الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-193-9
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٤

وإذا نظرنا إلى الأمور من حيثية أخرى فسنجد : أن الله تعالى الذي يعامل الناس العاديين من مقامه الربوبي ، فيعتمد منطق الرحمة ، والرفق ، والغفورية ، والتوابية ، والترغيب ، والترهيب وغير ذلك .. يعامل أنبياءه «عليهم‌السلام» من موقع الألوهية ، فيضع لهم النقاط على الحروف بكل صراحة وحزم ، فيقول لواحد من هؤلاء الأنبياء : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (١).

ويقول : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٢) ..

ثانيا : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يريد أن يعطي القاعدة للناس ؛ ليعرفوا : أن الحكم الإلهي الذي يجريه على كل البشر ، هو أن نفس ترك نصرة المظلوم يستتبع فقدان النصر الإلهي في موضع الحاجة إليه وله هذا الأثر ، بغض النظر عن أية خصوصية أخرى.

فهو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استخدم أفضل أسلوب بياني تطبيقي ، يجسد الفكرة للآخرين بصورة حية وواقعية ، ويسهل إدراكها وفهمها على كل الناس.

ثالثا : إن الواجب عليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو مجرد النصر لبني كعب ، بحيث يرتفع الظلم عنهم ، ولا يجب عليه أن ينصرهم مما ينصر منه نفسه وأهل بيته ، فإن هذه المرتبة أعلى وأشد من تلك المرتبة ، فالذي تعهد

__________________

(١) الآية ٥٦ من سورة الزمر.

(٢) الآيات ٤٤ ـ ٤٦ من سورة الحاقة.

٦١

بالقيام به يزيد على الدرجة التي تجب عليه ، فاحتاج إلى تأكيد هذا الالتزام بهذا النحو من المبادرة والتضحية بالنصر الإلهي حين الاحتياج إليه.

وعلى هذا الوجه لا يكون حجب النصر الإلهي عنه دليلا على غضب الله ، بل يكون لأجل أنه قد رضي بارتهان نصر كان الله قد ادّخره له ، بإعطاء درجة من نصر لم تكن مطلوبة منه ، ولا كانت واجبة عليه ..

السحابة تستهل بنصر بني كعب :

وعن حديث استهلال السحابة بنصر بني كعب نقول :

قد يروق للبعض أن يضع قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هذا في سياق التفاؤل بالمطر ، الذي تحيا به البلاد والعباد ..

غير أن هذا التفسير يبقى غير دقيق ، إن لم نقل : إنه يفقد هذه الكلمة مغزاها ، ومرماها بدرجة كبيرة ..

ولعل الأقرب إلى الاعتبار أن نقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يريد الإشارة إلى أمور :

أحدها : أن هذا النصر منسجم مع طبيعة الحياة ومقتضياتها ، وهو مما يتطلبه كل شيء حتى هذا المطر العارض الذي لم ينزل بعد ..

ثانيها : الإشارة إلى شدة قرب هذا النصر ، فإن بشائره المؤذنة بقرب نزوله حاضرة كحضور بشائر وأمارات نزول المطر ، كظهور السحب ، والرعد ونحوه.

ثالثها : التأكيد على حتميته ، كحتمية نزول المطر من تلك السحابة ..

رابعها : أنه نصر داهم وغامر ، كالمطر الداهم والغامر ..

٦٢

خامسها : إن هذا النصر نازل من السماء ، وهو هبة إلهية ، تماما كالمطر النازل ، الذي هو عطاء إلهي.

دخل بيت عائشة أم ميمونة؟! :

ويزعم الواقدي : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لعمرو بن سالم : ارجعوا ، وتفرقوا في الأودية. وقام «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ودخل على عائشة وهو مغضب ، فدعا بماء ، فدخل يغتسل ، قالت عائشة : فأسمعه يقول ، وهو يصب الماء : لا نصرت إن لم أنصر بني كعب (١).

ونقول :

إن نفس هذه القضية قد ذكرت للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مع ميمونة ، لا مع عائشة (٢).

