الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-193-9
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٤

حسبما أسلفناه في الصفحات السابقة.

شهر رمضان لماذا؟! :

١ ـ لقد كانت سياسة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في كثير من حروبه مع أعدائه ، وخصوصا في غزوة الفتح ، هي اعتماد عنصر المباغته.

وقد توفر هذا العنصر أيضا في اختيار شهر رمضان المبارك ، وهو شهر الصوم والعبادة ، للقيام بحملة واسعة وكبيرة ، لأن ذلك كان من الأمور التي يقلّ احتمالها في حسابات الناس عادة ، حيث يتوقعون إخلاد الناس للراحة في هذا الشهر ، وعكوفهم على العبادة ، وعزوفهم عن الأسفار ، حتى لا يضطروا لقضاء الصوم في أيام فطر الناس.

وبذلك يصح اعتبار هذا التوقيت من العناصر التي ساعدت على مباغتة القوم ، ومفاجأتهم كما هو ظاهر ..

٢ ـ ثم إن لشهر رمضان أثره الإيحائي في نفوس أهل الإيمان ، من حيث أنه يهيئهم للعيش في كنف الله ، والشعور بحضوره ، ويؤكد علاقتهم به تبارك وتعالى. فكيف إذا انضم إلى ذلك أن حركتهم هذه إنما هي باتجاه بيت الله ، وحرمه ، وأقدس البقاع وأشرفها؟ ويقودهم ويرعاهم أفضل الأنبياء وأكرمهم وأشرفهم؟!.

ولعل أهم ما في الأمر : أن ذلك يحقق درجة كبيرة من التمازج العملي فيما بين المعاني والقيم الإيمانية ، وبين حركة الإنسان في الحياة ، ويعطي هذه الحركة معناها الروحي ، ويتجلى ذلك فيها بعمق ، وبوضوح ، ويمنح الإنسان قدرة أكبر على الشعور بهذا التمازج ، وتتفاعل مشاعره وأحاسيسه معه ، وتحت وطأته.

٢١

الأحلاف في الجاهلية والإسلام :

قالوا : كانت خزاعة في الجاهلية أصابت رجلا من بني الحضرمي ، واسمه مالك بن عباد ـ وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود بن رزن ـ وكان هذا الحضرمي قد خرج تاجرا ، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه ، وأخذوا ماله.

فمر رجل من خزاعة على بني الديل بعد ذلك فقتلوه ، فوقعت الحرب بينهم ، فمر بنو الأسود بن رزن ، وهم : ذؤيب ، وسلمى ، وكلثوم على خزاعة ، فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم.

وكان قوم الأسود منخر بني كنانة يودون في الجاهلية ديتين لفضلهم في بني بكر ، ونودى دية.

فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فحجز بالاسلام بينهم ، وتشاغل الناس به ، وهم على ما هم عليه من العداوة في أنفسهم.

فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبين قريش ، ووقع الشرط : «ومن أحب أن يدخل في عقد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فليدخل ، ومن أراد أن يدخل في عقد قريش فليدخل» ، دخلت خزاعة في عقد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

حلف خزاعة :

وقالوا أيضا : وكانت خزاعة حلفاء عبد المطلب بن هاشم ، وكان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بذلك عارفا ، ولقد جاءته خزاعة يومئذ

٢٢

بكتاب عبد المطلب فقرأه عليه أبي بن كعب وهو :

«باسمك اللهم. هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة ، إذ قدم عليه سرواتهم وأهل الرأي ، غائبهم مقر بما قاضى عليه شاهدهم ، إن بيننا وبينكم عهود الله وعقوده ، وما لا ينسى أبدا ، اليد واحدة ، والنصر واحد ما أشرف ثبير ، وثبت حراء مكانه ، وما بل بحر صوفة. ولا يزداد فيما بيننا وبينكم إلا تجددا أبد الدهر سرمدا».

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ما أعرفني بخلقكم على ما أسلمتم عليه من الحلف! فكل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة. ولا حلف في الإسلام» (١).

وفي الإمتاع : أن نسخة كتاب الحلف هي :

«باسمك اللهم. هذا ما تحالف عليه عبد المطلب بن هاشم ورجالات عمرو بن ربيعة من خزاعة ، تحالفوا على التناصر والمواساة ما بلّ بحر صوفة ، حلفا جامعا غير مفرق ، الأشياخ على الأشياخ ، والأصاغر على الأصاغر ، والشاهد على الغائب ، وتعاهدوا وتعاقدوا أوكد عهد ، وأوثق عقد ، لا ينقض ولا ينكث ، ما أشرقت شمس على ثبير ، وحنّ بفلاة بعير ، وما أقام الأخشبان ، وعمر بمكة إنسان ، حلف أبد ، لطول أمد ، يزيده طلوع الشمس شدّا ، وظلام الليل مدا ..

