الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-192-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٥

العذر لأنفسهم عن فرار وشيك ربما يراود أذهانهم ، فيزعمون : أن مواجهة مئات الألوف لا مبرر لها ، لأن احتمالات النصر على تلك الأعداد الهائلة تكاد تكون معدومة ، بل هي معدومة فعلا ..

وأما ما فعله جعفر «عليه‌السلام» فإنما هو مبادرة شخصية منه ، وتضحية يحمد عليها ، ولكنها هدر للطاقة ، لا تجدي نفعا ، ولا تحقق نصرا.

فجاءت الكرامة الإلهية له لتقول لهم : إن الله تعالى إذا كان هو الراعي لهم ، والمشرف على حالهم ، وهو الذي ينزل النصر عليهم ، أو يحجبه عنهم.

فعلى كل أنسان أن يقوم بواجبه ، ويمتثل أمر الله ورسوله ، وليس له أن ينظر في نتائج ذلك ، ولا أن يحدد طبيعة النصر ، وحجمه ، ومواصفاته .. ولا أن يدّعي لنفسه المعرفة بالغيب الإلهي فيه.

فلعل المطلوب الإلهي أمر آخر غير النصر العسكري ـ كما كان الحال في كربلاء مثلا ـ ولعل المطلوب هو النصر العسكري ، ولكن بطريقة حجب الله تعالى عنهم بعض عناصرها. ولو بأن تحدث اختلافات ومنازعات بين كتائب جيوش الأعداء ، لأجل ما يرونه من استبسال لدى جنود أهل الإسلام .. وقد ينشأ عن ذلك الإستبسال ، والإستشهاد هداية لطائفة أو لطوائف من جيش الأعداء. وقد تحدث انقسامات بين العرب وبين غيرهم لأكثر من سبب فيما لو طالت الحرب .. إلى غير ذلك من أسباب.

استشهاد ابن رواحة :

روى ابن إسحاق ، قال : قتل جعفر ، فأخذ الراية عبد الله بن رواحة ، ثم تقدم بها وهو على فرسه ، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ، ثم قال :

٤١

أقسمت يا نفس لتنزلنه

طائعة أو لتكرهنه

إن أجلب الناس وشدوا الرنة

ما لي أراك تكرهين الجنة

قد طالما قد كنت مطمئنة

هل أنت إلا نطفة في شنة

وقال أيضا :

يا نفس إلّا تقتلي تموتي

هذا حمام الموت قد صليت

وما تمنيت فقد أعطيت

إن تفعلي فعلهما هديت (١)

يريد صاحبيه زيدا وجعفرا ، ثم نزل.

فلما نزل أتاه ابن عمر بعرق من لحم ، فقال : شد بهذا صلبك ، فإنك لقيت في أيامك هذه ما لقيت.

فأخذه من يده ، ثم انتهس منه نهسة ، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس ، فقال : وأنت في الدنيا؟

ثم ألقاه من يده ، ثم أخذ سيفه ، ثم تقدم فقاتل حتى قتل.

ووقع اللواء من يده ، فاختلط المسلمون والمشركون ، وانهزم بعض الناس ، فجعل قطبة بن عامر يصيح : يا قوم يقتل الرجل مقبلا أحسن من أن يقتل مدبرا.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٩ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧١ و ٧٢ والنص والإجتهاد ص ٢٩ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٣٣ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٧٩ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ١٥٥ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢١ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٢٨ ص ١٢١ وشرح النهج ج ١٥ ص ٦٩ و ٧٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٤٦١ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٥٩.

٤٢

قال سعيد بن أبي هلال : وبلغني أن زيدا ، وجعفرا ، وعبد الله بن رواحة دفنوا في حفرة واحدة (١).

تردد ابن رواحة في النزول :

وفي بعض الروايات : «فأخذها (يعني : الراية) عبد الله رواحة ، وتقدم بها وهو على فرسه ، وجعل يتردد في النزول عن فرسه ، ثم نزل ، وقاتل حتى قتل» (٢).