ولربما يروق للباحث أن يرجح هذه الرواية وهي رواية ميمونة ، لأنه اعتاد أن يرى هنا وهناك عمليات سطو على الأدوار ، وعلى الفضائل والكرامات ، وعلى المواقف. يصل ذلك إلى حد الاختلاف ووضع الحديث على لسان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو على لسان علي «عليه‌السلام» أو غيرهما ، في سبيل تأييد شخص ، أو فئة ، أو تأكيد نهج فريق بعينه ، يؤسفنا

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٩١ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٦٢.

(٢) راجع : البحار ج ٢١ ص ١٠١ و ١٢٥ عن إعلام الورى ج ١ ص ٢١٥ ، وتفسير مجمع البيان ج ١٠ ص ٥٥٥ و (ط مؤسسة الأعلمي) ص ٤٦٨ وتفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٦٩١ وتفسير الميزان ج ٢٠ ص ٣٧٩ والجامع لأحكام القرآن (ط دار إحياء التراث العربي) ج ٨ ص ٨٧ و (ط دار الكتب العلمية) ج ٨ ص ٦٤.

٦٣

أن نقول : أن عائشة كانت وكذلك أبوها ، ومن هو في خطهما ونهجهما أحد أركانه!!

هذا عدا ما يراه الباحث من تعمد سلب الفريق الآخر المناوئ لهؤلاء الكثير من الإمتيازات ، أو التشكيك بها ، أو تجاهلها ، أو التعتيم عليها.

ثم هو يرى : ما يبذل من جهد لتلميع صورة هذا أو ذاك من الناس ، وتأويل مواقفه السيئة ، أو التشكيك بها ، أو نسبتها إلى غيره ، أو ما إلى ذلك ..

وذلك كله يهيئ الأجواء لانطلاق احتمال أن تكون قد حصلت عملية سطو هنا أيضا لنفس الأسباب التي دعت إلى نظائر لها شوهدت في الكثير من المواقع والمواضع .. وفي هذا الكتاب أمثلة عديدة تدخل في هذا السياق ..

ابن ورقاء أول المخبرين :

ذكر المؤرخون : قدوم بديل بن ورقاء على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ليخبره بما جرى على خزاعة ، وبالمجزرة التي ارتكبت في بيته وعلى باب داره في حق الصبيان ، والنساء والضعفاء (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٣ عن ابن إسحاق. وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٧ و ٧٨ والبحار ج ٢١ ص ١٠١ و ١٠٢ و ١٢٥ وتفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٦٩٢ وتفسير الميزان ج ٢٠ ص ٣٧٩ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢٥ والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج ٤ ص ٣١٩ و (ط مكتبة المعارف) ج ٢ ص ٢٧٨ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٥٥ وزاد المعاد (ط مؤسسة الرسالة) ج ١ ص ١١٤٧ وعيون الأثر ج ٢ ص ١٨٢ والسيرة النبوية لابن كثير ـ

٦٤

وذكروا أيضا : لقاءه أبا سفيان في عسفان ، حين كان أبو سفيان متوجها إلى المدينة ، وبديل عائد منها (١).

ولكن محجن بن وهب يدّعي : أن بديل بن ورقاء لم يدخل مكة من حين انصرف رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من الحديبية ، حتى لقيه في الفتح بمرّ الظهران. قال محمد بن عمر : وهذا أثبت (٢).

ونحن لا ندري لماذا يطلق الواقدي دعواه : بأن ما رواه محجن بن وهب أثبت مما رواه ابن إسحاق وغيره.

ولا شك في أن هذه المبادرة من بديل بن ورقاء كانت محاطة منه وممن معه بنطاق من السرية التامة ، لأن اكتشاف قريش لهذا الأمر سوف يعرض بديلا ورفاقه لخطر عظيم ، قد عاينوا بعض مظاهره ومستوياته حين حصر

__________________

ج ٣ ص ٥٣٠ وشرح معاني الآثار ج ٣ ص ٣١٦ و (ط دار الكتب العلمية) ص ٣١١ ومجمع البيان ج ١٠ ص ٥٥٥ و (ط مؤسسة الأعلمي) ص ٤٦٨ وعن إعلام الورى.

