السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-193-9
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٥٤
الزكاة ، ولم يكفروا بعد إسلامهم (١) ، فأصر أبو بكر على حربهم.
وأطلق كلمته المشهورة : «لو منعوني عقال بعير لجاهدتهم (أو لقاتلتهم) عليه» (٢).
والمورد الواحد الذي اتفق فيه هذان الرجلان هو : مخالفة أمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» في قتل أصل الخوارج ، فنشأ عن مخالفة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فيه مفسدة عظمى حاقت بالأمة ، ولا تزال آثارها تتفاعل فيها إلى يومنا هذا.
فقد رووا : أن أبا بكر قال للنبي «صلىاللهعليهوآله» : إني مررت بوادي كذا وكذا ، فإذ رجل متخشع ، حسن الهيئة ، يصلي ..
فقال له النبي «صلىاللهعليهوآله» : إذهب إليه فاقتله.
فذهب إليه ، فلما رآه على تلك الحال كره أن يقتله ، فرجع إلى النبي «صلىاللهعليهوآله» ..
فقال النبي «صلىاللهعليهوآله» لعمر : إذهب فاقتله.
فذهب إليه فرآه على تلك الحال فكره أن يقتله.
فقال «صلىاللهعليهوآله» لعلي «عليهالسلام» : اذهب فاقتله .. فذهب إليه فلم يجده.
فقال النبي «صلىاللهعليهوآله» : إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا
__________________
(١) راجع : المحلى لابن حزم ج ١١ ص ١٩٣ وفرق الشيعة ص ٧ والمقالات والفرق ص ٤ وراجع : تاريخ الأمم والملوك ج ٣ ص ٢٥٥ وتاريخ الردة ص ١٠ وراجع : مجمع الأمثال ج ٢ ص ٦٥ والفتوح لابن أعثم ج ١ ص ٥٨.
(٢) راجع مصادر ذلك تحت عنوان : الجرأة على الدماء.
يجاوز تراقيهم. وذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين ، وفي آخره : فاقتلوهم هم شرّ البرية (١).
وفي نص آخر : فقال علي «عليهالسلام» : أفلا أقتله أنا يا رسول الله؟!
قال : بلى أنت تقتله إن وجدته .. فانطلق علي «عليهالسلام» فلم يجده .. أو نحو ذلك (٢).
ولكن ما يمكن أن نعتبره قاسما مشتركا فيما بين جميع هذه الموارد هو : أن هذا المورد الأخير قد جاء موقفهما فيه مخالفا لأمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
__________________
(١) مسند أحمد ج ٣ ص ١٥ والمصنف للصنعاني ج ١٠ ص ١٥٥ و ١٥٦ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ٢٢٥ و ٢٢٦ و ٢٢٧ والبداية والنهاية ج ٧ ص ٢٩٩ وشرح النهج للمعتزلي ج ٢ ص ٢٦٦ و ٢٦٧ والكامل في الأدب ج ٣ ص ٢٢٠ و ٢٢١ ونيل الأوطار للشوكاني ج ٧ ص ٣٥١ والمراجعات للسيد شرف الدين ص ٣٧٦ و ٣٧٨ والنص والإجتهاد للسيد شرف الدين ص ٩٦ والغدير ج ٧ ص ٢١٦ وأهمية الحديث عند الشيعة للشيخ أقا مجتبي العراقى ص ٢١٧ وفتح الباري ج ١٢ ص ٢٦٦ والفصول المهمة للسيد شرف الدين ص ١٢١.
(٢) كشف الأستار عن مسند البزار ج ٢ ص ٣٦٠ و ٣٦١ والعقد الفريد ج ٢ ص ٤٠٤ وراجع المصنف للصنعاني ج ١٠ ص ١٥٥ و ١٥٦ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ٢٢٦ و ٢٢٧ والمناقب لابن شهر اشوب ج ٣ ص ١٨٧ و ١٨٨ عن مسند أبي يعلى ، والإعانة لابن بطة ، والعكبري. وزينة أبي حاتم الرازي ، وكتاب أبي بكر الشيرازي وغيرهم والطرائف ج ٢ ص ٤٢٩ والبداية والنهاية ج ٧ ص ٢٩٨ والغدير ج ٧ ص ٢١٦ وحلية الأولياء ج ٢ ص ٣١٧ وج ٣ ص ٢٢٧ والإصابة ج ١ ص ٤٨٤ والنص والإجتهاد ص ٩٣ و ٩٤ عن بعض ما تقدم.
