الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-193-9
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٤

أو أنه كان في الشام ولم يكن في مكة حين الإعتداء على الخزاعيين (١).

وهذا معناه : أن لا يجد بديل بن ورقاء أي مانع من الإبقاء على علاقته به ، ويكون همزة وصل ، لو حصل في المستقبل ما يحتاج إلى تفاوض ، أو تدخل لمنع حدوث الأسوأ ..

ثانيا : إنه إذا كانت خزاعة تعيش في دائرة الخطر ، ولم يكن يمكنها الحصول على الأمن المطلوب إلا عن طريق المداراة والمصانعة ، بانتظار الوقت الذي تتمكن فيه من تجاوز المحنة ، أو كان هذا الأمر يختص ببديل بن ورقاء فقط ، فإن هذه المداراة تصبح مقبولة إذا بقيت في حدود المعقول ، وليس في ذلك أية غضاضة أو وهن على بديل ولا على خزاعة ، وذلك ظاهر لا يخفى.

بين الثأر .. والقصاص :

وقد تقدم : أن نوفل بن معاوية صار يقرّع بني بكر ويقول لهم : «تسرقون الحاج في الحرم ، ولا تدركون ثاركم»!!

ومعلوم : أن مفهوم الثأر يعتمد على تبلور حالة من الحنق الشخصي في اندفاع ساحق ومدمر ، مع إغفال أي حساب آخر سوى إرضاء نزعة الحقد الأسود بهذا البطش الأرعن وغير المسؤول ، الذي لا يبالي بالضحية التي تكون في موقع البراءة والطهر في أكثر الأحيان ..

وخير شاهد على هذه الرعونة هو : انتقام بني بكر حتى من الصبيان والنساء ، والضعفاء ، وذلك ثأرا لأناس قتلوا قبل عشرات السنين. أي قبل

__________________

(١) راجع : البحار ج ٢١ ص ١٢٦ عن مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٧٧ وعن إعلام الورى ج ١ ص ٢١٧ والأنوار العلوية للنقدي ص ١٩٩.

٤١

ولادة كثير من هؤلاء الضحايا بسنوات كثيرة بلا ريب ..

فالثأر يهدف إلى التدمير والإبادة والاستئصال حتى للبريء ..

وقد قال سهيل بن عمرو لنوفل بن الحرث بن معاوية : «وأنت قد حصدتهم ، تريد قتل من بقي»؟

وإذا كان الحاكم هو منطق الأحقاد والضغائن ، لا الأخلاق والقيم والمبادئ والشرع ، أو العقل ، فلا بد من أن ينتج هذا السلوك حرصا على مقابلة الإساءة بالإساءة ، والتدمير والاستئصال حتى للأبرياء بمثله ، ويحول الوحدة إلى تشتت وتفرق ، والجماعة والعصبة إلى تمزق ، ويتحول اهتمام المجتمع من العمل على لم الشعث ، والتعاون على البر والتقوى ، ليصبح تعاونا على الإثم والعدوان وعلى معصية الله ورسوله.

وهذا هو الفرق بين الثأر والقصاص.

فإن القصاص إجراء تربوي إصلاحي ، يهدف إلى إرساء قواعد القسط والعدل ، وإلى جعل الحياة أكثر صفاء ونقاء ، بل أكثر حيوية وقوة واندفاعا ، على قاعدة : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (١).

وفي القصاص حفاظ على النفوس ، ومحاصرة للجريمة ، وخنق لها في مهدها ، وقطع دابرها ، وإعفاء آثارها ..

والقصاص معناه : حصر الجريمة في مصدرها وهو المجرم نفسه ، ثم استئصاله واستئصالها به ، وتطهير المحيط منه ومنها.

والقصاص يرسي قواعد الأمن المجتمعي ، ويبعد الناس عن العيش في

__________________

(١) الآية ١٧٩ من سورة البقرة.

٤٢

أجواء التآمر ، والكيد والتربص شرا بالآخرين وينمي حالة الثقة والتعاون فيما بين الناس.

