السيد جعفر مرتضى العاملي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-193-9
ISBN الدورة:
الصفحات: ٣٥٤
قال : نعم.
قال : فأتجهز؟!
قال : نعم.
قال : فأين تريد يا رسول الله؟!
قال : قريشا. وأخف ذلك يا أبا بكر (١).
«وفي رواية : أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، أتريد أن تخرج مخرجا؟!
قال : نعم.
قال : لعلك تريد بني الأصفر؟!
قال : لا.
قال : أفتريد أهل نجد؟!
قال : لا.
قال : فلعلك تريد قريشا؟
قال : نعم.
قال : يا رسول الله ، أليس بينك وبينهم مدة؟
قال : أولم يبلغك ما صنعوا ببني كعب؟ يعني خزاعة» (٢).
وأمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بالجهاز ، قال : أو ليس بيننا وبينهم مدة؟!
قال : قال : إنهم غدروا ، ونقضوا العهد ، فأنا غازيهم.
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٤ و (ط دار المعرفة) ص ٩ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٩٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٦٥ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٣٢٥.
(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٤ وبمعناه عند الواقدي في المغازي ج ٢ ص ٧٩٦.
وقال لأبي بكر : اطو ما ذكرت لك.
فظان يظن أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يريد الشام ، وظان يظن ثقيفا ، وظان يظن هوازن (١).
ولنا مع ما تقدم عدة وقفات نسوقها على النحو التالي :
للمباغتة وجهان :
للمباغتة وجهان : وجه سيء ، ووجه حسن ، فمن يريد أن يباغت عدوه ليتمكن من إهلاكه ، وسحق كل قدراته ، وتدمير كل نبضات الحياة لديه ، يعتبر المباغتة فرصة للتخريب ، والتدمير والاستئصال ، والتنفيس عن الحقد ، والتشفي ، والانتقام الوحشي الذي لا يقف عند حد ، فهذا الانتقام سيء وقبيح ، وكذلك المباغتة التي هيأت له ..
وهناك المباغتة التي يمارسها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ويريد منها أن يهييء الجو لإلحاق هزيمة نفسية تتلاشى معها رغبة الطرف الآخر بالقتال ، ويواجه أجواء الفشل والإحباط ، ويدفعه إلى السعي لإنهاء المعركة ، والخروج من أجوائها الضاغطة ، فتنتج تلك المباغتة السلامة ، والنجاة ، وصيانة المال والعرض ، وربما يحتفظ بالكرامة والجاه ، وفق ما تسوقه إليه إرادته ، ويهديه إليه عقله ، وتهيئه له اختياراته.
وخير دليل على ما نقول : هذا الذي جرى في فتح مكة ، فإن عنصر المباغتة في الفتح كان ظاهرا وواضحا كالنار على المنار وكالشمس في رابعة
__________________
(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٩٦ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٦٦ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٣٥٢.
النهار ، مع أن مبرررات الانتقام كانت حاضرة ، والقدرة عليه ظاهرة ، فقد نكثوا العهد ، وقتلوا الأبرياء من الصبيان ، والنساء ، والرجال الضعفاء ، وجحدوا ذلك وأنكروه ، وسعوا إلى إبطال حق ضحاياهم بوسائل ما كرة ، ظهرت بعض معالمها فيما تقدم من فصول ..
فكان لا بد من إسقاط هيمنة الظالمين ، وكف أيدي العتاة المتجبرين لإفساح المجال لعباد الله ليتنفسوا نسيم الحرية ، وليخرجوا من أسر أولئك الطواغيت إلى كنف رعاية الله ، ويتفيأوا ظلال شرائعه وأحكامه ، حيث يكون النبي «صلىاللهعليهوآله» قائدهم ، والحق رائدهم.
وهكذا كان.
مكث ما شاء الله :
وقد صرح النص المتقدم : بأن النبي «صلىاللهعليهوآله» لم يبادر إلى دعوة الناس للتجهز للمسير بمجرد دعوة الخيبة لأبي سفيان .. بل هو قد أهمل هذا الأمر مدة تكفي إلى غياب ما جرى لأبي سفيان عن ذاكرتهم ، ثم أمرهم بالتجهز والاستعداد ، فلم يفطنوا إلى الجهة التي يقصدها في مسيره ذاك ..