وموقف أبي بكر في قتل مانعي الزكاة هو الآخر مخالف لله ولرسوله .. وقد عاد عمر إلى رأي أبي بكر ووافقه عليه أيضا ..
كما أن طلبات عمر المتكررة بأن يجيز له الرسول قتل هذا وذاك قد جاءت كلها على خلاف ما يريده الله ورسوله أيضا ..
فما هذا التوافق العجيب بين أبي بكر وعمر في هذين الموردين على خلاف رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وأن تكون جميع مواقف عمر مخالفة لما يريد الله ورسوله في جميع المواقف المختلفة؟! ..
لا مبرر لقتل أبي سفيان :
١ ـ إن عمر كان مهتما بقتل أبي سفيان ، مع أنه يعلم : أن هناك مسلمين كثيرين يعيشون في مكة ، وإن قتله قد يؤدي إلى ارتكاب المشركين مجزرة هائلة في حقهم فيما لو حصل هيجان عارم لا يخضع للمنطق ، ولا يستجيب لنداء العقل ..
٢ ـ المفروض أن أبا سفيان قد أصبح في قبضة أهل الإسلام ، ولعل ذلك يفسح المجال لاتفاقات تؤدي إلى حقن الدماء ، وانطلاقة الإسلام بقوة في تلك المنطقة ، فلماذا لا يترك رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ليعالج الأمور بحكمته ورويته؟! ..
٣ ـ لماذا لا يسعى عمر لإدخال أبي سفيان في الإسلام؟ ألم يكن إسلام أبي سفيان أحب إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من قتله؟!.
مع ملاحظة : أن عمر كان يحب إسلام العباس أكثر من حبه لإسلام أبيه الخطاب لو كان حيا ، لعلمه بسرور رسول الله «صلىاللهعليهوآله»
بإسلام عمه ..
إلا إذا كان عمر يرى : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» إنما يرغب بإسلام عمه .. لأنه عمه ، ولا يرغب بإسلام أبي سفيان تعصبا منه ضد بني عبد شمس ، ولأنه عدوه المحارب له. فالعصبية العشائرية هي الحاكمة على مواقفه وتصرفاته «صلىاللهعليهوآله» ، وهذا المنطق سيء وخطير ، لأنه ينتهي إلى الطعن بنبوة النبي «صلىاللهعليهوآله» في عصمته وحكمته ، ومزاياه. وهو مرفوض جملة وتفصيلا ..
اتهام العباس لعمر بن الخطاب :
إن العباس قد سجل اتهاما صريحا لعمر في نواياه ، وفي نوازعه العشائرية ، وتعصباته القبائلية حين قال له :
«مهلا يا عمر! فو الله ، لو كان من رجال بني عدي ما قلت هذا. ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف».
ولم يستطع عمر أن يدفع عن نفسه هذه التهمة إلا بادعاء آخر ، من شأنه أن يزيد من وطأة اتهامه في نواياه ، وهو أنه كان يحب إسلام العباس ، لأن ذلك يسر النبي «صلىاللهعليهوآله» ..
مع العلم : بأن إسلام أبي سفيان أيضا كان يسر النبي «صلىاللهعليهوآله» ، لأن هداية نسمة خير مما طلعت عليه الشمس ، ولأن ذلك قد يوجب تنفيس الإحتقان في المنطقة بأسرها. ولعل إسلام غيره ليس بهذه المثابة ..
فلماذا يريد عمر قتل هذا ، ولا يهتم بإسلامه ، دون ذاك؟!.
ونريد أن لا تفوتنا الإشارة إلى أن هذا الإتهام نفسه قد يوجه إلى عمر
حين طالب بقتل أسرى بدر ، حيث لم يكن فيهم أحد من بني عدي أيضا (١).
إسلام العباس .. وإسلام الخطاب :
وبعد .. فإننا لم نستطع أن نتبين وجها مقبولا أو معقولا لقول عمر : إن إسلام العباس كان أحب إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من إسلام الخطاب ..
