الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢١

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢١

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-193-9
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٤

الله عليه وآله» عليهم ..

وقد كان لا بد من رد أبي سفيان خائبا ليفهم : أن أساليب المكر والإحتيال لا تجدي في إماتة الحق ، وإحياء الباطل. وهذا ما جرى له فعلا.

أساليب استخبار اتية فاشلة :

وحين التقى أبو سفيان ببديل بن ورقاء وصحبه ، وظن أنهم راجعون من المدينة ، بادر إلى التعامل وفق سجيته الماكرة ، التي تظهر الود والصفاء ، وتبطن الخبث والحقد والبغضاء ، فبادر إلى طرح السؤال عن أخبار المدينة على بديل ، وكأن عودته منها أمر مفروغ عنه ..

فلما أنكر بديل أن يكون له علم بشيء منها بادر بطرح سؤال آخر أكثر صراحة من سابقه ، على أمل أن تأخذهم المفاجأة ، وتهيمن عليهم هزة مشاعرية تستثير أريحية الكرم فيهم ، فيبادرون إلى الإجابة بكلمة نعم ، رغبة منهم في البذل والعطاء. واكتساب الحمد والثناء.

فسألهم إن كان لديهم شيء من تمر يثرب يطعمونه إياه. ولكنه وجدهم أيضا متيقظين لحيلته ، راصدين لحركته. حين أجابوه بالنفي ..

فاضطر إلى الجهر بنواياه ، والكشف عن خفاياه وخباياه ، فقال لبديل : هل جئت محمدا الخ ..

وجاءه الجواب بالنفي أيضا ، مصحوبا بتبرير معقول ومقبول ، لا سبيل إلى رده ، ولا مجال للمناقشة فيه ..

فلم يكن أمامه خيار سوى السكوت ، وانتظر أبعار إبلهم ليتفحّصها بعد رحيلهم ، ليستدل منها على ما يريد .. فوجد فيها بعض ما يشي بصدق

١٠١

ما كان يخشاه ..

ولكن ذلك أيضا يبقى غير كاف لحسم الأمور لديه ، لإمكان التأويل والتفسير ، والتوجيه والتبرير. فباء بذلّ الخيبة ، وذاق مرارة الفشل الذي سيكون له ما بعده ، من خيبات تتلاحق ، وفشل يتوالى ..

أبو سفيان في المدينة :

وإن ما واجهه أبو سفيان في المدينة كان غاية في الروعة ، فقد ذاق طعم الذل والخزي مرة بعد أخرى ، وتجرع مرارة الخيبة والفشل كرّات ومرّات لم يعرف لها مثيلا في حياته كلها .. وقد تجلى هذا الذل في مظاهر مختلفة ، نذكر منها :

١ ـ أنه قد بدأ فيما ظن أنه أهونها عليه .. ألا وهو أن يوسّط ابنته لدى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وكأنه يريد أن يستفيد من العنصر النسوي ، والنسبي ، والعاطفي ، والتأثير الأنثوي ، على قرار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ظنا منه : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كغيره من أهل الدنيا ، الذين يمارسون العمل في الصالح العام بعد وضعه في بوتقة المصالح الشخصية ، وصهره واستخلاص نتائجه لحساب الفرد وشهواته وأهوائه ، ومن يلوذ به من قريب أو عشير ..

مع أن الرسول الأكرم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قدم لهم الدليل تلو الدليل على أنه يضحي بالنفس وبالمال والولد ، وبكل شيء في سبيل الصالح العام ، وبتعبير أدق : في سبيل الله ، والمستضعفين.

ولعل أبا سفيان حين لجأ إلى ابنته قد ظن أيضا : أن ظهور ضعفه لديها ،

١٠٢

سوف يغنيه عما بعده من مواقف ذليلة ، اختار هو وضع نفسه فيها ..

كما أنه سيكون قادرا بعد ذلك على لملمة ما انتشر من هيبته ، والظهور على الناس من جديد بورقة التين ، التي قد تستر شيئا من عيوبه وقبائحه ، وتغطي على بعض ما هو مشين ومهين من واقعه.

ولكنه لم يجد لدى ابنته ما يشجعه على طرح الموضوع معها ، لأن الظاهر هو أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» كان قد أعطى تعليماته بهذا الخصوص كما أظهره قوله السابق وهو يخبر بالغيب عن أبي سفيان «وهو راجع بسخطه» ، فالحدود كانت قد وضعت ، والثغرات ضبطت ، والصلاحيات حددت .. فلم يبق مجال لأحد أن يفكر في اختراقها ..

