الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-192-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٥

وروى محمد بن عمر ، عن خزيمة بن ثابت قال : «حضرت مؤتة ، فبارزني رجل منهم يومئذ ، فأصبته وعليه بيضة له فيها ياقوتة ، فلم تكن همتي إلا الياقوتة ، فأخذتها. فلما رجعنا إلى المدينة أتيت بها رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فنفلنيها ، فبعتها زمن عثمان بمائة دينار ، فاشتريت بها حديقة نخل» (١).

قال في البداية : «وهذا يقتضي أنهم غنموا منهم ، وسلبوا من أشرافهم ، وقتلوا من أمرائهم» (٢).

وروى البخاري عن خالد ، قال : «لقد اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف ، وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية» (٣).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٩ والسنن الكبرى ج ٦ ص ٣٠٩ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٢ و ١٥٦ وراجع : كنز العمال ج ١٠ ص ٥٥٥ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٩٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٣٥٩ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٤٦٨ (لكن بدل زمن عثمان زمن عمر).

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٢ و ١٥٦ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٣٨٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٧٨.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٢ وفي هامشه قال : أخرجه البخاري ج ٧ ص ٥٨٨ ، وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٧ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٣ والإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ١ ص ٤٠٨ والإصابة ج ١ ص ٤١٤ وج ٢ ص ٢١٨ والمصنف لابن أبي شيبة ج ٤ ص ٥٨٢ وج ٧ ص ٥٧٩ وج ٨ ص ٥٤٨ والمعجم الكبير ج ٤ ص ١٠٤ ورياض الصالحين ليحيى بن شرف النوري ص ٧١٧ والطبقات الكبرى ج ٤ ص ٢٥٣ وج ٧ ص ٣٩٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٢٤٨ و ٢٤٩ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨١ و ٢٨٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦٥ و ٤٧٢.

٦١

وهذا يقتضي أنهم أثخنوا فيهم قتلا ، ولو لم يكن كذلك لما قدروا على التخلص منهم ، إذ كان المسلمون ثلاثة آلاف ، والمشركون أكثر من مائتي ألف ، وهذا وحده دليل مستقل (١).

وقال الحلبي : وفي رواية : أصاب خالد منهم مقتلة عظيمة ، وأصاب غنيمة.

وهذا لا يخالف ما يأتي أن طائفة منهم فروا إلى المدينة لما عاينوا كثرة جموع الروم ، فصار أهل المدينة يقولون لهم : أنتم الفرارون (٢).

وقد ذكر ابن إسحاق : أن قطبة بن قتادة العذري ، الذي كان على ميمنة المسلمين حمل على مالك بن زافلة ، ويقال : ابن رافلة ، وهو أمير أعراب النصارى ، فقتله ، وقال قطبة يفتخر بذلك :

طعنت ابن رافلة ابن الإراش

برمح مضى فيه ثم انحطم

ضربت على جيده ضربة

فمال كما مال غصن السلم

وسقنا نساء بني عمه

غداة رقوقين سوق النعم

وهذا يؤيد ما نحن فيه ، لأن من عادة أمير الجيش إذا قتل أن يفر أصحابه ، ثم إنه صرح في شعره بأنهم سبوا من نسائهم ، وهذا واضح فيما

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٢ و ١٥٦ وراجع : السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٧٢ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨٥.

(٢) السيرة الحلبية ج ٢ ص ٦٨ وراجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٤٩ تاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٢٣٠ وراجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٦ وعن السيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٧١ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨٤.

٦٢

ذكرناه (١).

وعن أنس قال : نعى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو على المنبر زيدا ، وجعفرا ، وابن رواحة للناس يوم أصيبوا قبل أن يأتيه خبرهم ، فقال :

«أخذ الراية زيد فأصيب ، ثم أخذها جعفر فأصيب ، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب ، وعيناه تذرفان ، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله ، ففتح الله عليهم» (٢).