والقصاص يهيئ الأجواء لإشاعة مفهوم الكرامة للإنسان ، ويؤكد قيمته ، ويحدّ من الطموح للتعدي عليه وهتك حرمته ..

وبالقصاص يعطي العدل قيمته ومعناه ، وينصب أمام أعين الناس مثلا وقيما ومعاني إنسانية لتكون موضع طموحهم ، وغاية ومنتهى آمالهم.

٤٣
٤٤

الفصل الثاني :

إلى المدينة : خبر وشكوى

٤٥
٤٦

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يخبر بالغيب عن نقض العهد :

روي : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لعائشة صبيحة كانت وقعة بني نفاثة وخزاعة بالوتير : «يا عائشة ، لقد حدث في خزاعة أمر».

(أو قال : لقد حرت في أمر خزاعة) (١).

فقالت عائشة : يا رسول الله ، أترى قريشا تجترئ على نقض العهد الذي بينك وبينهم ، وقد أفناهم السيف؟

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ينقضون العهد لأمر يريده الله تعالى».

فقالت : يا رسول الله ، خير؟

قال : «خير» (٢).

وعن ميمونة بنت الحارث : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بات عندها ليلة ، فقام ليتوضأ إلى الصلاة ، فسمعته يقول في متوضئه : «لبيك ، لبيك ، لبيك ـ ثلاثا ـ نصرت ، نصرت ، نصرت ـ ثلاثا ـ».

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٨٨.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠١ و ٢٠٢ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٢٨٨ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧١ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٦١.

٤٧

قالت : فلما خرج قلت : يا رسول الله ، سمعتك تقول في متوضئك : «لبيك ، لبيك ـ ثلاثا ـ نصرت ، نصرت ـ ثلاثا» كأنك تكلم إنسانا ، فهل كان معك أحد؟

قال : «هذا راجز بني كعب يستصرخني ، ويزعم أن قريشا أعانت عليهم بكر بن وائل».

قالت ميمونة : فأقمنا ثلاثا ثم صلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الصبح بالناس ، فسمعت الراجز ينشد :

يا رب إني ناشد محمدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

فذكرت الرجز الآتي (١).

لماذا عائشة دون سواها؟! :

إننا لا نريد أن نثير أي سؤال ذا طابع تشاؤمي حول سبب مبادرة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى إخبار عائشة دون سواها بهذا الأمر الغيبي الخطير ، الذي سوف يظهر صدقه ، وتتجلى دلائله وبراهينه في وقت قصير ..

وقد كان بإمكانه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يذكر هذا الغيب في ملأ من الناس ، ليصبح أكثر شيوعا ، وليسهم ـ من ثم ـ في تثبيت إيمان الناس ،

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٢ عن الطبراني في المعجم الكبير ، وفي المعجم الصغير ، ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٦٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧١ و ٧٢ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٧ وراجع : فتح الباري (ط دار المعرفة) ج ٧ ص ٤٠٠ والمعجم الصغير ج ٢ ص ٧٣ والمعجم الكبير ج ٢٣ ص ٤٣٤ ودلائل النبوة للأصبهاني ص ٧٣ والإصابة ج ٤ ص ٥٢٢.

٤٨

والربط على قلوبهم ..

وإنما نريد هنا أن نشير فقط : إلى أن تخصيص عائشة بهذا الخبر الغيبي الخطير ، من شأنه أن يجعلها أكثر حرصا على رواية هذا الحدث ، وإشاعته ، ما دام أنها ترى فيه تأكيدا على دورها المميز ، وحضورها الفاعل.

ثم هو يوحي بأنها كانت بحاجة لمزيد من الدلائل والشواهد على رعاية الغيب لمسيرة الرسالة والرسول ، ليحيا من حيي عن بينة ، ويهلك من هلك عن بينة ..

وغني عن القول : أن هذا التبرير أو ذاك يبقى في دائرة التظني أو الاحتمال ، ولا يجد ما يلغيه أو ما يؤكده بصورة قاطعة ويقينية ، فما علينا إذا أوكلنا أمر ذلك إلى المزيد من التأمل والتدبر أي جناح ..

