الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-193-9
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٤

سيد كنانة!! يطلب النصيحة!! :

وأول طلب وضعه أمام الإمام علي «عليه‌السلام» هو النصيحة منه.

ولا شك في أن هذا الطلب من أبي سفيان غريب وعجيب ، لا لأن عليا «عليه‌السلام» يبخل بالنصيحة على أي كان من الناس .. فحاشا عليا «عليه‌السلام» أن يبخل بأمر كهذا ..

بل لأن هذا الرجل لا يريد النصيحة بالحق ، بل يريد النصيحة التي تعزز وتقوي ، وتنتج تضييعا للحق ، وتزويرا للحقيقة ، وظلما آخر لأولئك الأبرياء من خزاعة ، والذين كان أكثرهم من الصبيان ، والنساء ، والضعفاء. وتقوية ونصرا لظالمهم ، ومرتكب الجريمة البشعة والفظيعة بحقهم.

والغريب في الأمر : أن يطلب أبو سفيان هذه النصيحة التي هي بهذه المثابة من نفس ذلك المعني بالحفاظ على حقوق الناس ، ويفترض فيه أن ينصر المظلوم ، وأن يأخذ بحقه من ظالمه!!

وكانت نصيحة علي «عليه‌السلام» تقضي : بحمله عن الكف عن هذا السعي الظالم ، والقائم على الخديعة والمكر حتى لنبي الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وتتلخص الطريقة التي اعتمدها بتذكير أبي سفيان بما يعتقده لنفسه ، من مكانة في كنانة كلها ، فأقر بأنه هو سيد كنانة.

ثم إنه «عليه‌السلام» ألزمه بمقتضيات هذه السيادة التي يعطيها لنفسه ، لو كان صادقا فيما يدّعيه ، ومنها أن يقبل الناس جواره.

ولكن أبا سفيان كان يعرف أن هذه السيادة التي يدّعيها ليست بهذه المثابة ، ولا تكفي لتحقيق الغرض الذي سعى إليه ، ولكنه سأل عليا «عليه

١٢١

السلام» إن كان ذلك يحقق له ما يريد ، فعسى أو لعل!!

فأجابه علي «عليه‌السلام» بما يجلب اليأس والأسى إلى قلبه ، وهو : أنه لا يرى ذلك مغنيا عنه شيئا ، ولكنه لا يجد له سبيلا للخروج من حيرته غير ذلك ..

وربما يكون الهدف من ذلك هو إفهام أبي سفيان أن ما يزعمه لنفسه من موقع وزعامة ليس سوى مجرد خيال ، ووهم ، وقد تغيرت الأمور ، وأصبح للزعامة معايير أخرى ، لا بد من مراعاتها ، والإلتزام بمقتضياتها .. وفهم هذه الحقيقة لا بد من أن يكون مفيدا جدا لأبي سفيان ، وسوف يعينه كثيرا على الخروج من أجواء الوهم والخيال التي وضع نفسه فيها.

قريش تتهم زعيمها :

إن من الواضح : أن المشركين كانوا لا يثقون ببعضهم البعض ، لأن دواعي الثقة وموجباتها عندهم مفقودة .. أما مجتمع أهل الإيمان فيعيش الثقة لأن موجباتها متوفرة فيه.

فهناك الإيمان بالله ، والالتزام بشرائعه وأحكامه ، التماسا لرضاه ، وطمعا في ثوابه ، وخوفا من عقابه.

وهو يملك ثروة ثمينة جدا من المبادئ والقيم التي تحكم مسيرة الإنسان ، وتهيمن على حركته وعلى مواقفه في الحياة. وهناك الفضائل النفسية ، والكمالات التي يربيها وينميها اهل الدين في داخل نفوسهم ، ويبنون من خلالها ميزاتهم ، وملكاتهم ، التي تطبع شخصياتهم بطابعها ..

وهناك الإلزامات الدينية الحازمة والحاسمة ، فيما يرتبط بطبيعة تعامل

١٢٢

أهل الإيمان مع بعضهم ، ومع الآخرين ..

