الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-193-9
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٤

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «اشهدوا أن لا اله الا الله وأني رسول الله».

فشهد بديل ، وحكيم بن حزام.

وقال أبو سفيان : ما أعلم ذلك ، والله إن في النفس من هذا لشيئا بعد ، فارجئها (١).

وعند أبي شيبة ، عن أبي سلمة ، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب : أنه قيل لحكيم بن حزام : بايع.

فقال : أبايعك ولا أخر إلا قائما.

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أما من قبلنا فلن تخر إلا قائما. انتهى (٢).

وقيل لأبي سفيان ذلك ، فقال : كيف أصنع باللات والعزى؟

فقال عمر بن الخطاب ـ وهو خارج القبة ـ : إخرأ عليها ، أما والله لو كنت خارج القبة ما قلتها.

فقال أبو سفيان : من هذا؟

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١٦ عن ابن عقبة والواقدي ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٩ و (ط دار المعرفة) ص ١٨ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨١٥ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٣٥٩.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١٦ عن ابن أبي شيبة ، والفايق في غريب الحديث ج ١ ص ٣١٢ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٣٣ وغريب الحديث لابن سلام ج ٢ ص ١٣٢ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٥٢٨.

٣٠١

قالوا : عمر بن الخطاب (١).

زاد في الحلبية قوله : فقال أبو سفيان : ويحك يا عمر ، إنك رجل فاحش ، دعني مع ابن عمي ، فإياه أكلم (٢).

وعند المجلسي : قال أبو سفيان : «أف لك ما أفحشك ، ما يدخلك يا عمر في كلامي وكلام ابن عمي» (٣).

قال العباس : فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «اذهب به يا عباس إلى رحلك ، فإذا أصبحت فأتني به».

قال : فذهبت به إلى رحلي (٤).

وقالوا : فلما أذّن الصبح أذّن العسكر كلهم : أي أجابوا المؤذن.

ففزع أبو سفيان من أذانهم ، فقال : ما يصنع هؤلاء؟

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٩ والبحار ج ٢١ ص ١٢٩ عن إعلام الورى ج ١ ص ٢٢١ وراجع : فتح الباري ج ٨ ص ٦ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٥٣٢ وتفسير السمرقندي ج ٢ ص ٤٣.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٩ و (ط دار المعرفة) ص ١٨.

(٣) البحار ج ٢١ ص ١٢٩ وإعلام الورى ج ١ ص ٢٢١.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١٧ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٩ و (ط دار المعرفة) ص ١٧ والبحار ج ٢١ ص ١٢٩ عن إعلام الورى ج ١ ص ٢٢١ ، والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨١٥ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨١ وعون المعبود ج ٨ ص ١٨٠ والثقات لابن حبان ج ٢ ص ٤٦ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٣١ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٦٢ وعيون الأثر ج ٢ ص ١٨٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٤٩.

٣٠٢

قال العباس : فقلت : الصلاة.

قال : كم يصلون؟

قلت : خمس صلوات في اليوم والليلة. (وعند الواقدي : قال : كثير والله).

ثم رآهم يتلقون وضوء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : ما رأيت ملكا قط كاليوم ، لا ملك كسرى ولا قيصر.

قال العباس : فلما صلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الصبح غدوت به.

وعند ابن عقبة ، ومحمد بن عمر : أن أبا سفيان سأل العباس في دخوله على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

وعن أبي سلمة ، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب : فلما أصبحوا قام المسلمون إلى طهورهم ، فقال أبو سفيان : يا أبا الفضل!! ما للناس أمروا فيّ بشيء؟

قال : لا ، ولكنهم قاموا إلى الصلاة.

فأمره العباس فتوضأ ، وذهب به إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فلما دخل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الصلاة كبّر وكبّر الناس ، ثم ركع ، فركعوا ، ثم رفع ، فرفعوا ، ثم سجد فسجدوا ، فقال أبو سفيان : ما رأيت كاليوم طاعة ، قوم جمعهم من ههنا وههنا ، ولا فارس الأكارم ، ولا الروم ذات القرون بأطوع منهم له. يا أبا الفضل!! أصبح ابن أخيك والله عظيم الملك.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١٧ عن ابن عقبة ، والواقدي ، والبحار ج ٢١ ص ١٢٩ عن إعلام الورى ، والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨١٥ و ٨١٦.