حرت في أمر خزاعة :

وأما بالنسبة لما زعمه الواقدي : من أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «لقد حرت في أمر خزاعة» (١) ، فهو مرفوض جملة وتفصيلا لأسباب عديدة ، نذكر منها :

أولا : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يتحير في هذا الأمر ولا في سواه ، فإن التكليف الإلهي واضح لديه ، وهو واضح هنا أيضا لكل أحد ، إذ لا بد له من التعاطي مع ناكثي العهود بما يوجبه الشرع والدين .. وهو «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مسدد بالوحي ، عارف بأمر الله ، وهو عقل الكل ، وإمام الكل ، ومدبر الكل ، فلم يكن ليخفى عليه وجه الصلاح ، ولا حكم

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٨٨.

٤٩

الله في هذا الأمر.

ثانيا : إذا كان لا بد من الحيرة ، فلا بد من أن تكون حيرة في أمر قريش ، وبكر بن وائل ، لا في أمر خزاعة. فإن خزاعة قد نكبت وظلمت ، فلا بد من التفكير في طريقة كف الظالم عن ظلمه ، وردع الباغي عن بغيه بعد أن لم ينتفعوا بالآيات والنذر ، ولم يستجيبوا لنداء العقل ، ولم يلتزموا بما يوجبه عليهم معنى الرجولة والشهامة ، وغير ذلك من معاني كانوا يزعمون أن لها دورا وموقعا في حياتهم ، وفي قراراتهم ، وحركتهم ، وإقدامهم ، وإحجامهم.

سلب الألطاف الإلهية :

إن الشرك والكفر من أعظم الذنوب التي لا يبقى معها أيّ أهلية للطف الإلهي ، ولكن عدم الأهلية هذا لا يفرض حجب الألطاف بصورة قاطعة ونهائية .. فقد تكون هناك عوامل أخرى توجب التفضل الإلهي على فاقد الأهلية ، بسبب ابتلائه بالشرك .. فمن كان سخيا ، أو حليما ، أو بارا بوالديه ، أو بغيرهما من ذوي رحمه ، ربما يتفضل الله تعالى عليه ببعض العنايات والتوفيقات ، حفظا لتلك الخصال ، أو مكافأة على بعض الأفعال ، أو لطفا بغيره من أهل الحاجة والاستحقاق ..

وقد ورد : أن بعض خصال الخير التي تكون في غير المؤمنين إنما جعلها الله فيهم لأجل حفظ أهل الإيمان.

فقد روي عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» أنه قال : إن الله تبارك وتعالى أعار أعداءه أخلاقا من أخلاق أوليائه ، ليعيش أولياؤه مع أعدائه في دولاتهم.

٥٠

وفي رواية أخرى : ولو لا ذلك لما تركوا وليا لله إلا قتلوه (١).

وقد أتي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأسارى ، فأمر بقتلهم باستثناء رجل منهم ، فقال الرجل : بأبي أنت وأمي يا محمد ، كيف أطلقت عني من بينهم؟!

فقال : أخبرني جبرئيل عن الله عزوجل أن فيك خمس خصال يحبها الله ورسوله : الغيرة الشديدة على حرمك ، والسخاء ، وحسن الخلق ، وصدق اللسان ، والشجاعة.

فلما سمعها الرجل أسلم الخ .. (٢).

وهناك قضية أخرى تدخل في هذا السياق ، وقد تكون نفس هذه القضية ، وقد تكون غيرها فراجعها (٣).

وفي المقابل ، ربما يكون لبعض الموبقات ، التي يرتكبها المشرك أو

__________________

(١) راجع : البحار ج ٦٨ ص ٣٧٨ عن الكافي ج ٢ ص ١٠١ وشرح أصول الكافي ج ٢ ص ٢٩٢ ومجمع البحرين ج ٣ ص ٢٧٧ وتفسير نور الثقلين ج ٥ ص ٣٩١.