(١) راجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٨٥ و ٧٨٦ و ٧٩١ و ٧٩٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٢ وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٨ والبحار ج ٢١ ص ١٠١ وتفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٦٩٢ وتفسير الميزان ج ٢٠ ص ٣٧٩ والثقات ج ٢ ص ٣٨ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢٥ و ٣٢٦ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣١٩ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٥٥ وعيون الأثر ج ٢ ص ١٨٣ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٣٠ ومجمع البيان ج ١٠ ص ٥٥٥ و (ط مؤسسة الأعلمي) ص ٤٦٨.

(٢) دلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٤ عن الواقدي.

٦٥

الخزاعيون في دار بديل ، وسقط منهم كثير من الأبرياء قتلى في داخل تلك الدار ، وعلى بابها ..

ولذلك لم يستطع أبو سفيان معرفة حقيقة الأمر إلا من خلال النوى الذي وجده في بعر إبلهم .. ولكنه لم يتيقن هذا الأمر ، فسكت عليه.

على أن ذكر التفاصيل الدقيقة لما جرى في عسفان بين أبي سفيان وبين بديل ، يقرب احتمالات الصحة ، ويوهن احتمال الوهم من الراوي ..

فإذا كانت رواية ذلك قد وردت بأكثر من طريق ، وفي أكثر من مصدر ، فإن حظوظ الحكم بصحة الرواية تصير أكبر وأوفر ..

وأخيرا نقول :

إننا لسنا بحاجة إلى التذكير : بأن من الممكن تعدد المخبرين لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فيخبره عمرو بن سالم ، ويخبره أيضا بديل بن ورقاء .. وقد لا يعلم أي منهما بمسير الآخر خصوصا في مثل تلك الظروف الصعبة ..

عينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تدمعان :

ورد في بعض النصوص : ما يدل على مدى تأثر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين أخبره عمرو بن سالم بما جرى على خزاعة ، حتى لقد دمعت عيناه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وغني عن البيان : أن هذا التأثر إن دل على شيء ، فإنما يدل على : كمال معنى الإنسانية فيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ؛ وعلى حقيقة التوازن في ميزاته وفي خصائصه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلم تكن لتطغى خصوصية على أخرى ، أو

٦٦

تستأثر بدورها إلى حد الإلغاء ، بل كان لكل خصوصية موقعها ، ودورها الذي يخدم ويقوي ، ويسدد خصوصيات أخرى في أداء وظيفتها على أكمل وجه وأتمه ..

ولأجل هذا التوازن الدقيق في الشخصية الإنسانية التي يريدها الله تبارك وتعالى كان المؤمنون أشداء على الكفار رحماء بينهم .. وكان المؤمن قويا شجاعا وكان رقيقا ورحيما ورؤوفا. وكان حازما ، حليما. ولا يمكن أن يكون مؤمنا كاملا من دون أن يستجمع هذا الصفات ، ويعيشها ، ويتفاعل معها بصورة صحيحة ومتوازنة ..

فلا غرو إذا رأينا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يجاهد الكفار ويغلظ عليهم في حين تذهب نفسه عليهم حسرات.

ثم هو يتلقى سيوفهم ، ورماحهم وسهامهم ، ويردها عن نفسه ما وسعه ذلك ، ثم هو يدعو لهم ويقول : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ..

ومن جهة أخرى : إن هذه الرقة التي نراها من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حتى إن عينيه لتدمعان وهو يسمع ما جرى على خزاعة ، لم تكن هي المرتكز لموقفه من القتلة والمجرمين ، بل لم يكن لها أي تأثير فيه ، بل كان المرتكز والمؤثر في ذلك هو التكليف الشرعي ، وطلب رضا الله تعالى ، وإنزال القصاص العادل بالمعتدين والظالمين ، من دون أي تعد عليهم ، أو ظلم لهم ، أو تجاوز للحد الشرعي والإنساني في التعامل معهم.