٣٠٣

فقال العباس : إنه ليس بملك ، ولكنها النبوة.

قال : أو ذاك؟!

قال العباس : فلما فرغ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «يا أبا سفيان!! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله»؟!

قال : بأبي أنت وأمي!! ما أحلمك وأكرمك ، وأعظم عفوك! إنه لو كان مع الله إله لقد أغنى عني شيئا (يوم بدر ويوم أحد) بعد ، لقد استنصرت إلهي ، واستنصرت إلهك ، فو الله ما لقيتك من مرة إلا نصرت عليّ ، فلو كان إلهي محقا وإلهك مبطلا لقد غلبتك.

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله»؟

قال : بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك ، وأعظم عفوك! أما هذه فو الله إن في النفس منها شيئا حتى الآن.

فقال العباس : ويحك! أسلم قبل أن تضرب عنقك.

فشهد شهادة الحق ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله. (زاد في نص آخر قوله : تلجلج بها فوه) (١).

وظاهر كلام ابن عقبة ، ومحمد بن عمر في مكان آخر : أن أبا سفيان قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله من غير أن يعرض ذلك عليه أحد.

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ١٢٩ عن إعلام الورى ج ١ ص ٢٢١ ومستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ١٠٩.

٣٠٤

قال : قال أبو سفيان ، وحكيم بن حزام : يا رسول الله جئت بأوباش الناس ، من يعرف ومن لا يعرف إلى أهلك وعشيرتك؟!

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أنتم أظلم وأفجر ، قد غدرتم بعهد الحديبية ، وظاهرتم على بني كعب بالإثم والعدوان في حرم الله تعالى وأمنه».

فقال حكيم ، وأبو سفيان : صدقت يا رسول الله. ثم قالا : يا رسول الله!! لو كنت جعلت جدك ومكيدتك لهوازن ، فهم أبعد رحما ، وأشد عداوة لك؟

فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «إني لأرجو من ربي أن يجمع لي ذلك كله. فتح مكة ، وإعزاز الإسلام بها ، وهزيمة هوازن ، وغنيمة أموالهم وذراريهم ، فإني أرغب إلى الله تعالى في ذلك» (١).

وقال في نص آخر : فصار إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : فقال العباس : هذا أبو سفيان صار معي إليك فتؤمنه بسببي.

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أسلم تسلم يا أبا سفيان.

فقال : يا أبا القاسم! ما أكرمك وأحلمك؟

قال : أسلم تسلم.

قال : ما أكرمك وأحلمك؟

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١٧ و ٢١٨ عن ابن أبي شيبة ، وفي هامشه عن : كنز العمال برقم (٣٠١٧٣) والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٩ و ٨٠ ومجمع البيان ج ١٠ ص ٥٥٦ والبحار ج ٢١ ص ١٠٤ و ١٢٨ و ١٢٩ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٨١٥ و ٨١٦ و ٨١٧ و ٨١٨ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٨١.

٣٠٥

قال : أسلم تسلم.

فوكزه العباس وقال : ويلك إن قالها الرابعة ولم تسلم قتلك.

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : خذه يا عم إلى خيمتك.

وكانت قريبة ، فلما جلس في الخيمة ندم على مجيئه مع العباس ، وقال في نفسه : من فعل بنفسه مثل ما فعلت أنا؟ جئت فأعطيت بيدي ، ولو كنت انصرفت إلى مكة فجمعت الأحابيش وغيرهم فلعلي كنت أهزمه.

فناداه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من خيمته ، فقال : «إذا كان الله يخزيك».

فجاءه العباس ، فقال : يريد أبو سفيان أن يجيئك يا رسول الله.

قال : هاته.

فلما دخل قال : ألم يأن أن تسلم؟

فقال له العباس : قل ، وإلا فيقتلك.

قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله.

فضحك «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : رده إلى عندك.