نعم ، إن ذلك كله ينتج درجة عالية من الاعتماد ، ورؤية واضحة لمسار الأمور ، فيما يرتبط بتعهدات الآخرين ، ووفائهم بالتزاماتهم ، وقيامهم بواجباتهم الدينية والأخلاقية ..

ولكن ذلك كله مفقود في مجتمع الشرك والكفر. وتبقى الضمانة لتعهدات الأشخاص عندهم في مهب رياح المصالح والأهواء ، ومحكومة للنزوات والأهواء والشهوات والميول ، ولتقلبات الأمزجة الفردية ..

ولأجل ذلك نلاحظ : أن المشركين يتهمون حتى زعيمهم أبا سفيان أشد التهمة ، لمجرد زيادة غيبته عن المدة التي يتوقعونها ، ويقولون عنه : إنه قد صبأ ، واتبع محمدا سرّا ، وكتم إسلامه.

وقد بلغت هذه التهمة من القوة والشدة حدا اضطر معه هذا الزعيم إلى أن يحلق رأسه عند أساف ونائلة ، وأن يذبح لهما ، وجعل يمسح بالدم رؤوسهما (كذا) ، ويقول : «لا أفارق عبادتكما ، حتى أموت على ما مات عليه أبي» ، إبراء لقريش مما اتهموه به.

١٢٣
١٢٤

الفصل الرابع :

جيوش تجتمع .. والهدف مجهول

١٢٥
١٢٦

استشارة أبي بكر وعمر في أمر مكة :

عن محمد بن الحنفية ـ رحمه‌الله ـ عن أبي مالك الاشجعي قال : «خرج رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من بعض حجره ، فجلس عند بابها. وكان إذا جلس وحده لم ياته أحد حتى يدعوه ، فقال : «ادع لي أبا بكر».

فجاء ، فجلس أبو بكر بين يديه ، فناجاه طويلا ، ثم أمره فجلس عن يمينه.

ثم قال : «ادع لي عمر».

فجاء فجلس إلى أبي بكر ، فناجاه طويلا ، فرفع عمر صوته ، فقال : «يا رسول الله ، هم رأس الكفر ، هم الذين زعموا أنك ساحر ، وأنك كاهن ، وأنك كذاب ، وأنك مفتر» ، ولم يدع عمر شيئا مما كان أهل مكة يقولونه إلا ذكره.

فأمره أن يجلس إلى الجانب الآخر ، فجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله.

ثم دعا الناس ، فقال : «ألا أحدثكم بمثل صاحبيكم هذين»؟

فقالوا : نعم يا رسول الله.

فأقبل بوجهه إلى أبي بكر ، فقال : «إن إبراهيم كان ألين في الله تعالى من

١٢٧

الدهن اللين».

ثم أقبل على عمر ، فقال : «إن نوحا كان أشد في الله من الحجر ، وإن الأمر أمر عمر ، فتجهزوا وتعاونوا».

فتبعوا أبا بكر ، فقالوا : يا أبا بكر ، إنّا كرهنا أن نسأل عمر عما ناجاك به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

قال : قال لي : كيف تأمرني في غزو مكة؟

قال : قلت : يا رسول الله!! هم قومك ، حتى رأيت أنه سيطيعني.

ثم دعا عمر ، فقال عمر : هم رأس الكفر ، حتى ذكر له كل سوء كانوا يقولونه. وأيم الله ، وأيم الله ، لا تذل العرب حتى تذل أهل مكة ، وقد أمركم بالجهاد ليغزو مكة» (١).

ونقول :

إننا نشك في هذه الاستشارة ، حيث سيأتي : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمر عائشة بتجهيزه ، وأن أبا بكر لم يكن يعلم بشيء ، حتى أخبرته ابنته.

وقد اعتذر الحلبي عن ذلك : بأن الاستشارة قد وقعت بعد أمره لعائشة بذلك (٢).