وروى النسائي ، والبيهقي ، عن أبي قتادة قال : «بعث رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» جيش الأمراء ، فانطلقوا فلبثوا ما شاء الله ، فصعد رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» المنبر ، فنودي : الصلاة جامعة. فاجتمع الناس إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال :

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٧٢ و ٤٧٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٩ ص ٣٣٧ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨٥ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٣٥.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٣ عن البخاري والبيهقي ، وفي هامشه : عن البخاري ج ٧ ص ٩٢ وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٢ ومسند أحمد ج ٣ ص ١١٣ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٨ ص ١٥٤ ومستدرك الحاكم ج ٣ ص ٤٢ وطبقات ابن سعد ج ٤ ق ١ ص ٢٥ ونيل الأوطار ج ٤ ص ٩٦ وراجع : المناقب لابن شهر آشوب ج ١ ص ٩٤ وأحكام الجنائز ص ١٦٦ وعن صحيح البخاري ج ٥ ص ٨٧ وتحفة الأحوذي ج ٨ ص ١١٣ وج ١٠ ص ٢٣٣ والكامل لابن عدي ج ٢ ص ٢٧٦ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦٣.

٦٣

«أخبركم عن جيشكم هذا. إنهم انطلقوا فلقوا العدو فقتل زيد شهيدا ، فاستغفر له. ثم أخذ اللواء جعفر فشدّ على القوم حتى قتل شهيدا ، فاستغفر له ، ثم أخذه خالد بن الوليد ، ولم يكن من الأمراء ، هو أمر نفسه».

ثم قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «اللهم إنه سيف من سيوفك فأنت تنصره». فمن يومئذ سمي خالد : «سيف الله» (١).

صمود ونصر ، أو مجرد انحياز :

فاتضح مما تقدم : أن سياق حديث هؤلاء يسير باتجاه الإيحاء بأن الذي كان في مؤتة هو إما الانحياز والمحاشاة ، أو النصر والفتح .. ثم يصرحون بعدم صحة الأول ، ويؤكدون على صحة الثاني ، كما رأينا ..

غير أننا نقول :

إن هؤلاء الناس أنفسهم قد ساقوا لنا طائفة من الدلائل والشواهد على أن الأمر لم يكن كما زعموا ، وإن كان ربما يلاحظ في بعضه سعي لحفظ

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٣ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٧ والكامل في التاريخ ج ٢ ص وأحكام الجنائز ص ٣٣ وفضائل الصحابة ص ١٨ و ٥٣ وعن مسند أحمد ج ٥ ص ٢٩٩ و ٣٠١ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٥٦ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٩٤ والمصنف ج ٨ ص ٥٤٦ والسنن الكبرى ج ٥ ص ٤٨ و ٦٩ و ٧٧ وصحيح ابن حبان ج ١٥ ص ٥٢٣ وكنز العمال ج ١٠ ص ٣٨٧ و ٥٥٦ والطبقات الكبرى ج ٧ ص ٣٩٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ١٧ وج ١٦ ص ٢٣٨ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٢٠٩ وج ٤ ص ٦٠ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢٢ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦٦.

٦٤

ماء الوجه بطريقة أو بأخرى ..

كما أن نفس تلك النصوص التي أرادوا منها أن تدلل على صحة ما قالوه وتؤيده قد جاء أكثرها عاجزا عن ذلك ، كما سيتضح إن شاء الله تعالى.

تهافت بلا مبرر :

إن هناك العديد من الموارد قد تخالف ما سبق وقد ظهر فيها أيضا التهافت حتى في الرواية الواحدة ، فلاحظ ما يلي :

١ ـ حدث رجل من بني مرة ، كان في الجيش. قيل له : إن الناس يقولون : إن خالدا انهزم من المشركين.

فقال : لا والله ، ما كان ذلك. لما قتل ابن رواحة ، نظرت إلى اللواء قد سقط ، واختلط المسلمون والمشركون ، فنظرت إلى اللواء في يد خالد منهزما ، واتبعناه فكانت الهزيمة (١).

٢ ـ ويروي الواقدي عن محمد بن صالح ، عن رجل من العرب عن أبيه : أنه لما قتل ابن رواحة انهزم المسلمون أسوأ هزيمة رأيتها قط ، في كل وجه ، ثم تراجعوا ، وكان ثابت بن أقرم قد أخذ اللواء .. ثم أعطاه لخالد «فأخذه خالد ، فحمله ساعة ، وجعل المشركون يحملون عليه ، فثبت حتى تكركر المشركون ، وحمل بأصحابه ، ففض جمعا من جمعهم ، ثم دهمه منهم بشر كثير ، فانحاش المسلمون ، فانكشفوا راجعين» (٢).

__________________

(١) المغازي ج ٢ ص ٧٦٢ و ٧٦٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٨ ص ٨٧.