ونستطيع أن نفهم أن النزول عن الفرس إنما هو حين يراد إفهام العدو أن الفارس قد استقتل ، وأن أي توهم في حبه للنجاة من خلال بقائه على ظهر فرسه ، ما هو إلا توهم باطل ..

الحرب دامت أياما :

من يلاحظ النصوص المتداولة لغزوة مؤتة يخرج بنتيجة مفادها : أن القادة الثلاثة قد قتلوا في أول المعركة ، ثم أخذ اللواء خالد ، وولى هاربا ، وتبعه

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٠ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٧ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٩٣.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٧ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٦٩ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٤١ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٢٩٣ وحياة الصحابة (باب الجهاد) تحريض النبي وترغيبه على القتال ، وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢١ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٧٩ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٣٣ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٦٧ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٩ وزاد المعاد ج ١ ص ١١٣٤.

٤٣

المسلمون .. ولذلك اقتصر عدد قتلى المسلمين على ثمانية شهداء ، وقيل : قتل اثنا عشر شهيدا ، أو نحو ذلك. كما سيأتي إن شاء الله تعالى ..

ولكننا نقول :

إن ذلك موضع شك كبير. ومن موجبات هذا الشك :

أن هذا الرقم للقتلى لا يتناسب مع قولهم أيضا : إن الحرب قد دامت سبعة أيام (١).

ويؤيد ذلك قولهم المتقدم : إن ابن عمر جاء إلى ابن رواحة بعرق من لحم ، وقال له : «شد بهذا صلبك ، فإنك لقيت في أيامك هذه ما لقيت».

حيث يشير إلى أن ابن رواحة قد لقي مصاعب كبيرة خلال أيام مرت عليه ، ولعلها هي الأيام السبعة المشار إليها ، وكان ـ فيما يبدو ـ يمارس القتال المجهد فيها.

وأما احتمال أن يكون المراد هو : مشقات قطع المسافات الطويلة من المدينة إلى مؤتة ، فهو بعيد عن الذهن ، وليس له ما يؤيده.

ويؤيد ذلك : ما سيأتي من أن المسلمين اعتمدوا أسلوب مبارزة الفرسان ، وهي طريقة ممتعة ، يظهر فيها الفرسان شجاعتهم ، ويقدمون فيها عروضا شيقة لفنون الحرب والقتال وتوجب طول أمد الحرب ...

ولعل المسلمين أظهروا فيها براعة نادرة ، وشجاعة فريدة .. فقل شهداؤهم ، وكثرت القتلى من أعدائهم ، وربما كان لابن رواحة سهم وافر في هذا المجال ..

__________________

(١) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٧ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥١.

٤٤

ثم اختار الأعداء أسلوب الهجوم الشامل .. فقتل القادة آنئذ .. وربما تكون بوادر النصر قد بدأت بالظهور ، فضيعها خالد.

هزيمة خالد :

وبعد أن استشهد عبد الله بن رواحة بادر خالد بن الوليد فأخذ الراية وانهزم بها وتبعه سائر الناس ، ولكن هناك من سعى لتزوير الحقيقة وإيهام الناس بعكسها ، ونحن نذكر ذلك ، ونبين وجه الحق فيه في الفصل التالي.

الآن حمي الوطيس :

وحول القول المنسوب لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو يصف للمسلمين ما يجري في مؤتة : «الآن حمي الوطيس» ، قال ابن أبي الزناد ما يلي :

«بلغت الدماء بين الخيل موضع الأشاعر من الحافر. والوطيس أيضا ذاك. وإذا حمي ذلك الموضع من الدابة كان أشد لعدوها» (١).

ونحسب : أننا لسنا بحاجة إلى التعليق على هذه الروايات المغرقة في غرابتها ، ولكن الأغرب منها : أن يبادر المؤرخون والمحدثون إلى إيرادها في كتبهم وفي مجاميعهم الحديثية والتاريخية ، وغيرها ، ويقدمونها للناس على أنها هي الحقائق الناصعة ، وذلك من أجل أن تبقى حقيقة فرار خالد عن الناس ضائعة ..