(٢) البحار ج ٦٦ ص ٣٨٣ وج ٦٨ ص ٣٨٤ و ٣٨٥ عن الأمالي للصدوق ص ١٦٣ و (ط مؤسسة البعثة) ص ٣٤٥ والخصال للصدوق ص ٢٨٢ وروضة الواعظين للفتال النيسابوري ص ٣٧٧ و ٣٨٤ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ٢٠ ص ١٥٥ و (ط دار الإسلامية) ج ١٤ ص ١٠٩ ومشكاة الأنوار لأبي الفضل علي الطبرسي ص ٤١٧.

(٣) البحار ج ٦٨ ص ٣٩٠ وج ٤١ ص ٧٣ و ٧٥ والأمالي للصدوق ص ٩٣ و ٩٤ و (ط مؤسسة البعثة) ١٦٧ و ١٦٨ ومستدرك الوسائل ج ٨ ص ٤٤٢ ومناقب آل أبي طالب ج ٢ ص ٧٦ والخصال ج ١ ص ٩٦ ومشكاة الأنوار لأبي الفضل علي الطبرسي ص ٤٠٩ والجواهر السنية للحر العاملي ص ١٣٥ ومستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ٤١٩.

٥١

الكافر ، أثر في تأكيد حجب جميع أشكال ودرجات التوفيق ، وإيكال هذا المجرم إلى نفسه بصورة تامة ونهائية ، لينتهي به الأمر إلى أن يؤثر ذلك حتى على مستوى إدراكه ، أو على سلامة هذا الإدراك ، أو يوقع هذا المجرم في بحر من الغفلة ، والجهل ، والجهالة التي قد تصل إلى حد الغواية التامة عن طريق الرشد ، في أبسط مراتبه ، وأدنى حالاته ..

وهذا هو ما حصل لقريش بالفعل ، كما ربما يفيده قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لعائشة : «ينقضون العهد لأمر يريده الله» حيث كان لا بد من حسم أمر الطغيان القرشي ، لينتعش الشعور بالعزة لأهل الإيمان ، ويتأكد سقوط عنفوان الشرك ، ويعيش رموزه حالة الذل والخزي الأمر الذي من شأنه أن يفسح المجال أمام دعوة الحق والإيمان لتأخذ طريقها إلى قلوب المستضعفين ، الذين كانوا بأمس الحاجة إليها.

وكان الطريق إلى ذلك هو ترك قريش لتتمادى في ممارسة دورها وفق ما يحلو لها ، وترتكب حماقاتها ، وتظهر على حقيقتها ، ويتجلى خزيها لكل أحد ، لتنال جزاء أعمالها بعيدا عن أي لبس أو شبهة ، أو تأويل خادع.

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .. ونصر بني كعب :

وقالوا : إن عمرو بن سالم الخزاعي خرج في أربعين راكبا من خزاعة يستنصرون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ويخبرونه بالذي أصابهم ، وما ظاهرت عليهم قريش ، ومعاونتها لهم بالرجال ، والسلاح ، والكراع ، وحضور صفوان بن أمية ، وعكرمة ، ومن حضر من قريش. وأخبروه بالخبر ، ورسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جالس في المسجد بين أظهر

٥٢

الناس ، ورأس خزاعة عمرو بن سالم ، فلما فرغوا من قصتهم ، قام عمرو بن سالم ، فقال :

يا رب إني ناشد محمدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتم ولدا وكنا والدا

ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا

إن قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وزعموا أن لست أدعو أحدا

وهم أذل وأقل عددا

هم بيّتونا بالوتير هجدا

وقتلونا ركعا وسجدا

وجعلوا لي في كداء رصدا

فانصر رسول الله نصرا أيدا

وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا

أن سيم خسفا وجهه تربدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا

قرم لقرم من قروم أصيدا

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «حسبك يا عمرو ، أي : ودمعت عيناه».

أو قال : «نصرت يا عمرو بن سالم».

فما برح حتى مرت عنانة (أي سحابة) من السماء فرعدت ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٢ و ٢٠٣ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٢٣٤ ودلائل النبوة ج ٥ ص ٧ وعن : الطبراني في الكبير والصغير ، عن ميمونة بنت الحارث ، والبزار بسند جيد عن أبي هريرة ، وابن أبي شيبة في المصنف عن

٥٣

وفي المنتقى : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لما كان بالروحاء نظر إلى سحاب منصب ، فقال : إن هذه السحابة لتستهل (لينتصب) الخ .. (١).

