الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-193-9
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٤

فأقبّل رجله في الركاب ، ثم التفت إلي ، فقال : أخي لعمري! ثم أمر العباس ، فقال : ناد يا أصحاب سورة البقرة! يا أصحاب السمرة يوم الحديبية! يا للمهاجرين! يا للأنصار! يا للخزرج!

فأجابوا : لبيك داعي الله!

وكروا كرة رجل واحد ، قد حطموا الجفون ، وشرّعوا الرماح ، وخفضوا عوالي الأسنة ، وأرقلوا إرقال الفحول ، فرأيتني وإني لأخاف على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» شروع رماحهم حتى أحدقوا برسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وقال لي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : تقدم فضارب القوم.

فحملت حملة أزلتهم عن موضعهم ، وتبعني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قدما في نحور القوم ، ما يألو ما تقدم ، فما قامت لهم قائمة حتى طردتهم قدر فرسخ ، وتفرقوا في كل وجه.

وبعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفرا من أصحابه على الطلب ، فبعث خالد بن الوليد على وجه ، وبعث عمرو بن العاص في وجه ، وبعث أبا عامر الأشعري إلى عسكر بأوطاس ، فقتل ، وقتل أبو موسى قاتله (١).

ونقول :

إن لنا وقفات عديدة مع هذه النصوص كلها ، ونجمل ذلك على النحو التالي :

__________________

(١) قاموس الرجال ج ٥ ص ٢٣٧ عن أنساب الأشراف للبلاذري ، وكتاب التوابين ص ١١٣ و ١١٤.

٢٦١

هجرة العباس آخر هجرة :

وقد صرحت الروايات المتقدمة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قال للعباس : «هجرتك يا عم آخر هجرة كما أن نبوتي آخر نبوة» (١).

ونقول :

إننا نسجل هنا الملاحظات التالية :

ألف : لماذا اعتبر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هجرة العباس آخر هجرة ، ولم يعتبر هجرة عبد الله بن أبي أمية آخر هجرة؟!

أو لماذا لا يعتبر هجرة أبي سفيان بن الحارث آخر هجرة؟!

بل لقد كان الأولى اعتبار هجرة هؤلاء جميعا آخر هجرة ..

وقد يقال في الجواب عن ذلك : إن العباس كان في مكة مسلما ، ولم يهاجر إلا حين الفتح ، أما هؤلاء فقد كانوا على الكفر ، وإنما جاؤوا إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في هذا الوقت لكي يسلموا ، وكان بعضهم قد أهدر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دمه. وإنما يصح إطلاق كلمة المهاجر على من أسلم وآمن ، ثم هاجر .. لا على من لم يسلم أصلا ، ولكنه يعد بأن يسلم حين يلقى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

غير أن صحة هذا الجواب تتوقف على ثبوت إسلام العباس قبل يوم الفتح ، ودون ذلك خرط القتاد ، لا سيما مع ما سيأتي من وجود رواية صحيحة مصرحة بكونه من الطلقاء.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١٣ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٨ و (ط دار المعرفة) ص ١٥ ومواقف الشيعة ج ١ ص ١٧١ عن عيون الأخبار لابن قتيبة ج ١ ص ٥.

٢٦٢

ب : إننا لم نعرف ماذا كان مصير مخرمة بن نوفل ، فإنه لم يدخل على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإن كان قد أسلم فلماذا لم يذكروا لنا ذلك؟!

وإن كان لم يسلم ، فهل تركوه؟ أم أسروه؟!

ج : إن حديث هجرة العباس في هذا الوقت موضع شك :

أولا : لما تقدم من أن ثمة من يقول عن العباس : «الصحيح : أنه منذ يوم بدر كان في المدينة». وإن كانت النصوص والوقائع لا تساعد على قبول هذا القول ..

ثانيا : قد عرفت الخلاف في المكان الذي التقى فيه العباس بالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فهل لقيه بالسقيا وهي تبعد عن المدينة أربعة أيام؟!

أم لقيه بالجحفة ، وهي تبعد عن مكة أربع مراحل ونصف مرحلة ، كما تقدم؟!

أم لقيه في ثنية العقاب؟!

أم في الجحفة؟!

أم في ذي الحليفة؟!

وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى ..

ثالثا : إن كلام المعتزلي يشير إلى أن آخر من هاجر هو نعيم بن مسعود ، وليس العباس.