(٢) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٠ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٢ والبحار ج ٢١ ص ٦٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ١٥ وج ١١ ص ١٠٨.

٦٥

قال ابن إسحاق : ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان ، فقال : يا معشر المسلمين ، اصطلحوا على رجل منكم.

فقالوا : أنت.

قال : ما أنا بفاعل.

فاصطلح الناس على خالد بن الوليد (١).

وروى الطبراني عن أبي اليسر الأنصاري ، قال : أنا دفعت الراية إلى ثابت بن أقرم لما أصيب عبد الله بن رواحة ، فدفعت إلى خالد.

وقال [له ثابت بن أقرم] : أنت أعلم بالقتال مني (٢).

وعند الواقدي : أنت رجل سن ، وقد شهدت بدرا.

زاد الحلبي : «فقال له خالد : أنت أحق به مني ، لأنك ممن شهد بدرا ، ثم أخذه خالد ومانع القوم ، وثبت ، ثم انحاز كل من الفريقين عن الآخر من غير هزيمة على أحدهما» (٣).

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٣ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٢ والسيرة النبوية ج ٤ ص ٢٧ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٥٩ والثقات ج ٢ ص ٣٣ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢١ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٧٩ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٣٤ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٦٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦٣ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٠.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٠ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٧ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٥٧ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٩٤ والمعجم الأوسط ج ٢ ص ١٧٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ١١ ص ١٠٦ وعن أسد الغابة ج ١ ص ٢٢٠.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٧.

٦٦

٣ ـ وعن ابن كعب بن مالك قال : حدثني نفر من قومي حضروا يومئذ ، قالوا : لما أخذ خالد اللواء انكشف بالناس ، فكانت الهزيمة ، وقتل المسلمون ، واتبعهم المشركون ، فجعل قطبة بن عامر يصيح : يا قوم ، يقتل الرجل مقبلا أحسن من أن يقتل مدبرا ، يصيح بأصحابه ، فما يثوب إليه أحد ، هي الهزيمة.

ويتبعون صاحب الراية منهزما (١).

٤ ـ وعن أبي هريرة : لما قتل ابن رواحة ، انهزم المسلمون ، فجعل خالد يدعوهم في أخراهم ، ويمنعهم عن الفرار ، وهم لا يسمعون ، حتى نادى قطبة بن عامر : أيها الناس ، لأن يقتل الرجل في حرب الكفار ، خير من ان يقتل حال الفرار ، فلما سمعوا كلام قطبة تراجعوا (٢).

طريق جمع فاشل :

وقد حاول بعضهم : أن يجمع بين هذه الروايات المختلفة والمتخالفة ، فقال :

«هذا لا يخالف ما يأتي من أن طائفة منهم فروا إلى المدينة لما عاينوا كثرة جموع الروم ، فصار أهل المدينة يقولون لهم : أنتم الفرارون» (٣).

قال في البداية : لعل طائفة منهم فروا لما عاينوا كثرة جموع العدو ، على ما ذكروه مائتي ألف ، وكان المسلمون ثلاثة آلاف ، ومثل هذا يسوغ الفرار.

فلما فر هؤلاء ثبت باقيهم ، وفتح الله عليهم ، وتخلصوا من أيدي

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤٩ ص ٣٣٧.

(٢) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٢.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٨ وراجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٤٩.

٦٧

أولئك ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، كما ذكره الزهري ، وموسى بن عقبة ، والعطاف بن خالد ، وابن عائذ.

وحديث عوف بن مالك السابق يقتضي أنهم غنموا منهم ، وسلبوا من أشرافهم ، وقتلوا من أمرائهم.

وقد تقدم فيما رواه البخاري : أن خالدا قال : «اندقت في يدي تسعة أسياف الخ ..» ، يقتضي أنهم أثخنوا فيهم قتلا ، ولو لم يكن كذلك لما قدروا على التخلص منهم ، وهذا وحده دليل مستقل (١).

وقال الصالحي الشامي : أكثر الآثار تدل : على أن المسلمين هزموا المشركين ، وفي بعضها أن خالدا انحاز بالمسلمين ، وقد تقدم بيان ذلك.

قال الحافظ : ويمكن الجمع بأن يكون المسلمون هزموا جانبا من المشركين ، وخشي خالد أن يتكاثر الكفار عليهم. فقد مر أنهم كانوا أكثر من مائتي ألف ، فانحاز عنهم حتى رجع بالمسلمين إلى المدينة (٢).

