الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٢

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٢

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-194-7
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٤٠

٢ ـ إن ما فعله ذلك الأنصاري ، من شأنه أن يجرّئ الناس على مخالفة أمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وتبديل أوامره ونواهيه بأضدادها .. وذلك يفتح الباب أمام مفاسد كبيرة وخطيرة.

٣ ـ قد رأينا : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد تبرأ مما صنعه خالد ببني جذيمة ، فلما ذا لم يتبرأ من الكاذب ، ومن الكذب الذي نسبه ذلك الأنصاري إليه؟! والذي أدى إلى سفك الدماء في حرم الله تعالى ، وكان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يريد حفظها.

٤ ـ واللافت هنا : أن هذا الأنصاري الذي تسبب بإزهاق أرواح العشرات من الناس في حرم الله تعالى ، لم يستطع التاريخ أن يفصح لنا عن اسمه ، أو عن اسم قبيلته على الأقل ، بل اكتفى بوصفه بأنه «أنصاري».

٥ ـ ويزيد الأمر إبهاما ، وإثارة للشبهة : أن هذه الرواية قد ذكرت رقما يزيد على ضعف العدد الذي ذكرته سائر الروايات .. لأنها تقول : إن الذين قتلوا بسبب كذبة هذا الأنصاري هم سبعون رجلا.

٦ ـ هل نستطيع أن نفهم ما جرى على أن هذا النوع من الروايات يقصد به الطعن في الأنصار ، وإظهار أنهم قد ظلموا قريشا وأهل مكة ، وتعاملوا معهم من منطلق الحقد والضغينة؟!

__________________

ص ٣٢ وتفسير الثعالبي ج ١ ص ١٣٩ والأحكام لابن حزم ج ٢ ص ١٩٧ وطبقات المحدثين بأصبهان ج ٣ ص ٢٣٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٢ ص ٢٢٢ وج ٦٤ ص ٣٧ والموضوعات لابن الجوزي ج ١ ص ٨١ و ٨٧ و ٨٨ ذكر أخبار إصبهان ج ٢ ص ٦ وأعيان الشيعة ج ١ ص ١١٤ وج ٨ ص ١٢٨ وكشف الغمة ج ١ ص ٣٤٤.

١٠١

فكل ما يجري على الأنصار بعد ذلك ـ كما حصل في وقعة الحرة ، وسواها ـ يصبح مبررا ، وتقل بشاعته ، ولا يعود مستهجنا.

أردت أمرا ، وأراد الله غيره :

والغريب في الأمر : أن يستدل ذلك الأنصاري على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقوله : أردت أمرا ، وأراد الله غيره ، وذلك :

١ ـ لأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يمكن أن يريد أمرا يخالف ما يريده الله تبارك وتعالى ، فهو لا يريد إلا ما يرضي ربه ، ولا يفعل ولا يقول إلا ما أذن الله تعالى له بفعله وقوله ، على قاعدة : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١).

وهو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مسدد من الله ، ومؤيد بتأييداته.

٢ ـ ثم إن قتل الناس في حرم الله لم يرده الله تعالى بلا ريب ، فلا يصح نسبته إليه ، بل أراده أولئك العصاة لأوامر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والكاذبون عليه ، الذين توعدهم الله بالعذاب الأليم في نار جهنم.

٣ ـ ولو فرضنا : أن ذلك الأنصاري أصاب في استدلاله هذا ، لكان ينبغي أن يلتفت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى هذا الدليل قبل كل أحد ، ولكان ذلك يمنع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من توجيه الأسئلة لخالد حول ما اقترف ، ومن مطالبة الأنصاري بمبرراته التي استند إليها فيما فعل ..

__________________

(١) الآيتان ٣ و ٤ من سور النجم.

١٠٢

٤ ـ هل سكت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين قال له الأنصاري ذلك عن قناعة بما قاله هذا الكاذب على الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أم أن سكوته كان لأجل عجزه عن مواجهة الحجة بالحجة ، والدليل بالدليل؟! أم أن ذلك السكوت كان احتجاجيا ، يريد به الإعراض عن ذلك الكاذب ، والدلالة على عدم جدوى النقاش معه في هذا الأمر؟! بل قد تكون مواصلة النقاش معه فيه مضرة ، ولها آثار سلبية على المسلمين ، وربما على غيرهم أيضا ..