فقال العباس : إن أبا سفيان يحب الشرف فشرفه.

فقال : من دخل داره فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن (١).

ونقول :

إن لنا مع هذه النصوص وقفات ، هي التالية :

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ١١٨ و ١١٩ عن الخرايج والجرايح ج ١ ص ١٦٣.

٣٠٦

إنه ليس بملك :

إنهم قد رووا : أن العباس إنما رفض مقولة أبي سفيان : «أصبح ابن أخيك والله عظيم الملك» ، من حيث إن ذلك يستبطن عدم اعترافه بنبوته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وإلا فقد قال تعالى عن داود : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (١).

وقال حكاية عن سليمان : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ..) (٢)

من الذي كان مع أبي سفيان؟! :

وقد اختلفت الروايات في الأشخاص الذين كانوا مع أبي سفيان ، وفي إسلامهم معه وعدمه ، وفي أمور كثيرة أخرى ..

فرواية تقول : لم يشعر أهل مكة برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى نزل العقبة. وكان أبو سفيان وعكرمة بن أبي جهل قد خرجا يتجسسان خبرا ، ونظرا إلى النيران ، فلم يعلما لمن هي ..

ثم لقيهما العباس ، فاصطحب أبا سفيان إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ورجع عكرمة إلى مكة (٣).

ولكن روايات أخرى ذكرت : بديل بن ورقاء ، وحكيم بن حزام. ولم تذكر عكرمة.

__________________

(١) الآية ٢٠ من سورة ص.

(٢) الآية ٣٥ من سورة ص.

(٣) البحار ج ٢١ ص ١١٨ عن الخرايج والجرائح ج ١ ص ١٦٢.

٣٠٧

وبعضها ذكر : أن بديلا وحكيما رجعا إلى مكة ، ولم يذهبا إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مع العباس وأبي سفيان.

وبعضها الآخر يقول : بل ذهبا معهما إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

لم يبلغهم حرف واحد :

وفي حين يقول عروة : عمّيت الأخبار عن قريش ، فلم يبلغهم حرف واحد عن مسير رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولا يدرون ما هو فاعل ، وهم مغتمون لما يخافون من غزوه إياهم .. يعود عروة هذا ليناقض نفسه ، فيقول : لما سار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عام الفتح ، بلغ ذلك قريشا.

وقوله الأول هو الصحيح ، لأن الرواية عن ابن عباس وغيره تؤيده. بالإضافة إلى نصوص كثيرة أخرى.

ورغم أن الرواية الثانية قد صرحت : بأن قريشا قالت لأبي سفيان : إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا ، فإنها أيضا قد صرحت : بأن أبا سفيان ومن معه لم يخطر في بالهم أن يكون هذا الجيش العظيم الذي يرونه هو للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بل ذهبت أوهامهم إلى خزاعة تارة ، وإلى تميم أخرى ، وإلى ربيعة ثالثة ، ثم إلى هوازن رابعة ..

تزوير الحقائق :

ولكن ما نريد أن نبينه للقارئ الكريم هو أن كتابنا هذا قد حفل بالكثير الكثير مما يشير إلى تزوير عروة وأضرابه للحقائق ، واختلاقهم للترهات ، رغم شدة تحاشينا في هذا الكتاب عن الإستغراق في مناقشة أقوال هؤلاء الناس ، الذين أرادوا أن يستأثروا لأنفسهم بمقام ليسوا من

٣٠٨

أهله ، ألا وهو مقام حفظ العلم ، والشريعة ، والتاريخ ، وكل الحقائق التي تحتاجها الأمة عبر الأجيال ، مع أنهم إنما قدموا لها بحرا زاخرا بالأباطيل والأضاليل ، والخزعبلات ، والخرافات ، حتى إذا ضاقت بهم السبل ، واضطروا للاعتراف بشيء من الحقيقة ، فإنك تراهم يثيرون حولها أجواء من الريبة والشك والإتهام ، ويشبعونها حذلقة ، وتمويها وتشويها.