ولو أن أحدا سولت له نفسه أن يفعل ذلك ، فسوف ينال جزاءه العادل الذي حددته الشريعة ، وبيّنه لهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

٢ ـ ثم جرب حظه مع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» مباشرة ، فطلب منه أن يجدد العهد ويزيد في المدة ، وكان المبرر الذي ساقه لطلبه هذا هو : أنه لم يكن حاضرا في صلح الحديبية ..

وكأنه يريد بهذا الطلب وبذلك التبرير أن يمرر لعبته على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وإلا ، فإن غيبته عن الحديبية لا توجب أي وهن أو ضعف في العهد ليحتاج إلى التقوية والتوثيق ما دام أن الوقائع طيلة السنوات التي مرت على عقد الهدنة قد أثبتت التزام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالعهد ، واستمر جميع أهل مكة على الالتزام بمراعاته ، وتنفيذ بنوده.

وإنما يحتاج العهد إلى التقوية والتجديد فيما لو تعرض للنقض والتمرد على أحكامه ، ورفض إجرائها ..

١٠٣

وهذا ما ينكره أبو سفيان ، بل هو لا يجرؤ على الاعتراف بشيء مما يدخل في هذا السياق ..

ولذلك سأله رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إن كان قد حدث في مكة ما يوجب وهن العهد ، أو نقضه ، فأنكر أبو سفيان أن يكون قد حصل شيء من ذلك.

فأسقط رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حجته ، ووضعه أمام خيارين كل منهما صعب :

أحدهما : أن يعترف بما جرى لخزاعة ، وهذا معناه : الدخول فيما أراد أن يهرب منه ، حيث لا بد من أن يرضى بتحمل جميع تبعات ما جرى ، ويضطر إلى إعطاء الديات والرضى بقصاص المجرم وغير ذلك.

ثانيهما : أن يظهر للناس بصورة الرجل التافه ، أو الجاهل ، أو المبتلى بالخرف أو ما شاكل .. وقد أصر على رفض الخيار الأول ولم يفلح في التملص من تبعات الخيار الثاني ..

خيار الهروب إلى الأمام :

فكانت النتيجة التي انتهى إليها هي اللجوء إلى خيار ثالث ظن أنه يبلغه إلى ما يريد ، ألا وهو أن يطلب من بعض أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يجير بين الناس ..

وبذلك يكون قد حصل على ما يحسم الأمر فيما يرتبط بما فعله بنو نفاثة وقريش ببني خزاعة ، لأنه سيصبح قادرا على ادّعاء أن هذه أمور شخصية ، ليس فيها أي نقض للعهد ..

١٠٤

والأمور الشخصية يحكم بها عقلاء القوم ويحسم الأمر فيها نفس أصحاب العلاقة بما هم أفراد. والجوار يحفظ هؤلاء الأفراد ويحميهم من الانتقام ..

وبذلك يكون قد أخرج قريشا من دائرة الصراع ، ونفى أية مسؤولية لها فيه ، وأبعد النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن أن يكون له الحق بالمطالبة بديات أو بقصاص ، ما دام أن المسألة فردية ، ولا شيء أكثر من ذلك.

وبذلك يكون قد أخرج النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، واضطره إلى إمضاء هذا الجوار ، فإذا ظهر أن أحدا قد ارتكب جرما ، فإن الجوار الذي شمله سوف يمنع من إجراء أي حكم عليه ..

ولو أريد فعل شيء من ذلك ؛ فإن إقناع الناس بأن هذا مما لا تصح الإجارة منه سيكون صعبا ، وسيحدث بلبلة كبيرة ، ويسيء إلى الذهنية العامة ، وربما يحدث إرباكا ضارا ، ويترك آثارا سلبية لا مجال لتلافيها ..

على أن هذا الموقف من شأنه أن يظهر أبا سفيان على أنه رجل سلام ، يريد حقن الدماء ، ويملك مشاعر إنسانية ، ومن لا يستجيب لطلبه هذا فإنه يكون متهما في ذلك كله.

فطلب من أبي بكر أن يجير بين الناس ، وكذلك من عمر ، ومن عثمان ومن سعد بن عبادة ، وعلي «عليه‌السلام» ، وأشراف المهاجرين والأنصار. وكان يسمع منهم جميعا رفضا لهذا الأمر أكيدا ، وشديدا.

فتوسل بالزهراء «عليها‌السلام» ، ثم توسل بالسبطين الحسن والحسين «صلوات الله وسلامه عليهما» ، فلم يجده هذا التوسل نفعا ، بل كان الجواب دائما هو الرفض الأكيد ، والشديد ..