قد يقال : إن الإحتمال الأول هو الأوفر حظا من بين سائر الإحتمالات.

ولكننا نقول :

إن هذا الإحتمال هو الأسوأ والأكثر ضررا من حيث إنه يشير إلى غفلة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن أمر يعرفه سائر الناس العاديين .. كما إنه يشير إلى جهل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى بمثل هذا الأمر البديهي.

وإذا كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يصدر ولا يورد ، ولا يأمر ولا ينهى إلا وفق ما يريده الله تعالى ، فإن الأمر يصبح أكثر إشكالا ، لأنه يؤدي إلى نسبة هذه العظائم إليه سبحانه ، تعالى الله عما يقوله الجاهلون علوا كبيرا.

نهى أن يقتل من خزاعة أحد :

وقد صرحت النصوص التي ذكرناها : بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نهى أن يقتل من خزاعة أحد.

١٠٣

ونقول :

قد يقال : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نهى عن القتال والقتل مطلقا ، سواء لخزاعة أو لغيرها .. وأعطى الأمان لجميع أهل مكة باستثناء أشخاص بأعيانهم ، سيأتي الحديث عنهم ؛ لأنهم قد ارتكبوا جرائم لا مجال للعفو عنها .. فلا خصوصية لخزاعة هنا ، ولا معنى لحصر الكلام فيها.

ويمكن أن يجاب : بأنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد عمم الأمان ليشمل خزاعة وجميع أهل مكة ، ثم خص خزاعة بالذكر ، لأنها كانت داخلة في عقد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعهده ، كما ظهر مما جرى في الحديبية .. فلهم أمان الحلف ، بالإضافة إلى الأمان الذي يشملهم مع أهل مكة ..

فخزاعة : لا يصح قتال أحد منها حتى لو بادر إلى حمل السلاح والقتال ، فيجب مراعاة حاله ، وتحاشي قتله ، ومراجعة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في أمره ، لأن لخزاعة أحكاما تختلف عن أحكام سائر مشركي مكة المحاربين ، وقد اصبحوا الآن أسرى في أيدي المسلمين ، يحكم فيهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بما يقتضيه حالهم ..

وأما خزاعة : فليسوا محاربين كمشركي مكة ، بل هم حلفاء ، ولهم عهد وعقد.

وحتى لو اتفق ووقع القتل على أحد منهم ، ولو عن غير قصد ، فلعلهم ممن تشملهم أحكام الديات أيضا.

شعار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في فتح مكة :

روى الكليني عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن أحمد بن محمد بن أبي

١٠٤

نصر ، عن معاوية بن عمار ، عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» قال :

شعارنا : «يا محمد ، يا محمد».

وشعارنا يوم بدر : «يا نصر الله إقترب ، إقترب».

وشعار المسلمين يوم أحد : «يا نصر الله إقترب».

ويوم بني النضير : «يا روح القدس أرح».

ويوم بني قينقاع : «يا ربنا لا يغلبنك».

ويوم الطائف : «يا رضوان».

وشعار يوم حنين : «يا بني عبد الله ، [يا بني عبد الله]».

ويوم الأحزاب : «حم ، لا يبصرون (أو لا ينصرون)».

ويوم بني قريظة : «يا سلام أسلمهم».

ويوم المريسيع ، وهو يوم بني المصطلق : «ألا إلى الله الأمر».

ويوم الحديبية : «ألا لعنة الله على الظالمين».

ويوم خيبر ، يوم القموص : «يا علي آتهم من عل».

ويوم الفتح : «نحن عباد الله حقا حقا».

ويوم تبوك : «يا أحد يا صمد».

ويوم بني الملوح : «أمت ، أمت».

ويوم صفين : «يا نصر الله».

وشعار الحسين «عليه‌السلام» : «يا محمد».

وشعارنا : «يا محمد» (١).

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٧.

١٠٥

وسند الحديث صحيح.