وإنه «صلىاللهعليهوآله» يريد إسلام كل الناس ، ولا يفرحه إسلام هذا أكثر من إسلام ذاك ، ولعل إسلام سلمان الفارسي كان أحب إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» من إسلام العباس ، إذ كان إسلام سلمان من موجبات القوة للدين ، أو كان أكثر صفاء ، وأعظم رسوخا ، وقوة وعمقا ..
ومن الذي أخبر عمر بواقع إيمان الناس ، وبدرجات رسوخ الإيمان في قلوبهم؟!
ومع غض النظر عن ذلك كله ، يبقى سؤال نطالب عمر بالإجابة عنه ، وهو : إذا كان قد عرف محبة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لإسلام العباس ، فهل هو أيضا قد عرف كراهته لإسلام أبي سفيان؟!.
ولماذا كان في أيام خلافته يعظم أبا سفيان والعباس ويقدمهما بصورة لافتة ، فقد كان يفرش لعمر فراش في بيته في أيام خلافته ، فلا يجلس عليه أحد إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب.
__________________
(١) راجع موقفه هذا في هذا الكتاب في غزوة بدر ، فصل : الغنائم والأسرى.
زاد المبرد قوله : هذا عم رسول الله ، وهذا شيخ قريش (١).
جوار العباس :
وقد ذكرت الروايات المتقدمة : أن العباس قال لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» إنه أجار أبا سفيان.
وذكرت أيضا : أنه أجار بديل بن ورقاء ، وحكيم بن حزام ..
ونقول :
إنه جوار لا يصح ، بل هو غير جائز ، إذا كان يريد بهذا الجوار منع النبي «صلىاللهعليهوآله» من التصرف المناسب في حق أبي سفيان ، وفي حق بديل ، وحكيم ..
ويشهد لذلك : أنه لما قدم أبو سفيان المدينة يطلب تجديد عهد الحديبية ، والزيادة في المدة ، وطلب من رجالات الصحابة أن يجيروا بين الناس ، قد واجه رفض ذلك منهم جميعا ، وكانت حجتهم أنه ليس لأحد أن يجير على رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
ولأجل ذلك نلاحظ : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» كما لم يلتفت إلى مطالبات عمر بن الخطاب بقتل أبي سفيان ، لم يقم وزنا لجوار العباس لهؤلاء أيضا ، بل بقي مصرا على إجراء حكم الله تعالى فيهم ، إن لم ينطقوا بالشهادتين.
وهذا ما يدعونا إلى القول :
إنه إن كان قد أجار أحدا من هؤلاء ، حتى على رسول الله «صلى الله
__________________
(١) العقد الفريد ج ٢ ص ٢٨٩ والكامل للمبرد ج ١ ص ٣١٩.
عليه وآله» ، فهو مخطئ بلا ريب. وهو لا يلزم لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» بشيء من ذلك. وقد ظهر من تعامل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» معهم : أنه لم يلتفت إلى ما ادّعاه العباس من جوار ..
وإن كان العباس قد أجار هؤلاء الثلاثة : أبا سفيان ، وحكيما وبديلا من سائر الناس لكي يصلوا إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» سالمين ، ليرى فيهم رأيه ، فهو تصرف مقبول ، ويكون قول العباس لعمر عن أبي سفيان : إني قد أجرته مجرد محاولة لحمايته من عمر ، لكي لا يتسرع في الإقدام على أمر خطير كهذا ..
هل مكث أبو سفيان عند النبي صلىاللهعليهوآله عامة الليل؟ :
وهناك رواية ذكرت : أن العباس حين أدخل أبا سفيان وحكيما وبديلا على النبي «صلىاللهعليهوآله» مكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم .. وانتهى الأمر بإسلام بديل وحكيم ، ولكن أبا سفيان طلب التأجيل.
ونقول :
أولا : إننا نشك في أن تكون هناك تفاصيل كثيرة ترتبط بشؤون الحرب ويحتاج النبي «صلىاللهعليهوآله» إلى الوقوف عليها منهم ، ويستغرق الاستخبار عنها هذا الوقت الطويل (عامة الليل). لا سيما وأن هذا الجيش الكبير قد ظهر ببلادهم فجأة ، ولم يكن لديهم أية فرصة للإعداد والإستعداد ، وجمع الناس من البلاد.
ولو فرض : أنه كان يريد أن يستخرج منهم بعض الأمور ، فلماذا لا يوكل أمر سؤالهم عنها إلى غيره؟!