قام وهو يجر رداءه :

وحين تتحدث الروايات المتقدمة : عن أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد بلغ

٦٧

به الغضب حدا جعله يقوم وهو يجر رداءه ، فإنها تكون قد تجاوزت حدود المعقول والمقبول ، بالنسبة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، إذ ليس لنا أن نصوره «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بصورة من أخرجه غضبه عن طوره ، إلى حد أنه لم يلتفت إلى ردائه ليسويه على نفسه ، ويضعه بالصورة التي يفترض أن يكون عليها ..

فإذا كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهذه المثابة من الانفعال ، فكيف يمكن أن نطمئن إلى أنه كان يتخذ قراراته بروية وتعقل ، وتدبر وتأمل؟! فلعل غضبه الشديد قد جعله غافلا عن بعض الأمور التي لا بد من مراعاتها في تلك القرارات!

كما أن نسبة أمثال هذه الأمور له «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا تنسجم مع الاعتقاد بعصمته ، وبتسديد الله له ، وتأييده بالوحي .. ومع ما هو معروف عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من رويّة واتزان.

إلا أن يقال : إن المنهي عنه هو جر الرداء خيلاء وتكبرا ، وأما إظهارا لشدة الغضب لله تبارك وتعالى ، وشريطة أن لا يترتب على ذلك أي محذور آخر ، فما ذكرناه آنفا ليس بقبيح ، بل قد يكون محبوبا إلى الله تبارك وتعالى ..

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمر مخبريه بالتفرق في الأودية :

وقالوا : إن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لعمرو بن سالم وأصحابه «ارجعوا وتفرقوا في الأودية».

فرجعوا وتفرقوا ، وذهبت فرقة إلى الساحل بعارض الطريق ، ولزم

٦٨

بديل بن ورقاء في نفر من قومه الطريق (١).

ونقول :

إن ما قام به عمرو بن سالم وأصحابه ، من إخبار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بما جرى .. ليس من الأمور التي يمكن لقريش وبني بكر أن يتجاوزوها من دون اكتراث أو اهتمام .. بل هو بالنسبة إليهم وإليها قضية حاسمة ومصيرية ، تجعلهم بين خياري : البقاء والفناء ، والحياة والموت.

وهم يرون : أنهم إذا استطاعوا إخفاء ما جرى عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو التخلص من المسؤولية عنه ومن تبعاته ، فقد أفلحوا في الإبقاء على حالة الهدنة القائمة فيما بينهم وبين المسلمين .. ولعلهم يقدرون في وقت ما على استعادة بعض القوة لمواجهة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وربما يحلمون بأن ينتهي الأمر بحسم الأمور لمصلحتهم ..

وأما إن ظهر نكثهم للعهد ، واستمرت التحولات في هذا الاتجاه ، فسيخسرون المعركة مع المسلمين ، لأنهم لم يهيئوا لها ما يمنحهم ولو خيطا من الأمل ضعيفا بأي نصر ، مهما كان هزيلا وضئيلا ..

بل إنهم ليدركون : أن قدراتهم قد تضاءلت عما كانت عليه بدرجة كبيرة وخطيرة ، كما أن قدرات أهل الإسلام قد تنامت وكبرت ، بل تضاعفت ، ولا سيما بعد كسر شوكة اليهود في خيبر وسواها ، ثم ما جرى في مؤتة ..

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٣ عن ابن عقبة والواقدي ، ودلائل النبوة للبيهقي ج ٧ ص ١٠ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٢. وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٩١ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٦٢.

٦٩

بل إن قدرات كثيرة قد أضيفت إلى قدرات المسلمين ، حتى تضاعفت عما كانت عليه من قبل ..

وذلك كله يشير إلى : أن اكتشاف قريش ، وحلفائها لهذه النشاطات التي قام بها عمرو بن سالم وبديل بن ورقاء ، سوف يدفعها للانتقام السريع والهائل والمريع من هؤلاء ، ومن كل من يلوذ بهم ، أو ينتمي إليهم ، ومن دون أية رحمة أو شفقة ..