وقال الحافظ ابن كثير في البداية : يمكن الجمع بأن خالدا لما انحاز بالمسلمين بات ، ثم أصبح وقد غير بقية العسكر كما تقدم ، وتوهم العدو أنهم قد جاءهم مدد ، حمل عليهم خالد حينئذ فولوا فلم يتبعهم ، ورأى الرجوع بالمسلمين مع الغنيمة الكبرى (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٦ وراجع : البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٤٩ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٢٩٥ (وفيه أنهم أكثر من مائة ألف بدل مائتي ألف).

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٦ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٩٥ (وفيه أنهم أكثر من مائة ألف بدل مائتي ألف).

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٨ و ١٥٩ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٤.

٦٨

وقال الواقدي : «فانكشفوا منهزمين ، فقتلوا مقتلة عظيمة ، لم يقتلها قوم» (١).

غير أنه سيتضح : أن هذه التمحلات بعيدة جدا عن الواقع ، وأن من نسب إليهم القول بحصول النصر والفتح على يد خالد ومن معه ، لا تصح النسبة إلى معظمهم ، أو لا يصح الاستدلال بقولهم .. فنسبة ذلك إليهم ما هو إلا تدليس ظاهر ، من ماكر ماهر.

والذين نسب إليهم ذلك هم ـ كما زعموا ـ أبو عامر ، وأبو هريرة ، والزهري ، وعوف بن مالك ، وأنس ، وابن عائذ ، وعروة ، وأبو سعيد الخدري ، وعطاف بن خالد ، وابن عقبة ..

وسيتضح فيما يلي مطالب عدم صحة ذلك ، إلا بالنسبة لبضعة أفراد لا يصل عددهم إلى عدد أصابع اليد الواحدة. بل إن بعضهم قد روى العكس ، كما سنوضحه فيما يلي :

حديث جابر وخزيمة :

ورد في حديث جابر كلام عن اغتنام بعض أمتعة المشركين ، وأن أحدهم غنم خاتما ، فجاء به إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فنفله إياه (٢).

بالإضافة إلى حديث الياقوتة التي غنمها خزيمة بن ثابت ، فنفله إياها

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٤ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ١٥ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥١.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٢ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٨.

٦٩

رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١) أيضا ..

وكلا الحديثين غير مفيد ، وذلك لما يلي :

١ ـ إنه لو كان هناك نصر وفتح ، وغنائم في مؤتة ، فلا بد أن يقسّم في ساحة المعركة ، بعد انتهاء الحرب ، فما معنى أن يبقى ذلك الخاتم مع ذلك الرجل إلى المدينة ، حتى يعرضه على رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فينفله إياه؟!

ولماذا لم يعترض رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على ذلك الرجل ، لأنه احتفظ بذلك الخاتم إلى هذا الوقت؟

ولماذا لم يسأله عن السبب في أنه لم يعلم به أمير الجيش حين اقتسام الغنائم؟!

٢ ـ إن رواية خزيمة تصرح بأن خزيمة قد قتل صاحب الياقوتة ، وسلبه إياها ، فهو من السلب الذي حكم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنه للقاتل ، وقد كان هذا الأمر معروفا لدى الناس ، كما ظهر من قصة عوف بن مالك مع خالد. فما معنى مراجعة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في الياقوتة ، لينفله إياها.

٣ ـ إن الحرب في مؤتة لم تكن عابرة ، وبلا جهد وجهاد ، من قبل جيش المسلمين ، حتى لو كان هذا الجيش قد انهزم في نهاية الأمر متابعة منه لخالد بن الوليد حامل لوائه.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٢ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٩ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٥٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٣٥٩ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٤٨٦.

٧٠

وقد ذكروا : أن ذلك الجيش بقي سبعة أيام يقاتل أعداءه إلى أن استشهد قادته الثلاثة. ومن الطبيعي أن يحصل بعضهم على بعض السلب ممن كانوا يقتلونهم من أفراد جيش العدو .. ثم كانت الهزيمة بعد ذلك على يد خالد ، ولم يكن هناك اقتسام لغنائم ، فجاء أولئك الأفراد ببعض ما حصلوا عليه إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ولعل قصة جابر ، وخزيمة قد جاءت على هذا السياق.