وروي أيضا :

أن شعار المسلمين يوم بدر : «يا منصور أمت».

وشعار يوم أحد للمهاجرين : «يا بني عبد الله ، يا بني عبد الرحمن».

وللأوس : «يا بني عبد الله» (١).

ونقول :

كنا قبل سنوات قد كتبنا بحثا حول «نقش الخواتيم لدى الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم» ..

وقد بدا واضحا : أن ما كانوا ينقشونه عليها متوافق مع طبيعة المرحلة التي يمرون بها ، والتحديات التي تواجههم.

وهذه العبارات المختارة لتكون شعارا في هذه الحرب أو تلك تشير إلى نفس هذا الأمر ، وتؤكد على هذه الحقيقة ..

ولو أردنا أن نشرح هذا التوافق والإنسجام فيما بين الشعار وبين ما يراد له أن يدل عليه ويشير إليه لاحتجنا إلى عشرات الصفحات ، ولكان علينا أن ندّخر المزيد من الوقت والجهد في إيضاح هذه المعاني وبيان هذه الدلالات.

فلا محيص لنا عن الإكتفاء هنا بلمحة عابرة عن بعض ما يرمي إليه الشعار الذي اختير ليوم فتح مكة فقط ، وهو :

«نحن عباد الله حقا حقا» ، فنقول :

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٧.

١٠٦

يتضح بعض ما نريد الإلماح إليه كما يلي :

١ ـ لقد كان مشركو مكة وجبابرتها ، وعتاتها ، ورموز الظلم والكيد والتعدي على حرمات الله فيها ، يحاربون الله ورسوله ، ويهتكون حرمة بيت الله ، وينتهكون حرمة الحرم. ثم هم يدّعون أنهم سدنة البيت ، وأولياؤه ، وحماة الحرم وأبناؤه.

وقد رد الله تعالى ذلك عليهم ، فقال : (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١).

ولنا حول موضوع البيت وولايته حديث ذكرناه في كتابنا «دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام» ، ولعلنا نحتاج لإيراد موجز عنه فيما يأتي من مطالب إن شاء الله تعالى ..

٢ ـ إن الكعبة بيت الله ، والحرم المكي حرم الله ، ولا بد من أن تتجلى في هذه الأماكن المقدسة ، والمشاعر المعظمة عبودية الإنسان لربه بكل أبعادها ، ومختلف تجلياتها.

وخير من يجسد هذه العبودية هم المؤمنون بالله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، ولا يشركون به شيئا ، فإن الشرك ينقص من مقام العبودية هذا .. بل هو يصرفها إلى غير الله تبارك وتعالى إلى حد التمحض في ذلك الغير ..

ولأجل ذلك اختار «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بيان هذه الحقيقة ، وإسقاط هذه المغالطة التي يمارسها المدّعون لها كذبا وزورا ..

__________________

(١) الآية ٣٤ من سورة الأنفال.

١٠٧

٣ ـ إن اختيار العبودية لتكون أول مفهوم يطرح في هذه المناسبة يؤكد على أن هذا الفتح العظيم لم يخرج هؤلاء الفاتحين عن حالة التوازن ، ولم يدفعهم للتصرف بكبرياء ، ولم يوجب لديهم حالة من الغرور والادّعاء لأنفسهم فوق ما تملكه من قدرات. بل زادهم ذلك تواضعا ، وخضوعا له ، واستسلاما لإرادته ومشيئته تعالى ، تماما كما يستسلم كل عبد لسيده ، وليس لأهوائهم ونزواتهم.

٤ ـ إن هذا يعطي الآخرين الذين اساؤوا وآذوا نفحة من الشعور بالطمأنينة ، وبالأمل والسكينة ، من حيث أنهم سيفهمون أن القرار بشأنهم لن يكون عشوائيا ، تتحكم فيه النزوات ، والأهواء والعصبيات ، بل هو قرار إلهي ، وحكم رباني .. فإذا أصلحوا علاقتهم بالله ، وتابوا وعادوا إلى الالتزام بأوامره وزواجره ، وإذا اعتقدوا : أنه غفور رحيم ، وقوي عزيز ، وأنه الغفور التواب و.. و.. فإن بإمكانهم أن يأملوا قبول توبتهم ، والنظر إليهم بعين الرحمة والمغفرة ..