عشرة آلاف نار لماذا؟! :

ولسنا بحاجة إلى بيان أهدافه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين أمر أصحابه بإيقاد عشرة آلاف نار .. الأمر الذي بهر عتاة وجبابرة أهل الشرك ، وفراعنة قريش.

وقد تقدم : أن أبا سفيان ، وحكيم بن حزام ، وابن ورقاء فزعوا فزعا شديدا حين رأوا تلك النيران ، كأنها نيران عرفة.

ولو لا أنهم رأوا القباب والعسكر الجرار ، وسمعوا صهيل الخيل ، ورغاء الإبل ، لأمكن أن يتسرب إلى أوهامهم احتمال أن تكون فئة صغيرة هي التي أوقدت هذه النيران الكثيرة.

لقد تأكد لديهم :

١ ـ أن من يوقد هذه النيران ، يريد أن يعلم أعداءه بحضوره ، غير آبه بهم ، ولا خائف منهم .. وأنه لم يأت متسللا ، ولا مغيرا يريد أن يربح المعركة عن طريق المباغتة ، لتعوض المباغتة ضعفه ، أو لتوهن شيئا من قدرات عدوه ..

٢ ـ إنه يريد بإيقاد هذه النيران الكثيرة أن يظهر حجم قوته ،

٣٠٩

وحضورها ، وسعتها وامتدادها ، لتساعد تلك النيران أولئك الناظرين الذين قد يكونون في مرتفع ، على رؤية أول وآخر رجل جاء لقتال عتاة الشرك ، من دون أن تغرقهم عيونهم في ضباب الإبهام ، بسبب الظلمة التي قد تمنع العيون من الإحاطة بها.

وتبين حجم الامتداد والسعة إذا كان ذلك الجيش عشرة آلاف مقاتل ، ومعهم الخيول المقاتلة ، والإبل الحاملة للأثقال ، والمساعدون ، وربما الكثير من النساء ، والأتباع .. فإن ذلك يحتاج إلى مساحات شاسعة في حركة ذلك الجمع وفي نزوله على حد سواء.

إذن ، فقد كان طبيعيا أن يتحير أبو سفيان ومن معه في هوية هذا الجيش الذي أمامهم هل هو خزاعة ، أو تميم ، أو ربيعة؟!.

إن لقيت محمدا فخذ لنا أمانا :

وأما بالنسبة إلى ما رواه عروة : من أن قريشا قالت لأبي سفيان : إن لقيت محمدا فخذ لنا منه أمانا ، فلا يمكننا تأييده. خصوصا إذا صدقنا عروة في زعمه : أن قريشا كانت قد علمت بمسير النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

لأنها إن كانت تعلم بمسير النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إليها ، أو لو علمت بالمسير دون أن تعلم بالمقصد ، فإن المفروض بها : أن تحتاط للأمر ، وتتجهز للقائه في ساحات القتال ..

إلا إذا كان قد بلغ بها الضعف حدا يدعوها للاستسلام على كل حال .. ففي هذه الحالة لم يكن ثمة داع لاستسرار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بمسيره ، وبمقصده؟!

٣١٠

اللهم إلا إذا فرض : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يعلم بضعف قريش هذا .. وهو أمر لا مجال لقبوله ، فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان مطلعا على أحوال مكة ، واقفا على قدراتها ، عارفا بنواياها ، وتوجهاتها.

بل إن الأمر قد كان ميسورا لأي قائد آخر ، إذ إن عهد الحديبية قد سهّل انتقال أخبار مكة وأهلها إليه ، خصوصا من مسلمي مكة الذين كانوا منتشرين في مختلف البيوت ، ومن جميع الطبقات والفئات.

العباس الناصح لقريش على بغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وواضح : أن ركوب العباس على بغلة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وبحثه عن رسول يرسله إلى قريش ، لا يمكن أن يكون بدون علم النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بل ذلك ـ فيما يظهر ـ داخل في صلب خطة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأخذ مكة من أولئك الجبارين والظالمين من دون قتال ، وذلك باعتماد طريقة ترسيخ القناعة لدى أقطابها بعجزهم عن مناجزته الحرب ، إلا إذا كانوا يريدون أن يلقوا بأيديهم إلى الدمار والبوار.