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٠ عن فتح الباري ج ٧ ص ٥٩٢ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٠ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٨١ و ٧٨٢ وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج ٢ ص ٣٤٥ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ١٣٠ و ٢٣٤ و ٢٣٥.

٢٣

وأن عبد المطلب وولده ومن معهم ورجال خزاعة متكافئون ، متظاهرون متعاونون ، فعلى عبد المطلب النصرة لهم بمن تابعه على كل طالب ، وعلى خزاعة النصرة لعبد المطلب وولده ومن معهم على جميع العرب ، في شرق أو غرب ، أو حزن أو سهل. وجعلوا الله على ذلك كفيلا ، وكفى بالله جميلا».

فجاؤوا بعهدهم هذا إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الحديبية ، فقرأه له أبي بن كعب ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : ما أعرفني بحقكم وأنتم على ما أسلفتم عليه من الحلف (١).

سبب حلف خزاعة :

وذكروا عن سبب عقد هذا الحلف :

أنه لما مات المطلب بن عبد مناف ، وثب أخوه نوفل على ساحات وأفنية كانت لعبد المطلب ، واغتصبه إياها ، فضطرب عبد المطلب لذلك ، واستنهض قومه ، فلم ينهض معه أحد منهم ، وقالوا له : لا ندخل بينك وبين عمك.

فكتب إلى أخواله بني النجار ، فجاءه منهم سبعون راكبا ، فأتوا نوفلا ، وقالوا له : ورب هذه البنية ، لتردنّ على ابن أختنا ما أخذت ، وإلا ملأنا منك السيف ، فرده.

ثم حالف خزاعة بعد أن حالف نوفل بني أخيه عبد شمس (٢).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٠ و ٧١.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٠ وراجع : تاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج ٢ ص ٩ و ١٠.

٢٤

ونقول :

إن لنا مع النصوص المتقدمة وقفات عديدة ، نقتصر منها على ما يلي :

حلف أهل الباطل :

قد اتضح مما تقدم : أن نوفلا كان متعديا على عبد المطلب غاصبا لحقه ، وأن عبد المطلب حين لم ينهض معه أحد من قومه اضطر إلى الاستعانة بأخواله من بني النجار ، ثم حالف خزاعة ، ليمتنع بهم إن تعرض له احد بظلم ، لكي يدفع عن نفسه ، ويعيش مرهوب الجانب عزيزا مكرما ..

ولكن نوفلا الذي ظلم عبد المطلب ، ولم يتراجع عن موقفه إلا تحت وطأة التهديد باستعمال السيف ، قد حالف بني أخيه عبد شمس ، ليتقوى بهم على مواصلة سيرته ونهجه ، وهم لم يجدوا في التحالف معه على ذلك أي حرج أو مانع ..

وشتان بين من يحالف جماعة ليتقوى بهم على إحقاق الحق ، وبين من يحالف الآخرين ليتقوى بهم على إشاعة نهجه الإنحرافي والظالم ..

لا حلف في الإسلام :

ومن خلال المعادلة المشار إليها آنفا ندرك صحة ما يرمي إليه قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «كل حلف في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة. ولا حلف في الإسلام».

فإن المقصود بالحلف الذي في الجاهلية ، ويزيده الإسلام شدة ، هو الحلف الهادف إلى نصرة الحق ، والمتضمن للتعاون ، والتناصر ، والمواساة ، ودفع الظلم .. فإن الإسلام يشدد على الاستمرار في هذا الاتجاه ، ويؤكد على

٢٥

الالتزام بمضمون كل حلف فيه هذه المزايا ، ويدعو إلى دخول جميع الناس في هذا الالتزام ..

ولكن الإسلام لا يرضى بنشوء حلف فيما بين المسلمين ضد أي فريق آخر منهم أنفسهم ، لأن معنى هذا هو : إقرار الإسلام حالة الإنقسام فيما بين أهل الصف الواحد ، وأتباع النهج والدين الواحد ، في حين أن دعوة الإسلام تقوم على اعتبار المسلمين يدا واحدة على من سواهم (١) ، ويريد لهم : «أن يكونوا بمثابة أسرة واحدة متكاملة العناصر ، لهم قيّم واحد ، وهو النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أو الإمام «عليه‌السلام» ، وقد روي عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قوله : أنا وعلي أبوا هذه الأمة (٢).