ومن شأن جهلهم بمقصده أن يفوت الفرصة على محبي قريش ، والمتعاملين معها ، فلا يتمكنون من إنذارها في وقت مبكر لكي تأخذ حذرها وتستعد للقتال ، أو أن تزداد تحصّنا وتمنّعا يقلل من تأثّرها بالحشد الذي أعده ، وبالعدة التي هيأها ..
التجهيز لسفر مبهم :
ثم إن النص المتقدم يقول : إنه «صلىاللهعليهوآله» قال لعائشة : جهزينا وأخفي أمرك ..
أي أنه «صلىاللهعليهوآله» يريد منها أن تخفي أصل التجهز ، والاستعداد لسفر لم يحدده لها ولا عرّفها طبيعته ، هل هو سفر للحرب؟ أو لزيارة منطقة بعينها؟ أو لأي غرض آخر ..
والذي نريد أن نستوضحه هنا هو : أنها إذا كان المطلوب منها إخفاء نفس التجهيز له ، فهذا يدل على أنه يريد سفرا لا يعرف به أحد ، فهل يريد أن يسافر وحده «صلىاللهعليهوآله» دون سائر المسلمين؟!
وربما يمكننا أن نجيب على هذا التساؤل بتقديم أحد احتمالين ، ربما يكون أحدهما أو كلاهما هو السبب.
الإحتمال الأول : أن يكون الغرض هو إخفاء هذا الأمر عن أناس بأعيانهم ، لهم نوع اتصال قريب بها ، لعله يخشى من أن يبادروا إلى إعلام قريش بالأجواء التي استجدت في المدينة ، تماما كما حصل في قضية حاطب بن بلتعة الآتية ، حيث بادر بالكتابة لقريش بمجرد أن علم بتهيؤ المسلمين لغزو مّا ، رغم أنه لم يعلم المقصود بالغزو أصلا ..
الإحتمال الثاني : أن يكون «صلىاللهعليهوآله» قد اراد تقديم نموذج من معاناته ، ليعرف الناس عظمة صبره ودقة ملاحظته ، وصحة تدبيره الذي انتهى بذلك الفتح العظيم ..
فإنه إذا كانت زوجة الرسول لم تستطع كتمان هذا الأمر لمدة ساعة أو ساعات ، حتى أفشته لأبيها ، رغم توصية رسول الله «صلىاللهعليهوآله»
لها ، فما بالك بسائر الناس وكيف سيتصرفون عند ما يظهر لهم طرف من هذا الأمر؟!
وثمة احتمال ثالث يمكن أن ندرجه في دائرة مقاصده أيضا ، وهو أن يعطينا «صلىاللهعليهوآله» درسا في الحيطة والحذر في مثل هذه الأمور ، حتى من أقرب الناس ، وهذا درس مفيد وجليل وسديد ، لا بد من التوفر على مضامينه بحرص وإتقان.
نجاح الخطة :
يظهر جليا من النصوص المتقدمة كيف أن الذين حاولوا التكهن بمقصده «صلىاللهعليهوآله» لم يخطر على بال أحد منهم أنه يقصد مكة ، بل ذهب وهمهم إلى الشام ، وثقيف ، وهوازن.
كما أن أبا بكر قد قلّب احتمالات عديدة ، مثل أن يغزو أهل نجد ، أو بني الأصفر ، وكان آخر ما زعموا أنه خطر على باله هو غزو قريش ، مع استبعاد قوي منه لهذا الاحتمال ، مدعّم بالاستدلال ، بأنه كيف يغزوهم وبينه وبينهم مدة وعهد؟!
ومن غير الطبيعي كتمان أمر عن أمة بأسرها ، يستنفر منها عشرة آلاف مقاتل ليعالجوا نفس هذا الأمر المكتوم ، مع كثرة الموتورين والحاقدين في المنطقة ، ومع وفرة المنافقين المتربصين. بالإضافة إلى الذين يبحثون عما يفيدهم في مصالحهم الشخصية ، أو القبلية ، أو غيرها ..