وقد كان العباس أفضل رسول إلى قريش وزعمائها ، فإنهم على قناعة تامة بأنه لا يمكن أن يفرط بهم ، كما أثبتته لهم تجربتهم الطويلة معه ..

فإذا جاءتهم النصيحة من قبل العباس ، فإنهم لا يرفضونها ، ولا يستغشونه.

وقد ظهر من تفدية أبي سفيان للعباس بأبيه وأمه ، مدى عمق علاقة المودة والصفاء فيما بينهما ، حتى إنه يجعل نفسه رهن إشارة العباس ..

ثم يظهر العباس هنا بمظهر القوي الحازم ، الذي يفرض رأيه وقراره

٣١١

بدون أي تحفظ ، بل هو يقول لأبي سفيان : ثكلتك أمك وعشيرتك.

على أن نفس ركوب العباس بغلة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، من شأنه أن يطمئن أولئك المعاندين والمستكبرين إلى أن مكانة أبي الفضل محفوظة عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأن كلمته مؤثرة لديه.

كما أن أحدا من المسلمين لا يجرؤ على إخفار جواره ، إذا دخلوا هذا المعسكر العرمرم معه وفي حمايته ، فكيف إذا أردف رأس الشرك خلفه ، وحمله معه؟

فالعباس بعد كل هذا هو الوسيلة الأكثر أمنا في الطريق ، والأكثر فاعلية وتأثيرا لدى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وربما يكون هناك اتفاق على طريقة عمل فيما بين العباس وبين هؤلاء ، وقد تغاضى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن التصريح للعباس بمعرفته بها .. واستفاد العباس في الوصول إلى الهدف الكبير والخطير ، ألا وهو دخول مكة من دون إراقة دماء .. كما سيتضح في المطالب التالية ..

علم العباس بمكان أبي سفيان :

وبعد .. فإننا لا نستطيع أن نصدق ما يذكرونه من أن العباس قد ذهب إلى الأراك يبحث عن حطاب ، أو عن صاحب لبن ليرسله إلى قريش ليحذرها من هذا الجيش القادم ، ويدعوها إلى المبادرة إلى أخذ الأمان من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

بل الذي يظهر من مسار الأحداث هو : أن العباس كان عالما بمكان أبي سفيان ، وبديل بن ورقاء ، وحكيم بن حزام ، وقد قصدهم ليأتي بهم ..

٣١٢

الأمر الذي يشير إلى أنه قد يكون هناك اتفاق فيما بينه وبينهم على كل ما يجري ، إذا أردنا أن نظن أنه كان معهم من أول الأمر ، ثم لما رأوا الجيش أرسلوه إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فأسلم ، وتوسط لهم لديه ، ثم عاد ليأتي بهم. ولعله كان يظن أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يلتفت إلى طبيعة حركة العباس في التمهيد لاستسلام أبي سفيان.

والذي يدعونا إلى اعتماد هذا الاتجاه : أننا لا حظنا فيما سبق أن العباس كان من الطلقاء ، وأن الدلائل والشواهد لا تؤيد هجرته ولا حتى ملاقاته للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لا في ذي الحليفة ، ولا الجحفة ، ولا السقيا ، ولا الأبواء ، ولا .. ولا ..

وقد لا حظنا هنا أيضا ما يلي :

١ ـ إنه لا معنى لقولهم : إن العباس قد ذهب يبحث عن حطاب ، أو صاحب لبن ، ليرسله إلى أهل مكة .. إذ إن الوقت كان ليلا ، ولا يوجد حطاب ولا صاحب لبن في هذا الوقت ..

٢ ـ إن الحطاب أو صاحب اللبن إن كان من أهل مكة ، فإنه لا يأتي من مكة كل هذه المسافة ، بل هو يحتطب ويرعى في محيط مكة نفسها.

وإن كان ممن يسكن الأراك ، ومر الظهران ، فلماذا يبحث عن حطاب أو صاحب لبن (راع) ويترك سكان البيوت في تلك المنطقة ، فليقصدهم ، وليكلف واحدا منهم بهذه المهمة ..