__________________

(١) راجع : كتاب الأم للشافعي ج ٤ ص ٢٣٩ و ٣٠٢ وج ٧ ص ٣٦٧ و ٣٧٠ ومختصر المزني ص ٢٥٨ و ٢٧٢ والمجموع للنووي ج ١٩ ص ٣٦٤ و ٣٦٥ والمبسوط للسرخسي ج ١٠ ص ٢٥ ونيل الأوطار ج ٨ ص ١٨٠ والأمالي للشيخ الطوسي ص ٢٦٣ والبحار ج ٩٣ ص ٨١ وج ٩٧ ص ٣٢ والغدير ج ٨ ص ١٧١ وميزان الحكمة ج ٢ ص ١٣٤٠ و ١٣٤١ وسنن ابن ماجة ج ٢ ص ٨٩٥ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ٢٩٢ والمصنف للصنعاني ج ١٠ ص ٩٩ وصحيح ابن خزيمة ج ٤ ص ٢٦ وشرح معاني الآثار ج ٣ ص ١٩٣ والمعجم الأوسط ج ٦ ص ٣٠٥ والمعجم الكبير ج ٢٠ ص ٢٠٦ وكنز العمال ج ١ ص ٩٩ والسير الكبير للشيباني ج ٢ ص ٤٨٢.

(٢) راجع : معاني الأخبار ص ٥٢ و ١١٨ وعيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٨٥ و (ط أخرى) ج ١ ص ٩١ والبرهان (تفسير) ج ١ ص ٣٦٩ عن الفائق للزمخشري ، وعن ابن شهر آشوب. والميزان (تفسير) ج ٤ ص ٣٥٧ عنه وعن العياشي. ومن لا يحضره الفقيه ج ٤ ص ٢٣٥ وعلل الشرائع ج ١ ص ١٢٧ والأمالي للصدوق ـ

٢٦

وتتشارك سائر العناصر في بناء الحياة في أخوة مسؤولة ، متعاونة ، ومتكافلة ،

__________________

ص ٦٥ و ٤١١ و ٧٥٥ وكمال الدين وتمام النعمة ص ٢٦١ وروضة الواعظين للفتال النيسابوري ص ٣٢٢ وخاتمة المستدرك للنوري ج ٥ ص ١٤ والغارات للثقفي ج ٢ ص ٧١٧ و ٧٤٥ ومائة منقبة لمحمد بن أحمد القمي ص ٤٦ و ٤٧ وكنز الفوائد ص ١٨٦ والمناقب لابن شهر آشوب ج ٢ ص ٣٠٠ والعمدة لابن البطريق ص ٣٤٥ وسعد السعود للسيد ابن طاووس ص ٢٧٥ والصراط المستقيم ج ١ ص ٢٤٢ و ٢٤٣ والمحتضر لحسن بن سليمان الحلي ص ٣٥ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٤٧ والبحار ج ١٦ ص ٩٥ و ٣٦٤ وج ٢٣ ص ١٢٨ و ٢٥٩ وج ٢٦ ص ٢٦٤ و ٣٤٢ وج ٣٦ ص ٦ و ٩ و ١١ و ١٤ و ٢٥٥ وج ٣٨ ص ٩٢ و ١٥٢ وج ٣٩ ص ٩٣ وج ٤٠ ص ٤٥ و ٥٣ وج ٦٦ ص ٣٤٣ وج ٧١ ص ١١٦ وج ١٠٨ ص ٣٢٠ و ٣٧٦ وج ١٠٩ ص ١٠ وج ١١٠ ص ٣٦ وكتاب الأربعين للماحوزي ص ٢٣٨ وشرح الزيارة الجامعة للسيد عبد الله شبر ص ٤٣ والمراجعات ص ٢٨٦ ومستدرك سفينة البحار ج ١ ص ٤٠ و ٤١ وج ٢ ص ٣٩٣ وج ٩ ص ٢٦٤ وج ١٠ ص ٤٤٥ ونهج السعادة ج ٧ ص ١٥٦ و ١٥٨ والإمام علي «عليه‌السلام» لأحمد الرحماني ص ٧٦ و ٧٨٧ ومسند الإمام الرضا «عليه‌السلام» ج ١ ص ٨٠ و ٢٢١ ودرر الأخبار ص ٢٤٤ و ٢٧٢ وتفسير أبي حمزة الثمالي ص ١٥٩ و ٢٠٠ و ٤١٣ وتفسير الإمام العسكري «عليه‌السلام» ص ٣٣٠ و ٣٣١ و ٦٤٥ والتفسير الصافي ج ١ ص ١٥٠ وج ٤ ص ١٦٥ و ١٦٦ وج ٥ ص ٥٢ والتفسير الأصفى ج ٢ ص ٩٨٤ وتفسير نور الثقلين ج ٤ ص ٢٣٧ و ٢٣٨ وتفسير كنز الدقائق ج ١ ص ٢٨٦ وج ٤ ص ٣٥٧ ومفردات غريب القرآن ص ٧ وإختيار معرفة الرجال ج ١ ص ٢٣٣ وبشارة المصطفى لمحمد بن علي الطبري ص ٩٧ و ٢٥٤ ونهج الإيمان لابن جبر ص ٦٢٥ و ٦٢٩ وتأويل الآيات لشرف الدين الحسيني ج ١ ص ٧٤ و ١٢٨ وينابيع المودة ج ١ ص ٣٧٠.