وخفاء هذا الأمر الخطير إلى هذا الحد ، وفي ظروف كهذه ، وفي هذا المحيط بالذات يعد من أعظم الإنجازات ، ومن أجلّ التوفيقات ، ويدلل
على التدبير الحكيم ، والضبط الدقيق للأمور من قبل رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
الأخذ على الأسماع والأبصار :
لا يريد النبي «صلىاللهعليهوآله» بدعائه الله بأن يأخذ على أسماع وأبصار أعدائه أن يتدخل الله سبحانه بإعمال إرادته التكوينية ، ويفعل بهم ذلك بصورة قاهرة .. لأن هذا ظلم لهم ، (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) ..
بل هو يطلب منه تعالى : أن يتصرف في خارج دائرة اختيار أولئك المشركين ، فيؤيد المؤمنين بالتوفيقات والعنايات ، والألطاف الإلهية ، وبالتدبيرات الصحيحة ، ويفتح أبواب أفهامهم لسد الفرج ، والإمساك بالأمور بحيث لا يتمكن أحد من إيصال أي خبر عن حقيقة ما يجري داخل المجتمع الإسلامي إلى معسكر الكفر والبغي والعدوان ..
وهذا ما حصل بالفعل ..
ولهذه المباغتة تأثيرات هامة على صعيد حسم الأمور لصالح أهل الإيمان ، من حيث إن ذلك يمثل فشلا روحيا ، وإحباطا كبيرا لدى الأعداء ..
وهو يفقدهم القدرة على الإعداد والإستعداد ، وإيقاظ الهمم ، وشحذ العزائم ، ولا يبقي لهم الفرصة لرسم الخطط القتالية ، والاستفادة من عنصر المفاجأة في المواقع المختلفة ..
ثم إن جعل زمام المبادرة بيد أهل الإيمان من شأنه أن يجعل الأمور تسير باتجاه اتخاذ القرارات الحكيمة والمنصفة ، والتدبيرات المؤثرة في حسم
الأمور بأقل قدر ممكن من الخسائر ..
حتى نبغتها في بلادها :
ومن الواضح : أن مجرد أن يراك عدوك تطأ أرضه ، وتحل في بلاده يجعله في موقع الدفاع بصورة تلقائية ، ويضطره ذلك إلى الإحساس الداخلي بأن ثمة درجة من الهزيمة والخسارة قد حاقت به ، وذلك يؤثر على روحه ، ويطامن من عنفوانه ، ويخفف من عنجهيته.
كما أنه يعطيك درجة من الهيمنة على الموقف ، ويبعث فيك قدرا من الطموح ، ويثير فيك حالة من العنفوان والقوة ..
ولعل هذا وذاك هو ما يفسر لنا قول رسول الله «صلىاللهعليهوآله» : «حتى نبغتها في بلادها» حسبما تقدم.
لماذا الحديث عن قريش دون بني بكر؟! :
ويلاحظ : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد ركز حديثه على قريش ، دون بني بكر ، مع أن بني بكر هم الذين ارتكبوا الجريمة ، ودعوا قريشا لمشاركتهم ومعاونتهم فيها ، فسارع عدد من زعمائها إلى تلبية الطلب .. فلماذا يخصصها «صلىاللهعليهوآله» بالذكر دونهم يا ترى؟!
ونقول في الجواب :
إن رأس الطغيان في المنطقة العربية كلها ، وحامي حمى البغي والظلم والتعدي هو قريش .. ولولاها لم يجرؤ بنو بكر على مهاجمة خزاعة ، ويكفي مانعا ورادعا عن ذلك معرفتهم بحلف خزاعة مع رسول الله «صلىاللهعليهوآله».
ولذلك سعى بنو نفاثة إلى إشراك قريش في هذا الأمر ..
فاستئصال كبرياء قريش ، وكسر جبروتها الظالم يكفي لمنع تكرار مثل هذه الجرائم ..