وهو اعتذار غير مقبول .. إلا إذا كانت الاستشارة صورية ، تهدف إلى

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٨ عن ابن أبي شيبة ، ومسند أحمد ج ٣ ص ٣٩٨ والمصنف لابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٥٠٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٤.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٤.

١٢٨

تأليف أبي بكر ، أو أنه أراد أن يكشف دخيلته للناس.

وقد يؤيد ذلك : ما ذكره من أنه أشار بعدم السير ، وقوله : هم قومك (١).

إذ كيف يرى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يتجهز ويأمر بذلك ، ثم يشير عليه بخلاف ما عزم عليه ، فهل يرى أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يفعل ما يفعل من عند نفسه؟! أم أنه يرى نفسه فوق الوحي ، وفوق رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

أبو بكر يفشي سرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ومع غض النظر عما تقدم ، نقول :

أولا : إن هذه الرواية قد تضمنت إقدام أبي بكر على أمر غير مقبول منه تجاه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. فهو قد أفشى سرّا ائتمنه عليه.

وذلك لأن الرواية تقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جلس على انفراد ، ثم استدعاه إليه ، وناجاه بسرّه هذا ، ثم ناجى به عمر بن الخطاب ، ثم دعا الناس للجلوس إليه ، ثم كلمهم بكلام لا يشي بشيء من حقيقة وجهة سيره ، باستثناء قوله : «تجهزوا وتعاونوا».

فما معنى : أن يخبرهم أبو بكر بأمر كتمه عنهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

وأين يقع التصرف الخاطئ هذا من موقف فاطمة الزهراء بنت رسول الله «صلوات الله وسلامه عليه وعليها وعلى آلهما الطيبين الطاهرين» مع عائشة بنت أبي بكر ، حين أقبلت فاطمة إليه ، فأجلسها عن يمينه ، ثم أسرّ

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٤.

١٢٩

إليها بأمر فبكت ، ثم أسرّ إليها بآخر فضحكت ، فسألتها عائشة عما قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فقالت «عليها‌السلام» : ما كنت لأفشي سرّ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وقد استمرت على كتمان هذا السرّ حتى قبض «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

__________________

(١) صحيح البخاري (ط مطبعة الأميرية) ج ٤ ص ٢٠٣ وصحيح مسلم ج ٧ ص ١٤٢ ومسند الطيالسي ص ١٩٦ وطبقات ابن سعد ج ٨ ص ٢٦ وحلية الأولياء ج ٢ ص ٣٩ والخصائص للنسائي (ط دار التقدم بمصر) ص ٣٤ ومصابيح السنة (ط دار الخيرية بمصر) ج ٢ ص ٢٠٤ ومسند أحمد ج ٦ ص ٢٨٢ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٥٥٢ وصفة الصفوة (ط حيدر آباد) ج ٢ ص ٥ وطرح التثريب ج ١ ص ١٤٩ والمختار من مناقب الأخيار (ط دمشق) ص ٥٦ ونظم درر السمطين ص ١٧٩ وتذكرة الخواص ص ٣١٩ ومنتخب تاريخ ابن عساكر ج ١ (ط الترقي بدمشق) ص ٢٩٨ والبداية والنهاية ج ٥ ص ٢٢٦ وجمع الفوائد ج ٢ ص ٢٣٣ وتكملة المنهل العذب المورود ج ٣ ص ٢٢٢ والثغور الباسمة (ط بمبي) ص ١٣ وأشعة اللمعات في شرح المشكاة ج ٤ ص ٦٩٣ ووسيلة النجاة للمولوي ص ٢٢٨ ومرآة المؤمنين ص ١٩٠ وأضواء على الصحيحين ص ٣٤٥ وفضائل الصحابة ص ٧٧ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٥١٨ ومسند أبي يعلى ج ١٢ ص ١١٢ والمعجم الكبير ج ٢٢ ص ٤١٩ وعن أسد الغابة ج ٥ ص ٥٢٢ والأوائل للطبراني ص ٨٤ وعن المصادر التالية : كتاب الأربعين للماحوزي ص ٣١٤ وفتح الباري ج ٨ ص ١٠٣ ومسند أبي يحيى الكوفي ص ٧٩ ومسند ابن راهويه ج ٥ ص ٧ وعن السنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ٩٦ و ١٤٦ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٤٤٨ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ١٢٠ وكشف الغمة ج ٢ ص ٨٠ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٤٥.