فقد ذكر : أن العباس شفع في نعيم بن مسعود : أن يستثنيه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من قوله : «لا هجرة بعد الفتح» ، فاستثناه ، فراجع (١).

رابعا : ما معنى مقارنة هجرة العباس بالنبوة الخاتمة؟! فإن للنبوة

__________________

(١) البحار ج ٦٦ ص ٢٣٠ عن شرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ١٠٣.

٢٦٣

الخاتمة فضلها على سائر النبوات ، ولم يكن لهجرة العباس أي فضل على غيرها من الهجرات ، بل كانت تلك الهجرات أفضل عند الله تعالى ، ولا سيما هجرة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهجرة أمير المؤمنين «عليه‌السلام». وقد كان «عليه‌السلام» يذكر سبقه إلى الهجرة في جملة فضائله وكراماته التي منّ الله تعالى عليه بها (١).

خامسا : إنهم يقولون : إن العباس خرج يلتقى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ومعه عبد الله بن أبي أمية ، وأبو سفيان ، وقد تلقاه بثنية العقاب حسبما تقدم.

وهذا معناه : أنه لم يخرج مهاجرا ، وإنما خرج متلقيا .. وإن كان لنا كلام حتى بالنسبة لهذا المقدار أيضا ، ونظن أنه قد خرج يتنسم الأخبار ففوجئ بجيوش الإسلام فاستسلم كما سنرى.

سادسا : روي عن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن الحسين بن سعيد ، عن علي بن النعمان ، عن عبد الله بن مسكان ، عن سدير ، قال :

«كنا عند أبي جعفر «عليه‌السلام» ، فذكرنا ما أحدث الناس بعد نبيهم

__________________

(١) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج ١ ص ١٠٦ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٦ ص ٢٢٨ و (ط دار الإسلامية) ج ١١ ص ٤٧٨ وفرحة الغري لابن طاووس ص ٥ والبحار ج ٣٨ ص ٢٥٥ و ٢٩٢ وج ٣٩ ص ٣٢٥ وج ٧٢ ص ٤٢١ وجامع أحاديث الشيعة ج ١٤ ص ٥٨١ ومستدرك سفينة البحار ج ١٠ ص ٤٨٦ ودراسات في نهج البلاغة للشيخ محمد مهدي شمس الدين ص ١٧٨ وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم‌السلام» للشيخ هادي النجفي ج ٥ ص ٢٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ٤ ص ٥٤ وتفسير ابن عربي ج ٢ ص ٣٤٥ وينابيع المودة للقندوزي الحنفي ج ١ ص ٢٠٥.

٢٦٤

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، واستذلالهم أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، فقال رجل من القوم : أصلحك الله ، فأين كان عز بني هاشم وما كانوا فيه من العدد؟!

فقال أبو جعفر «عليه‌السلام» : ومن كان بقي من بني هاشم؟ إنما كان جعفر وحمزة فمضيا ، وبقي معه رجلان ضعيفان ذليلان ، حديثا عهد بالإسلام : عباس ، وعقيل. وكانا من الطلقاء.

أما والله ، لو أن حمزة وجعفرا كانا بحضرتهما ، ما وصلا إلى ما وصلا إليه ، ولو كانا شاهديهما لأتلفا نفسيهما» (١).

وقد وصف السيد الخوئي «رحمه‌الله» سند هذه الرواية بالصحة (٢).

ووصفه العلامة المجلسي بالحسن ، ولكنه فسر كلمة : «كانا من الطلقاء» ـ تبعا للمازندراني ـ بقوله : أي أطلقهما النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في غزاة بدر ، بعد أسرهما ، وأخذ الفداء منهما (٣).

وهذا الكلام خلاف الظاهر : فإن كلمة «الطلقاء» اصطلاح خاص ، منتزع من كلمة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأهل مكة يوم الفتح : «اذهبوا فأنتم

__________________

(١) الكافي (مطبعة النجف سنة ١٣٨٥ ه‍) ج ٨ ص ١٦٥ و (ط دار الكتب الإسلامية) ص ١٨٩ الحديث رقم ٢١٦ والبحار ج ٢٨ ص ٢٥١ ومعجم رجال الحديث ج ١٠ ص ٢٥٢ ومجمع النورين للمرندي ص ٨٩ وبيت الأحزان ص ١٢٨ وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» في الكتاب والسنة والتاريخ للريشهري ج ٣ ص ٦٥ وعقيل بن أبي طالب للأحمدي الميانجي ص ٧٨.