أبو بكر وعائشة في مأزق :
وقد يعتذر البعض عن إفشاء عائشة السرّ الذي أمرها رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بإخفائه ، فبادرت إلى إفشائه لأبيها عند أول سؤال وجهه إليها ـ يعتذر ـ بأنها لم تفش السر لرجل غريب ، بل هو أبوها المقرّب جدا من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، والذي يعد من أهل البيت ، وكانت تقطع برضى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بإطلاعه على ما هو أهم من هذا ..
ونجيب بما يلي :
أولا : لو كان هذا صحيحا لبادر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» نفسه إلى إعلام أبي بكر بالأمر.
ثانيا : هذا اجتهاد في مقابل النص ، فإن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد نص صراحة على لزوم إخفاء هذا الأمر ، فلا معنى ، ولا يقبل اجتهاد عائشة في مقابل هذا النص.
ثالثا : إن قضايا الحرب والسلم قد تطوى عن أقرب الناس ، وتبيّن وتفصّل للبعداء لأسباب تعود إلى طبيعة الحرب واقتضاءاتها ..
ومن كلام علي «عليهالسلام» لأصحابه : «ألا وإن لكم عندي أن لا أحتجز (أحجبن) دونكم سرا إلا في حرب ، ولا أطوي دونكم أمرا إلا في
حكم» (١).
وقد يكون القريب ثرثارا ، والبعيد كتوما. وفي غير هذه الصورة أيضا قد يثق القريب بمن لا يؤمن من اتصاله بالعدو ، وإخباره بما يجري ..
بل قد يكون للقريب ما يدعوه إلى مباشرة ذلك بنفسه .. وقد .. وقد ..
رابعا : إن نفس انصراف الرسول «صلىاللهعليهوآله» عن إخبار أبي بكر بهذا الأمر يضع علامة استفهام كبيرة حول صحة ما يدعونه من تقريب من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» له. فضلا عن أن يعدّ من أهل بيته ..
وبعد هذا كيف يمكن ادّعاء أنها كانت تقطع بأن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» يرضى منها بإخباره بالأمر ، فإن هذا من الأمور القلبية التي لا يعرفها إلا علام الغيوب ..
خامسا : بالنسبة لقرب أبي بكر من رسول الله «صلىاللهعليهوآله» نقول :
إن ثمة فرقا بين قرب يأتي من إصرار أبي بكر على حشر نفسه في مجالس النبي «صلىاللهعليهوآله» ، ومثابرته على نسبة نفسه إليه ، وسعيه إلى التحدث باسمه ، وإظهار قربه منه .. و.. و.. الخ .. وبين تقريب النبي «صلىاللهعليهوآله» له ، والدال على محبته «صلىاللهعليهوآله» له ، وثقته به ..
__________________
(١) نهج البلاغة (بشرح عبده) ج ٣ ص ٧٩ والأمالي للطوسي ص ٢١٧ والبحار ج ٣٣ ص ٧٦ و ٤٦٩ وج ٧٢ ص ٣٥٤ وميزان الحكمة للريشهري ج ١ ص ١٢٤ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٤٦٣ والمعيار والموازنة ص ١٠٤ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ١٦.
والذي يمكن التسليم به لأبي بكر هو الأول. أما الثاني ، فلا مجال لإثباته.
بل هناك دلائل وشواهد تصب في عكس هذا الاتجاه ، ومنها : هذه القضية بالذات ، حيث إن عدم إخبار النبي «صلىاللهعليهوآله» له ولو بمقدار ما اطلع عليه عائشة يضع علامة استفهام كبيرة حول أصل ثقته به ، واعتماده عليه ..
أبو بكر يصر على النبي صلىاللهعليهوآله إلى حد الإحراج :
وقد رأينا في الروايات المتقدمة : حرص أبي بكر على معرفة كنه الأمر ، ولا يكتفي بتوجيه عدة أسئلة إلى ابنته ، مثل :
أمركن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» بتجهيزه؟!
أين ترينه يريد؟!
ما هذا زمان غزو بني الأصفر ، فأين يريد؟!