١٠٥

التدبير الصارم :

ونحن لا نشك في أن رفض جميع هؤلاء الذين سبقت أسماؤهم إنما هو بسبب أن الجميع كان قد عرف حدّه ، وألزمه الشرع بالوقوف عنده ، أو لم يترك له أي سبيل يستطيع أن ينفذ منه.

وقد ظهر ذلك من إخبار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لهم بالغيب الإلهي : بأن أبا سفيان سيرجع بسخطه ، فلم يعد أحد ليجرؤ على قبول شيء يأتيه به أبو سفيان ، لأنه يعرف أن الوحي سوف يفضح أمره ، وأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لن يقبل بأي شيء يطلبه أبو سفيان .. ما دام أن هذا القبول سيكون ضد القرار الإلهي بإرجاع أبي سفيان ساخطا ..

فلم يعد الإصرار يشبه أبدا ما جرى في غزوة بدر من تطاول على مقام النبوة ، ومن سعي لانتهاك حرمة الحكم الشرعي الإلهي في أمر الأسرى ..

وكذلك ما جرى في أحد وفي سواها من مواقف وتحركات تدخل في هذا السياق ، فإن الأمور قد جرت في سياق استطاع أن يفضح هؤلاء في مواقفهم.

ورأى الناس بأم أعينهم في أكثر من مناسبة عدم صحة ما يدّعيه هؤلاء الناس لأنفسهم من شجاعة وإخلاص والتزام .. وقد تجلى ذلك بصورة واضحة وفاضحة في الخندق ، وخيبر ، وقريظة وغير ذلك ..

وقد عولجت تصرفات وتحركات هؤلاء الناس بصورة استطاعت أن تزيد من فضيحتهم ، وظهور خطل رأيهم ، وحقيقة ما يسعون إليه ..

١٠٦

مواقف مزعومة ، بل موهومة :

وقد زعمت النصوص المتقدمة : أن أبا بكر قد قال لأبي سفيان : والله ، لو أن الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم ..

وأن عمر بن الخطاب قال : أنا أشفع لكم عند رسول الله؟! فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ، وما كان من حلفنا جديدا فأخلقه الله ، وما كان منه متينا فقطعه الله ، وما كان منه موصولا فلا وصله الله.

فقال أبو سفيان : جوزيت من ذي رحم شرا.

ونحن نشك في صحة هذه المزاعم :

أولا : ليس في كلام أبي سفيان ما يشير إلى أنه يطلب شفاعته عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فما معنى قول عمر له : «أنا أشفع لكم عند رسول الله»؟!

ثانيا : لم يصرح أبو سفيان بأن الشفاعة كانت لهم فلعله يقصد الجوار لمن يتقاتلون فيما بينهم من العرب ، فإن دخولهم في جوار المسلمين يمنع الطرف المعتدي من مواصلة عدوانه.

ثالثا : قد تقدم : أن أبا سفيان يعبر عن عمر (كما ورد في بعض النصوص دون بعضها الآخر) : أنه أدنى العدو ، وهي كلمة تشير إلى أن عمر كان أقرب إلى قريش من سائر صحابة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

رابعا : إن ما نعرفه عن هذين الرجلين هو سعيهما في المواقع الحساسة إلى التخفيف من الوطأة على قريش ، وحفظ موقعيتها.

كما أن قريشا كانت تهتم بسلامتهما قدر الإمكان.

١٠٧

فلا حظ ما يلي :

١ ـ في بدر يستشير النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أصحابه في أمر الحرب ، فيقول أبو بكر كلاما من شأنه أن يضعف عزائم المسلمين : «إنها قريش وخيلاؤها ، ما آمنت منذ كفرت ، وما ذلت منذ عزت» أو نحو ذلك.

وكذلك قال عمر بن الخطاب (١).

٢ ـ وسيأتي أنه حاول منع النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من غزو مكة ، وقال : «قلت : يا رسول الله ، هم قومك ، حتى رأيت أنه سيطيعني» (٢).

٣ ـ وفي حرب أحد : ضرب ضرار بن الخطاب الفهري عمر بن الخطاب بالقناة حين هزم المسلمون ، وقال له : يا ابن الخطاب إنها نعمة