وروي بسند جيد عن عائشة قالت : لقد رأيت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» غضب مما كان من شأن بني كعب غضبا لم أره غضبه منذ زمان. وقال : «لا نصرني الله ـ تعالى ـ إن لم أنصر بني كعب» (٢).

__________________

عكرمة ، والبيهقي عن ابن إسحاق ، ومحمد بن عمر عن شيوخه ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧١ وراجع السيرة النبوية لابن هشام (ط مكتبة محمد علي صبيح) ج ٤ ص ٨٥٥ وعيون الأثر ج ٢ ص ١٨٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٢٧ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٠٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٣ ص ٥٢٠ وأسد الغابة ج ٤ ص ١٠٥ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢٥ والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج ٤ ص ٣١٨ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٧ والبحار ج ٢١ ص ١٢٥ عن إعلام الورى ، وراجع : الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٣٤.

(١) راجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٧ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٦٤ والمعجم الصغير ج ٢ ص ٧٤ والمعجم الكبير ج ٢٣ ص ٤٣٤ ودلائل النبوة للأصبهاني ص ٧٤.

(٢) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧١ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٩١ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٣ وفي هامشه عن : مسند أبي يعلى ج ٧ ص ٣٤٣ (٢٤ / ٤٣٨٠) ، وذكره الهيثمي في المجمع ج ٦ ص ١٦٤ وعزاه لأبي يعلى عن حزام بن هشام بن حبيش عن أبيه عنهما. وقد وثقهما ابن حبان ، وبقية رجاله رجال الصحيح ، وذكره ابن حجر في المطالب العالية (٤٣٥٦) وراجع : مجمع الزوائد (ط دار الكتب العلمية) ص ١٦١ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٦٢.

٥٤

وعن ابن عباس : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لما سمع ما أصاب خزاعة ، قام ـ وهو يجر رداءه ـ وهو يقول : «لا نصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر منه نفسي» (١).

وفي نص آخر : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «والذي نفسي بيده ، لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي ، وأهلي ، وبيتي» (٢).

ويتابع المؤرخون ، فيقولون : فلما فرغ الركب قالوا : يا رسول الله ، إن أنس بن زنيم الديلي قد هجاك ، فهدر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دمه (٣).

فبلغ أنس بن زنيم ذلك ، فقدم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» معتذرا عما بلغه فقال قصيدة منها :

أأنت الذي تهدى معد بأمره

بل الله يهديهم وقال لك اشهد

فما حملت من ناقة فوق رحلها

أبر وأوفى ذمة من محمد

إلى آخر القصيدة ..

وبلغت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قصيدته واعتذاره. وكلمه

__________________

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٣٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٣ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٥٨ و ٢٦١.

(٢) المصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٧٤ (٩٧٣٩) وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٣ عنه وعن الواقدي ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧١ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٩١.

(٣) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٨٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٤ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٨٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٠ ص ٢٣ وأسد الغابة ج ١ ص ٩٠ و ١٢٠ وج ٤ ص ١٠٥ والإصابة ج ١ ص ٢٧١ والأعلام ج ٢ ص ٢٤.

٥٥

نوفل بن معاوية الديلي فيه ، وقال له :

أنت أولى الناس بالعفو ، ومن منا لم يعادك ولم يؤذك؟ ونحن في جاهلية ، لا ندري ما نأخذ وما ندع ، حتى هدانا الله بك من الهلكة ، وقد كذب عليه الركب ، وكثّروا عندك.

فقال : دع الركب ، فإنّا لم نجد بتهامة أحدا من ذي رحم ولا بعيدا كان أبر بنا من خزاعة.

فأسكت نوفل بن معاوية.

فلما سكت قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : قد عفوت عنه.

فقال نوفل : فداك أبي وأمي (١).

نوفل يضيع الحق :

ونقول :

إن كلام نوفل لم يكن منصفا ولا دقيقا ، فلاحظ ما يلي :

١ ـ إنه يبدو : أن كلام نوفل بن معاوية كان يهدف إلى تصغير ذنب أنس من جهة ، وإلى تضييع الحق من جهة أخرى.