وعلى هذا الأساس نقول :

إنه لم يكن من الحكمة في شيء أن يعود بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم وأصحابهما إلى مكة ظاهرين معلنين ، وكان التخفي والتستر على هذا الأمر ضرورة لا بد منها ، ولا غنى عنها لحفظ حياتهم ، وحياة كل من يلوذ بهم .. وقد جاء التوجيه النبوي الكريم منسجما مع هذه الحقيقة حيث أبلغهم أن عليهم أن يتفرقوا حين عودتهم في الأودية والشعاب ، وأن يسلكوا طرقا مختلفة ، حتى إذا تمكنت قريش وحلفاؤها من العثور على بعض منهم في بعض الأودية والمسالك ، فإنها قد لا تظن أنهم يعودون من مهمة تعنيها وتتعلق بما حدث.

وحتى لو راودها احتمال من هذا القبيل ، فقد لا يخطر على بالها : أن يكون لهؤلاء شركاء في مهمتهم هذه.

ولو خطر ذلك أيضا على بالها ، وسألت عنه ، فإن إنكار هذه الشراكة سوف يحد من دائرة الخطر ويؤكد لها احتمال أن يكون قد حصل شيء من ذلك بمبادرة شخصية ، وربما تكون إزالة أساس هذا الاحتمال أيسر مما لو شوهدت جماعة كثيرة تمخر عباب تلك المنطقة ، لأن ذلك سوف يقوي

٧٠

احتمال وجود أمر مهم دعا رجالات القرار لاتخاذ قرار بشأنه ، وهذه الجماعة بصدد تنفيذه.

وهذا ما يفسر لنا عدم قدرة أبي سفيان على التمادي في توجيه الأسئلة لبديل بن ورقاء حينما لقيه بعسفان ، فلجأ إلى فت أبعار الإبل ، ليرى نوى تمر يثرب فيها ، وبعد ذلك لم يتمكن من الجزم بصحة ما دار في خلده ، فآثر السكوت ، وانصرف عن استقصاء هذا الأمر ..

٧١
٧٢

الفصل الثالث :

أبو سفيان في المدينة :

تدليس وخداع

٧٣
٧٤

عروض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورفض قريش :

عن ابن عمر ، وحزام بن هشام الكلبي ، ومحمد بن عبّاد بن جعفر : أن قريشا ندمت على عون بني نفاثة ، وقالوا : محمد غازينا.

فقال عبد الله بن أبي سرح : إن عندي رأيا ، إن محمدا لن يغزوكم حتى يعذر إليكم ، ويخيّركم في خصال كلها أهون عليكم من غزوه.

قالوا : ما هي؟

قال : يرسل إليكم أن دوا قتلى خزاعة ، وهم ثلاثة وعشرون قتيلا ، أو تبرؤوا من حلف من نقض الصلح ، وهم بنو نفاثة ، أو ينبذ إليكم على سواء ، فما عندكم في هذه الخصال؟

فقال القوم : أحر بما قال ابن أبي سرح ـ وقد كان به عالما ـ.

قال سهيل بن عمرو : ما خلة أهون علينا من أن نبرأ من حلف بني نفاثة.

فقال شيبة بن عثمان العبدري : حفظت أخوالك ، وغضبت لهم.

قال سهيل : وأي قريش لم تلده خزاعة؟

قال شيبة : ولكن ندي قتلى خزاعة ، فهو أهون علينا.

وقال قرظة بن عبد عمرو : لا والله لا يودون ولا نبرأ من حلف بني

٧٥

نفاثة ، ولكنا ننبذ إليه على سواء.

وقال أبو سفيان : ليس هذا بشيء ، وما الرأي إلا جحد هذا الأمر ، أن تكون قريش دخلت في نقض عهد ، أو قطع مدة ، وإنه قطع قوم بغير رضى منا ولا مشورة ، فما علينا.

قالوا : هذا الرأي لا رأي غيره (١).