ثانيا : إذا كان العباس قد أسلم ، وكان مقيما بمكة مثلهم ، فإنه هو الآخر يستطيع أن يخبر النبي «صلىاللهعليهوآله» بما يريد معرفته.
ولو فرضنا : أنه كان قد خرج من مكة قبلهم ، وقد استجدت أمور بعده ولم يعلم بها ، فإن تلك الأمور لا تحتاج في الاستخبار عنها إلى هذا الوقت الطويل.
ثالثا : لماذا يشعرهم بأنه محتاج إلى ما عندهم ما دام أنه مسدد بالوحي الصادق؟ في حين أن المصلحة تقضي بأن يظهر لهم التسديد والرعاية الإلهية له ولمسيرته «صلىاللهعليهوآله» ..
إلا أن يقال : إنه «صلىاللهعليهوآله» إنما كان يتعامل مع الأمور وفق مسارها الطبيعي ، لا من خلال الوحي ، والغيب ، إلا في مواقع معينة ، ووفق شروط وضوابط لا تكون متوفرة في هذا الموقف ..
رابعا : هل كانوا مأمونين على ما يخبرونه في الأمور التي يسألهم ، حتى لو افترضنا حاجته إلى العلم بها؟!
ملك أم نبوة؟! :
لقد مضى على بعثة رسول الله «صلىاللهعليهوآله» أكثر من عشرين سنة ، عاش منها ثلاث عشرة سنة في مكة ، وأظهر لهم فيها تعاليم الإسلام ، وبيّن للناس تعاليمه وأحكامه ، وقرأ عليهم القرآن. وقد رأوا عن كثب معاملته لأصحابه ، ونظرة أصحابه إليه ، وتعاملهم معه. كما أنهم حتى بعد هجرته إلى المدينة في السنوات الثماني الأخيرة ، لم ينقطعوا عن تتبع أخباره ورصد حركته.
ولكنهم بالرغم من ذلك كله ، ما زالوا يظهرون في أفعالهم وأقوالهم ما يشير إلى خطأ فاحش في أساس نظرتهم إليه ، وإلى تعاليمه. ويتجلى ذلك في حوادث فتح مكة المختلفة ، فقد حفلت تصريحات كثيرة لزعمائهم ، بأن ما يرونه لدى محمد «صلىاللهعليهوآله» هو الملك. رغم أنهم قد شاهدوا الكثير من المعجزات والكرامات الدالة على أنها النبوة ، والرعاية والإرادة الإلهية ..
ومن المفردات التي تدخل في سياق هذه السياسة من هؤلاء العتاة قول أبي سفيان للعباس أكثر من مرة : «لقد أصبح ابن أخيك ـ والله ـ عظيم الملك». أو «ما رأيت ملكا قط كاليوم ، لا ملك كسرى ولا قيصر» أو نحو ذلك ..
ويجيبه العباس بأنها النبوة ، وليست الملك ..
ومن ذلك أيضا : أن حكيم بن حزام حين قيل له : بايع.
قال : «أبا يعك ، ولا أخر إلا قائما».
فهو يراه ملكا مثل سائر الملوك ، في فارس والروم وغيرها ، لا بد من أن يخضع الناس له إلى حد أنهم يخرون سجدا أو ركعا بمجرد رؤيته تحية له .. وكأن حكيم بن حزام أراد أن يشترط لنفسه أمرا يمتاز به عن غيره من العرب ، وهو : أن لا يخر ساجدا أو راكعا في تحيته له ، بل يحييه وهو قائم.
ولكن جواب النبي «صلىاللهعليهوآله» لحكيم قد بيّن : أنه لا توجد مطالب من هذا النوع في قاموس تعامل الناس مع النبي «صلىاللهعليهوآله» .. فهو يقول : أما من قبلنا فلن تخر إلا قائما .. أي أنه ليس في شرعنا ، ولا في قراراتنا المرتبطة بالتعامل مع الآخرين أي خضوع يصل إلى حد
الركوع والسجود لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
عمر لا يراعي مجالس رسول الله صلىاللهعليهوآله :
وإذا صح ما ذكروه عن عمر بن الخطاب ، من أنه قال لأبي سفيان الذي كان في محضر النبي «صلىاللهعليهوآله» : إخرأ عليها (أي على العزى) فهو غير مقبول منه من جهات :
إحداها : أنه يمثل جرأة على مقام رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وخروجا عن الحدود ، ومخالفة لأبسط اللياقات التي يفترض مراعاتها في مجالس الناس العاديين ، فكيف إذا كان ذلك بمحضر رسول الله «صلىاللهعليهوآله». سيد رسل الله ، وأفضل مخلوقاته تبارك وتعالى؟!