بل هو يوالي الأسئلة على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» .. ويسمع أجوبة مقتضبة ، من شأنها أن تعرّفه : أنه لا يريد أن يبوح له بشيء. ولكنه يتابع الأسئلة ، ويصر على معرفة حقائق الدقائق ، ومن أسئلته :
أردت سفرا؟
فأتجهز؟
أتريد أن تخرج مخرجا؟
فأين تريد يا رسول الله؟
لعلك تريد بني الأصفر؟
أفتريد أهل نجد؟
فلعلك تريد قريشا؟
أليس بينك وبينهم مدة؟
ولم يكن من المصلحة : أن يأمره النبي «صلىاللهعليهوآله» بالكف عن الأسئلة ، فربما تذهب به الظنون مذاهب مخيفة ، ولربما تسوقه الأوهام إلى تكهنات لو سمعها الآخرون منه لألحقت بالمسيرة ضررا بالغا ..
ولكن الذي كنا سنرتاح كثيرا لو عرفناه هو :
١ ـ ألم يلتفت أبو بكر إلى أن النبي «صلىاللهعليهوآله» لا يريد ان يعرّفه شيئا مما عقد العزم عليه ، حتى أصل أنه يريد سفرا؟ كما دل إخباره «صلىاللهعليهوآله» عائشة دونه؟!
٢ ـ وبعد أن عرف أن النبي «صلىاللهعليهوآله» يريد سفرا ، لماذا يصرّ على معرفة المقصد بدقة ، كما ظهر من توجيهه كل تلك الأسئلة إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وسماعه تلك الأجوبة المقتضبة؟! ألم يدرك أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ليس راغبا في البوح له بشيء؟ فلماذا يحرجه بأسئلته إذن؟!
٣ ـ هل يمكن أن نستفيد من أسئلته لابنته عائشة ، أنه لم يكن واثقا من أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» سيخبره لو سأله ، فحاول أن يستل بعض الأخبار منها ، فلما أعياه ذلك توجه إلى رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ولم يزل يحرجه بالسؤال تلو السؤال حتى حصل على ما أراد!!
٤ ـ ثم ما معنى أن يسأل ابنته عن الاحتمالات التي تراودها ، فيما يرتبط بوجهة سير رسول الله «صلىاللهعليهوآله»؟ وماذا يفيده رأيها وحدسها ، وأية قيمة تكون للحدسيات والتخمينات في أمور كهذه؟!
أليس بينك وبينهم مدة؟! :
وقد حضر أبو بكر أو سمع بمجيء عمرو بن سالم ، وبديل بن ورقاء ، وجماعة كبيرة إلى المدينة ، وعرف منهم ما جرى لخزاعة على يد قريش وبني بكر .. ورأى أبا سفيان أيضا حين جاء يريد خداع المسلمين ، والمكر بهم وبرسول الله «صلىاللهعليهوآله» للنجاة من تبعات نقض العهد ..
وقد كان لأبي بكر نفسه نصيب من النشاط الذي أثاره أبو سفيان في هذا الاتجاه ، وزعموا له موقفا شديدا مميزا تفرد به ، ثم تابعه عليه زميله عمر بن الخطاب.
فما معنى اعتراضه على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» فيما عقد عليه العزم في قريش ، وكيف يزعم أن بين النبي وبينهم عقدا وعهدا ومدة ، وهو عالم بنقض قريش للعهد والعقد في أمر خزاعة؟!
السيطرة على المسالك :
وأمر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» جماعة أن تقيم بالأنقاب (وهي المسالك في الجبال).
وكان عمر بن الخطاب يطوف على الأنقاب ، فيمرّ بهم ، فيقول : لا تدعوا أحدا يمر بكم تنكرونه إلا رددتموه.
لكن صاحب السيرة الحلبية نقل ذلك من قول رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ..
وكانت الأنقاب مسلّمة إلا من سلك إلى مكة فإنه يتحفظ به ، ويسأل
عنه (١).