ولست أدري كيف يمكن أن يخبر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن بلوغ الدماء موضع الأشاعر ، وهو يرى ما يجري عيانا ، بعد أن رفع الله تعالى له

__________________

(١) المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٤ وراجع : البحار ج ٢١ ص ٦٢.

٤٥

كل خفيض ، وخفض كل رفيع ، ثم يرى الناس يظلمون هؤلاء المجاهدين ويطردونهم .. ثم لا يدافع عنهم؟! بل إنهم حتى لو كانوا قد هربوا من ساحة المعركة فإنهم لم يرتكبوا بذلك حراما ، بعد أن كان عدوهم يزيدهم بعشرات الأضعاف. كما أشرنا إليه أكثر من مرة ..

وذلك يدل على عدم صحة ما زعموه ، وأن الصحيح هو أن خالدا قد فرّبهم لحظة استشهاد القادة ..

وتتأكد الشكوك في صحة هذه المزاعم حين نقارن بين عدد شهداء المسلمين وبين ما يزعم من أن الدماء قد بلغت الأشاعر من حوافر الخيل!!

شهداء مؤتة :

أما بالنسبة للذين استشهدوا من المسلمين في سرية مؤتة فهم :

جعفر بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة ، وعبد الله بن رواحة ، ومسعود بن الأسود بن حارثة (بن نضلة) ، ووهب بن سعد بن أبي سرح ، وعباد بن قيس ، والحارث بن النعمان (بن إساف بن نضلة) ، وسراقة بن عمرو بن عطية (بن خنساء) (١).

وزاد ابن هشام نقلا عن ابن شهاب الزهري :

أبا كليب ، أو كلاب بن عمرو بن زيد ، وأخاه جابر بن عمرو بن زيد ،

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٤ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٤٠ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٩٥ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٢٥ ص ٣٣٠ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٦٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٤٩٨.

٤٦

وعمرو ، وعامر ابنا سعد بن الحارث (١).

وزاد الكلبي والبلاذري : هو بجة بن بجير الضبي. ولما قتل فقد جسده ، ولا ذكر لهوبجة فيما وقفت عليه من نسخ الإصابة للحافظ ، ولا القاموس. مع ذكر الذهبي له في التجريد ، وأن له وفادة وهجرة (٢).

وزاد ابن سعد ، والعدوي ، وابن جرير الطبري : زيد بن عبيد بن المعلى الأنصاري (٣).

وزاد ابن إسحاق ، كما في الإصابة ، وجزم به في الزهر : عبد الله بن سعيد بن العاص بن أمية.

قال ابن الأثير : قتل باليمامة في الأكثر.

وقال الذهبي : الأصح ببدر.

وقيل : باليمامة.

وقيل : بمؤتة (٤).

وزاد ابن الكلبي ، وابن سعد ، والزبير بن بكار : هبار بن سفيان بن عبد

__________________

(١) عن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٩٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٤ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٤٠ وعن وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٢٥ ص ٣٣٠ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٦٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٤٩٨.

(٢) عن أسد الغابة ج ٥ ص ٧٤ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٤.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٥ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ١٩ ص ٤٥٠ وعن الإصابة ج ٢ ص ٥٠٧.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٥ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٢٩ ص ٥٥ و ٧٥ وعن الإصابة ج ٢ ص ٨٩.

٤٧

الأسد المخزومي ، وقال عروة ، وابن شهاب الزهري ، وابن إسحاق ، وابن سعد : استشهد بأجنادين (١).

وقال سيف بن عمر : استشهد باليرموك (٢).

وزاد ابن عقبة : عبد الله بن الربيع الأنصاري (٣) ، ومعاذ بن ماعص (٤).

ووقع في نسخة من مغازي موسى بن عقبة : أن الذي استشهد بمؤتة أخوه عباد (٥).

وقال في البداية ، بعد أن ذكر جميع من قتل بمؤتة من المسلمين : (فالمجموع على القولين) اثنا عشر رجلا (٦).