٢٧

ومنسجمة على قاعدة : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (١) ، تقوم على أساسين اثنين هما : الحق والمواساة ، كما اتضح من مؤاخاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بين المسلمين. وقد ذكرنا ذلك في جزء سابق من هذا الكتاب.

مرتكزات حلف عبد المطلب وخزاعة :

وإذا تأملنا في مضمون حلف عبد المطلب مع خزاعة ، فإننا نجده قائما على نفس المرتكزات التي قامت عليها المؤاخاة فيما بين المسلمين حسبما قدمناه في هذا الكتاب ..

فإن كانت المؤاخاة قد قامت على دعامتين هما : الحق والمواساة. فإن حلف عبد المطلب وخزاعة أيضا قد قام على نفس هاتين الدعامتين ، لأنه جاء لحماية الحق ، وتأكيد الالتزام به ، والانتصار له ، والتناصر فيه ، والتعاون على حفظه ، والالتزام بالمواساة فيه.

كما أنه صرح أو أشار إلى حيثيات تؤكد على هذا المسار ، وتبين معالمه ، وتوضح آفاقه.

فهو ـ كما صرحت الروايات ـ :

١ ـ حلف جامع غير مفرق.

وهو يقوم على :

٢ ـ التكافؤ فيما بين أفراده وشرائحه ، فالكل متكافئون ..

٣ ـ والتناصر .. إلى حد يكون فيه النصر واحدا ، لا تمييز فيه بين كبير وصغير.

__________________

(١) الآية ١٠ من سورة الحجرات.

٢٨

٤ ـ والتعاون حتى إن اليد واحدة.

٥ ـ والمواساة.

٦ ـ وأساس هذا الحلف عهود الله وعقوده ..

٧ ـ وهو يخضع لرعاية الله تبارك وتعالى ، فهو سبحانه الكفيل والضامن وغير ذلك من لمحات وإشارات يجدها فيه المتأمل الخبير ، والناقد البصير.

قريش تنقض العهد :

وقد نقضت قريش عهدها الذي عقدته مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الحديبية.

وقالوا : إن سبب ذلك هو : أنه لما دخل شعبان على رأس اثنين وعشرين شهرا من صلح الحديبية ، كلمت بنو نفاثة وبنو بكر أشراف قريش أن يعينوهم بالرجال والسلاح على عدوهم من خزاعة ، وذكروهم القتلى الذين أصابت خزاعة منهم.

وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأر أولئك النفر الذين أصابوا منهم في بني الأسود بن رزن ، وناشدوهم بأرحامهم ، وأخبروهم بدخولهم في عقدهم ، وعدم الإسلام ، ودخول خزاعة في عقد محمد وعهده.

فوجدوا القوم إلى ذلك سراعا ، إلا أن أبا سفيان بن حرب لم يشاور في ذلك ولم يعلم (١).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٨٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٣ ص ٤٥٣ والبحار ج ٢١ ص ١٠٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٦٠ و ٢٧١.

٢٩

ويقال : إنهم ذاكروه فأبى ذلك (١).

فأعانوا بالسلاح والكراع والرجال ، ودسوا ذلك سرّا لئلا تحذر خزاعة ، وخزاعة آمنون غارون لحال الموادعة ، ولما حجز الإسلام بينهم.

ثم اتعدت قريش وبنو بكر وبنو نفاثة أن يأتوا إلى (الوتير) ، وهو موضع أسفل مكة ، وهو منازل خزاعة ، فوافوا للميعاد فيهم رجال من قريش ، من كبارهم ، متنكرون منتقبون ؛ منهم : سهيل بن عمرو ، وصفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل ، وحويطب بن عبد العزى ، وشيبة بن عثمان ـ وأسلموا بعد ذلك ـ ومكرز بن حفص ، وأجلبوا معهم أرقاءهم.

ورأس بني بكر نوفل بن معاوية الديلي ـ وأسلم بعد ذلك ـ.