ونقول :
١ ـ إن رصد الطرقات والمنافذ إلى مكة ، ووضع الرجال على المسالك في الجبال بصورة دائمة من شأنه أن يزيد الأمور ضبطا وانتظاما ، وأن يمنع من تسرب الأخبار إلى قريش ، ولا أقل من أنه يحرج من يريد أن يفعل ذلك ، ويربكه ، ويحد من ميله لتعريض نفسه للفضيحة ، لو كشف أمره ...
٢ ـ إن هذه القوات التي كلفت بمهمة حفظ الطرقات لم تكن تضايق أحدا من سالكي تلك الطرق ، فقد ذكر النص المتقدم : أن الطرق مسلّمة ، لا يعترض أحد فيها سبيل أحد إلا من سلك إلى مكة.
٣ ـ وحتى من يريد مكة ، فإنه لا يمنع من ذلك ، وإنما يحتجز بمقدار ما يتأكد من أمره ، فيسأل عنه.
٤ ـ لعل المقصود بالسؤال عن السالك إلى مكة هو : مراجعة النبي «صلىاللهعليهوآله» في أمره ..
٥ ـ إذا كان النبي «صلىاللهعليهوآله» قد حدد لتلك القوات الراصدة والضابطة للطرقات مسؤوليتها ، وهو أن لا يدعوا أحدا يمر بهم ينكرونه إلا ردّوه .. فلماذا يطوف عمر بن الخطاب على الأنقاب ، ويطلب منهم نفس هذا الطلب ، ويصدر لهم نفس هذا الأمر؟!
ولسنا نشك في : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد حدد لأولئك
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٩ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٩٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٤ و (ط دار المعرفة) ص ٩ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٣٥١.
الرجال المهمة التي انتد بهم لها ـ حتى لو لم يذكر لنا الحلبي أو غيره مضمون كلامه «صلىاللهعليهوآله» لهم ـ.
فتكرار هذا الكلام على مسامعهم من عمر لا يقدم ولا يؤخر ، لأن هذه هي مهمتهم التي انتدبوا لها ، وهم ينفذون أوامر النبي «صلىاللهعليهوآله» لا أوامر عمر .. إلا إذا كان عمر يريد أن يوحي لهم : بأنه قرين رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، ونظيره ، وأوامره كأوامره ، وطاعته كطاعته ..
واللافت هنا : أننا لا نجد هذه الحركات وأمثالها لدى أي من الصحابة الآخرين إلا من عمر بن الخطاب .. وإن شاركه غيره في شيء من ذلك فستجد أنه يسير في نفس خطه ، ومن القريبين منه ، أو من أهل الصفاء عنده ، وتربطهما أو اصر مودة وإلفة ..
إلى بطن إضم :
لما أراد رسول الله «صلىاللهعليهوآله» المسير إلى مكة ، بعث أبا قتادة بن ربعي إلى بطن إضم ، ليظن الظان : أن رسول الله «صلىاللهعليهوآله» توجه إلى تلك الناحية ، وأن لا تذهب بذلك الأخبار (١).
وأبان رسول الله «صلىاللهعليهوآله» المسير إلى قريش (٢).
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١١ عن ابن عقبة ، وابن إسحاق ، والواقدي ، وغيرهم. والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٢٩٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٤ و (ط دار المعرفة) ص ٩ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ١٣٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٧ ص ١٤٩ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٣٤٧ وعيون الأثر ج ٢ ص ١٧٧.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١١ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٨ وإمتاع الأسماع
وأرسل إلى أهل البادية ، ومن حولهم من المسلمين ، يقول لهم : «من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة» (١).
وهم أسلم وغفار ، ومزينة وجهينة ، وأشجع ، وبعث إلى بني سليم.
فأما بنو سليم فلقيته بقديد ، وأما سائر العرب فخرجوا من المدينة (٢).
وبعث رسلا في كل ناحية حتى قدموا على رسول الله «صلىاللهعليهوآله» (٣).
قالوا : «ودعا رئيس كل قوم ، فأمره أن يأتي قومه ، فيستنفرهم» (٤).