وقد أظهر أبو سفيان تقززه من هذا الفحش ، فقال : أف لك ما أفحشك! أو قال : ويحك يا عمر ، إنك رجل فاحش. ويمكن أن يكون قد قال الكلمتين معا أيضا.
الثانية : إن ما صنعه عمر قد جاء على سبيل استراق السمع المذموم ، وبطريقة الفضول والتدخل فيما لا يعنيه ، فهو إنما كان في خارج القبة ، وقد ألقى كلامه من وراء الحجاب ، من دون ان يدعوه أحد إلى ذلك ..
ولذلك قال أبو سفيان : «ما يدخلك يا عمر في كلامي ، وكلام ابن عمي».
أو قال : «دعني مع ابن عمي ، فإياه أكلم». ولعله قال الكلمتين معا.
الثالثة : إن هذا من الموارد التي ورد النهي عنها في القرآن الكريم بخصوصها ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ
وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١). فلماذا يتدخل عمر ويقدم بين يدي الله ورسوله؟!
وعلينا أن لا نغفل الإشارة إلى تعبير أبي سفيان عن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بقوله : ابن عمي ، معتبرا عمر بن الخطاب رجلا غريبا عنهما ، لكونه من بني عدي. فهو ينطلق من موقعه العشائري ليقطع بذلك الطريق على عمر ..
ولعل السر في أننا لم نسمع أي تعليق أو اعتراض من النبي «صلىاللهعليهوآله» على هذا المنحى ، ولم يقل لأبي سفيان أن المعيار هو الأخوة الإيمانية والقرابة الدينية لا العشائرية .. هو : أن بإمكان أبي سفيان أن يتنصل من هذا الأمر ، ويفكر في أن يكون ذلك محط تفكيره ومرمى كلامه.
أبو سفيان يخاف من الأذان والصلاة!! :
وقد زعمت النصوص : أن أبا سفيان قد فوجئ بأذان المسلمين ، وقيامهم إلى طهورهم ، فسأل العباس ، فأجابه بأنها الصلاة.
ونقول :
١ ـ قد يقال : إن أبا سفيان كان قد رأى النبي «صلىاللهعليهوآله» والمسلمين يصلون في مكة قبل الهجرة طيلة ثلاث عشرة سنة ، ورآهم في المدينة قبل مدة يسيرة ، حينما ذهب ليطلب من النبي «صلىاللهعليهوآله» تجديد العهد ، والزيادة في المدة ، وسمع فيها الأذان ، وبقي أياما يتصل برجالات المهاجرين والأنصار ، يطلب منهم مساعدته فيما جاء له ..
__________________
(١) الآية ١ من سورة الحجرات.
فما معنى : أن يفزع من الأذان في هذه المرة؟!
والحقيقة هي : أن أبا سفيان قد سمع العسكر يجيبون المؤذن بصورة جماعية ، فظن أنهم قد اتفقوا على أمر بعينه.
ويدل على ذلك : أن المسلمين حين قاموا إلى طهورهم ، قال أبو سفيان للعباس : «ما للناس؟! أمروا فيّ بشيء»؟!
وهذا على قاعدة : كاد المريب أن يقول : خذوني.
أو كما قال تبارك وتعالى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ ..) (١).
ونحن وإن كنا لا نستبعد احتمال أن يكون أبو سفيان قد رأى النبي «صلىاللهعليهوآله» يصلي في المسلمين جماعة في المدينة ..
غير أننا نقول :
إن صلاة عشرة آلاف رجل في جماعة واحدة مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله» لا بد من أن يخيف أبا سفيان ، ويحركه إلى الإستفهام ..
ونعتقد : أننا لسنا بحاجة إلى بيان : أن الوضوء الذي نسبته بعض الروايات المتقدمة إلى أبي سفيان ، وأن العباس أمره فتوضأ ، إنما يقصد به مجرد غسل الوجه واليدين .. ولا يراد به الوضوء بمعناه الشرعي عند أهل الإسلام ، لأن أبا سفيان لم يكن قد أسلم آنئذ.