وقال عبد الله بن عمر : إنّ ركب خزاعة لمّا قدموا على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأخبروه خبرهم ، قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «فمن تهمتكم وظنتكم»؟

قالوا : بنو بكر.

قال : «أكلّها»؟

قالوا : لا ، ولكن بنو نفاثة قصرة ، ورأس القوم نوفل بن معاوية النفاثي.

قال : «هذا بطن من بني بكر ، وأنا باعث إلى أهل مكة ، فسائلهم عن هذا الأمر ، ومخيرهم في خصال ثلاث».

فبعث إليهم ضمرة ـ لم يسم أباه محمد بن عمر ـ يخيرهم بين إحدى خلال ، بين أن يدوا قتلى خزاعة ، أو يبرؤوا من حلف بني نفاثة ، أو ينبذ إليهم على سواء.

فأتاهم ضمرة رسول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأناخ راحلته

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٤ عن ابن عائذ ، والواقدي ، ومسدد في مسنده بسند صحيح ، والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٨٧ و ٧٨٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٦١.

٧٦

بباب المسجد ، فدخل وقريش في أنديتها ، فأخبرهم أنه رسول رسول الله وأخبرهم بالذي أمره رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» به.

فقال قرظة بن عبد عمرو الأعمى : أما أن ندي قتلى خزاعة ، فإن نفاثة فيهم عرام ، فلا نديهم حتى لا يبقى لنا سبد ولا لبد ، وأما أن نتبرأ من حلف نفاثة فإنه ليس قبيلة من العرب تحج هذا البيت أشد تعظيما له من نفاثة ، وهم حلفاؤنا ، فلا نبرأ من حلفهم ، أو لا يبقى لنا سبد ولا لبد ، ولكن ننبذ إليه على سواء.

فرجع ضمرة إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بذلك من قولهم.

وندمت قريش على رد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وبعثت أبا سفيان فذكر قصة مجيئه إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كما سيأتي (١).

مساع فاشلة لأبي سفيان :

روى محمد بن عمر عن حزام بن هشام عن أبيه : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «لكأنكم بأبي سفيان قد جاء يقول : جدّد العهد ، وزد في الهدنة (ليشد العقد ويزيد في المدة). وهو راجع بسخطه» (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٤ و ٢٠٥ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٢ والمطالب العالية ج ٤ ص ٢٤٣ وعن فتح الباري ج ٨ ص ٤ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٨٦ و ٧٨٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٦٠.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٥ عن عبد الرزاق عن نعيم ، مولى ابن عباس وعن ابن أبي شيبة عن عكرمة ، وعن الواقدي ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٢ و (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٣ والسيرة النبوية لابن هشام (ط مكتبة محمد علي

٧٧

وروي : أن الحارث بن هشام ، وعبد الله بن أبي ربيعة مشيا إلى أبي سفيان بن حرب ، فقالا : هذا أمر لا بد له من أن يصلح ، والله لئن لم يصلح هذا الأمر لا يروعكم إلا محمد في أصحابه.

فقال أبو سفيان : قد رأت هند بنت عتبة رؤيا كرهتها وأفظعتها وخفت من شرها.

قالوا : وما هي؟

قال : رأت دما أقبل من الحجون يسيل حتى وقف بالخندمة مليا ، ثم كأن ذلك الدم لم يكن ، فكره القوم الرؤيا (١).

وفي نص آخر زعموا : أنه لما بلغ أبا سفيان ما فعلت قريش بخزاعة ـ وهو بالشام ـ أقبل حتى دخل على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : يا محمد ، احقن دم قومك الخ .. (٢).

__________________

صبيح) ج ٤ ص ٨٥٥ و (ط دار المعرفة) ص ٢٧ وعيون الأثر ج ٢ ص ١٨٣ ومجمع البيان ج ١٠ ص ٥٥٥ و (ط مؤسسة الأعلمي) ص ٤٦٨ والجامع لأحكام القرآن ج ٨ ص ٦٤ وجامع البيان للطبري ج ٢ ص ٨٤ والبحار ج ٢١ ص ١٠١ وزاد المعاد (ط مؤسسة الرسالة) ج ١ ص ١١٤٧ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٩١ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٦٢.