وقالوا أيضا : لما عزم رسول الله «صلىاللهعليهوآله» على فتح مكة ـ شرفها الله تعالى ـ كتب إلى جميع الناس في أقطار الحجاز وغيرها ، يأمرهم أن يكونوا بالمدينة في شهر رمضان من سنة ثمان للهجرة ، فوافته الوفود والقبائل من كل جهة (٥).
__________________
ج ١ ص ٣٥٣.
(١) مكاتيب الرسول ج ١ ص ٣٠٨ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٣٥٤ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ١٠.
(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٩٩ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٩ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٣٥٤ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ١٠.
(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١١ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٩٩ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٩ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٣٥٤ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٣٠٨.
(٤) البحار ج ٢١ ص ١٢٧ عن إعلام الورى (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ٢١٨.
(٥) شرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٣٥٩ عن الواقدي ، والكافي ج ٤ ص ٢٤٩ والوسائل ج ٨ ص ١٥٨ وعن السيرة النبوية لدحلان (مطبوع بهامش السيرة الحلبية) ج ٢ ص ٢٩٨ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٣٠٨.
وقال حسان بن ثابت يحرض الناس ويذكر مصاب رجال خزاعة :
عناني ولم أشهد ببطحاء مكة |
|
رجال بني كعب تحز رقابها |
بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم |
|
وقتلى كثير لم تجن ثيابها |
ألا ليت شعري هل تنالن نصرتي |
|
سهيل بن عمر وحرها وعقابها |
فلا تأمننها يا ابن أم مجالد |
|
إذا احتلبت صرفا وأعصل نابها |
ولا تجزعوا منها فإن سيوفنا |
|
لها وقعة بالموت يفتح بابها (١) |
قال ابن إسحاق : وقول حسان : بأيدي رجال لم يسلوا سيوفهم : يعني قريشا ، وابن أم مجالد : عكرمة بن أبي جهل (٢).
وعسكر رسول الله «صلىاللهعليهوآله» ببئر أبي عنبة ، وعقد الألوية والرايات. فكان في المهاجرين ثلاث رايات : راية مع علي ، وراية مع سعد بن أبي وقاص ، ثم ذكر الواقدي سائر الرايات (٣).
إشارة لما سبق :
ونقول :
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١١ و ٢١٢ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٤ و (ط دار المعرفة) ص ٩ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢٧ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٢٣ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٥٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٣٥.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١١ و ٢١٢ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٤ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢٧ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٥٧.
(٣) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٨٠٠ وإمتاع الأسماع ج ٧ ص ١٦٨.
قد تحدثنا في جزء سابق عن سرية بطن إضم ، فلا نرى حاجة للإعادة ، ونكتفي بالإشارة إلى بضعة أمور هي التالية :
النفير العام :
إنه يبدو : أنه «صلىاللهعليهوآله» قد استنفر جميع العرب ، بدوهم وحضرهم ، قريبهم وبعيدهم ، مسلمهم وكافرهم ، ربما لأنه أراد أن يؤكد لهم سقوط جميع حصون الشرك في المنطقة ، وأنه لم يعد هناك مبرر للتعامل بجفاء ، أو عداء.
وعليهم الاعتراف بهيمنة الإسلام وقدرته وقوته ، إذ إنهم ليسوا هدفا عسكريا له ، ولا هو يريد أن يبتلعهم ، أو أن يستغلهم.
بل هو يريد أن يتعاون معهم على حل المشكلات ، وان يقف إلى جانبهم في إقرار الأمن والسلام ، ومنع الظلم والتعدي. إذ هو يدعوهم إلى نصرة المظلومين ، ومحاربة الظالمين ، الذين ينقضون العهود ، ويبطشون بالصبيان ، والنساء ، والضعفاء .. فلماذا لا ينصرونه ، ولا يكونون معه؟ فإن ذلك من مصلحتهم بلا ريب.
ويدل أنه قد جرى على استنفار جميع العرب ، النصوص المتقدمة نفسها ، بالإضافة إلى أنه في حرب خيبر ، وفي غيرها ، وهي حروب كبرى ، وصعبة ومصيرية ، لم يستطع حشد أكثر من ألف وخمس مائة مقاتل مقابل أكثر من عشرة آلاف مقاتل من الأعداء ، كانوا مستقرين في حصونهم ، ومستعدين للمواجهة.