__________________

(١) راجع : البحار ج ١٩ ص ٢١٧ و ٢٧٤ والمغازي للواقدي ج ١ ص ٤٨ والسيرة الحلبية ج ٢ ص ١٠٥ والدر المنثور ج ٣ ص ١٦٦ عن دلائل النبوة للبيهقي ، وتفسير القمي ج ١ ص ٢٥٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ١١٢ وعن عيون الأثر ج ١ ص ٣٢٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٤ ص ٢٦ وصحيح مسلم كتاب الجهاد والسير ، باب غزوة بدر ج ٥ ص ١٧٠ و (ط أخرى) ج ٣ ص ١٤٠٣ ، ومسند أحمد ج ٣ ص ٢١٩ بطريقين ، وعن الجمع بين الصحيحين ، والبداية والنهاية ج ٣ ص ٢٦٣ ، والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٣٩٤ وتفسير أبي حمزة الثمالي ص ١٨١ وتفسير مجمع البيان (ط مؤسسة الأعلمي) ج ٤ ص ٤٣٢ والتفسير الصافي ج ٢ ص ٢٧٤ والتفسير الأصفى ج ١ ص ٤٢٥ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ١٢٤ وتفسير الميزان ج ٩ ص ٢٥ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ١١٨.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٥ ص ٢٠٨ وعن المصنف لابن أبي شيبة ج ١٤ ص ٥٠٦ و (ط دار الفكر) ج ٨ ص ٥٤٢ وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج ١٠ ص ٥٢٩ و (ط دار الفكر) ج ١ ص ٢١٠٤ وجامع الأحاديث والمراسيل ج ٢١ ص ٤٢٣.

١٠٨

مشكورة ، ما كنت لأقتلك (١).

فما هذا الغزل الظاهر بين ضرار وعمر؟!

وقد ذكر ابن سلام : أن هذه كانت يدا له عند عمر يكافئه عليها حين استخلف (٢).

٤ ـ سعي أبي بكر لتخليص أسرى بدر من القتل ، رغم إصرار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على قتلهم ، حتى لقد نزلت الآيات في ذلك.

وهو أمر لا بد من أن تشكره عليه قريش مدى الحياة (٣).

قال الواقدي عن الأسرى : إنهم قالوا : لو بعثنا لأبي بكر ، فإنه أوصل قريش لأرحامنا ، ولا نعلم أحدا آثر عند محمد منه. فبعثوا إلى أبي بكر ، فأتاهم ، فكلموه.

فقال : نعم ، إن شاء الله ، لا آلوكم خيرا.

وانصرف إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وجعل يلينه ، ويفثؤه ، ويقول : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، قومك فيهم الآباء والأبناء ،

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ١ ص ٢٨٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢٧٤ وج ١٥ ص ٢٠ عنه ، وعن ابن إسحاق ، والبلاذري ، وطبقات الشعراء لابن سلام ص ٦٣ وراجع : البداية والنهاية ج ٣ ص ١٠٧ عن ابن هشام ، والبحار ج ٢٠ ص ١٣٥ و ١٣٨ ومناقب أهل البيت «عليهم‌السلام» للشيرواني ص ٣٣٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ٢٧٤ وج ١٥ ص ٢٠ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٤ ص ٣٩٣ و ٣٩٧ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٥٠٠ والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج ٢ ص ٦٢٨.

(٢) طبقات الشعراء لابن سلام ص ٦٣.

(٣) مصادر ذلك كثيرة ، فراجع هذا الكتاب : غزوة بدر ، فصل الغنائم والأسرى.

١٠٩

والعمومة ، والإخوان وبنو العم ، وأبعدهم عنك قريب فامنن عليهم ، منّ الله عليك ، أو فادهم يستنقذهم الله بك من النار ، فتأخذ منهم ما أخذت قوة للمسلمين ، فلعل الله يقبل بقلوبهم إليك ..

ثم قام فتنحى ناحية ، ولم يجب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ثم عاد إليه ، فقال له مثل مقالته الأولى ، وقال أيضا : لا تكن أول من يستأصلهم ، يهديهم الله خير من أن تهلكهم. فسكت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وتنحى أبو بكر ناحية ، ثم عاد إليه ، فأعاد عليه نفس الكلام (١).

٥ ـ ما معنى : أن يهنئ أبو سفيان عمر بن الخطاب بانتصار المشركين في أحد ، ويقول له : أنعمت عينا ، قتلى بقتلى بدر (٢).

وما معنى قول أبي سفيان لعمر آنئذ : إنها قد أنعمت يا ابن الخطاب ، فيقول عمر : إنها (٣).

٦ ـ إن خالد بن الوليد رأى عمر بن الخطاب في أحد ، وكان خالد في كتيبة خشناء ، فما عرف عمر أحد غيره ، قال خالد : فنكبت عنه ، وخشيت

__________________

(١) راجع : المغازي ج ١ ص ١٠٧ ـ ١٠٩ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٤ ص ١٧٣ و ١٧٤ وإمتاع الأسماع للمقريزي ج ٩ ص ٢٤٤.

(٢) المصنف للصنعاني ج ٥ ص ٣٦٦ وتفسير القرآن للصنعاني ج ١ ص ١٣٦ وإمتاع الأسماع للمقريزي ج ١ ص ١٧١.