١٣٠

ومن جهة أخرى ، سيأتي بعد صفحات يسيرة : أن عائشة تفشي هي الأخرى سرّ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في نفس غزوة الفتح أيضا ؛ فإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لها : جهزينا واخفي أمرك ..

فهي بمجرد أن دخل عليها أبوها وسألها قائلا : أمركن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بتجهيزه؟!

قالت : نعم.

وعلينا أن نقارن بين موقف الزهراء «عليها‌السلام» الآنف الذكر مع عائشة نفسها!! وبين ما فعله أبو بكر وعائشة بإقدامهما على إفشاء سرّ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، رغم التفاوت الكبير بين هذا السرّ وذاك.

فسرّ الزهراء «عليها‌السلام» يرتبط بأمر شخصي يعود إليه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولكن السرّ الذي أفشاه أبو بكر وعائشة يرتبط بالأمة بأسرها وبالدين كله ..

ثانيا : إذا كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد دعا عمر ليناجيه ، فلماذا يرفع عمر صوته بكلام صريح بما يدور الحديث حوله؟؟ وهل رضي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» منه ذلك؟! فإن كان قد رضيه ، فما معنى المناجاة به؟!

وإن كان قد سخط ذلك وردعه عنه ، فلماذا لم يرتدع ، بل استمر رافعا صوته يعدّد أقوال أهل مكة فيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

وإن كان لم يردعه عن أمر قد سخط هذا الإعلان به فلماذا ناجاه به؟! أم أنه عدل عن إرادة كتمان ما ناجاهم به؟ وما هو السبب في هذا العدول؟ هل خاف من عمر؟! أم أنه أراد أن يظهر جرأة عمر ، وسوء فعله؟!

ثالثا : إذا كان عمر قد ارتكب هذه المخالفة الظاهرة لمقاصد رسول الله

١٣١

«صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فلماذا أطراه ذلك الإطراء الكبير ، حتى اعتبره مثل نبي الله نوح «عليه‌السلام»؟!

رابعا : إذا كان عمر قد رفع صوته معددا أفاعيل أهل مكة ، فأمر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالتجهز والتعاون ، معتبرا أن الأمر أمر عمر ، فإن الأمر سيصبح واضحا للناس ، ولم يعودوا بحاجة إلى سؤال أبي بكر عما ناجاه به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فإن الكل سوف يفهم : أن الأمر مرتبط بأهل مكة ، وأن التجهيز والتعاون هو لأجل إنجاز هذا الأمر.

لأن المفروض هو : أن موقف عمر وموقف أبي بكر متخالفان في أمر واحد ، وأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد اختار قول عمر ..

خامسا : لماذا اختار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قول عمر ، وترك ما قاله أبو بكر. مع أن أبا بكر ـ حسب زعم الرواية ـ قد أشبه إبراهيم الخليل ، الذي كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مأمورا بالعمل بشريعته «عليه‌السلام» ، فقد قال تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (١).

سادسا : إنه إذا كان إبراهيم «عليه‌السلام» ألين في الله من الدهن اللين ، فهل لم يكن أشد في الله من الحجر الصلد أيضا؟! فيضع الأمور في مواضعها ، فيشتد حين يقتضي الأمر الشدة ، ويلين حين يوجب الأمر اللين؟!

ونفس السؤال يرد بالنسبة لنوح «عليه‌السلام» ..

__________________

(١) الآية ١٢٣ من سورة النحل.