(٢) معجم رجال الحديث ج ٩ ص ٢٣٥.

(٣) مرآة العقول ج ٢٦ ص ٨٣ و ٨٤ وراجع : شرح الكافي للمولى محمد صالح المازندراني ج ١٢ ص ٢٣٦ و (ط دار إحياء التراث العربي) ص ٢٤٧.

٢٦٥

الطلقاء». وهو مؤيد بشواهد أخرى تدل على أن العباس لم يهاجر.

فإن إسلام العباس وعقيل في بدر فلا مجال لإثباته ، فيبقى في دائرة الظنون والحدسيات ، فراجع ما ذكرناه في غزوة بدر وغيرها.

الهجرة لم تنقطع :

قد ذكرت الروايات : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : لا هجرة بعد الفتح.

وذكروا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» استثنى نعيم بن مسعود من هذا الإطلاق.

ولكن ذلك غير صحيح : فإن الهجرة باقية إلى يوم القيامة ، كما نص عليه أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ، فقد روي أنه قال في خطبة له :

«والهجرة قائمة على حدها الأول. ما كان لله في أهل الأرض حاجة من مستسرّ الأمة ومعلنها ، لا يقع اسم الهجرة على أحد إلا بمعرفة الحجة في الأرض ، فمن عرفها وأقربها فهو مهاجر

ولا يقع اسم الإستضعاف على من بلغته الحجة ، فسمعتها أذنه ، ووعاها قلبه ، إن أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا عبد امتحن الله قلبه للإيمان ، ولا تعي حديثنا إلا صدور أمينة ، وأحلام رزينة ..» (١).

فهذا النص يدل على أنه «عليه‌السلام» يريد أن ينفي ما يزعمونه من

__________________

(١) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج ٢ ص ١٢٨ الخطبة رقم ١٨٩ والبحار ج ٦٦ ص ٢٢٧ والإيجاز والإعجاز للثعالبي ص ٣٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٣ ص ١٠١ وينابيع المودة ج ٣ ص ٤٥٢.

٢٦٦

انتفاء الهجرة ، وهو الزعم الذي أيدوه بما نسبوه إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : لا هجرة بعد الفتح.

وقد قرر «عليه‌السلام» : أن الهجرة باقية لم تنقطع ..

وأما ما ذكره أمير المؤمنين «عليه‌السلام» لمعاوية : من أن الهجرة قد انقطعت يوم أسر أخوه ، فيمكن أن يكون «عليه‌السلام» قد أورده وفق مزاعم معاوية وأضرابه ، من أن الهجرة قد انقطعت بفتح مكة.

هذا ، وقد وقع الملتزمون بأنه لا هجرة بعد الفتح في حيص بيص في توجيه كلام علي «عليه‌السلام» هذا. ويظهر ذلك جليا مما نقله العلامة المجلسي عن ابن الأثير وابن أبي الحديد المعتزلي وغيرهما ، فقد قال في شرحه للكلام السابق ما ملخصه :

أصل الهجرة المأمور بها الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام.

وقال في النهاية فيه : لا هجرة بعد الفتح ، ولكن جهاد ونية.

وفي حديث آخر : لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة.

والهجرة هجرتان :

إحداهما : التي وعد الله عليها الجنة في قوله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (١) ، فكان الرجل يأتي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ويدع أهله وماله لا يرجع في شيء منه ، وينقطع بنفسه إلى مهاجره.

وكان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يكره أن يموت الرجل بالأرض التي هاجر منها ، فمن ثم قال : «لكن البائس سعد بن خولة» ، يرثي له أن مات بمكة.

__________________

(١) الآية ١١ من سورة التوبة.

٢٦٧

وقال حين قدم مكة : «اللهم لا تجعل منايانا بها» ، فلما فتحت مكة صارت دار إسلام كالمدينة ، وانقطعت الهجرة.

والهجرة الثانية : من هاجر من الأعراب وغزا مع المسلمين ، ولم يفعل كما فعل أصحاب الهجرة الأولى ، فهو مهاجر. وليس بداخل في فضل من هاجر تلك الهجرة ، وهو المراد بقوله : «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة».

فهذا وجه الجمع بين الحديثين.

وإذا أطلق في الحديث ذكر الهجرتين ، فإنما يراد بهما : هجرة الحبشة ، وهجرة المدينة ، انتهى كلام ابن الأثير.