فيكون نفس هذا الشعار الذي نادى به المسلمون في فتح مكة دعوة لأهلها إلى قبول الحق ، والدخول في دين الله والتوبة والإستغفار ، وطلب الرحمة ..

كما إنه شعار يتضمن إنذارا لهم بضرورة التخلي عن المكابرة والجحود .. لأن ذلك سوف يعرضهم لغضب الله وسخطه ، وستجري عليهم وفيهم أحكامه وشرائعه ، وفق سنن العدل ، وعلى أساس قاعدة :

١٠٨

(أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ ..) (١). وقاعدة : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٢).

فتحت مكة عنوة لا صلحا :

وقد زعموا : أن مكة فتحت صلحا ، وبه قال الشافعي (٣).

فلما واجههم ما أثبته التاريخ من قتل خالد ثمانية وعشرين رجلا من قريش وهذيل كما ذكرته الروايات أو سبعين من أهل مكة كما في رواية أخرى قالوا : إن هذه المقاتلة التي وقعت لخالد لا تنافي كون مكة فتحت صلحا ، لأنه صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة.

وأما قوله : «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل دار حكيم بن حزام فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن» فهو من زيادة الإحتياط لهم في الأمان.

وقوله : احصدوهم حصدا محمول على من أظهر من الكفار القتال ، ولم يقع قتال ، ومن ثم قتل خالد من قاتل من الكفار.

وإرادة علي كرم الله وجهه قتل الرجلين اللذين أمنتهما أخته أم هانىء كما سيأتي لعله تأول فيهما شيئا ، أو جرى منهما قتال له.

وتأمين أم هانىء لهما ، من تأكيد الأمان الذي وقع للعموم.

__________________

(١) الآية ٦ من سورة المجادلة.

(٢) الآيتان ٧ و ٨ من سورة الزلزلة.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨١.

١٠٩

فلا حجة في كل ما ذكر على أن مكة فتحت عنوة كما قاله الجمهور.

وقيل : أعلاها فتح صلحا : أي الذي سلكه أبو هريرة والأنصار ، لعدم وجود المقاتلة فيه ، وأسفلها الذي سلكه خالد فتح عنوة لوجود المقاتلة فيه (١).

ونقول :

إن ذلك غير صحيح ، بل فتحت عنوة ، ونستند في ذلك إلى ما يلي :

أولا : إن نفس إعطاء الأمان لأهل مكة ، إن دخلوا المسجد ، أو بيوتهم ، أو غير ذلك يدل على أنهم قد قهروا بدخول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بلدهم ، وأن معارضتهم سوف تنتهي إلى استرجاع هذا الأمان ، واستمرار حالة الحرب.

ثانيا : قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأهل مكة : ما ترون أني صانع بكم؟!

قالوا : أخ كريم ، وابن أخ كريم.

قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء.

فإن قوله : ما ترون أني صانع بكم يدل على أنه هو الذي يقرر مصيرهم ، ويصنع بهم ما يشاء ، بعد أن أصبحوا في يده بعد الفتح. ولو كان ثمة صلح ، فإن بنود الصلح وشروطه هي التي تحدد ذلك ، ولا يبقى لأحد طرفي الصلح أي خيار في مصير الطرف الآخر ..

ثالثا : لم يرد في أي نص تاريخي : أن ثمة صلحا بين النبي وبين أحد من

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٤.

١١٠

أهل مكة ، فالقول بحصول شيء من ذلك ما هو إلا تخرص ورجم بالغيب.

رابعا : إن اعتبارهم طلقاء في قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : اذهبوا فأنتم الطلقاء ، يدل على أنه قد أسرهم ، ثم أطلق سراحهم ، فإن الطليق هو الأسير إذا أطلق ولم يسترق (١).

خامسا : إن مما يشير إلى ذلك أيضا : ما رواه الحسين بن محمد الأشعري ، عن معلى بن محمد ، عن الوشاء ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي حمزة الثمالي قال : قلت لعلي بن الحسين «صلوات الله عليهما» : إن عليا «عليه‌السلام» سار في أهل القبلة بخلاف سيرة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في أهل الشرك.