٤ ـ إن رواية خزيمة نفسها تصرح بالهزيمة ، فقد جاء فيها ـ حسب رواية البيهقي ـ قوله : «فأخذتها ، فلما انكشفنا رجعنا إلى المدينة الخ ..» (١).

فما معنى الاستدلال بهذه الرواية على صمودهم ، وعلى حصول النصر والفتح لهم؟!

حديث عوف بن مالك :

وجاء في حديث عوف بن مالك الأشجعي : أن أحدهم قد غنم فرس وسلاح أحد المشركين.

ونقول :

١ ـ إن هذا أيضا لا يدل على أنه قد غنم ذلك بعد استشهاد القادة ، بل ظاهر الرواية : أن ذلك قد حصل بمجرد نشوب الحرب ، وبمجرد التقاء المسلمين بجموع الروم.

__________________

(١) راجع : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٦ وراجع : شرح النهج ج ١٤ ص ٢٧٥ وكنز العمال ج ١٠ ص ٥٥٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٣٥٩ وج ٢٤ ص ٣٩٧ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٤٨٦.

٧١

٢ ـ إن هذا الحديث مرفوض جملة وتفصيلا ، فإنه يكاد يكون صريحا في ادّعاء : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد تناقض في تصرفاته ، إذ إنه إذا كان ـ كما يزعمون ـ قد خطّأ خالدا في رأيه الأول ، فكيف صح أن يعود إلى تصويبه أخيرا. فهل يصح تصويب الخطأ؟!

قال الصالحي الشامي : إنما رد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» السلب إلى خالد بعد الأمر الأول بإعطائه للقاتل نوعا من النكير ، ودعا له ، لئلا يتجرأ الناس على الأئمة.

وكان خالد مجتهدا في صنيعه ذلك ، فأمضى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» اجتهاده لما رأى في ذلك من المصلحة العامة ، بعد أن خطّأه في رأيه الأول.

ويشبه أن يكون النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عوّض المددي من الخمس الذي هو له ، وأرضى خالدا بالصفح عنه ، وتسليم الحكم له في السلب (١).

ونقول :

ويلاحظ عليه : أنه يعترف بخطأ خالد في أخذه السلب من صاحبه ، فردّه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عليه ، ثم رأى أن من المصلحة أن يتراجع عن حكمه هذا. ويسترجع السلب من صاحبه مرة أخرى ..

ثم لما رأى شناعة هذا الفعل ادّعى من عند نفسه : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد عوّض ذلك المددي من الخمس!!

ولا ندري من أين جاء بهذا الادعاء التاريخي الخيالي والموهوم ، الذي

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٩.

٧٢

يلزم منه نسبة السفه إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! فإنه إذا كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد عوضه من الخمس ، فلماذا يأخذ منه مالا هو له ، وحتى يجب عليه أن يعوض صاحبه عنه؟!

فإن قيل : إن السبب هو التأديب.

أجيب : بأن التأديب لا يحصل بهذا النحو من التصرف العبثي.

٣ ـ إنه إذا كان خالد بن الوليد هو الذي أمّر نفسه ، كما هو مجمع عليه عند المؤرخين ؛ وكما صرحت به بعض الروايات.

فما معنى أن يغضب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ويقول لعوف :

«هل أنتم تاركون أمرائي لكم صفوة الخ ..» فإن خالدا لم يكن أميرا من قبله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وإذا كان الناس قد رضوا به أميرا ، فعليه (أي على خالد) أن يلتزم بالحدود التي فوضوه التصرف فيها ..

٤ ـ ما معنى أن ينسب إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أنه قال عن أمرائه «لكم صفوة أمرهم ، وعليهم كدره»؟! فهل ذلك يعني أنه لا يحق لأحد أن يعترض على الأمير إذ حكم بغير ما أنزل الله؟! وتصرف على خلاف ما يريده الله؟ وما جاء في سنة رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

كما هو الحال في هذا المورد بالذات؟!

٥ ـ وأي صفو ظهر من خالد هنا ، وهو يظلم شخصا حقه الذي قرره له الشرع الشريف وسنه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! .. بل هو يصر على سلبه حقه هذا حتى بعد أن أخبره بأن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» هو الذي سن وقرر ، وقضى بأن السلب للقاتل .. فهل هذا من صفو الأمر الذي يعود نفعه للناس؟!