وهذا عظيم جدا أن يتقاتل جيشان متعاديان في الدين ، أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل الله تعالى عدتها ثلاثة آلاف ، وأخرى كافرة عدتها

__________________

(١) الطبقات الكبرى ج ٤ ص ١٣٥ وعن البداية والنهاية ج ٧ ص ٤١ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٥ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٢٢ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٢٩ ص ٧٠ وج ٣٧ ص ٤٦٧ وتاج العروس ج ٣ ص ٦٠٩ وعن الإصابة ج ٦ ص ٤١٤.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٥ وعن الإصابة ج ٦ ص ٤١٤.

(٣) عن تاريخ مدينة دمشق ج ٢٨ ص ٧٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٥.

(٤) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٥ وعن الإصابة ج ٦ ص ٤١٤ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٢٦ ص ٢٣٧ وج ٥٨ ص ٤٦٧ ، و ٤٧٠ وفي ج ٢ ص ١١ عباد بن ناعص.

(٥) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٥ وعن الإصابة ج ٦ ص ١١٤.

(٦) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٥ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٩٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٨٩.

٤٨

مائتا ألف مقاتل : من الروم مائة ألف ، ومن نصارى العرب مائة ألف ، يتبارزون ويتصاولون ، ثم مع هذا كله لا يقتل من المسلمين سوى اثني عشر رجلا ، وقتل من المشركين خلق كثير ، هذا خالد وحده يقول :

«لقد اندقت في يدي يومئذ تسعة أسياف وما صبرت في يدي إلا صفيحة يمانية».

فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها؟

دع غيره من الأبطال والشجعان (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٤ و ١٥٥ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٩٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ١٨٩.

٤٩
٥٠

الفصل الثالث :

خالد يضيع النصر الأعظم

٥١
٥٢

الإنحياز ، أم النصر والفتح؟!

لقد وضع محبو خالد خطة تهدف إلى حفظ ماء وجهه ، حتى لو كان ثمن ذلك هو تضييع الحق وتزوير التاريخ ، والخطة هي التالية :

أن يدّعوا : أن الذي حصل هو أحد أمرين : إما مجرد الانحياز والمحاشاة ، ثم الانصراف. وإما النصر والفتح على يد خالد.

ثم يتم تضعيف دعوى المحاشاة ، وادعاء أن الصحيح هو الفتح ، وتحقيق النصر على يد خالد بن الوليد ..

فنحن نبدأ بذكر ما قالوه وما استدلوا به ، ثم نعقب ذلك بالنصوص المصرحة بالحقيقة ، وبيان زيف دعواهم وبطلانها ، وذلك على النحو التالي :

قال ابن إسحاق : «فلما أخذ الراية خالد بن الوليد دافع القوم ، وحاشى بهم ، ثم انحاز ، وانحيز عنه ، وانصرف الناس» (١).

وعلى حد تعبير الزهري : «ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ، فناوش

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٣ ص ٤٦٣ وج ٦ ص ١٥١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٤ ص ٢٧ وراجع : ما عن المصادر التالية : تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢٢ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٣٤ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٩٥ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٧٩ وعيون الأثر ج ٢ ص ١٦٧.

٥٣

القوم ، وراوغهم حتى انحاز بالمسلمين منهزما ، ونجا بهم من الروم» (١).

قالوا : هكذا ذكر ابن إسحاق : أنه لم يكن إلا المحاشاة والتخلص من أيدي الروم الذين كانوا مع من انضم إليهم أكثر من مائتي ألف ، والمسلمون ثلاثة آلاف. ووافق ابن اسحاق على ذلك شرذمة.

وعلى هذا سمي هذا نصرا وفتحا ، باعتبار ما كانوا فيه من إحاطة العدو ، وتراكمهم ، وتكاثرهم عليهم. وكان مقتضى العادة أن يقتلوا بالكلية (٢).

وهو محتمل ، لكنه خلاف الظاهر من قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «حتى فتح الله عليكم» (٣).