(٣) تفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٤١٢ والأوائل لأبي هلال العسكري ج ١ ص ١٨٤ و ١٨٥ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٣١ وإمتاع الأسماع للمقريزي ج ١ ص ١٧١.

١١٠

إن أغريت به من معي أن يصمدوا له ، فنظرت إليه موجها إلى الشعب (١).

٧ ـ إن عمر قد أخبر أبا سفيان : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يزال على قيد الحياة ، رغم أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد نهى عن ذلك. فقال أبو سفيان لعمر : أنت أصدق عندي من ابن قميئة وأبر (٢).

فلماذا كان عمر أبرّ بأبي سفيان من ابن قميئة ، مع أن عمر كان في صفوف المحاربين له ، وابن قميئة كان يحارب معه ، وتحت لوائه؟!

وفي مقام وضع اللمسات الأخيرة على حقيقة موقف هذين الرجلين ، نقول :

قد يكون مما يثير الشبهة أيضا : توافق أبي بكر وعمر في حديثهما عن الذر المقاتل للمشركين ، والعنف الذي أظهراه في خصوص هذه الواقعة ، في حين اكتفى كل من عداهما ، ومنهم فاطمة وعلي «عليهما‌السلام» بالرد بالقول : بأن جوارهم جوار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو أنه لا يجير على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أحد ..

مع أننا لا نشاهد لدى هذين الرجلين طيلة حياتهما مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أي نشاط قتالي مميز ، أو أي أثر لنكاية كانت لهما في

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ١ ص ٢٩٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٢٣.

(٢) تاريخ الخميس ج ١ ص ٤٤٠ ووفاء الوفاء ج ١ ص ٢٩٤ والسيرة الحلبية ج ١ ص ٢٤٤ و ٢٤٥ وسيرة ابن إسحاق ج ٣ ص ٣٠٩ وتاريخ الأمم والملوك (ط الإستقامة) ج ٢ ص ٢٠٥ والكامل في التاريخ ج ٢ ص ١٦٠ والثقات ج ١ ص ٢٣٢ وراجع : شرح الأخبار ج ١ ص ٢٨٠ تفسير القرآن العظيم ج ١ ص ٤١٤ و ٤١٥.

١١١

المشركين. رغم حضورهما جميع المشاهد معه «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

بل ظهر منهما الكثير من موارد الضعف ، والوهن ، وقد فرا في مواطن كثيرة ، مثل أحد ، وقريظة ، وخيبر ، وحنين. وذات السلاسل وغير ذلك. وقعدا عن مبارزة الأبطال مثل عمرو بن عبدود ، ومرحب.

جواري جوار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وتقدم : أن أبا سفيان أصرّ على الحصول على جوار من أحد صحابة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. وأجابه المسلمون بأن أحدا لا يجير على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أو أن جوارهم جوار رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

وهذا يدل على أنهم فهموا : أن مطلوب أبي سفيان هو الجوار الملزم لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، والمقيد لحركته ، فهو المستهدف بهذا الجوار ، والمطلوب هو منعه به عن إجراء مقاصده حين يقتضي الأمر ذلك ..

وذلك يشير إلى مدى وقاحة هذا الرجل ، وقلة حيائه ورعونته ، حتى لقد أحرج بهذا الأمر أولئك الذين عملوا على منع القتل عن أسرى بدر حسبما قدمناه ، فما ظنه أبو سفيان أكسير الغلبة ظهر له أنه هو إكسير الهزيمة والخذلان ، والخزي والخسران ..

وقد اكد للناس سوء نوايا أبي سفيان في طلبه هذا أمران :

أحدهما : أنه حيث أجيب بتلك الأجوبة لم يبادر إلى توضيح مراده لأحد كان هناك ، ولم يقل لهم أنهم قد أخطأوا في فهم مقصوده.

الثاني : أنه لو كان يقصد حقن دماء الناس حقيقة لكان قد طلب من

١١٢

النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه أن يجعل الناس في جواره ، فإن ذلك يكفي لمنع المعتدين من مواصلة عدوانهم. فلماذا يدعو الآخرين ليجيروا الناس من رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! أليس لأجل أنهم اقترفوا ما يستحقون به العقوبة منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ويريد ان يخرجهم من ورطتهم تلك بهذه الطريقة؟! وإذا صح هذا الأمر فلماذا لا يعترف لنا بهوية المجرم وبحقيقة جرمه؟

ثم إنه إذا كان يعتقد : أن الجوار على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يعطي من يفعل ذلك وجاهة وعظمة ، كما هو الحال عند سائر الناس ، فهو في وهم كبير ، لأن هذا الأمر لا يجري فيما بين الأنبياء «عليهم‌السلام» ، وبين المؤمنين ، لأنه يستبطن الإعلان عن وجود خلل إيماني لدى من يفعل ذلك ، من حيث إنه يخطّئ نبيه في تصرفاته ، ويراه ظالما في موقفه ممن يجيره منه ، أو يرى أن ذلك النبي يعمل عملا مرجوحا ، ويترك ما ينسجم مع العفو والكرم ، وحسن الشيم ، ومع النبل والشمم ..