٧٣

وهل يصح توجيه اللوم والتأنيب إليهم ، إذا لم يرضوا بهذا التعدي؟!

٦ ـ هل يمكن أن يتخيل أحد أن السلب إذا كان كثيرا فليس للقاتل أن يأخذه ، وأن السلب القليل فقط هو الذي يكون له؟!

٧ ـ هل وعد عوف لخالد : بأنه سيعرّفه الحكم الصحيح عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ثم تذكيره إياه بهذا الوعد ، يستدعي هذا الغضب من النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟! ويوجب إنزال هذه العقوبة به؟!

٨ ـ حتى لو كان عوف قد تجاوز الحد مع خالد ، فهل هذا يبطل حقه بالسلب؟! وهل عقوبة من يتجاوز الحد بهذا النحو هي دفع هذه الغرامة المالية؟! أم أن العقوبة هي الحبس أو التعزير ، أو ما إلى ذلك؟!

خالد يتحدث عن نفسه!!

وحديث خالد عن بطولاته أيضا ، حتى إن سبعة أسياف قد اندقت بيده ، ولم تثبت بيده إلا صفيحة يمانية ـ إن ذلك ـ كله لا مجال لقبوله ، وذلك لما يلي :

١ ـ جاءت الأخبار الكثيرة لتؤكد أن خالدا قد فر ، بل كان أول الفارّين.

٢ ـ إنه إنما يجرّ بذلك النار إلى قرصه ، ويسعى إلى تبرئة نفسه. ولا تقبل شهادة الإنسان لنفسه في القضاء ، إلا إذا كان نبيا أو وصي نبي ، أو ممن جاء الوحي الإلهي بقبول أقوالهم ، وأخبر الله عن صدقهم ..

وأما في غير القضاء ، فلا بد أن تثبت وثاقة من يتحدث عن نفسه ، وتقوم الشواهد على صدقه ، وليس خالد من هؤلاء ، فإنه قاتل مالك بن نويرة ،

٧٤

والزاني بامرأته ، والمتحامل على أهل البيت «عليهم‌السلام» ، والمشارك في مهاجمة بيت الزهراء «عليها‌السلام» إلى غير ذلك من موبقات ..

٣ ـ إنه لم يصرح بالوقت الذي ظهرت فيه بطولاته هذه ، فهل كانت بعد استشهاد القادة الثلاثة؟! أو كانت قبل ذلك؟!

فإن كانت في الأيام السبعة التي سبقت استشهادهم ، فلا تفيد في دفع التهمة الواردة في النصوص ، والدالة على أنه حين استشهد القادة آثر الفرار على الثبات ..

٤ ـ لعل البطولات التي تحدث عنها خالد قد كانت في تلك القرية التي هاجموها حين عودتهم من مؤتة ، وكان بها حصن أيضا ، فافتتحوه ، وقتل خالد من كان فيه من المقاتلين ، كما سنرى ..

حديث قتل ابن رافلة :

والحديث القائل : إن قطبة بن قتادة العذري قد قتل مالك بن رافلة ، لا يدل أيضا على مطلوبهم ، وذلك لما يلي :

١ ـ من الذي قال : إن قتل ابن رافلة قد كان بعد استشهاد القادة الثلاثة ، فإن القتال قد دام سبعة ايام قبل استشهادهم حسبما استظهرناه. فلعله قتله في تلك الأيام السابقة.

٢ ـ إنهم قد ذكروا : أن الجيش قد هاجم ـ وهو عائد ـ قرية لها : حصن ، فحاصروهم حتى فتحوا ذلك الحصن. وقتل خالد مقاتلتهم (١).

__________________

(١) تاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥١ و ١٥٥ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٩٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ١٦.

٧٥

فلعل ابن رافلة قد قتل في هذه المعركة.

٣ ـ أما حديث السبي الوارد في هذه الرواية ، فأمره أكثر إشكالا ، وحديثه أكثر اعتلالا ، واختلالا ، فإنهم إذا كانوا قد سبوا أحدا فلماذا اختص ذلك ببنات عم أمير أعراب النصارى؟! ولماذا لم تسب آلاف النسوة اللواتي كن مع ذلك الجيش العظيم ، الذي يدّعون أنه قد هزم على يد خالد وجيشه؟! حيث لا بد أن تغص المدينة بهذا السبي الهائل!!