١٣٢

وأما إذا كان إبراهيم «عليه‌السلام» لينا فقط ، ولا يشتد حين يكون المطلوب هو الشدة ، وكان نوح شديدا ، ولا يلين حين يقتضي الأمر اللين ، فذلك يعني : أنهما غير متصفين بصفات أهل الإيمان ، وأنهما لا يعملان بشرع الله ، ولا يراعيان المصالح ، ولا يتصفان بأدنى درجات الحكمة والعصمة ، فهما لا يستحقان درجة النبوة ، لأنهما يفقدان صفات أهل الإيمان من الأساس.

فهل نريد أن نمدح أبا بكر وعمر بقيمة ذم الأنبياء ، ونسبة هذه النقائص إليهم؟!

ذل العرب .. وذل أهل مكة :

واللافت هنا : ما نسبوه إلى أبي بكر من القسم المتكرر حول أمر لا يصح ولا يجوز أن يدخل في دائرة أهداف الأنبياء «عليهم‌السلام» ، فقد قال أبو بكر : «.. وأيم الله ، وأيم الله ، لا تذل العرب حتى تذل أهل مكة. وقد أمركم بالجهاد ليغزو مكة ..».

إن هدف الأنبياء «عليهم‌السلام» لا يمكن أن يكون إذلال أحد من الناس ، بل مرادهم هو إخراج الناس من ذل العبودية للأهواء والشهوات ، ومن ذل عبادة الأصنام والشرك إلى العز بالإسلام ، ولا يمكن أن يريد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذل العرب ، بل هو يريد ذل الشرك ، والكفر ، والانحراف. ولا يريد ذل أهل مكة ، بل يريد لهم أن يحترموا أنفسهم ، وعقولهم ، أن يشعروا بالكرامة الإلهية ، وبالتكريم الرباني ..

١٣٣

حديث فاطمة عليها‌السلام كان في عام الفتح أيضا :

عن أم سلمة : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دعا فاطمة عام الفتح ، فناجاها فبكت ، ثم حدثها فضحكت.

قالت : فلما توفي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» سألتها عن بكائها وضحكها.

قالت : أخبرني رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنه يموت فبكيت ، ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران ، فضحكت (١).

ولكن قال في بعض الروايات : إن ذلك كان بعد الفتح (٢).

__________________

(١) الجامع الصحيح للترمذي ج ٥ ص ٣٦٨ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٢ ص ٢٤٨ وجامع الأصول (ط السنة المحمدية بمصر) ج ١٠ ص ٨٤ ومشكاة المصابيح ج ٣ ص ٢٦٨ وينابيع المودة (ط إسلامبول) ص ١٧٢ والرصف للعاقولي (ط مكتبة الأمل الكويت) ج ١ ص ٢٨١ وأشعة اللمعات ج ٤ ص ٧١٤ وتفريح الأحباب (ط دهلي) ص ٤٠٨ ومرآة المؤمنين ص ١٩٠ والمختار من مناقب الأخيار ص ٥٦ ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج ٥ ص ٩٧ والثغور الباسمة (ط بمبي) ص ١٣ وتيسير الوصول (ط نول كشور) ص ٥٩.

(٢) منتخب كنز العمال (بهامش مسند أحمد) ج ٥ ص ٩٨ والمعجم الكبير ج ٢٢ ص ٤٢٢ وفضائل سيدة النساء لعمر بن شاهين ص ٢٠ وتاريخ دمشق ج ٣٣ ص ٢٦٩ وكنز العمال ج ١٣ ص ٦٧٧ وتهذيب الكمال ج ١٦ ص ٢٧٥ وشرح إحقاق الحق ج ١٩ ص ٣٨ وج ٢٥ ص ٨٦.

١٣٤

ونقول :

١ ـ تقدم : أن هذه الرواية قد رويت عن عائشة أيضا ، وأنها هي التي حاولت استنطاق وحمل فاطمة «عليها‌السلام» على إفشاء سرّ النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حين ناجاها ، فقالت : ما كنت لأفشي سرّ رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وفي بعض نصوص الحديث : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لها : إنها أول أهل بيته لحوقا به فضحكت .. وجمعت بعض الروايات بين العبارتين (١).