٣ ـ إن أمرا بهذه الخطورة ، وقرارا بهذا الحجم ، وهو : أن يستسلموا ، ويسلموا مكة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يصدق فيه حطاب ، أو صاحب لبن ، بل هو يحتاج إلى آراء الرجال التي يسكن إليها ، ويعتمد

٣١٣

عليها ، فكيف إذا كان هذا الرسول ممن يظن فيه أن يكون العدو قد أرسله إليهم ، ليسقط مقاومتهم ، ويضعف إرادتهم ، ويؤثر على قرارهم عن هذا الطريق ، وبهذا الأسلوب ..

٤ ـ لماذا خرج العباس بهذه المهمة ليلا ، ولم يخرج لها نهارا؟!

٥ ـ ما هذه الصدفة التي جعلت العباس يسمع كلمات أبي سفيان ويفهمها ، في حين كان أبو سفيان يحتاج إلى أن يتكلم بصوت خفيض لكي لا يشعر ذلك الجيش أو حرّاسه بوجوده.

كما أن المفروض : أن العباس يركب بغلة لا تراعي في مسيرها عنصر السرية ، ولا تسعى لإخفاء أصوات وقع حوافرها ، ولعلها أصوات قوية ، لما تصادفه في طريقها من الحجارة وغيرها ، خصوصا مع عدم قدرتها على الرؤية التي تمكنها من تجنب بعض الأحجار الكثيرة وسواها بسبب الظلام.

فلماذا لم يسمع أبو سفيان ورفيقاه وقع حوافر بغلة العباس ، ليختاروا السكوت حتى يتبين لهم من يقصدهم؟! فلعله من أعدائهم الذين يجب أن يحترزوا منهم؟!

عمر وأبو سفيان :

وقد أكدت النصوص أيضا هذه النتيجة التي انتهينا إليها ، فقد روي عن أبي ليلى ، قال : كنا مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بمرّ الظهران ، فقال : «إن أبا سفيان بالأراك فخذوه» فدخلنا ، فأخذناه (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١٤ و ٢١٥ عن الطبراني ، ومجمع الزوائد ج ٥ ص ١٧٢ و (ط دار الكتب العلمية) ج ٦ ص ١٦٩ والمعجم الكبير ج ٧ ص ٧٦.

٣١٤

فبينما هم ـ يعني أبا سفيان ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء ـ كذلك ، لم يشعروا حتى أخذهم نفر كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بعثهم عيونا له ، فأخذوا بخطم أبعرتهم.

فقالوا : من أنتم؟

فقالوا : هذا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وأصحابه.

فقال أبو سفيان : هل سمعتم بمثل هذا الجيش ، نزلوا على أكباد قوم لم يعلموا بهم؟ (١).

ورووا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال للناس : إنكم لاقون بعضهم ، فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه (٢).

وعن عكرمة : أن أبا سفيان لما أخذه الحرس قال : دلوني على العباس ، فأتى العباس فأخبره الخبر ، وذهب به إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٣).

فنستفيد من هذه النصوص ، ومن جميع النصوص المتقدمة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي أرشدهم إلى وجود أبي سفيان بالقرب منهم ، وحدد لهم المكان الذي كان فيه ، وأمرهم بأخذه ، فأخذوه ومن معه من دون أن يشعروا ، ويبدو أن العباس كان مع تلك المجموعة ، فطلب أبو سفيان

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١٥ عن ابن عقبة ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٩ و (ط دار المعرفة) ص ١٧.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٨ و (ط دار المعرفة) ص ١٧.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١٥ عن ابن أبي شيبة ، وشرح معاني الآثار ج ٣ ص ٣١٤ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٢٦ وتفسير السمرقندي ج ٢ ص ٤٣ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٥٣٢.

٣١٥

منه أن يتولى حمايته ، وإيصاله إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ليأمن على نفسه ، فحمله على البغلة التي أذن له النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بركوبها ، لعلمه بالحاجة إليها خصوصا في هذا المورد.