على أن الأهم من ذلك هو كيف يترك ذلك الجيش بنات عم أعظم أمراء نصارى الأعراب تسبين ، ثم لا يلحق بالمسلمين لتخليصهن؟

٤ ـ إن الشعر المذكور في الرواية يدّعي : أن سبي بنات عم ابن رافلة إنما حصل في الغارة على موضع سماه ب «رقوقين» وقد بحثت عن هذا الاسم ، فلم أجد فيما توفر لدي من مصادر شيئا يفيد في تحديد معناه سوى أنه اسم موضع.

وقال الصالحي الشامي : «لم أجد له ذكرا فيما وقفت عليه من أسماء الأماكن» (١).

ومن الذي قال : إن هذا الموضع كان في مؤتة؟!

٥ ـ إن ما ذكره من أن ابن رافلة كان أمير أعراب النصارى ، لا يتناسب مع ما يذكرونه من أن الحارث ابن أبي شمر الغساني كان هو الأمير الأكبر في تلك المنطقة ، وكان عاملا لقيصر ملك الروم ..

إلا أن يقال : إنه كان أميرهم في القتال في تلك المعركة ..

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٦٥.

٧٦

إخبار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن الشهداء :

أما ما ذكروه : من أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد وصف المعركة للمسلمين ، ونعى «صلى‌الله‌عليه‌وآله» زيدا ، ثم جعفرا ، ثم ابن رواحة ، ثم أخبر عن أخذ خالد للراية ، ووصفه بأنه : سيف من سيوف الله ، ففتح الله عليهم.

نقول فيه :

١ ـ قد تقدم : أن جعفرا كان هو الأمير الأول في مؤتة ، وهذه الروايات تذكر تقدم زيد عليه ، وهذا يشير إلى وجود تلاعب وتصرف في هذا الأمر ، فلا يؤمن أن يكون التلاعب قد نال مواضع أخرى في الرواية أيضا.

٢ ـ إذا كان خالد سيفا من سيوف الله ، وله هذه الشجاعة الفريدة ، والهمة العتيدة ، وهذا الأثر العظيم ، فلماذا لم يوله القيادة معهم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قيادة الجيش من أول الأمر؟! بل هو لم يوله أصلا؟! ..

فهل يعقل أن يكون «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد فرط في أمر المسلمين ، فولى من ليس أهلا ، وترك هذا الرجل العظيم؟!! مع علمه بموقعه ، وبأثره ، كما ظهر من وصفه له بأنه سيف من سيوف الله؟!!

أم أنه ـ والعياذ بالله ـ قد أراد التخلص من القادة الثلاثة بصورة غادرة وماكرة ، لأسباب عجز التاريخ عن الإفصاح عنها؟! وهل يصح هذا المكر والغدر من أفضل الأنبياء وأشرف الخلق؟! وهل يكون مسلما أو مؤمنا من يعتقد بالنبي أنه ـ والعياذ بالله ـ يغدر ويمكر؟!

ومن الذي قال : إن هذا الموضع قد كان في مؤتة؟!

٣ ـ وإذا كان «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لا يميز بين من هو أهل للقيادة ، وبين من ليس أهلا لها ، فالأمر يصبح أعظم وأدهى ، لما يتضمنه من الطعن

٧٧

في عقل وإدراك النبي الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، نعوذ بالله من الخطأ والزلل ، في الفكر والقول ، والعمل.

٤ ـ وأما الحديث عن أن خالدا هو سيف الله ، فستأتي الإشارة إلى أنه غير صحيح إن شاء الله تعالى.

٥ ـ وأي فتح كان على يد خالد سوى الفرار القبيح والمرزي ، الذي استحق به هو ومن معه أن يحثو أهل المدينة التراب في وجوههم ، وأن يقاطعوهم ، ولا يكلمهم منهم أحدا؟!

حديث عطاف بن خالد :

وقد ذكر في حديث عطاف بن خالد : أن ابن رواحة قتل مساء ، ثم لما أصبحوا غير خالد الميمنة إلى الميسرة والعكس ، وجعل الساقة مقدمة ، فأوهم ذلك جيش الأعداء بأن مددا قد أتى للمسلمين ، فهربوا رعبا من ذلك ..

ونقول :

١ ـ هل طبعت صورة الأشخاص في الجيش الإسلامي في ذاكرة جيش العدو حتى أصبح يتحرك ويتعامل مع خصوص تلك الصور؟!