ولا مانع من أن يتكرر الحدث تارة مع أم سلمة ، وأخرى مع عائشة ، فتسأل كل واحدة منهما الزهراء «عليها‌السلام» بعد وفاة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وتسمع الجواب ..

كما أنه لا مانع من حدوث هذا الأمر أكثر من مرة ، وأكثر من زمان.

ويحتمل أن تكون أم سلمة قد ذكرت جزءا من الجواب ، وذكرت عائشة الجزء الآخر.

ولا مانع من أن تذكر عائشة كلا الجزأين من جواب النبي «صلى الله

__________________

(١) راجع : البداية والنهاية ج ٢ ص ٦١ وسعد الشموس والأقمار (ط التقدم بمصر سنة ١٣٣٠ ه‍) ص ١٠٣ والأنوار المحمدية ص ١٥٠ وتجهيز الجيش ص ٩٨ عن ابن عساكر ، وأرجح المطالب ص ٢٤١ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ١٢٠ وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ٢٨ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٥٥٢ والخصائص (ط التقدم بمصر) ص ٣٤ وصفة الصفوة (ط حيدر آباد) ج ٢ ص ٥ ومسند أحمد ج ٦ ص ٢٨٢ وطرح التثريب ج ١ ص ١٤٩ والمختار في مناقب الأخيار (ط دمشق) ص ٥٦ ونظم در السمطين ص ٧٩.

١٣٥

عليه وآله» لفاطمة «عليها‌السلام» ، أو احدهما في مجالس مختلفة.

٢ ـ إن بعض نصوص هذه الحادثة يقول : إنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد ذكر لفاطمة «عليها‌السلام» أن جبرئيل قد عارضه بالقرآن مرتين في ذلك العام ، ليدل بذلك على قرب وفاته «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وهكذا كان ..

وهذا يخالف رواية أم سلمة السابقة ، التي تذكر أن هذه القضية قد حصلت عام الفتح ، أي في السنة الثامنة للهجرة ، في حين أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد توفي في آخر السنة العاشرة ، بناء على أن أول السنة هو ربيع الأول ، أو في أوائل السنة الحادية عشرة بناء على أن ابتداء السنة الهجرية هو شهر محرم.

ولكننا ذكرنا : احتمال أن يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد ناجى فاطمة الزهراء «عليها‌السلام» في هذا الأمر أكثر من مرة ، لحكمة اقتضت ذلك ..

٣ ـ إن استثناء مريم بنت عمران ممن تكون فاطمة «عليها‌السلام» سيدتهن قد ورد في بعض نصوص هذا الحديث دون سائرها .. فهل نسي الرواة هذه الفقرة؟ أم أنهم أهملوها عمدا ، لعلمهم بأنها لم تكن في الحديث من الأساس؟

إننا نرجح الاحتمال الثاني ، وذلك لما يلي :

ألف : إن الأحاديث الدالة على أن فاطمة سيدة وأفضل نساء أهل الجنة على الإطلاق ، متواترة .. وقد وردت في مناسبات كثيرة ومتنوعة ، وفي موارد أخرى غير مورد مسارّة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لفاطمة «عليها‌السلام».

ب : إن بعض نصوص الحديث قد صرحت : بأنها «عليها‌السلام»

١٣٦

سيدة نساء العالمين (١). ويدل ذلك على عدم استثناء مريم منهن.

ج : إن الروايات دلت على : أن مريم بنت عمران سيدة نساء عالمها ، أما السيدة الزهراء «عليها‌السلام» فهي سيدة نساء العالمين ، من الأولين والآخرين (٢).