فبيتوا خزاعة ليلا ، وهم غارون آمنون ـ وعامتهم صبيان ، ونساء ، وضعفاء الرجال ـ فلم يزالوا يقتلونهم حتى انتهوا إلى أنصاب الحرم.

فقال أصحاب نوفل بن معاوية له : يا نوفل ، إلهك ، إلهك. قد دخلت الحرم!

فقال كلمة عظيمة : لا إله لي اليوم ، يا بني بكر ، لعمري إنكم لتسرقون الحاج في الحرم ، أفلا تدركون ثأركم من عدوكم ، ولا يتأخر أحد منكم بعد يومه عن ثاره؟!

فلما انتهت خزاعة إلى الحرم دخلت دار بديل بن ورقاء ، ودار مولى لهم يقال له : رافع الخزاعيين ، وانتهوا بهم في عماية الصبح.

ودخلت رؤساء قريش منازلهم ، وهو يظنون أنهم لا يعرفون ، وأنه لا

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠١ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٥٧.

٣٠

يبلغ هذا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وأصبحت خزاعة مقتّلين على باب بديل ورافع.

وقال سهيل بن عمرو لنوفل بن الحرث : قد رأيت الذي صنعنا بك وبأصحابك ، ومن قتلت من القوم ، وأنت قد حصدتهم تريد قتل من بقي ، وهذا ما لا نطاوعك عليه ، فاتركهم.

فتركهم ، فخرجوا.

وندمت قريش ، وندموا على ما صنعوا ، وعرفوا أن هذا الذي صنعوه نقض للذمة والعهد الذي بينهم وبين رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وجاء الحارث بن هشام ، وعبد الله بن أبي ربيعة إلى صفوان بن أمية ، وإلى سهيل بن عمرو ، وعكرمة بن أبي جهل ، فلاموهم بما صنعوا من عونهم بني بكر على خزاعة ، وقالوا : إن بينكم وبين محمد مدة ، وهذا نقض لها (١).

وقيل : إنهم قتلوا منهم عشرين رجلا (٢).

وقيل : إن سبب نقض العهد ليس هو سعي بني نفاثة لأخذ ثأرهم القديم من خزاعة ، بل السبب هو : أن شخصا من بني بكر ، وهو أنس بن زنيم الديلي ، هجا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وصار يتغنى به ، فسمعه غلام من

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠١ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧١ والبحار ج ٢١ ص ١٠٠ و ١٠١ ومجمع البيان ج ١٠ ص ٥٥٤ و ٥٥٥ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٨٢ و ٧٨٣ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٥٧ وزاد المسير ج ٣ ص ٢٧٢ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٣٤.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٥٨ وزاد المسير ج ٣ ص ٢٧٢ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٣٤.

٣١

خزاعة ، فضربه فشجه ، فثار الشر بين الحيين ، مما كان بينهم من العداوة.

فطلب بنو نفاثة من أشراف قريش أن يعينوهم بالرجال والسلاح على خزاعة ، فأمدوهم بذلك ، فبيتوا خزاعة وهم غارون آمنون .. وقاتل معهم جمع من قريش الخ .. (١).

واعتزلت بنو مدلج ، فلم ينقضوا العهد (٢).

كما أن أبا سفيان لم يشاور في ذلك ولم يعلم (٣).

وقال الطبرسي : «لما مضت سنتان من القضية (يعني عمرة القضاء) قعد رجل من كنانة يروي هجاء رسول الله ، فقال له رجل من خزاعة : لا تذكر هذا.

قال : وما أنت وذاك؟!

فقال : لإن أعدت لأكسرن فاك!

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧١ عن الإمتاع ، والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٨٢ و ٧٨٣ وراجع : فتوح البلدان ج ١ ص ٤١ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٥٧ والجامع لأحكام القرآن ج ٨ ص ٨٧.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧١ عن الإمتاع ، والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٨٢ و ٧٨٣ وراجع : تفسير الميزان ج ٥ ص ٣٧ وتفسير العياشي ج ١ ص ٢٦٣ والكافي ج ٨ ص ٣٢٧ وشرح أصول الكافي ج ١٢ ص ٤٥٥ والبحار ج ١٩ ص ١٧٢ والتفسير الصافي ج ١ ص ٤٨٠ والتفسير الأصفى ج ١ ص ٢٢٨ وتفسير نور الثقلين ج ١ ص ٥٢٩ وتفسير كنز الدقائق ج ٢ ص ٥٦٤.