وحتى لو كان الأمر كذلك ، فهل كان من الواجب أن لا تتبدل مواقع الأفراد في كل يوم عما كانت عليه في اليوم السابق؟!

ولماذا لا يفسرون هذا التبدل : بأن القائد الميداني قد وزع الأشخاص بطريقة مخالفة للتوزيع الذي كان في اليوم السابق؟!

ولماذا يظنون بوصول مدد للجيش المقابل. ألا يرون حجمه ، وعدده؟ وأنه لم يزد عما كان عليه في اليوم السابق؟!

٧٨

٢ ـ هل صحيح : أن الناس تمكنوا من المبيت في ساحة المعركة ، حتى بعد استشهاد ابن رواحة؟! أم أن الهزيمة قد حلت بهم ، وغادروا إلى جهة المدينة يتقدمهم خالد فور استشهاد ابن رواحة؟!

إن النصوص التي أوردناها تؤكد هذا الأمر الثاني!!

٣ ـ إذا كان المسلمون قد قتلوا المشركين كيف شاؤا ، أو قتلوهم مقتلة لم يقتلها قوم ، فلماذا اختص نقل ذلك بعطاف بن خالد ، وبابن عائذ؟!

ولماذا لم ينقله حتى ابن إسحاق ، وهو المعتمد في المغازي ، بل الناس عيال عليه فيها؟! بل لماذا جاءت الروايات الأخرى من الذين حضروا المعركة لتؤكد على حصول الهزيمة النكراء؟!

٤ ـ ولماذا لم يحتف أهل المدينة بهؤلاء الفاتحين حين عودتهم ، ولم يكرموهم ، ولم يقيموا لهم الإحتفالات ، ولم يتغن أحد من الشعراء بهذا النصر العظيم؟!

بل هم قد واجهوهم بما يسؤهم ، حتى اضطروهم بالاختباء في بيوتهم؟!

بل لماذا لم يعتذروا هم للناس ولم يقولوا لهم : إن القضية كانت على عكس ما يظنون ، فقد انتصروا على أعدائهم ، وقتلوهم قتلة لم يقتلها قوم ، وهزموهم أسوأ هزيمة؟!

ولماذا لم تشفع لهم الغنائم والسبايا التي جاؤا بها إلى المدينة؟ والتي لا بد أن تعد بعشرات الألوف ، ولماذا لم يخمد غضب الناس الغاضبين ولم ينظر إليها أحد من أهلهم ومحبيهم الذين طردوهم وأهانوهم؟!

ولماذا لم يدافع عنهم الرسول الكريم «عليه‌السلام» إذا كانوا مظلومين فيما يجري لهم؟ ولماذا؟! ولماذا؟!

٧٩

حديث برذع :

وقد لوحظ : أن ما روي عن برذع بن زيد ، من أن المسلمين اقتتلوا مع المشركين سبعة أيام (١) قد أورد في سياق الإستدلال على عدم هزيمة خالد ، مع أنه لا يدل على ذلك ، لأن الظاهر : هو أنه يتحدث عن الفترة التي استمرت فيها المبارزات والمناوشات قبل استشهاد القادة.

بل الأولى جعله من أدلة هزيمته ، والشاهد على ما نقول : أن الظاهر : هو أن ابن رواحة قد حارب المشركين أياما قبل استشهاده ، حتى إن ابن عم له قد جاءه بعرق من لحم ليقيم به صلبه ، بعد أن لقي ما لقيه في أيامه التي سبقت استشهاده (٢).

حديث أبي عامر :

١ ـ وقد ظهر من رواية أبي عامر المتقدمة : أنهم يريدون أن يدّعوا : أن الهزيمة التي حلت بالمسلمين قد حلت بهم قبل أن يأخذ خالد اللواء ..

وقد فصلنا الكلام حول هذه المقولة ، وأظهرنا أنها لا يمكن قبولها ، لأن النصوص المختلفة تكذبها .. ويكفي دليلا على ذلك ما جرى في المدينة من أن الناس قد حثوا التراب في وجه الجيش العائد بقيادة خالد ، وعيروهم بهذا الأمر ، حتى انزووا في بيوتهم.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥١ عن القراب في تاريخه ، والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٧.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٠ وراجع : والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦٢ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٧٩ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٣٤ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦٢.

٨٠