فما قاله يؤدي إلى أن يصبح عفو رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن مرتكب هذا الجرم العظيم ، الذي يرمي إلى إلحاق الوهن بالإسلام ، من خلال الجرأة على نبيه ، يصبح عفوه عن جرم كهذا غير ذي أهمية ، بل هو سيجعل ذلك واجبا إنسانيا إلى حد يكون معه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله»

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٨٩ و ٧٩٠ و ٧٩١ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٨٣ وراجع : الإصابة ج ١ ص ٢٧٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٠ ص ٢٣.

٥٦

نفسه في موقع الاتهام في نبله ، وفي أخلاقه الحميدة ، وفي سجاياه الكريمة ، وحقيقة التزامه بالقيم ، ورعايته للمثل العليا ، وللمعاني الإنسانية.

فإذا كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فاقدا لمثل هذه الفضيلة ـ والعياذ بالله ـ فإن تحلّيه بما هو أسمى منها يصير موضع شك وريب ، ويدعو إلى تفسير بعض ما يصدر عنه بطريقة أخرى ، تبعده عن أن يكون ناشئا عن خلق رضيّ ، وعن نفس تعيش معنى السماحة ، والنبل ، وسائر المعاني الإنسانية الفاضلة والرقيقة.

٢ ـ إن كلام نوفل قد تضمن المساواة بين الوفي والغادر ، وبين المؤذي عن جهل ، وبين من يخطط للإيذاء ، وبين من يعادي الشخص لأمور شخصية ، وفي أمور جزئية ، وبين من يعادي المبادئ والقيم ، ويسعى لإطفاء نور الله عن علم ، وهذا من نوفل : إما ظلم واضح ، أو جهل فاضح.

وفي كلتا الحالتين يفترض برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن يتصدى لدفع الظلم ورفع الجهل.

٣ ـ إن نوفل بن معاوية يدّعي : أن الأخبار التي بلغت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تشتمل على أكاذيب ، ولكنه لم يقدم أي دليل او إشارة تثبت صحة هذه الدعوى.

مع العلم : بأن هذا التكذيب ليس له ما يبرره ، فإن الشهادة على النفي من شخص واحد لا يمكن أن تعارض الشهادة على الإثبات ، خصوصا إذا كانت شهادة الإثبات تصدر عن جماعة كبيرة من الناس. كانت الشهادة تتناول حقبة زمنية واسعة لا مجال للاطلاع على تفاصيلها.

فإن فعل الهجاء قد يغيب عنه شخص ، ويحضره أشخاص آخرون ،

٥٧

وهم قد يقلون وقد يكثرون. فكيف أجاز نوفل بن معاوية لنفسه أن يقيم هذه الشهادة العجيبة أمام سيد عقلاء العالم المؤيد بالوحي ، ويحظى بالتسديد واللطف الإلهي؟!

٤ ـ إن هذه الشهادة تستبطن درجة من الاتهام لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنه يتسرّع باتخاذ قراراته في حق الأشخاص إلى حد أنه يبادر إلى إهدار دماء الناس استنادا إلى أكاذيب يزجيها إليه ركب زائر ..

٥ ـ إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد بيّن : أن نوفلا لم يكن صادقا فيما قدمه من تبريرات ، وقد صرح له : بأن الوقائع قد جاءت لتثبت خلاف مزاعمه ، فأسكت نوفل ولم يدر ما يقول ..

٦ ـ لقد رأينا : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يتراجع عن قراره بإهدار دم أنس بن رزين ، ولم يعر لمزاعم نوفل أي اهتمام ، وإنما عفا عنه بعد أن أكذب نوفلا فيما زعم ، فجاء العفو عن ابن زنيم تكرما من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لا انصياعا لمنطق نوفل.

غضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لبني كعب :

وقد كان غضب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لبني كعب شديدا ، حتى إن عائشة لم تره قد غضب إلى هذا الحد منذ زمان. ولكنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يغضب لنفسه ، ولا لعشيرته ، ولا لفوات منفعة ، ولا كان غضبه حنقا غير مسؤول ، يخرجه عن حدود المقبول والمعقول ، بل كان غضبا لله تعالى ، وانتصارا للمظلوم من ظالمه ، ولأجل المنع من العدوان على القيم الإنسانية ، والمثل العليا ..

٥٨

إن هذا الغضب واجب شرعي وأخلاقي وعقلي ، ناشئ عن الشعور بالمسؤولية ، وفي سياق مراعاة الحكم الشرعي ، والإصرار على تطبيق القيم الإنسانية بأمانة وبدقة ..

وغني عن القول : أن هذا الغضب لم يخرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن جادة الحق ، والإنصاف ، والاعتدال.

بل هو من أجل إرغام الخارجين عن هذه الجادة على الرجوع إليها ..

نصرت يا عمرو بن سالم :

قد لا حظنا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يصر على الجهر بتصميمه على نصرة المظلومين من خزاعة ، وهو يستخدم في بياناته لهذا النصر صيغة فعل الماضي ، وكأنه يخبر عن حصول هذا الأمر فيما مضى من الزمان ، حتى أصبح كأنه تاريخ يحكى ، فيقول لعمرو بن سالم : «نصرت يا عمرو بن سالم» ولم يقل : ستنصر ، أو نحو ذلك.

ويقول في إخباره الغيبي بما حصل : «لبيك ، لبيك ، لبيك. نصرت ، نصرت ، نصرت». ولم يقل : سوف أنصرك ..

وقد تحقق مضمون هذه التلبية ، ونصر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بني كعب أجمل نصر ، وأتمّه وأوفاه ..

لا نصرني الله إن لم أنصر بني كعب :

ولكن الأمر لم يقف عند هذا الحد ، بل تعداه إلى تأكيد تصميمه على نصر بني كعب ، بأسلوب قد يفاجئ الكثيرين ، وهو الطلب إلى الله أن يحجب عنه نصره ، إن لم يقم بهذا الواجب ..

٥٩

غير أننا نقول :

إن هذا الطلب يمكن تفسيره : بأن من يتخلى عن واجبه الشرعي لا يستحق اللطف والنصر الإلهي ، هذا إن اقتصر الأمر على المعاملة وفقا لمبدأ المقابلة بالمثل ..

في حين أن من يتخلف عن واجبه الشرعي يستحق الطرد من ساحة الرضا الإلهي ، ليصبح من يفعل ذلك في معرض غضبه تبارك وتعالى ..

وبما أن هذا الأمر لا يظن صدوره من أي إنسان مؤمن بالله ملتزم بأوامره ونواهيه ، فيرد السؤال عن معنى أن يجعل أعظم وأفضل وأكرم الأنبياء نفسه في دائرة احتمال التخلف عن هذا الواجب ، ومخالفة التكليف الإلهي.

ويمكن أن نجيب بما يلى :

أولا : قد يقال : إن ذلك جار على طريقة هضم النفس ، حيث إن المفروض هو : أن يتعامل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مع نفسه بغض النظر عن اللطف الإلهي ، وعن العصمة .. وهذا أمر شائع ومعروف ..

فهذه الكلمة تشبه قول أمير المؤمنين «عليه‌السلام» : ما أنا في نفسي بفوق أن أخطئ ، ولا آمن ذلك من فعلي ، إلا أن يكفي الله بلطف منه (١).

__________________

(١) راجع : الكافي ج ٨ ص ٢٩٣ و (ط مطبعة الحيدري) ص ٣٥٦ والبحار ج ٢٧ ص ٢٥٣ وج ٤١ ص ١٥٤ وج ٧٤ ص ٣٥٨ و ٣٥٩ ونهج البلاغة (بتحقيق عبده) (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٢٠١ و (ط دار التعارف بيروت) ص ٢٤٥ خطبة ٢١٦. ونهج السعادة ج ٢ ص ١٨٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١١ ص ١٠٢ وميزان الحكمة ج ٢ ص ١٥٢٨ وشرح أصول الكافي ج ١٢ ص ٤٩٩.

٦٠