قال : فغضب ثم جلس ، ثم قال : سار والله فيهم بسيرة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يوم الفتح ، إن عليا «عليه‌السلام» كتب إلى مالك وهو على مقدمته يوم البصرة بأن لا يطعن في غير مقبل ، ولا يقتل مدبرا ، ولا يجهز على جريح ، ومن أغلق بابه فهو آمن (٢).

وعلي «عليه‌السلام» إنما انتهى إلى هذه النتيجة بعد أن انتصر عليهم في ساحات القتال والنزال ، وأصبحوا في يده ، وكذلك الحال بالنسبة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

إستدلالات وتأويلات :

١ ـ بالنسبة للاستدلالات المذكورة آنفا نقول :

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٨٥.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٣٣ والبحار ج ٢١ ص ١٣٩ عنه.

١١١

قد استدل القائلون بفتح مكة صلحا : بأن ما جرى في مر الظهران يعتبر صلحا.

ونقول :

أولا : قد ذكرنا فيما تقدم : أن أبا سفيان قد اعتقل من قبل أولئك الذين أرسلهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وحدد لهم مكانه بدقة .. ولم يذكر التاريخ ولو كلمة واحدة عن أية مفاوضات جرت بين أبي سفيان وبين رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حول دخول مكة عنوة أو صلحا ، أو عدم دخولها.

ثانيا : إن أبا سفيان بعد أن أعلن إسلامه ، لم يكن يصح أن يعتبر نفسه مسلما ، ثم أن يعتقد بأن له الحق في أن يصالح رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو أن يفاوضه في شأن مكة ، أو في شأن غيرها ..

ثالثا : إن إهدار دم جماعة ممن ارتكبوا جرائم في حق الدين وأهله ، ما هو إلا قرار نبوي خالص ، وقد كانت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان في جملة الذين أهدر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دمهم. ولم يكن أبو سفيان ليرضى بقتل زوجته ، أو بقتل عكرمة بن أبي جهل ، أو صفوان بن أمية وغيرهم ، بل هو ينقض ألف صلح وعقد وعهد من أجل حفظهم ، فكيف يعقد صلحا تكون نتيجته قتل كثير من أصفيائه وأحبته؟!

٢ ـ بالنسبة للتأويلات التي ذكروها نقول :

ألف : ادّعى القائل بفتح مكة صلحا : بأن الأمان الذي أعطاه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لمن دخل المسجد ، أو دار أبي سفيان ، أو أغلق بابه ، أو ألقى سلاحه ، أو لجأ إلى راية أبي رويحة .. قد أعطي لهم زيادة في الإحتياط.

١١٢

وهو كلام غير دقيق.

فأولا : إن معنى هذا الأمان هو أن من لم يفعل ذلك ، فلا أمان له ، وسيكون التعامل معه على أنه محارب ، يجوز قتله وأسره ، ويحل ماله.

ثانيا : لو كان الأمان قد أعطي زيادة في الإحتياط ، لكان من الضروري أن ينادى بالأمان العام أولا ، ثم يخصص ذلك ويقول : وخصوصا من دخل المسجد ، أو ألقى سلاحه ، أو أو الخ .. مع أن ذلك لم يحصل ، إذ لم يناد أحد بشيء من ذلك.

ب : وزعموا : أن ما نسب إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من أنه قال للأنصار : احصدوهم حصدا ، محمول على من أظهر من الكفار القتال ، ولم يقع قتال .. ولذلك قتل خالد من قاتله من الكفار.

ونقول :

إننا وإن كنا قد ناقشنا النص المذكور بما دل على عدم صحته ، غير أننا نزيد هنا :

أولا : إن هذا الحمل تبرعي ، ليس في النص المذكور أية إشارة إليه.

ثانيا : إن النصوص تشير إلى أن من قتلهم خالد لم يكونوا قد أظهروا القتال حسبما تقدم.