وقال ابن أبي الحديد : هذا كلام من أسرار الوصية يختص به علي «عليه‌السلام» ، لأن الناس يروون أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «لا هجرة بعد الفتح» ، فشفّع (١) عمه العباس في نعيم بن مسعود الأشجعي أن يستثنيه ، فاستثناه.

وهذه الهجرة التي أشار إليها أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ليست تلك ، بل هي الهجرة إلى الإمام.

وقال بعض الأصحاب : تجب المهاجرة عن بلد الشرك على من يضعف عن إظهار شعائر الإسلام مع المكنة. ويستحب للقادر على إظهارها ، تحرزا عن تكثير سواد المشركين.

والمراد بها : الأمور التي تختص بالإسلام ، كالأذان والإقامة ، وصوم شهر رمضان ، وغير ذلك.

__________________

(١) أي قبل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» شفاعة عمه.

٢٦٨

وألحق بعضهم ببلاد الشرك بلاد الخلاف التي لا يتمكن فيها المؤمن من إقامة شعائر الإيمان مع الإمكان.

ولو تعذرت الهجرة لمرض أو عدم نفقة أو غير ذلك فلا حرج ، لقوله تعالى : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) (١).

إلى أن قال : «لا يقع اسم الهجرة الخ ..». أي يشترط في صدق الهجرة معرفة الإمام والإقرار به.

والمراد بقوله : «فمن عرفها الخ ..» ، أنه مهاجر بشرط الخروج إلى الإمام ، والسفر إليه ، أو المراد بالمعرفة : المعرفة المستندة إلى المشاهدة والعيان.

ويحتمل أن يكون المراد : أن مجرد معرفة الإمام والإقرار بوجوب اتباعه كاف في إطلاق اسم الهجرة ، كما هو ظاهر الجزء الأخير من الكلام.

ويدل عليه : بعض أخبارنا ، فمعرفة الإمام والإقرار به في زمانه قائم مقام الهجرة المطلوبة في زمان الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وقال بعض الإصحاب : الهجرة في زمان الغيبة سكنى الأمصار ، لأنها تقابل البادية مسكن الأعراب ، والأمصار أقرب إلى تحصيل الكمالات من القرى والبوادي ، فإن الغالب على أهلها الجفاء والغلظة ، والبعد عن العلوم والكمالات ، كما روي عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أن الجفاء والقسوة

__________________

(١) الآيتان ٩٨ و ٩٩ من سورة النساء.

٢٦٩

في (الفدادين) (١)» (٢).

وقيل : هي الخروج إلى طلب العلوم ، فيعم الخروج عن القرى والبوادي ، والخروج عن بلد لا يمكن فيه طلب العلم (٣).

وفي جميع الأحوال نقول :

إن هذه التأويلات والتقسيمات تبرعية ، ليس لها مبرر سوى أنهم يعتقدون بصحة حديث : لا هجرة بعد الفتح.

ولكن ما ورد في خطبة أمير المؤمنين «عليه‌السلام» يضع علامة استفهام كبيرة حول صحة هذه الكلمة المنسوبة إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

مع ملاحظة : أن المطلوب كان هو الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإيمان ، حفظا لإيمان الناس ، ولا مبرر للطلب من الناس الهجرة من بلاد الإيمان إلى بلاد أخرى حتى لو كانت من بلاد الإيمان أيضا ..

__________________

(١) الفدادون : الجمالون ، والرعيان ، والبقارون ، والحمارون ، والفلاحون ، وأصحاب الوبر ، والذين تعلو أصواتهم في حروثهم ومواشيهم ، والمكثرون من الإبل.

(٢) الكافي ج ٨ ص ٧٠ والبحار ج ٢٢ ص ١٣٦ وج ٥٧ ص ٢٣٢ وج ٦٦ ص ٢٣١ وعمدة القاري ج ١٥ ص ١٩١ وتخريج الأحاديث الآثار للزيلعي ج ٢ ص ٩٤ والذكرى للشهيد الأول ج ٤ ص ٤١٧ وتفسير البحر المحيط ج ٥ ص ٩٤ وغريب الحديث ج ١ ص ٢٠٢ وتفسير النسفي ج ٢ ص ١٠٥ وروض الجنان للشهيد الثاني (ط ق) ص ٣١٢ ومسالك الأفهام ج ١ ص ٣١٦ عن : غريب الحديث للهروي ج ١ ص ١٢٥ والصحاح ج ٢ ص ٥١٨ والنهاية في غريب الحديث ج ٣ ص ٤١٩.