ولكنه جمع في مؤتة ثلاثة آلاف مقاتل ..
وقد قلنا : إن الظاهر هو : أنه قد نفر معه مئات من غير المسلمين أيضا ، لأنهم أدركوا : أن خطر ملك الروم عظيم وجسيم ، فلا بد لهم من الدفع عن أنفسهم ، وحفظ حوزتهم ، كما تقدم.
الحضور إلى المدينة في شهر رمضان :
وقد كانت رسالته «صلىاللهعليهوآله» إلى العرب هي : الطلب إليهم أن يحضروا إلى المدينة في شهر رمضان ، ولم يبين لهم سبب هذا الطلب ، ولا الغاية من حضورهم ، فهل هو يحضرهم لإبلاغهم أمرا ، أو لمشاورتهم فيه ، أو للاتفاق معهم على شيء بعينه ، أو لحرب أهل مكة ، أو حرب غيرهم؟ إن ذلك لم تحدده لهم تلك الرسائل التي أرسلها إليهم ..
وحتى بعد أن ظهر أن القصد هو التجمع للحرب ، فإن الأمر بقي غائما ومجهولا لهم ، إلى أن سار بتلك الجموع مسافات طويلة ، ثم سلك طريق مكة ..
ولم نجد منهم أي تمرد أو تململ أو ضيق من هذا القرار القاضي بحجب معرفة المقصد عنهم ، بل ربما يكون ذلك قد أشعرهم بخطورة الأمر وأهميته ، وهيأهم لمواجهة أي خيار يفرض عليهم بصبر وشجاعة.
وإن هذا يشير بلا شك إلى مدى تسليم الناس لرسول الله «صلىاللهعليهوآله» ، وثقتهم بتدبيره ، رغم أنهم لم يكونوا كلهم ـ حسبما استظهرناه ـ من أهل الإيمان ، والإسلام.
إبان المسير إلى قريش :
قد تقدم : أن النبي «صلىاللهعليهوآله» قد أمر عائشة بكتمان الأمر ،
وأمر أبا بكر بذلك أيضا. وانه أرسل أبا قتادة إلى بطن إضم ، ولم يعلمه بوجهة سيره لئلا تذهب بذلك الأخبار.
فما معنى قولهم هنا : إنه «صلىاللهعليهوآله» أعلم الناس أنه سائر إلى مكة ، وأمرهم بالجد والتجهيز (١)؟.
أو قولهم : «أبان رسول الله «صلىاللهعليهوآله» السير إلى قريش ، وأرسل إلى أهل البادية الخ ..» (٢).
ومما يؤكد التزام السرية في هذا الأمر قولهم : «.. وأمر «صلىاللهعليهوآله» الناس بالجهاز وطوى عنهم الوجه الذي يريده وقد قال له أبو بكر : يا رسول الله ، أو ليس بيننا وبينهم مدة؟
قال : إنهم غدروا ونقضوا العهد. واطو ما ذكرت لك ..» (٣).
يضاف إلى ذلك : أن رسالة حاطب بن أبي بلتعة لقريش تدل على أنه لم يكن على يقين من وجهة سيره «صلىاللهعليهوآله» ، حيث جاء فيها : «وإن محمدا قد نفر ، فإما إليكم ، وإما إلى غيركم».
__________________
(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٤ و (ط دار المعرفة) ص ٩ وتفسير البغوي ج ٤ ص ٥٣٧ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢٧ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٢٣ والعبر وتاريخ المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٤٢ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٥٧ وعيون الأثر ج ٢ ص ١٨٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٣٥.
(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١١ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٨ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٣٥٣ و ٣٥٤ ومكاتيب الرسول ج ١ ص ٣٠٨ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ١٠.
(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٤ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٣٥٢.
أو جاء فيها : «قد آذن بالغزوة ، ولا أراه إلا يريدكم» (١).
__________________
(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢١٠ وفتح الباري ج ١٢ ص ٢٧٣ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ١١.