__________________

(١) أرجح المطالب ص ٢٤١ وتجهيز الجيش (مخطوط) ص ٩٦ وجامع الأحاديث للسيوطي ج ٧ ص ٧٣٤ وأشعة اللمعات في شرح المشكاة (ط لكهنو) ج ٤ ص ٦٩٣ ووسيلة النجاة ص ٢٢٨ وعيون المعجزات ص ٥١ ومناقب آل أبي طالب ج ٣ ص ١٣٧ والطبقات الكبرى ج ٨ ص ٢٧ وأسد الغابة ج ٥ ص ٥٢٢ وج ٨ ص ٢٦٦ واللمعة البيضاء للتبريزي ص ٤٦ وشرح إحقاق الحق ج ١٠ ص ٣٠ وج ٢٥ ص ٤٨ وج ٣٣ ص ٢٩٥ والمسانيد لمحمد حياة الأنصاري ج ٢ ص ٧٢.

(٢) مقتل الحسين للخوارزمي ص ٧٩ وأمالي الصدوق (ط مؤسسة البعثة) ص ٧٨ و ١٧٥ و ٥٧٥ وكمال الدين وتمام النعمة ص ٢٥٧ ومعاني الأخبار للصدوق ص ١٠٧ ومن لا يحضره الفقيه ج ٢ ص ٥٧٣ وتهذيب الأحكام ج ٦ ص ١٠ وروضة الواعظين ص ١٠٠ و ١٤٩ وشرح الأخبار ج ٣ ص ٥٢٠ والمزار لابن المشهدي ص ٨٠ والفضائل لابن شاذان ص ٩ والمحتضر لحسن بن سليمان الحلي ص ١٩٧ والشرف المؤبد ص ٥٤ ومناقب الإمام علي لابن المغازلي ص ٣٦٨ والصلاة في الكتاب والسنة للريشهري ص ٢٠٠ ودلائل الإمامة للطبري ص ٨١ و ١٤٩ عن مشكل الآثار ج ١ ص ٥١ ، وعن حلية الأولياء ج ٢ ص ٤٢ ، وعن ذخائر العقبى ص ٤٣. وراجع : البحار ج ٢٨ ص ٣٨ وج ٣٧ ص ٨٥ وج ٤٣ ص ٢٤ و ٢٦ و ٤٩ و ٧٨ و ١٧٢ ومستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ٢٤٦ وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج ٩ ص ١١ وميزان الحكمة ج ١ ص ١٥٠ وتفسير نور الثقلين ج ١ ص ٣٣٨ وتفسير كنز الدقائق ج ٢ ص ٨٥ ـ

١٣٧

ويؤيد ذلك : الروايات الكثيرة جدا التي تقول : إنها «عليها‌السلام» سيدة نساء أهل الجنة (١). فإن أكثرها لم يستثن مريم «عليها‌السلام» حسبما تقدم.

وأما الرواية التي ذكرت : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قرر أنها سيدة نساء العالمين ، فسألته «عليها‌السلام» عن موقع مريم في هذه الحالة ، فقال : لها «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : تلك سيدة نساء عالمها ، وأنت سيدة نساء عالمك (٢) ،

__________________

وقاوس الرجال ج ١٢ ص ٣٣٤ وبشارة المصطفى للطبري ص ٢٧٤ و ٣٠٦ والعدد القوية ص ٢٢٧ وينابيع المودة ج ٢ ص ٢٩٨ واللمعة البيضاء التبريزي ص ١٧٩.

(١) راجع : كشف الغطاء (ط ق) ج ١ ص ١٨ والأمالي للصدوق ص ١٧٨ وكفاية الأثر ص ١٢٤ وكتاب سليم بن قيس ص ٢٣٦ و ٤٢٧ والإختصاص للمفيد ص ١٨٣ والأمالي للطوسي ص ٨٥ و ٢٤٨ ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج ٣ ص ١٠٤ و ١٠٥ و ١٦٤ والعمدة لابن البطريق ص ٣٨٤ و ٣٨٨ عن صحيح البخاري ج ٥ ص ٢٩ باب مناقب فاطمة «عليها‌السلام» ومناقب أهل البيت للشيرواني ص ٢٢٩ ومستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ٢٣٣ ومسند أحمد ج ٥ ص ٣٩١ وصحيح البخاري (دار الفكر) ج ٤ ص ١٨٣ و ٢٠٩ و ٢١٩ وسنن الترمذي ج ٥ ص ٣٢٦ وفضائل الصحابة للنسائي ص ٥٨ و ٧٦ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ١٥١ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٠١ وفتح الباري ج ٧ ص ٨٢ وراجع : إحقاق الحق (قسم الملحقات) ج ١٠ وج ١٩ وأجزاء أخرى لتجد هذه الرواية عن عشرات المصادر بطرق مختلفة.