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٥ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧١ و (ط دار المعرفة) ص ٣ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٨٥ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٥٩.

(٢) البحار ج ٢١ ص ١٠١ و ١٢٦ عن إعلام الورى ج ١ ص ٢١٧ ، وعن المناقب لابن شهر آشوب ج ١ ص ١٧٧ وراجع : تفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٦٩٢

٧٨

وقال أبو سفيان لما رأى ما رأى من الشر : هذا ـ والله ـ أمر لم أشهده ، ولم أغب عنه ، لا يحمل هذا إلا عليّ ، ولا والله ما شوورت فيه ، ولا هويته حين بلغني ، والله ، ليغزونا محمد إن صدقني ظني ، وهو صادقي ، وما بد من أن آتي محمدا فأكلمه أن يزيد في الهدنة ، ويجدد العهد.

فقالت قريش : قد والله أصبت.

وندمت قريش على ما صنعت من عون بني بكر على خزاعة ، وتحرجوا أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يدعهم حتى يغزوهم.

فخرج أبو سفيان ، وخرج معه مولى له على راحلتين ، فأسرع السير ، وهو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلقي بديل بن ورقاء بعسفان ، فأشفق أبو سفيان أن يكون بديل جاء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بل كان اليقين عنده ، فقال للقوم : أخبرونا عن يثرب متى عهدكم بها؟

قالوا : لا علم لنا بها.

فعلم أنهم كتموه ، فقال : أما معكم من تمر يثرب شيء تطعموناه؟ فإن لتمر يثرب فضلا على تمور تهامة.

قالوا : لا.

__________________

وتاريخ مدينة دمشق (ط دار الكتب العلمية) ج ٧٣ ص ٨٨ و (ط دار الفكر) ج ٧٩ ص ١٥٠ ومجمع البيان ج ١٠ ص ٥٥٥ و (ط مؤسسة الأعلمي) ص ٤٦٩ وتفسير الميزان ج ٢٠ ص ٣٧٩ والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج ٤ ص ٣٢١ و (ط مكتبة المعارف) ج ٢ ص ٢٧٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٣٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٦.

٧٩

فأبت نفسه أن تقرّه حتى قال : يا بديل : هل جئت محمدا؟

قال : لا ما فعلت ، ولكن سرت في بلاد بني كعب وخزاعة من هذا الساحل ، في قتيل كان بينهم ، فأصلحت بينهم.

فقال أبو سفيان : إنك ـ والله ـ ما علمت بر واصل.

ثم قايلهم أبو سفيان حتى راح بديل وأصحابه ، فجاء أبو سفيان منزلهم ففت أبعار أباعرهم ، فوجد فيها نوى من تمر عجوة كأنها ألسنة الطير ، فقال أبو سفيان : أحلف بالله لقد جاء القوم محمدا (١).

وكان القوم لما كانت الوقعة خرجوا من صبح ذلك اليوم فساروا ثلاثا ، وخرجوا من ذلك اليوم فساروا إلى حيث لقيهم أبو سفيان ثلاثا ، وكانت بنو بكر قد حبست خزاعة في داري بديل ورافع ثلاثة أيام يكلمون فيهم ، وائتمرت قريش في أن يخرج أبو سفيان ، فأقام يومين. فهذه خمس بعد مقتل خزاعة.

وأقبل أبو سفيان حتى دخل المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة زوج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأراد أن يجلس على فراش رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فطوته دونه.

فقال : يا بنية!! أرغبت بهذا الفراش عني أو بي عنه؟

قالت : بل هو فراش رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأنت امرؤ مشرك

__________________

(١) المغازي للواقدي ص ٧٨٥ و ٧٨٦ و ٧٩١ و ٧٩٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٢ و (ط دار المعرفة) ص ٣ وأشار إلى ذلك في : مجمع البيان ج ١٠ ص ٥٥٥ والبحار ج ٢١ ص ١٠١ و ١٠٢ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٥٩ ـ ٢٦٢.

٨٠