة الحال في قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لها : هل عندك من طعام نأكله؟!

ولم يكن لديها إلا كسر يابسة من خبز ، وإلا شيء من خلّ ، جعله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إداما .. ثم أثنى على هذا الإدام ، وبيّن أن له قيمة كامنة في عمق ذاته ، فقال : «نعم الإدام الخل».

ثم شفع ذلك ببشارة نبوية ، من شأنها أن تدخل السرور والرضا على قلب هذه المرأة الجليلة ، فقال : «يا أم هاني ، لا يفقر بيت من أدم فيه خلّ».

علي عليه‌السلام وأم هاني :

وفي الروايات حديث عن إجارة أم هاني لرجلين من المشركين ، وقبول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك منها. ونحن نذكر أولا هذه النصوص ، ثم

__________________

(١) مجمع الزوائد ج ٦ ص ١٧٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٣٥ عن الطبراني.

١٤٠