(٢) راجع : إحقاق الحق (قسم الملحقات) ج ١٠ عن كثير من المصادر وج ١٩ ص ١٩ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ١٢٧ وينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص ١٩٨ وفتح الملك المعبود تكملة المنهل العذب المورود ج ٤ ص ٨ ومرآة المؤمنين ص ١٨٣.

١٣٨

فهي متناقضة في نفسها ، إذ لا ينسجم قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لها «عليها‌السلام» : إنها سيدة نساء العالمين ، مع قوله لها : أنت سيدة نساء عالمك.

وهذا يؤكد : أن الصحيح هو حذف العبارة الأخيرة ليستقيم المعنى.

وذلك ظاهر لا يخفى.

جهزينا ، وأخفي أمرك :

ورووا : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مكث بعد خروج أبي سفيان ما شاء الله أن يمكث ، ثم قال لعائشة : جهزينا ، وأخفي أمرك (١).

وقال : «اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم ، فلا يرونا إلا بغتة ، ولا يسمعون بنا إلا فجأة» (٢).

وفي نص آخر أنه قال : «اللهم خذ العيون والأخبار على قريش ، حتى نبغتها في بلادها» (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٩ عن ابن عقبة ، وابن إسحاق ، والواقدي ، وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٨ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٩٦ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٤ و (ط دار المعرفة) ص ٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٣٤ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٢٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٧ ص ٢٦٥ وإمتاع الأسماع ج ١ ص ٣٥١.

(٢) راجع المصادر المتقدمة في الهامش السابق.

(٣) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٤ و (ط دار المعرفة) ص ١٠ ومجمع البيان ج ١٠ ص ٥٥٥ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٩٦ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٨ والبحار ج ٢١ ص ١٠٢ وتفسير الميزان ج ٢٠ ص ٣٨٠ وتفسير البغوي ج ٤ ص ٥٣٧ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢٧ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٤٢ والبداية

١٣٩

وكان قد بنى الأمر في مسيره إليها على الاستسرار بذلك (١).

عائشة تفشي سر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ودخل أبو بكر على عائشة وهي تحرك بعض جهاز رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : أمر كن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بتجهيزه؟

قالت : نعم ، فتجهز.

قال : فأين ترينه يريد؟

قالت : لا والله ما أدري (٢).

قال : ما هذا زمان غزو بني الأصفر ، فأين يريد؟

قالت : لا علم لي (٣).

ودخل عليه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : يا رسول الله ، أردت سفرا؟

__________________

والنهاية ج ٤ ص ٣٢٣ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٢٧٥ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٥٧ وعيون الأثر ج ٢ ص ١٨٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٣٥.

(١) البحار ج ٢١ ص ١١٩ عن الإرشاد للمفيد (ط دار المفيد) ج ١ ص ٥٦ وأعيان الشيعة ج ١ ص ٤٠٨ ولوامع الحقائق للأشتياني ج ١ ص ٨٥.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٩ وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٩٦ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٨ وتفسير البغوي ج ٤ ص ٥٣٧ وتاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢٧ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٥٧ وعيون الأثر ج ٢ ص ١٨٤ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٣ ص ٩.

(٣) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٨ والمعجم الصغير للطبراني ج ٢ ص ٧٣ ودلائل النبوة للأصبهاني ج ٢ ص ٦٣٥ وإمتاع الأسماع ج ٨ ص ٣٨٤.

١٤٠