(٣) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٨٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٥ وتاريخ مدينة دمشق (ط دار الفكر) ج ٢٣ ص ٤٥٣ و (ط دار الكتب العلمية) ج ٢٥ ص ٢٨٤ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥١١ والبحار ج ٢١ ص ١٠٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٦٠ و ٢٧١ وجامع الأحاديث والمراسيل ج ٢٠ ص ١٧١.

٣٢

فأعادها ، فرفع الخزاعي يده ، فضرب بها فاه.

فاستنصر الكناني قومه ، والخزاعي قومه. وكانت كنانة أكثر ، فضربوهم حتى أدخلوهم الحرم ، وقتلوا منهم. وأعانتهم قريش بالكراع والسلاح.

فركب عمرو بن سالم إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فخبره الخبر» (١).

وستأتي قصة عمرو بن سالم.

ولكننا قبل ذلك نشير : إلى بعض الأمور التي ترتبط بما تقدم ، فنقول :

سبب نقض العهد واحد :

قد يبدو للوهلة الأولى من ملاحظة النصوص المتقدمة أن ثمة اختلافا حول سبب إقدام قريش على نقض العهد.

ولكن الحقيقة هي : أن مجموع تلك النصوص يشير إلى أمر واحد مترابط ومنسجم ، وهو : أن أحد بني كنانة ، ولعله من بني نفاثة ، صار يروي هجاء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأنذره الخزاعي ، فلم يرتدع ، فضربه الخزاعي ، فاستنصر الكناني قومه ، فطلبوا النصر من قريش ، فنصروهم وجرت الأمور بعد ذلك وفق ما فصّلته الرواية الأولى.

إستغلال الضغائن :

وقد لو حظ : أن بني نفاثة حين انتصروا لصاحبهم ، إنما حركهم إلى ذلك أحقادهم على خزاعة ، وتربصهم بها ، لترات لهم عندها في حوادث

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ١٢٤ و ١٢٥ عن إعلام الورى ج ١ ص ٢١٥.

٣٣

جرت قبل البعثة النبوية الشريفة حسبما تقدم بيانه ..

ولكنهم حين يطلبون المساعدة من قريش تراهم يلجأون إلى تذكيرها بما تعتبره ميزة وفضلا ، وهو : أن بني نفاثة لم يسلموا ، وأنهم دخلوا في عقد قريش ضد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ثم يحتجون لهم على استحقاق خزاعة للعقوبة : بأنها قد دخلت في عقد محمد وعهده .. فكان هذا وذاك من موجبات مسارعة قريش للمشاركة في توجيه تلك الضربة القاسية لخزاعة ..

فحقد قريش على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وعلى الإسلام وأهله قد دعاها إلى المشاركة في جريمة قتل الصبيان ، والنساء ، والضعفاء .. ونقض العهد والغدر بالآمنين ، واجتياحهم ، وأخذهم على حين غرة.

واللافت هنا : أن الذين يستجيبون لهذه المحركات ، لا لنداء الضمير والوجدان والعقل والشرف والشهامة والرجولة هم ـ على حد تعبير الرواية ـ «رجال من قريش ، من كبارهم»!! ..

مع أن هؤلاء هم الذين يفترض فيهم أن يكونوا أبعد الناس عن التصرفات الرعناء ، وعن الانقياد للنزوات الطائشة. ويتوقع منهم أن يزنوا الأمور بموازين فيها شيء من بعد النظر والاتزان ، وحساب العواقب.

ولكن الأمور قد جرت في غير هذا الاتجاه ، كما رأينا ..

الغدر بالضعفاء ، وبالصبيان والنساء :

وإن الغدر قبيح من كل أحد ، لأنه ينافي الرجولة ، وميثاق الشرف ، والشهامة ، وأعظم منه قبحا : أن يغدر القوي بالضعيف ، فكيف إذا كان هذا

٣٤

الضعيف هو الصبيان ، والنساء ، والضعفاء من الرجال؟!

وكيف إذا كان الغادر هم كبار القوم ، والمدّعون للشرف ، بل لمقام الأشرفية والرئاسة فيهم؟!

وكيف إذا كان هؤلاء الكبار المشاركون هم أنفسهم الذين أعطوا العهود والمواثيق وتعهدوا بالوفاء؟!.

بل إن بعضهم كان هو المفاوض في تلك العهود ، والمتولي لإبرامها ، والمشرف على نصوصها ، والموقع عليها وأعني به سهيل بن عمرو!!

إنه غدر بالآمنين الذين يستندون في أمنهم إلى عهد وعقد وميثاق ، معقود مع نفس هؤلاء الغادرين بأشخاصهم وأعيانهم ، فليس هو أمن الغفلة والتقصير في الاحتياط ، ولم يكن الغادر ممن يحسن الاحتياط معه ومنه ..