(٣) البحار ج ٦٦ ص ٢٢٩ ـ ٢٣١.

٢٧٠

الطلقاء ليسوا من الصحابة :

وقد يقال : إن حديث : لا هجرة بعد الفتح ثابت بدليل : أنه حلف رجل بخراسان بالطلاق إن كان معاوية من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأفتى الفقهاء بطلاقها.

فسئل الرضا «عليه‌السلام» عن ذلك ، فأفتى : أنها لا تطلق.

فكتب الفقهاء رقعة أنفذوها إليه ، يسألونه عن ذلك ، فوقع في رقعتهم : قلت : هذا من روايتكم ، عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لمسلمة الفتح ، وقد كثروا عليه : أنتم خير ، وأصحابي خير ، ولا هجرة بعد الفتح (١).

فأبطل الهجرة ولم يجعل هؤلاء أصحابا له ، فرجعوا إلى قوله (٢).

فحكم الإمام الرضا «عليه‌السلام» بعدم صحة الطلاق استنادا إلى هذا الحديث ، يدل على ثبوته ، فلا معنى للتشكيك به أو إنكاره.

غير أننا نقول :

إننا لا نريد أن نتكلم في سند هذا الحديث نقضا وإبراما ، إذ يكفينا القول : بأن حكم الإمام الرضا «عليه‌السلام» لا يدل على صحة حديث

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ج ١ ص ٩٣ والبحار ج ١٩ ص ٨٩ وج ٣٣ ص ١٦٧ وج ١٠١ ص ١٥٨ ومستدرك سفينة البحار ج ٦ ص ٥٦٩ وإحقاق الحق (الأصل) ص ٢٥٦ وراجع : مسند أبي داود الطيالسي ص ٨٤ و ١٣٠ و ٢٩٣ وكنز العمال ج ٢ ص ٥٦٠ والدر المنثور ج ٦ ص ٤٠٦ والمستدرك للحاكم ج ٢ ص ٢٥٧.

(٢) البحار ج ١٩ ص ٩٠ وج ٣٣ ص ١٦٧ و ١٠١ ص ١٥٨ ومستدرك سفينة البحار ج ٦ ص ٥٦٩ وعيون أخبار الرضا (ط مؤسسة الأعلمي سنة ١٤٠٤ ه‍) ج ١ ص ٩٣ و ٩٤.

٢٧١

انقطاع الهجرة بالفتح ، لأنه جار على قاعدة : ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم.

ويشير إلى ذلك قوله «عليه‌السلام» : «قلت : هذا من روايتكم عن أبي سعيد الخ ..» ، فإن هذا القول لو كان ثابتا عنده وعندهم ، لكان الأولى أن يقول : «قلت : هذا من الحديث الثابت عن رسول الله».

وأما حكم الإمام «عليه‌السلام» : بأن معاوية ليس من الصحابة ، فيتلخص في أن كلام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد تضمن جعل مسلمة الفتح في مقابل أصحابه ، فدل ذلك على أنهم ليسوا منهم ، وقد كان معاوية من مسلمة الفتح ، فهو إذن ليس من أصحابه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

العباس يتلقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وبعد .. فإننا كما نشكك بقوة في ان يكون العباس قد خرج مهاجرا ، لوجود الرواية الصحيحة سندا ، والمصرحة بكونه من الطلقاء ، بالإضافة إلى قرائن أخرى ، فإننا نشك أيضا : في دقة التعبير الذي ورد في نصوص أخرى ، من أنه خرج يتلقى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وسبب شكنا في ذلك هو الأمور التالية :

١ ـ إن العباس لم يكن يعلم بقدوم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى مكة ، بل إن الجيش القادم نفسه لم يكن يعلم بحقيقة مقصد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله». وقد أوضحنا ذلك أكثر من مرة.

٢ ـ إن الاختلاف في المكان الذي التقى فيه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يؤكد شكنا في نوايا الرواة لهذا الأمر ..