ثالثا : لقد كان الأولى بهؤلاء أن يقفوا عند عبارة «احصدوهم حصدا» ، ليؤكدوا كذبها من حيث إنها لا تتناسب مع النهج النبوي ، والسلوك الإيماني .. وقد عرفنا أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كانت تذهب نفسه حسرات على قومه ، وكان يدعو لهم بالهداية ، حتى وهم يقاتلونه.

ولم يكن يريد سحقهم واستئصالهم ، بل كان كل همه «صلى الله عليه

١١٣

وآله» منصرفا إلى كسر شوكتهم ، وإسقاط مقاومتهم ، ثم العمل على إقناعهم بالإسلام ، ثم إيصال الإسلام إلى كل من لهم به صلة نسب ، أو مصلحة ، أو صداقة ، أو غيرها ..

ج : وذكروا : أن سعي علي «عليه‌السلام» لقتل الرجلين اللذين اجارتهما أم هاني ، لعله لأجل أنه تأول بهما شيئا ، أو جرى منهما قتال. وتأمين أم هاني لهم من تأكيد الأمان الذي جرى للعموم ..

ونقول :

سيأتي الحديث عن هذه القضية عن قريب ، ونكتفي هنا بما يلي :

أولا : صرح الحلبي : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان قد أهدر دم هذين الرجلين اللذين أجارتهما ، وهما : الحارث بن هشام ، وزهير بن أبي أمية (١). فلم يكن علي «عليه‌السلام» متأولا في أمرهما شيئا خلاف ما نص عليه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ثانيا : ما زعمه : من أن تأمين أم هاني لهما قد جاء تأكيدا للأمان العام ، لا يصح ، إذ لماذا لا تحتج أم هاني على علي «عليه‌السلام» بذلك الأمان العام لتحرجه به ، بلا حاجة إلى أن تشتكيه إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

يضاف إلى ذلك : أنه لا يوجد أي نص يشير إلى وجود ذلك الأمان العام المزعوم ، بل قد تقدم أن تحديد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المسجد ، ودار أبي سفيان و.. و.. لتكون مواضع الأمان ، ينفي وجود أمان عام.

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨١ وراجع ص ٩٣.

١١٤

الشهداء من المسلمين :

قالوا : «واستشهد من المسلمين ثلاثة نفر ، دخلوا في أسفل مكة ، وأخطأوا الطريق ، فقتلوا» (١).

ونقول :

إنه يبدو لنا : أن هذه النصوص ، وأمثالها تشتمل على نوع من التضليل ، وذلك :

أولا : لأن الذي دخل من أسفل مكة هو خالد بن الوليد (٢) ، وخالد هو الذي قاتل أهل مكة حين دخل ، وقتل منهم العشرات ، فإذا كان هؤلاء الثلاثة قد قتلوا في أسفل مكة ، فهذا يعني : أنهم قتلوا مع خالد بالذات ، حين دافعه أهل مكة عن أنفسهم ، إذ لا يعقل أن يقتل منهم ما يقرب من ثلاثين قتيلا ، ويلاحقهم خالد ومن معه إلى المسجد ، وإلى الجبال ، بل لقد هرب بعضهم إلى جهة اليمن كما تقدم ، ثم لا تكون منهم أية مقاومة ، ولا

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ١٣٣ عن إعلام الورى ، والأنوار العلوية للنقدي ص ٢٠٢ وإعلام الورى ج ١ ص ٢٢٦ و ٢٢٧.

(٢) راجع : المصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٥٣٣ وشرح معاني الآثار ج ٣ ص ٣١٥ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٢٧ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٣٢ و ٢٣٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٥٠ و ٥٦٠ وراجع : شرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٧٤ والطبقات الكبرى ج ٧ ص ٣٩٥ والثقات ج ٢ ص ٤٩ ومعجم البلدان ج ٥ ص ٢٨ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٣٤ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٦٥ وعيون الأثر ج ٢ ص ١٩١ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٢٧ ومعجم ما استعجم ج ١ ص ١٢٩.

١١٥

يقتل ولا يجرح أحد ممن كان مع خالد.