أسلم تسلم :
لقد حاول أبو سفيان التسويف في الإقرار بالشهادتين ، ربما لأنه كان
__________________
(١) الآية ٤ من سورة المنافقون.
يأمل بتجاوز هذه المرحلة ، وهو يريد أن يحتفظ لنفسه بوضع خاص ، يحفظ له محوريته بين أهل الشرك ، ومرجعيته لهم.
أو على الأقل يريد أن يكون له ملك في مقابل نبوة محمد ، التي حاول أن يصر على أنها مظهر من مظاهر الملك أيضا .. فطلب من النبي «صلىاللهعليهوآله» أن يرجئ طلب الإقرار بالشهادة له بالنبوة.
فأعطاه «صلىاللهعليهوآله» فرصة ليتدبر أمره في تلك الليلة. وفي اليوم التالي : عاد ليكرر ذلك الطلب عليه ، ويعود أبو سفيان إلى المراوغة مرة بعد أخرى ، معتمدا على معسول من الكلام ظنا أنه يبلّغه إلى ما يريد ..
ولكن القضية لم تكن قابلة للإستمرار ، لأن أبا سفيان ظل منذ أن بعث الله محمدا «صلىاللهعليهوآله» يرتكب أعظم الجرائم والموبقات ويحارب الله ورسوله ، ويتسبب بإزهاق الأرواح ، وظلم النفوس ، والعدوان على الناس في كراماتهم ، وفي حرياتهم ، وفي جميع الشؤون .. ولا بد من إزالة تبعات ذلك كله ، إما بالجزاء العادل ، وهو مواجهة القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة ، فيما لو أصر على اللجاج والعناد ، وعلى إعلان الحرب على الحق وأهله بالسيف ، وبالكلمة ، وبالموقف. وهذا في حد نفسه جرم عظيم ، وظلم جسيم للدين وللمؤمنين .. ولا مجال للتجاوز عنه أو التساهل فيه .. لأنه يقود إلى إضلال الناس ، أو إلى استمرار كثير من الضالين على ضلالهم. وإما أن يتراجع عن شركه ، ويعلن إسلامه ، وبطلان ما كان عليه ، ويقر بخطئه في مواقفه ، وفي ممارساته السابقة. وبذلك يستفيد من سماحة الإسلام الذي منحه عفوا في الدنيا عن جرائمه وعفوا في الآخرة إن تاب توبة نصوحا ..
فيكون باختياره للإسلام قد سهل مهمة انتشار دعوة الحق ، وازال من أذهان بعض المستضعفين الذين يرتبطون به ، بنحو أو بآخر ، أية شبهة ، ورفع أنواع الضغط النفسي ، الذي كان يشعر به هؤلاء أو غيرهم ، ويمنعهم من الدخول في هذا الدين ..
ولأجل ذلك : كرر عليه النبي الأعظم «صلىاللهعليهوآله» قوله : أسلم تسلم. أي أنه يسلم من العقوبة على جرائمه في الدنيا على أقل تقدير ، حسبما بيناه ..
وبذلك يظهر : أن هذه الكلمة لا تعني أن الإسلام يقهر على الإيمان ، أو أنه انتشر بالسيف ..
بل هي تعني : أن الذي يرتكب جريمة محاربة الحق ، ويحارب الله ورسوله ، ويسعى في قتل أهل الحق لا يسلم من الجزاء العادل على عدوانه هذا إلا إذا أعلن تراجعه عن موقفه هذا .. واعترف بخطئه فيما ارتكبه من جرائم ..
وقد تفضل الله تعالى عليه بهذا العفو ، لأنه يريد أن يوفر على الأمة خسائر أكبر قد تنشأ من مواصلته مسيرته الإجرامية ، حين يرى أنه هالك لا محالة ..
المعادلة التي اعتمد عليها أبو سفيان :
وقد استند أبو سفيان في تقرير بطلان الشرك إلى معادلة تقول : إنه لو كان هناك إله آخر لكان أغنى عنه شيئا في بدر ، وفي أحد ، وفي سواهما.