٣ ـ إن تلك الرواية الصحيحة السند التي اعتبرته من الطلقاء ، تؤكد

٢٧٢

على أنه إنما أسلم تحت وطأة الخوف من هذا الجيش القادم ، ولم يسلم طوعا ، ومن يكون من الطلقاء لا يخرج لتلقي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فالظاهر هو : أنه قد جرى للعباس مثلما جرى لأبي سفيان وبديل بن ورقاء وغيرهما. أي أنه إنما خرج يتنسم الأخبار .. فأبعد عن مكة أكثر من أبي سفيان ، فواجه الجيش العظيم القادم ، فاضطر إلى الاستسلام ، وإظهار الإسلام ، ثم عاد مع ذلك الجيش إلى مكة ، ولقي أبا سفيان ومن معه في الطريق ، وكان ما كان مما سيأتي بيانه إن شاء الله.

أين لقي العباس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟! :

وقد ذكرت النصوص المتقدمة مواضع مختلفة ادّعت أن العباس لقي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فيها.

ففي بعضها : أنه لقيه بالأبواء ..

وفي بعضها : أنه لقيه بالجحفة.

وقيل : بذي الحليفة.

وقيل : بالسقيا.

وقيل : بثنية العقاب.

والأبواء بالنسبة للآتي من المدينة إلى مكة تقع قبل الجحفة مما يلي الجحفة بثلاثة وعشرين ميلا (١). فتكون على بعد خمسة أيام من المدينة.

والجحفة تقع على أربع مراحل ونصف من جهة مكة ، وتبعد خمس

__________________

(١) معجم البلدان ج ١ ص ٧٩ ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١١١٨ ومراصد الإطلاع ج ١ ص ١٩ وفتح الباري ج ٤ ص ٢٨ وعمدة القاري ج ١٤ ص ٢٦٠.

٢٧٣

مراحل وثلثي مرحلة من المدينة (أو ست مراحل) (١).

وذو الحليفة يبعد عن المدينة ستة أميال أو سبعة (٢).

وأما السقيا ، فهي على نحو أربعة أيام من المدينة ، وهي بالنسبة للآتي من المدينة إلى مكة ، قبل الأبواء بأحد عشر ميلا (٣).

أما ذكر ثنية العقاب فهو غلط ، لأن ثنية العقاب قرب غوطة دمشق (٤) وليست بين مكة والمدينة.

وبعد ما تقدم نقول :

لا بد من تحديد الموضع الذي التقى فيه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالعباس ، وبأبي سفيان بن الحارث ، وعبد الله بن أبي أمية إذ لا يمكن أن يلتقي به في جميع هذه المواضع المتباعدة عن بعضها البعض بما قد يصل إلى عشرات الأميال.

__________________

(١) راجع : معجم البلدان ج ٣ ص ٦٢ و (ط دار إحياء التراث العربي) ج ٢ ص ١١١ ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١١٧٤ وراجع : مراصد الإطلاع ج ١ ص ٣١٥. راجع : مراصد الإطلاع ج ١ ص ٣١٥.

(٢) معجم البلدان ج ٢ ص ٢٩٥ و ٣٢٥ وج ٥ ص ١٥٥ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٤١٦ ووفاء الوفاء ج ٤ ص ١١٩٣ ومراصد الإطلاع ج ١ ص ٤٢٠ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ١٥٤ والقاموس المحيط ج ٣ ص ١٢٩ وتاج العروس ج ١٢ ص ١٤٨.

(٣) وفاء الوفاء ج ٤ ص ١٢٣٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ١٣٥ وفي معجم ما استعجم ج ٣ ص ٩٥٤ من السقيا إلى الأبواء تسعة عشر ميلا.

(٤) مراصد الاطلاع ج ١ ص ٣٠١ وراجع : معجم البلدان ج ٢ ص ٨٥ وج ٣ ص ٢١ وج ٤ ص ١٣٣.

٢٧٤

تناقض واختلاف الروايات :

إننا نلمح اختلافا وتناقضا في قصة عبد الله بن أبي أمية ، وأبي سفيان بن الحارث.

وهذا يشير إلى : أن ثمة تصرفا ، بل تعمدا للكذب في النصوص ، باستثناء واحدة من الروايات ، قد يمكن للباحث تحديدها ، وقد لا يمكن ..

وعلى سبيل المثال لا الحصر نقول : هناك رواية تقول : إن العباس قد كلم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بشأن عبد الله بن أمية ، وأبي سفيان بن الحارث ..

لكن رواية أخرى تصرح : بأن العباس رفض أن يكلم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بشأن ابن أبي أمية ، رغم أن ابن أبي أمية قد طلب من العباس ذلك ..

وهناك رواية تقول : إنه لما كلمت أم سلمة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قبل منها ورضي عنه ، ودعاه وقبل توبته ..