ثم لقيهم عمر بن الخطاب في الطريق وعرف أبا سفيان ، فحاول أن يستفيد من الفرصة لإظهار حرصه وغيرته على الإسلام ، وشدته في مناوأة أعدائه ، فطلب من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يأذن له في قتله.

ولعله كان يعلم : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لن يأذن له ، وذلك قياسا على الموارد الكثيرة جدا التي لم يستجب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لطلبه فيها ولو مرة واحدة بأن يأذن له بقتل أسرى.

ترهات وأكاذيب :

وبعد ما تقدم نقول :

إن أبا سلمة ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قالا : أخذ أبو سفيان وأصحابه وكان حرس رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفر من الأنصار ، وكان عمر بن الخطاب تلك الليلة على الحرس ، فجاؤوا بهم إليه.

فقالوا : جئناك بنفر أخذناهم من أهل مكة.

فقال عمر ، وهو يضحك إليهم : والله لو جئتموني بأبي سفيان ما زدتم.

قالوا : قد والله أتيناك بأبي سفيان.

فقال : احبسوه ، فحبسوه حتى أصبح ، فغدا به على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وقال ابن عقبة : لما دخل الحرس بأبي سفيان وصاحبيه ، لقيهم العباس

٣١٦

بن عبد المطلب ، فأجارهم (١).

ونقول :

أولا : من الواضح : أن النصوص المتقدمة وهي الأكثر عددا ، والأوضح سندا والمعتمدة لدى المحدثين والمؤرخين ، تدحض هذه المزاعم وتسقطها.

ثانيا : بالنسبة لما قيل من أنه لما دخل الحرس بأبي سفيان وصاحبيه لقيهم العباس فأجاره نقول : إنه لا يصح إجارة المحارب بعد أسره .. وذلك واضح.

ثالثا : لا ندري لماذا جعل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الحرس من خصوص الأنصار ، ولم يجعل بينهم أحدا من المهاجرين ، ولا من غيرهم من مسلمي سائر البلاد ، إلا إذا كان يتهم المهاجرين بمحاباة قومهم ، أو بالتواطؤ معهم ضده ..

كما إننا لم نفهم لماذا خرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن المألوف منه في الموارد المشابهة ، وجعل هنا فقط خصوص عمر ـ وهو من المهاجرين ـ على جماعة الأنصار؟!

بديل بن ورقاء خزاعي :

وزعمت بعض النصوص : أن بديل بن ورقاء هو الذي توهم أن ذلك

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١٥ عن ابن أبي شيبة ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٩ و (ط دار المعرفة) ص ١٧ وإمتاع الأسماع للمقريزي ج ١ ص ٣٥٩ ونيل الأوطار ج ٨ ص ١٦٩ وفتح الباري ج ٨ ص ٥ وراجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٤٨ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٣١.

٣١٧

الجيش النبوي العظيم الذي رأوا نيرانه هو قبائل خزاعة.

ويرد عليه : أن بديل بن ورقاء كان خزاعيا ، وكان يعرف خزاعة وحججها ، وهذا يرجح الرواية التي تقول : إن رجلا آخر قال : هذه خزاعة ، فقال له بديل : هؤلاء أكثر من خزاعة (١).

ما هذا التصافي والإنسجام؟! :

ثم إن ما يثير العجب هنا هو هذا التوافق والإنسجام التام بين بديل بن ورقاء ، الزعيم الخزاعي ، وبين زعماء قريش ، التي شاركت في البطش بقومه ، وارتكبت مجزرة رهيبة في حقهم ، ونقضت العهد مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالتعدي عليهم .. مع كون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إنما يقدم مكة بهذا الجيش غضبا لخزاعة ، وسعيا لتأديب قريش ، والقضاء على بغيها وجبروتها الظالم.

ويؤكد هذا الذي نقوله : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين أجاب حكيم بن حزام بقوله : «أنتم أظلم وأفجر ، قد غدرتم بعقد الحديبية ، وتظاهرتم على بني كعب ـ يعني خزاعة ـ بالإثم والعدوان ، وفي حرم الله وأمنه». قال بديل بن ورقاء الخزاعي : «صدقت ـ والله ـ يا رسول الله ، فقد غدروا بنا. والله لو أن قريشا خلوا بيننا وبين عدونا ما نالوا منا الذي نالوا» (٢).