ولكن ليت شعري لماذا لم يأخذ بهذه المعادلة منذ بدر ، أو أحد ، أو
الخندق ، ليكون قد وفر على الأمة تلك الويلات والمآسي التي أصابتها بسبب بغيه وإصراره على الجحود والعدوان؟
علما بأن طريقته هذه لا تؤدي إلى التوحيد التام ، وإن كان هو قد نوه بذلك ، لأن كلامه يدل على أن إله محمد «صلىاللهعليهوآله» محق وإله أبي سفيان مبطل ، ولكنه لا يدل على عدم صحة دعوى تعدد الآلهة.
لو لا المعجزة لم يسلم أبو سفيان :
وتذكر رواية الراوندي : أن ذلك كله لم يقنع أبا سفيان بإعلان إسلامه ، رغم تحذير العباس له بأنه إن لم يسلم جوزي بالقتل ..
ولكن النبي «صلىاللهعليهوآله» عامله أيضا بالرفق ، حيث أمر العباس بأن يأخذه إلى خيمته ، وصار أبو سفيان يحدث نفسه : بأنه لو جمع الأحابيش ، فلعله كان يهزم هذا الجيش ، وإذ برسول الله «صلىاللهعليهوآله» يناديه من خيمته ، ويقول له : «إذن كان الله يخزيك».
وكان لا بد لأبي سفيان من أن يخضع للأمر الواقع فقد طفح الكيل ، وبلغ في لجاجه حدا لم يعد له عذر فيه ، فإن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يقرأ نواياه ، وأقر أبو سفيان بالشهادتين مرغما ليحقن بذلك دمه.
فوفر على الناس المزيد من الخسائر ، وانسحب من ساحة الصراع المسلح ، ليدير صراعا آخر ، وبطريقة أخرى ، ليكون صراعا من الداخل يهدف إلى السعي للحصول هو وحزبه على أكبر قدر من المكاسب ، بل على أهم المواقع والمناصب ..
وأصبح كما يقول صاحب الإستيعاب وغيره : كهفا للمنافقين (١).
ولهذا البحث مجال آخر.
العتاب والجواب :
وقد ذكرت النصوص المتقدمة : أن أبا سفيان وحكيم بن حزام قد عاتبا رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بأسلوب يفتقر إلى أبسط قواعد اللياقة والأدب. حيث وصفا الجيش الذي كان معه بأنهم أوباش الناس ، جاء ليحارب بهم أهله وعشيرته ..
وقد نسيا :
أولا : أن أبا سفيان نفسه لم يزل يجمع الأحابيش والأوباش وغيرهم ، لمحاربة من هو من أهلهما وعشيرتهما طيلة ما يقرب من عقد من الزمن. بل إن أبا سفيان لم يتلفظ بالشهادتين إلا بعد أن أعلمه النبي «صلىاللهعليهوآله» : بأنه يحدّث نفسه لو أنه جمع الأحابيش لحرب رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وهو من أهله وعشيرته ..
ثانيا : إن حرب أبي سفيان للنبي «صلىاللهعليهوآله» ، الذي هو من أهله وعشيرته ، ما هي إلا حرب بغي وظلم ، وهتك لحرمات الله تعالى ..
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٣٥١ والإستيعاب (ط دار الكتب العلمية) ج ٤ ص ٥٨ و (ط دار الجيل) ص ١٦٧٨ والإكمال في أسماء الرجال للخطيب التبريزي ص ١٠٤ والنزاع والتخاصم للمقريزي ص ٥٨ وراجع : الغدير ج ٣ ص ٢٥٣ وج ٨ ص ٢٧٨ وشيخ المضيرة لأبي رية ص ١٦١ والنصائح الكافية لابن عقيل ص ١١٠.
ثالثا : هل الاستعانة بمن يعرف ومن لا يعرف لدفع الظلم وإقامة العدل ، قبيحة ومرفوضه!! ولا يكون غدر قريش بخزاعة في حرم الله وأمنه ونقضها لعهد الحديبية ، وسعيها في تكريس نتائج الغدر ـ لا يكون ـ قبيحا ومرفوضا؟!
إن ذلك كله يبين لنا مدى صدقية قوله «صلىاللهعليهوآله» لحكيم بن حزام ولأبي سفيان :
«أنتم أظلم وأفجر ، قد غدرتم بعهد الحديبية ، وظاهرتم على بني كعب بالإثم والعدوان ، في حرم الله تعالى وأمنه».