والذي نراه هو : أن ثمة تزويرا رخيصا يهدف إلى إيقاع الناس في الغلط والاشتباه ، فإن محبي خالد بعد أن ظهر لهم أن خالدا قد خالف أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقتل من قتل من الناس بغير رضا ولا رخصة منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بل مع وجود منعه ونهيه .. خافوا أن يجعل قتل هؤلاء الثلاثة على عهدة خالد ، وبتسبيب منه .. فأبعدوهم عنه.

ثم رووا : أنه دخل من أعلى مكة ، ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دخل من أسفلها حسبما تقدم ، لكي تتعارض الروايات ، ويأتي أهل الخير ليجمعوا بينها ، بما يبعد الشبهة عن خالد ، أو يوجب الشبهة في حقيقة ما ارتكبه ، أو ما كان سببا فيه.

ثانيا : إننا لا نرى مبررا لضلال هؤلاء الثلاثة لطريقهم ، ولا لقتلهم بسبب ذلك ، فإنه إن كان خالد قد دخل من أسفل مكة فقد كانوا معه ، ولا مجال لأن يضلوا الطريق عنه دون سواهم ، وهم في ضمن جيش يعد بالمئات والألوف ، وإن كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي دخل من أسفلها فقد كانوا معه ، وفي حمايته ، فلما ذا يقتلون؟! وكيف؟!

لا غنائم في يوم الفتح :

عن عبيد بن عمير قال : قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في يوم فتح مكة : لم تحل لنا غنائم مكة (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٦٠ عن الواقدي ومسند أحمد ج ٦ ص ٤٦٦.

١١٦

وعن يعقوب بن عتبة قال : لم يغنم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من مكة شيئا ، وكان يبعث السرايا خارجة من الحرم ، وعرفة ، والحل ، فيغنمون ويرجعون إليه (١).

ونقول :

قد يقال : إن هذا يدل على أن مكة قد فتحت صلحا ، إذ لو فتحت عنوة لحلت غنائمها ..

ونجيب :

أولا : إن مكة قد فتحت عنوة ، لكن العنوة لا تعني لزوم وقوع قتال وقتلى ، بل الفتح عنوة هو ما يكون بالقهر والقوة ، وبالرغم والهيمنة السلطوية. وذلك حاصل في فتح مكة .. لكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ حفظا منه لحرمة بيت الله وحرمه ـ منع المقاتلين من مباشرة أي عمل قتالي إلا بإذنه ، وقتل الناس الذي صدر من خالد كان معصية لأوامر الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذا المجال.

على أن نفس أن يهدر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دم حوالي عشرين شخصا ، وقد قتل بالفعل عدد منهم .. يدل على أنه كان يتصرف من موقع الفاتح المنتصر ، لا من موقع المصالح ، الذي يفرض شروطه على الطرف الآخر .. إذ لم يكن المشركون ليرضوا بقتل عدد من كبار زعمائهم وأصحاب القرار فيهم ، ولا يمكن أن يسجلوا ذلك في بنود صلح مع من يطالب بقتلهم.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٦٠ عن الواقدي ، والتنبيه والإشراف ص ٢٣٣ وراجع : تاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٧٧ و ٢٣٢.

١١٧

ثانيا : إنه لا مانع من أن يكون لمكة خصوصية في أحكام الجهاد والفتح ، فتكون غنائمها حراما حتى لو فتحت عنوة. وقد تبينت خصوصية مكة في كثير من الأحكام.

قريش لا تقتل صبرا ولا تغزى :

عن مطيع بن الأسود قال : سمعت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقول يوم فتح مكة : «لا يقتل قريشي صبرا بعد اليوم إلى يوم القيامة» (١).

وعن أبي حصين الهذلي قال : لما قتل النفر الذين أمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بقتلهم سمع النوح عليهم بمكة ، وجاء أبو سفيان بن حرب إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : فداك أبي وأمي ، البقية في قومك.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «لا يقتل قريشي صبرا بعد اليوم».

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٥٧ عن مسلم ، وقال في هامشه : أخرجه مسلم في الجهاد باب ٣٣ حديث (٨٨) ، والدارمي ٢ / ١٩٨ والحميدي (٥٦٨).