لكن رواية أخرى تقول : إنه لم يرض عنه ، ولم يقبل منه ، رغم ملازمته له ، إلى أن جرى ما جرى في حرب حنين.

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يرد السلام ولا يقبل التوبة :

ومن الأمور التي تثير أكثر من سؤال : ما زعمته بعض الروايات المتقدمة ، من أن عبد الله بن ابي أمية سلم على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلم يرد عليه‌السلام ، وأعرض عنه ، ولم يجبه بشيء ..

كما أنها صرحت : بأنهم أخبروه بأنه قد جاء تائبا. ولكنه «صلى الله عليه

٢٧٥

وآله» أعرض عنه ، وخشي عبد الله أن يقتل ، فشكى ذلك إلى أخته أم سلمة ..

ونقول :

١ ـ إننا نشك في صحة ذلك ، إذ لم نعهد من أخلاق الرسول الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يسلّم عليه أحد ، ثم لا يجيبه.

كيف ، وقد أنزل الله تعالى في كتابه الكريم : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها ..)؟! (١).

٢ ـ إن نفس مجيء هؤلاء إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مستسلمين ، تائبين ـ كما صرحت به الرواية ـ ملتمسين منه أن يقبلهم يجعلهم مصداقا لقوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ ..) (٢).

٣ ـ إن المفروض : كما صرح به العباس وأم سلمة لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : أن هذا المذنب قد جاء تائبا .. ولا نجد مبررا لعدم قبول توبته .. وقد قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ ..) (٣).

وأصرح من ذلك قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ

__________________

(١) الآية ٨٦ من سورة النساء.

(٢) الآية ٢٥ من سورة الشورى.

(٣) الآية ٩٤ من سورة النساء.

٢٧٦

اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ..) (١).

وهؤلاء قد ظلموا أنفسهم ، وقد جاؤوا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» تائبين مستغفرين .. فلماذا يعرض عنهم ، ويرفض إجابة طلبهم ، وقبول توبتهم؟!

فكيف إذا أخذنا بالرواية التي أكدت على إصرار عبد الله بن أبي أمية على الفوز برضى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، واستمر ملازما للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ملتمسا رضاه إلى أن صار إلى حنين ، وخاض تلك الحرب ، وواجه الأهوال فيها (٢).

وماذا نصنع بالكثير الكثير من الآيات والروايات الشريفة التي تأمر بالعفو ، وتبشر الناس بقبول توبة التائبين ..

إلا أن يدّعى : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أراد أن يظهر صدق ذلك الرجل فيما يدّعيه من التوبة ، ليقطع دابر الإشاعات المغرضة التي ربما تثار حول سبب العفو ، وأنه هو القرابة التي كانت لابن الحارث أو لابن أبي أمية ، وأنها إنما قبلت منهما لأنها كانت توبة نصوحا ، لا لأجل القرابة.

ولكن لو صحت هذه الدعوى لكان يجب أن يعامل العباس بنفس هذه المعاملة ، ليثبت أن قبوله لا لأجل قرابته من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

__________________

(١) الآية ٦٤ من سورة النساء.

(٢) راجع : الإستيعاب ج ٣ ص ٨٦٨ والإصابة ج ٤ ص ١٠ ـ ١٢ ومستدركات علم رجال الحديث ج ٤ ص ٤٤٦ وعمدة القاري ج ١٧ ص ١٧ وج ٢٠ ص ٢١٦ وج ٢٢ ص ٤٣ والخصائص الفاطمية للكجوري ج ٢ ص ١٣٤.

٢٧٧

وأما بالنسبة للسؤال عن كيفية وصول الذين أهدر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دمهم إليه ، فيجاب : بأن طرق الوقاية من الأذى متيسرة لهم ، ويكفي أن يحتمي بأحد المسلمين ، ويأتي معه ، كما فعل عثمان بالنسبة لعبد الله بن سعد بن أبي سرح.

تالله لقد آثرك الله علينا :

وحينما كلّم العباس رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بشأن أبي سفيان بن الحارث وابن أبي أمية قد ركّز على أن هذا ابن عم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وذاك ابن عمته .. ظنا منه أن القربى النسبية وحدها تكفي للتجاوز عن ذنب ذينك الرجلين ..

ولكن الحقيقة هي : أن الإساءة تختلف في طبيعتها وفي أحكامها. فإن كانت إساءة للشخص ، كان للصفح عنها ، ولمراعاة القربى الرحمية فيها مجال ، بل لا مجال لسوى ذلك من نبي كريم لم يزل يحث الناس على صلة القربى ، والصفح عن المسيئين ..