القسوة .. لماذا؟! :

ولا نجد تفسيرا معقولا لهذه القسوة من قريش ، ومن كبارها على النساء والصبيان ، وضعفاء الرجال ، فهم يبيحون لأنفسهم قتلهم ، لا على سبيل الصدفة والاتفاق ، بل عن سابق تخطيط وتدبير ، وسعي للإستفراد بهم واستئصالهم قبل أن يتنبه الآخرون لما يحدث ..

بل نحن نستغرب : أن يقدم حتى بنو نفاثه على أمر كهذا. وهم الذين يدّعون أن قتل النساء كان عيبا في الجاهلية .. فكيف بالضعفاء ، والصبيان؟!. فضلا عن أن يمعنوا في ملاحقتهم حتى ألجأوهم إلى الحرم!! ثم لاحقوهم حتى في الحرم نفسه ، إلى دار بديل بن ورقاء ، ورافع الخزاعي!!

٣٥

حرمة الحرم لدى قريش :

وإذا كانت قريش ترى : أن عزها ومجدها وفخرها هو في رعايتها لحرمة الكعبة والحرم ، فما بال الكبار فيها قد رضوا بهتك حرمة الحرم ، وشاركوا هم في ذلك ، ولم نسمع من أحد منهم كلمة ملامة لأحد من أولئك المعتدين على الأرواح ، وعلى قدس المقدسات؟! حتى بعد أن حصل ما حصل ..

وكيف يمكننا تفسير موقف قريش من قضية القتال في يوم يشك في أن يكون هو أول الشهر الحرام وهو شهر رجب ، أو آخر الشهر الذي قبله ، حيث شنعت على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأثارت عاصفة من الشكوى والتظلم من أجل ذلك ، رغم أن هذا القتال قد كان مع الظالمين والمعتدين ، والذين يصدون عن سبيل الله. قال تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ. قُلْ : قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١).

ثم إنها وعلى أعلى المستويات فيها يعتدي كبارها على قوم بينها وبينهم عهد وميثاق. فيغدرون بهم ، ويختارون قتل خصوص النساء والصبيان والضعفاء منهم ، حتى في حرم الله تبارك وتعالى ..

__________________

(١) الآية ٢١٧ من سورة البقرة.

٣٦

بل إن هذا التعدي لا ينحصر بهتك حرمة الحرم ، بل يتجاوزه إلى التصريح بالإلحاد ، وإنكار أصل الألوهية ، وذلك حين يقول أصحاب نوفل : إلهك إلهك!! قد دخلت الحرم.

فيقول : لا إله لي اليوم.

هل ندموا حقا؟!

وبعد .. فإننا لم نستطع فهم ما يرمي إليه قولهم : ندمت قريش وندموا على ما صنعوا ، وعرفوا أن هذا الذي صنعوه نقض للذمة والعهد الذي بينهم وبين رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وذلك لأن قرائن الأحوال تشهد بعدم صحة هذا الكلام :

أولا : لأن رجال قريش قد تنكروا وتنقبوا حين جاؤوا لمساعدة بني بكر ، مع أن بني بكر كانوا حلفاءهم ، وقد دخلوا في عقدهم ، فعليهم نصرهم علنا ، ولا ضرورة للتنكر والتنقب إن لم يكونوا يريدون تعمية الأمور ، لكي لا يظهر للناس أنهم قد نقضوا عهدهم مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ثانيا : إن بني نفاثة حين كلموا قريشا في نصرهم على خزاعة قد ذكروا لها أنهم داخلون في حلفهم ضدّ محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وخزاعة داخلة مع النبي في الحلف والعقد ضدهم.

فهم إذا ملتفتون إلى هذا العقد والعهد ، مدركون أن المهاجم متحالف مع قريش ، وأن المقصود بالهجوم متحالف مع المسلمين في عهد الحديبية.

فما معنى ادّعاء الروايات ورواتها أن قريشا بعد أن ارتكبت جريمتها

٣٧

في حق خزاعة «عرفوا أن هذا الذي صنعوه نقض للذمة والعهد الذي بينهم وبين رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..؟.

ثالثا : إن هناك روايات تقول : إنهم كلموا أبا سفيان ، فأبى ذلك (١).

فلماذا لا يرضى أبو سفيان بنصر حلفائه؟! وهو الحاقد على خزاعة بسبب ميلها إلى رسول الله وتحالفها معه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

ألا يدل امتناعه هذا على أنه يرى في ذلك ضررا بالغا ، ودخولا في أمر خطير ، من حيث أنه نقض للعقد والعهد القائم بينهم وبين المسلمين؟!