ولأجل هذا أو ذاك يبادر إلى الحد من قدرته على التصرف ، ومحاصرة قراراته ، ليمنعه من الغلط والشطط ..

وهذا الأمر مرفوض من الناحية الإيمانية ، لأنه تشكيك بالعصمة ، أو اتهام للنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في ميزاته وصفاته ، وأنها لا تصل إلى حد الكمال.

ولو كان أبو سفيان يفهم معنى الإيمان ، ويدرك ما له من تبعات وآثار ومسؤوليات لما أقدم على هذا الأمر المشين والمهين ..

١١٣

هل تجير الزهراء عليها‌السلام؟! :

ولم يكن أبو سفيان يرى للسيدة الزهراء «عليها‌السلام» ما يميزها عن غيرها أكثر من كونها امرأة كسائر النساء ، ولم يكن يرى لجوار النساء قيمة وأثرا .. ولكنه حين سدت في وجهه المذاهب لجأ إليها على أمل أن تستجيب لطلبه بسبب ما توهمه منها من غفلة عما يتنبه له الرجال المتمرسون ، والدهاة المجربون ، أو لعدم قدرتها ـ بزعمه ـ على إدراك الأمور وتقديرها بسبب قلة معرفتها بالسياسات ، وبأعراف الناس.

فإذا استجابت لطلبه ، فإنها سوف تحرج أباها ، وقد يوافق على طلبها من وجهة نظر عاطفية ، بسبب موقعها منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من ناحية النسب ، ومن ناحية المكانة والكرامة ..

وقد فوجئ برفضها القائم على أساس البرهان ، حيث قالت له : «إنما أنا امرأة». أي : ولا يحق للمرأة أن تتصدى لأمر كهذا بزعمك فلماذا تريد أن تدفعني إلى أمر لا تؤمن أنت به؟!

قد أجارت أختك :

ولكن أبا سفيان يستدرك الأمر ، ويقدم تبريرا لتصرفه هذا حين احتج عليها بإجارة زينب لزوجها أبي العاص بن الربيع ، وقد قبل «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ذلك منها.

فجاءه جواب الزهراء المعصومة «عليها‌السلام» ليفند قوله ، ويؤكد له أنها «عليها‌السلام» تدرك الفرق بين ما فعلته زينب ، وبين هذا الذي يطلبه هو منها ، فقالت كلمة واحدة ، كانت حاسمة ونهائية وهي : إنما ذاك إلى

١١٤

رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

إنها تريد أن تقول : إن زينب حين أجارت أبا العاص بن الربيع ، فإنما أرادت أن تمنع الناس من التعرض لأبي العاص ، إلى أن يبت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في أمره ، ويصدر عليه حكمه. ولم ترد أن تمنع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من إجراء حكم الله تعالى في حقه.

وهذا بالذات هو نفس ما فعلته أم هاني حين أجارت بعض من أهدر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» دمهم ، ولم تكن تعلم بذلك. كما أنها لم تعرف أن الذي يريد تنفيذ أمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو أخوها علي «عليه‌السلام».

فأرادت حفظ نفس أولئك الأشخاص من سائر أفراد الجيش إلى أن يرى فيهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» رأيه ، ويصدر عليهم حكمه كما سيأتي.

أما أبو سفيان فيريد منها أن تجير الناس ، ليمنع بذلك رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من مجازاة المعتدي ، ولتطلّ بذلك دماء الأبرياء من صبيان ونساء ، وضعفاء خزاعة .. وشتان ما بين الأمرين.

أخت الزهراء عليها‌السلام :

وعلينا أن لا ننسى : أن تعبير أبي سفيان عن زينب : بأنها أخت الزهراء «عليها‌السلام» إنما جاء وفق ما كان متداولا بين الناس ، من التعبير عمن تنشأ في بيت كافلها بعد أن مات ابوها الحقيقي ، فإنها تنسب إلى ذلك الكافل بعبارات البنوة ، وتضاف إلى أبنائه بتعابير الأخوة .. حيث يكون المقصود هو البنوة بالتربية ، وكذلك الأخوة.