وإن كانت الإساءة منهما للدين ، وللأمة ، وتمثل جرأة عظيمة على الله تبارك وتعالى ، فلا يحق لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يصفح عن مرتكب ذلك ، إذا لم يكن الندم والتوبة من نفس هذ الذنب العظيم .. ولم يظهر من أولئك التائبين ولا من الطالبين للصفح عنهم ، أن هذا هو ما جاؤوا من أجله.

بل الذي ظهر هو : أنهم يريدون استجلاب رضى شخص رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، بهدف إصلاح العلاقة معه كشخص ، من أجل حفظ

٢٧٨

نفوسهم ومصالحهم ، وبغض النظر عن أي شيء آخر.

فجاء الرفض النبوي لقبولهما ، منسجما مع طبيعة ذنبهما ، وموجها لحقيقة ما يطلب منهما ، حيث لم يظهر منهما ما يدل على الرغبة في إصلاح علاقتهما بالله سبحانه ، والإعتراف بخطأهما في ممارساتهما التي كانت تهدف إلى إضعاف دين الله ، وزعزعة يقين الناس بهذا الدين.

وقد أشار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى هذه الحقيقة حين أعلن عن سبب موقفه منهما ، وهو : أن أحدهما قد هتك عرضه ، لأنه كان يهجوه ، ويظهر الإستهانة به ، ويصغّر من شأنه كشخص ، توصلا لإسقاط هيبته ، وإضعاف دعوته وتكذيب نبوته.

كما أن الآخر قد اقترح عليه اقتراحات تهدف هي الأخرى إلى تكذيبه في نبوته ، من حيث إنها تدخل الشبهة على الضعفاء ، وتجعلهم يصدقون المقولة الباطلة في لزوم كون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من غير البشر.

أي أنه يريد أن يفهم الناس : أن من يرقى إلى السماء ، ويفعل تلك الخوارق لا يمكن أن يكون بشرا ..

وعلى هذا الأساس : إن استجاب النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لتلك المطالب ، فإما أن يكون ليس من جنس البشر ، أو يكون ساحرا كذابا ، والعياذ بالله .. وإن لم يستجب لها ظهر أنه ليس صادقا في ادّعائه النبوة.

مع أنه لو جاء بكتاب يقرؤونه ونحو ذلك لفتح لهم باب الجدال بالباطل والتكذيب والاتهام على مصراعيه ..

وبذلك تكون الشبهة قد دخلت على الناس في جميع الأحوال .. وهذه جريمة كبرى ، وجرأة عظيمة على الله سبحانه وتعالى وعلى رسوله ، وعلى دينه ..

٢٧٩

ولذلك جاءه الرد الإلهي ، ليؤكد بشرية الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : (.. قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (١).

مع العلم : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان قد فعل من المعجزات ما يكفي لإسقاط جميع هذه المطالب ، فقد عرج به إلى السماء ، وأثبت لهم صدق ذلك بما أخبرهم به من أمور حصلت لقافلتهم .. وقد نبع لهم الماء من بين أصابعه ، كما أنه قد جاءهم بكتاب قد عجزوا عن مجاراته ، وعن الإتيان بسورة من مثله ، ولو بمقدار سورة الكوثر ..

وقد ظهر بذلك كله : أن ذنب عبد الله بن أبي أمية كان عظيما في حق الدين والرسالة ، وكان جرأة على الله تبارك وتعالى ، وليس أمرا شخصيا ليصح الصفح عنه لمجرد القرابة والرحم ..

ولكن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد استجاب وأنعم بالرضا حين عملوا بمشورة علي «عليه‌السلام» ، بأن يقولوا للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما قاله إخوة يوسف «عليه‌السلام» : (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) (٢).

وذلك لأن هذه المبادرة تعني أمرين :

أحدهما : الاعتراف بالخطأ في اختيار الخط والنهج الذي كانوا عليه ، لا الخطأ في الممارسة الجزئية تجاه شخص بعينه ، وقد ظهر هذا من خلال ربط هذا الخطأ ـ على سبيل المقابلة ـ بالفقرة الأولى المتضمنة لبعثة الله تعالى له

__________________

(١) الآية ٩٣ من سورة الإسراء.

(٢) الآية ٩١ من سورة يوسف.

٢٨٠