وأما تحريضهما رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على هوازن ، فلم يكن يهدف إلى إقامة الحق ، وإجراء سنة العدل في هوازن على يدي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. بل كان من منطلق ظالم ، وغير منطقي ، لأنهم استندوا في إغرائه بهم إلى أنهم أبعد رحما ، وأشد عداوة له. وليس هذا هو منطق الإسلام ونبي الله تعالى.
وقد جاءت إجابة النبي «صلىاللهعليهوآله» لهما شديدة الوقع ، بالغة الأثر ، حيث قال :
«إني لأرجو من ربي أن يجمع لي ذلك كله : فتح مكة ، وإعزاز الإسلام بها ، وهزيمة هوازن ، وغنيمة أموالهم ، وذراريهم».
وقد تضمنت هذه الكلمات كل ما يغيظ الكفار ويذلهم ، ويخزيهم .. لأن جمع ذلك كله له سيكون بالنسبة إلى أبي سفيان وابن حزام من أعظم الكوارث عليهما وعلى أهل الشرك .. بل إن الفوز بأية مفردة من تلك المفردات سيكون فيه أعظم الخزي والذل للشرك وأهله .. والمفردات التي
أشار إليها هي :
١ ـ فتح مكة : التي كانوا يستطيلون بها على العرب ، ويمتلكون من خلالها قلوبهم ، ويفرضون إرادتهم .. وفي التسلط على مكة ، وإبطال نفوذهم أعظم الخزي والذل لهم.
٢ ـ إعزاز الإسلام في نفسه وهذا أيضا سيكون من أعظم المصائب والملمات على أهل الشرك .. فكيف إذا كان هذا الإعزاز في مكة نفسها؟!
٣ ـ هزيمة هوازن : وهذه أيضا : فاجعة كبرى لمشركي قريش ، لأنهم يرون فيها سندا قويا لهم. وسقوطها معناه : أن يفقدوا بها أملا كان يهبهم بعض السكون والطمأنينة.
٤ ـ غنيمة أموال هوازن : وهذا معناه : أن لا تقوم لها قائمة بعدها ، وأن تخرج من معادلة الحرب والصراع بصورة تامة ، ونهائية ..
٥ ـ إن الأشد إيلاما لهم : أن النبي الكريم «صلىاللهعليهوآله» لا يعتمد في تحقيق ذلك كله على نفسه وعلى هذا الجيش الهائل ، بل هو يعتمد على ربه تبارك وتعالى .. الذي لم يكونوا في أي وقت في موقع رضاه ، بل كانوا دائما في موقع سخطه.
تصحيح اشتباه :
كان بديل بن ورقاء الخزاعي يقول : لما كان يوم الفتح أو قفني العباس بين يدي رسول الله «صلىاللهعليهوآله» وقال : يا رسول الله ، هذا يوم قد شرفت فيه قوما ، فما بال خالك بديل بن ورقاء ، وهو قعيد حيه؟
قال النبي «صلىاللهعليهوآله» : «إحسر عن حاجبيك يا بديل».
فحسرت عنهما ، وحدرت لثامي ، فرأى سوادا بعارضي ، فقال : كم سنوك يا بديل؟
فقلت : سبع وتسعون يا رسول الله.
فتبسم النبي «صلىاللهعليهوآله» وقال : «زادك الله جمالا وسوادا ، وأمتعك وولدك ، لكن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» قد نيف على الستين ، وقد أسرع الشيب فيه ، اركب جملك هذا الأورق وناد في الناس : «إنها أيام أكل وشرب».
وكنت جهيرا ، فرأيتني بين خيامهم وأنا أقول : أنا رسول رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يقول لكم : إنها أيام أكل وشرب ، وهي لغة خزاعة ، يعني الإجتماع (١).
ونقول :
إننا لا نريد أن نزيد هنا شيئا على ما قاله المجلسي «رحمهالله» : «والمشهور : أن هذا النداء كان في حجة الوداع ، لا عام الفتح» (٢).
__________________
(١) الأمالي لابن الشيخ ص ٢٣٩ و (ط دار الطباعة والنشر ـ قم) ص ٣٧٦ والبحار ج ٢١ ص ١١٥ وج ٩٦ ص ٣٠٨ وراجع : الإصابة ج ١ ص ١٤١.
(٢) البحار ج ٢١ ص ١١٦.