فإذا كان بديل يرى قريشا غادرة فاجرة ، فما هذا التعاون والانسجام

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٨ و (ط دار المعرفة) ص ١٦.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٨٠ و (ط دار المعرفة) ص ١٩.

٣١٨

مع زعمائها ضد حليفه الذي جاء لنصره ، ورفع الظلم عنه؟!

والأكثر غرابة هنا : أن يكون هذا الود والصفاء بين بديل وبين أبي سفيان بالذات ، فإن أبا سفيان هو الذي أرسلته قريش إلى المدينة ليحتال على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وعلى المسلمين ، ليضيع دماء أبنائهم ، وليساعد الغدرة والظلمة في غدرهم وظلمهم ، وفي التغطية عليهم ، وإنكار حق خزاعة حتى بديات قتلاهم.

وقد قلنا فيما سبق :

إن فعل أبي سفيان هذا لعله أفحش وأقبح من فعل ناقضي العهد ، ومرتكبي الجرائم في حق خزاعة ..

حماس عمر لقتل أبي سفيان :

وقد قرأنا في تلك النصوص أيضا : شدة حماس عمر لقتل أبي سفيان بمجرد أن رآه مع العباس على بغلة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ولكن ذلك يثير لدينا ألف سؤال وسؤال عن مدى وعي عمر للأمور ، وتقديره لها ، وغير ذلك .. وأول سؤال يقفز إلى الذهن هو : هل كان دائما يتحمس لقتل أبي سفيان بيده حتى في ساحات القتال في المعارك السابقة؟!

وإذا كان كذلك ، فهل هو في مستوى حماسه لقتله حين رآه أسيرا في يد أهل الإسلام ، لا حول له ولا قوة؟!

أم أنه كان في ساحات القتال في زمرة الضعفاء من المقاتلين ، وفي طليعة المنهزمين حين تستعر نار الحرب ، ويروج سوق الطعن والضرب؟!

وهل كان في الصفوف الأولى يبارز الفرسان ، ويناجز الشجعان؟ أم

٣١٩

كنت تراه في الصفوف الخلفية ، يحتمي بغيره ، ومشغولا بحفظ نفسه؟!

تناقضات مواقف عمر وأبي بكر :

وقد كان عمر لم يزل يطلب من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يدعه يضرب عنق هذا الأسير وذاك .. وقد تكرر منه ذلك مرات كثيرة جدا ، وكان هو المطالب بقتل أسرى بدر ، حتى رووا في ذلك روايات شنيعة المضمون ، من حيث إنها تهدف إلى الطعن بالرسول الأكرم نفسه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ـ حسبما تقدم بيانه في غزوة بدر ، في فصل الغنائم والأسرى.

وقد كان أبو بكر قرين عمر ، وصفيه وحبيبه ونجيّه ، وكانا معا يدا واحدة في كل ما يجري ، فلماذا نجد لأبي بكر مسارا آخر في هذه الأمور بالذات؟ فكيف اتفقا في سائر القضايا واختلفا في خصوص هذا الأمر؟!

بل لم نسمع أن أبا بكر قد أيد عمر في مواقفه هذه إلا مرة واحدة ، وانعكست الأمور بينهما في مرة واحدة أيضا .. أي أن عمر كان هو الميال للقتل والعنف ، وكان أبو بكر باستمرار هو الذي يهدئه ، ويفثؤه ، ويردعه عن مضايقة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويمنعه من مواصلة الإلحاح عليه .. باستثناء مورد واحد ، انعكست فيه الأمور ، وتبدلت المواقف ، فصار عمر هو حمامة السلام ، والداعي للصلح والمداراة والوئام .. وأصبح أبو بكر في موقع المصمم على الحرب والقتال مهما كانت النتائج ..

ولكن هذا التفاوت قد ظهر حين أصبحت الحرب مع المسلمين الرافضين للإعتراف بشرعية خلافة أبي بكر ، وأصروا على عدم إعطائه

٣٢٠