١١٥

مري ابنك :

ولعل ما ذكرناه آنفا حول طلب أبي سفيان من فاطمة «عليها‌السلام» أن تجير بين الناس ، يغني عن التعليق على طلب أبي سفيان منها «عليها‌السلام» أن تأمر ابنها الحسن «عليه‌السلام» ، الذي كان بعمر الخمس سنوات ، أن يجير بين الناس ، فإن الكلام هنا هو نفسه الكلام هناك.

غير أننا نقول : إن علينا أن نضيف هنا ما يلي :

أولا : إن أبا سفيان يغري فاطمة بالإقدام على هذا الأمر بمنطق أن ذلك يجعل ولدها سيد العرب إلى آخر الدهر.

نعم ، وهذا هو منطق أهل الدنيا ، الذين يقيسون الأمور بمقاييس السمعة ، والشهرة ، والسيادة ، والمال ، والجاه ، وما إلى ذلك ..

وذلك هو منطق أبي سفيان ، لأنه من أهل الدنيا. وأما منطق العقل والدين ، والشرع ، ورضا الله تعالى والقيم الإنسانية ، والمشاعر النبيلة ، والمبادئ والخصال الحميدة ، ونحوها. فهو الذي تلتزم به فاطمة «عليها‌السلام» ، وتؤمن به ، وتنطلق في مواقفها منه. لأنها من أهل الدين والشرع ، والقيم الإنسانية ، والعقل والأخلاق الفاضلة ، والمزايا النبيلة ..

ثانيا : إن الإمام الحسن «عليه‌السلام» كان كبيرا في نفسه وفق مقاييس أهل العقل والحكمة والإيمان ، وقد بايعه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في بيعة الرضوان ، وأشهده على كتاب ثقيف ، وأخرجه يوم المباهلة بأمر من الله ، وجعله شريكا في الدعوة ، ويتحمل مسؤولية إثباتها .. وغير ذلك ..

ولكن هذه لم تكن نظرة أبي سفيان إلى الإمام الحسن «عليه‌السلام» ، بل هو ينظر إليه على أنه طفل كسائر أطفال الناس ، ويريد أن يستفيد منه

١١٦

كوسيلة يصل من خلالها إلى مآربه ، فيحرج به رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويثير الشبهات والإشكالات حول صحة وسلامة ما يتخذه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» من مواقف ..

ولأجل ذلك خاطبته الزهراء «عليها‌السلام» بما ينسجم مع نظرته هذه ، وقالت له : ما بلغ ابني أن يجير بين الناس.

ثم تقدمت خطوة أخرى في بيانها ، لتاكيد بطلان منطق أبي سفيان فقالت : «ما يدري ابناي ما يجيران من قريش».

فإن هذه الكلمة أيضا قد صدرت وفق منطق أبي سفيان الذي يعتبر الحسنين «عليهما‌السلام» مجرد طفلين صغيرين ، لا يحملان في نفسيهما أية ميزة على غيرهما.

فهما في نظره لا يملكان من التعقل ما يكفي لإدراك معنى ما يتفوهان به ، فهما إذن غير قادرين على إدراك معاني الكلمات ، فضلا عن أن يقصدا معانيها ، ليصبح لتلك المعاني تحقق في مقام التخاطب ، يصلح لترتيب الآثار عليه ، والمطالبة به ، والإشارة إليه. فهو من قبيل القضية السالبة بانتفاء موضوعها.

هما صبيان :

قال الحلبي : «قول فاطمة في حق ابنيها : إنهما صبيان ليس مثلهما يجير هو الموافق لما عليه أئمتنا ، من أن شرط من يؤمّن أن يكون مكلفا.

وأما قولها : وإنما أنا امرأة ، فلا يوافق عليه أئمتنا ، من أن للمرأة والعبد أن يؤمّنا ؛ لأن شرط المؤمّن عند أئمتنا أن يكون مسلما ، مكلفا ، مختارا. وقد

١١٧

أمّنت زينب بنت النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» زوجها أبا العاص ابن الربيع ، وقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : قد أجرنا من أجرت.

وقال : المؤمنون يد على من سواهم ، يجير عليهم أدناهم ..».

إلى أن قال : «إن أم هاني أجارت ، وإنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال لها : أجرنا من أجرت يا أم هاني.

لكن سيأتي : أن هذا كان تأكيدا للأمان الذي وقع منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لأهل مكة ، لا أمان مبتدأ» (١).