والطبراني في الكبير ٧ / ٨٨ وأحمد ٣ / ٤١٢ ، والطحاوي في المعاني ٣٢٦ والبيهقي في الدلائل ٥ / ٧٩ وابن أبي شيبة ١٢ / ١٧٣ ، ١٤ / ٩٠ انتهى.

وراجع : مسند أحمد ج ٤ ص ٣١٣ والأدب المفرد ص ١٧٨ والفايق في غريب الحديث ج ٣ ص ٤٣٦ والثقات ج ٢ ص ٥٣ وتهذيب التهذيب ج ٦ ص ٣٠٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٥١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٨١ والنهاية في غريب الحديث ج ٣ ص ٣٦٥ ولسان العرب ج ١٥ ص ١٢٤ ومسند الحميدي ج ١ ص ٢٥٨.

١١٨

قال محمد بن عمر : يعني على الكفر (١).

عن الحارث بن مالك ، (ويقال له : ابن البرصاء) ، قال : سمعت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقول : «لا تغزى قريش بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة على الكفر» (٢).

وعن الحارث أيضا ، قال : سمعت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقول يوم فتح مكة : «لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة ..».

قال العلماء : معنى قوله : «لا تغزى» يعني على الكفر (٣).

ونقول :

إننا لا نستطيع أن نأخذ بظاهر هذا الكلام ، بل لا بد من تأويله إن أمكن ، أو الحكم عليه بالسقوط والبطلان ، واعتباره مجعولا لأهداف رخيصة ، تتناقض مع التشريع الإلهي ومع التوجيه الرباني ..

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٦٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٥٧ عن الواقدي.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٥٧ عن الواقدي ، وفي هامشه عن : المغازي للواقدي ٢ / ٨٦٢ وابن سعد ٢ / ١ / ٩٩ ، والطبراني في الكبير ٣ / ٢٩٢ وابن أبي شيبة ١٤ / ٤٩٠ والبيهقي في الدلائل ٥ / ٧٥ انتهى.

وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٠٣ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٣٧ وأسد الغابة ج ١ ص ٣٤٦ وغريب الحديث ج ٣ ص ١٩٠ والنهاية في غريب الحديث ج ٣ ص ٣٦٥ ولسان العرب ج ١٥ ص ١٢٤.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٦٠ عن أحمد ، والترمذي ، وصححه ، والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٦٢.

١١٩

لعل المقصود هو الإخبار لا الإنشاء :

وقد يقال : إن المقصود الإخبار عن أن الشرك والكفر لن يدخل مكة ، ولن يسيطر عليها ، بحيث يحتاج إخراجه منها إلى غزوها ، وليس المقصود إنشاء تحريم غزوها حتى مع عودتها للكفر ، فإن ذلك يعني : القبول بسيطرة الكفر عليها ، وهو أمر مرفوض جملة وتفصيلا.

ولو فرض لزوم الرضى به ، فليس من المصلحة الجهر بمثل هذا الأمر ، ولا سيما بالنسبة لأهل مكة الذين كان معظمهم لا يزال على الشرك والكفر ، أو أنه أعلن الإسلام نفاقا ، بعد أن غلب أهل مكة على أمرهم بدخول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكة على تلك الحال القوية ، التي لا قدرة لهم على مواجهتها.

ولا بد من أن يكون هذا المعنى هو المراد أيضا بقوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ فيما رووه عنه ـ : «لا يقتل قرشي صبرا بعد اليوم» يعني : على الكفر.

ويزيد الأمر وضوحا إذا علمنا : أنه لو أريد الأخذ بالإحتمال الآخر ، وهو : أن تكون قريش في منأى عن القتل صبرا ، فإننا نصبح أمام محذورين مهمين :

أحدهما : أن إعلانا من هذا القبيل يدخل في سياق تغذية روح العنصرية ، التي رفضها الإسلام جملة وتفصيلا ، إنسجاما منه مع حكم العقل ، وقضاء الفطرة ، ومع ما قررته الآيات الكريمة التي تقول : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (١).

مع ملاحظة : أن القرشية أو غيرها من مثيلاتها من الخصوصيات مثل

__________________

(١) الآية ١٣ من سورة الحجرات.

١٢٠