رابعا : ما معنى قول هؤلاء الرواة أنفسهم : إنه بعد انتهاء الهجوم وحصول المجزرة «دخلت رؤساء قريش منازلهم ، وهم يظنون : أنهم لا يعرفون ، وأنه لا يبلغ هذا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..»؟!

أليس ظنهم هذا يؤدي بهم إلى إدراك أن بلوغ هذا الأمر لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سوف يؤدي إلى نشوء مشكلة خطيرة لهم معه؟!

ولا مبرر لاعتبار ذلك مشكلة إلا لأنهم يدركون أن ما فعلوه له مساس مباشر بالعقود التي تحكم فيما بينهم وبينه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

بنو نفاثة يسرقون الحاج :

واللافت هنا : هذا المنطق الخسيس الذي اعتمده نوفل بن معاوية لتحريض بني بكر على الإمعان في قتل النساء والصبيان والضعفاء ، وتوقعه ذلك منهم حتى في داخل الحرم .. فإنه قال لهم : «إنكم لتسرقون الحاج في

__________________

(١) شرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٥٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠١.

٣٨

الحرم ، أفلا تدركون ثأركم من عدوكم»؟!

فإذا كان هؤلاء يسرقون الحجاج وهم في حرم الله تبارك وتعالى ، فهل يتوقع منهم احترام المقدسات ، والوقوف عند حدود الله سبحانه ، والالتزام بأمره ونهيه؟!

وإذا كان هذا هو منطق رئيس بني بكر ، وتلك هي أوامره لمن هم تحت إمرته ، وهذه هي توقعاته منهم!!

وإذا كان يدفعهم بهذا المنطق إلى متابعة جرائمهم لاستئصال الأبرياء ، من النساء والصبيان والضعفاء!!

وإذا كان يصور لهم : أن هؤلاء الصبيان الذين قد لا يعرفون شيئا مما يدور حولهم ، بل إنهم غير قادرين على إدراك معنى الشر ، بالإضافة إلى النساء ، والضعفاء ـ يصورهم على أنهم هم أعداؤهم الذين يريد منهم أن يعملوا فيهم سيوفهم إلى حد الاستئصال.

وإذا كان نفس هذا الرئيس ينكر وجود الإله لمجرد تبرير اندفاعه للتنفيس عن حقده على هذا النوع من الناس.

وإذا كان الرئيس هو الذي يفترض فيه أن يكون الأكثر وعيا وإحساسا بالمسؤولية ..

فما الذي نتوقعه من همج رعاع ، وجهلة أغبياء ، وأشرار أشقياء ، يمتهنون سرقة الحاج في حرم الله تعالى ، وعند بيته المحرم؟!

وهذا يدلنا على مدى معاناة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، الذي جاءهم من عند الله بأصفى وأفضل التعاليم ، التي هي محض الخير ، وكل العطاء ، وحقيقة البر والرحمة ، والنور الأنور ، والطهر الأصفى ، والنبل

٣٩

والوفاء ، والتضحية والفداء ، وسائر المعاني الإنسانية في أرقى الدرجات ، وأفضل الحالات.

بديل بن ورقاء وما جرى :

وقد قرأنا في النصوص المتقدمة : أن خزاعة أصبحت مقتّلة على باب بديل بن ورقاء ورافع الخزاعيين ..

وسنقرأ فيما يلي : أن بديلا قد عاش هذه المحنة ، وتجرع غصتها ، ولمس بشاعتها في بيته وعلى باب داره ، أكثر من أي إنسان آخر ..

فما بالنا نرى هذا الرجل بالذات رفيقا لأبي سفيان حين خرج من مكة يترقب الأخبار ، ليعرف حقيقة تحركات رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيما يرتبط بهذا الحدث؟ فلماذا لا يكون لبديل موقف سلبي وغاضب من قريش ورموزها؟

ويمكن أن نجيب عن هذا السؤال بما يلي :

أولا : إن أبا سفيان ـ كما تدّعيه بعض الروايات ـ أبى أن يستجيب لطلب بني بكر فيما يرتبط في توجيه الضربة لخزاعة (١).

أو أنه لم يشاور في هذا الأمر ، ولم يعلم ، ولكنه حين علم لم يرض ، ولم يغضب كما تقدم وسيأتي (٢).

__________________

(١) تقدمت مصادر ذلك في النص المتقدم.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٨٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٥ وتاريخ مدينة دمشق (ط دار الفكر) ج ٢٣ ص ٤٥٣ و (ط دار الكتب العلمية) ج ٢٥ ص ٢٨٤ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥١١ والبحار ج ٢١ ص ١٠٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٦٠ و ٢٧١.

٤٠