ونقول :

أولا : إننا نعتقد : أن جواب الزهراء «عليها‌السلام» الذي يشير إلى أن الحسنين «عليهما‌السلام» لا يجيران ، وبالنسبة لنفسها أيضا ، قد جاء على سبيل الجري على ما كان يراه أبو سفيان ، ومن هم على شاكلته ، فإنه إذا كان يرى : أن المرأة لا جوار لها ، ويرى : أن الحسنين «عليهما‌السلام» كانا صبيين لا يجوز جوار هما عنده ، فلماذا يريد من هذه المرأة ، ومن ذلك الصبي أن يجير بين الناس؟!

ثانيا : إن للجوار مسؤولياته وتبعاته ، لأن المجير يتكفل بمن يجير ، ويتحمل أعباء وتبعات ما صدر منه .. ولم يكن ذلك ممكنا بالنسبة لفاطمة والحسنين «عليهم‌السلام» ، فهناك قتلى وتعديات وظلم وقهر.

وقريش تنكر ذلك وتجحده ، وتمتنع عن الالتزام بأدنى شروط الجوار .. لأنها ترفض تحمل ديات المقتولين ، أو البراءة من حلف من تعدى ونقض العهد ..

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٣.

١١٨

فما معنى : أن تتحمل فاطمة والحسنان «عليهم‌السلام» هذه الديات عن أولئك المجرمين؟!

وما معنى : حفظ مرتكب الجريمة ، وصيانته عن التعرض للجزاء والقصاص العادل؟!

ثالثا : إن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد قبل من الحسنين «عليهما‌السلام» البيعة في الحديبية (١) ، وقد كان سنهما لا يتجاوز السنتين أو الثلاث ..

وأشهد هما على كتاب ثقيف (٢).

قريش في مأزق :

وقد بينت عبارة السيدة الصديقة فاطمة الزهراء «عليها‌السلام» : «ما يدري ابناي ما يجيران في قريش» : أن أبا سفيان يتستر على امر كان معروفا لدى الناس .. وهو أن قريشا في مأزق ، ويريد بهذا الجوار إخراجها منه. وإن استخدامه عبارات غائمة وعامة ، لا يجدي في تعمية الأمور ..

__________________

(١) الإحتجاج ج ٢ ص ٢٤٥ والبحار ج ٥٠ ص ٧٨ عنه ، والإرشاد للمفيد ص ٣٦٣ وتفسير القمي ج ١ ص ١٨٤ و ١٨٥ وينابيع المودة ص ٣٧٥ وترجمة الإمام الحسين لابن عساكر (بتحقيق المحمودي) ص ١٥٠ والمعجم الكبير للطبراني وحياة الصحابة ج ١ ص ٢٥٠ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ٤٠ والعقد الفريد ج ٤ ص ٣٨٤.

(٢) الأموال لأبي عبيد ص ٢٨٩ و ٢٩٠ وراجع : التراتيب الإدارية ج ١ ص ٢٧٤ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ١ ص ٢٨٤ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٥٨ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٣٧٣.

١١٩

فالمطلوب هو تحصيل جوار لفئة من قريش ترى نفسها في دائرة الخطر ، ولكن أبا سفيان يحاول أن يتذاكى عليهم ، فيطلق كلامه على شكل عمومات ، فيطلب من هذا أو ذاك أن يجير بين الناس. وهذه الكلمة تنطبق على القرشي وعلى غيره ..

كلمي عليا :

ونستطيع أن نلمح في طلب أبي سفيان من السيدة الصديقة الطاهرة المعصومة فاطمة الزهراء «عليها‌السلام» أن تكلم عليا صلوات الله وسلامه عليه في أمر الجوار : أن أبا سفيان كان يحسب لعلي «عليه‌السلام» حسابا خاصا به .. فهو يقترب في طريقة تعامله معه من طريقة تعامله مع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» .. فكما حاول أن يستفيد من موقع أم حبيبة زوجة الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، حاول أيضا أن يستفيد من موقع فاطمة لدى علي «عليهما‌السلام» فطلب منها أن تكلم هي عليا ..

ولكنها رفضت طلبه ، لأنه لو كان يرى أن طلبه طلب حق ، أو كان فيه أي أثر للرجحان ، لبادر إلى مطالبة علي «عليه‌السلام» بل والنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بالعمل بهذا الحق ، والأمر الراجح.

ولكنه أراد أن يحصل على ما يريد بأساليب الضغط العاطفي ، أو من خلال المراعاة لدواعي النسب ، وفي غير ذلك من أمور تقع خارج دائرة الإنصاف ، والحكمة ، والتعقل ، ورعاية الصالح العام ، والعمل بما يرضي الله تبارك وتعالى ، بل هي خارج دائرة الإلتزام بالمعاني الإنسانية والأخلاقية أيضا ..

١٢٠