وقد لوحظ : أنهم حين يريدون الحديث عن الهزيمة يقتصرون على خصوص عبارة ابن إسحاق التي جاءت ملطفة ومخففة إلى حد كبير ، ثم يصفون سائر الذين صرحوا بالهزيمة بأنهم شرذمة. نعم مجرد شرذمة بنظرهم .. ثم يواصلون توجيه الكلام بطريقة توحي بأن النصر أمر مسلّم ، لكن الاختلاف إنما هو في كيفيته ومداه.

فيزعمون : أن سبب تسمية ما جرى في مؤتة نصرا هو تمكن المسلمين من الإفلات من يد تلك الكثرة الهائلة ، وأن هذا هو ما يقصده ابن إسحاق ، وأنه محتمل ، ولكنه خلاف الظاهر.

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٥٠ و ٥١ وعن أمالي الطوسي ص ٨٧ و ٨٨ و (ط دار الثقافة) ص ١٤١ وراجع : بشارة المصطفى ص ٤٣٢.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٨ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٠.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٠ وفي هامشه عن البخاري ج ٧ ص ٥٨٥. وراجع : البخاري ج ٥ ص ٨٧.

٥٤

ومهما يكن من أمر ، فإنهم استدلوا على النصر في مؤتة بما يلي :

دلائل انتصار خالد :

وقالوا أيضا : والأكثرون على أن خالدا ومن معه قاتلوا المشركين حتى هزموهم.

ففي حديث أبي عامر عند ابن سعد وغيره : أن عبد الله بن رواحة لما قتل «انهزم المسلمون أسوأ هزيمة رأيتها قط. (في كل وجه) ، حتى لم أر اثنين جميعا. ثم أخذ اللواء رجل من الأنصار ، (يقال له : ثابت بن أرقم ، فجعل يصيح بالأنصار) ، ثم سعى به حتى إذا كان أمام الناس ، ركزه ثم قال : إليّ أيها الناس.

فاجتمع إليه الناس ، حتى إذا كثروا مشى باللواء إلى خالد بن الوليد.

فقال له خالد : لا آخذه منك ، أنت أحق به.

فقال الأنصاري : والله ما أخذته إلا لك.

فأخذ خالد اللواء من الأنصاري ، و «حمل على القوم ، فهزمهم الله أسوأ هزيمة رأيتها قط. حتى وضع المسلمون أسيافهم حيث شاءوا ، (وأظهر الله المسلمين)» (١).

فأتيت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فأخبرته ، فشق ذلك عليه ،

__________________

(١) الطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٣٠ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٠ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٧ عن ابن سعد ، وراجع : تاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٢ والبحار ج ٢١ ص ٦٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٦٨ وتاريخ المدينة ج ٢ ص ١٤ وج ١١ ص ١٠٧.

٥٥

فصلى الظهر ثم دخل الخ ..

وروى الطبراني برجال ثقات ، عن موسى بن عقبة ، قال : ثم اصطلح المسلمون بعد أمراء رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على خالد بن الوليد المخزومي ، فهزم الله تعالى العدو ، وأظهر المسلمين (١).

وروى محمد بن عمر الأسلمي ، عن عطاف بن خالد : لما قتل ابن رواحة مساء ، بات خالد بن الوليد ، فلما أصبح غدا ، وقد جعل مقدمته ساقته ، وساقته مقدمته ، وميمنته ميسرة ، وميسرته ميمنة ، فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيأتهم ، وقالوا : قد جاءهم مدد ، فرعبوا وانكشفوا منهزمين.

قال : فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم.

وفي نص آخر : فتبعهم المسلمون يقتلونهم كيف شاءوا ، فغنم المسلمون من أموالهم ، فرجعوا إلى المدينة (٢).

وذكر ابن عائذ في مغازيه نحوه (٣).

وروى محمد بن عمر ، عن الحارث بن الفضل : لما أخذ خالد بن الوليد

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥١ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٩٥ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ١٠ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦٨.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥١ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٢ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ١٥ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨٢.

(٣) راجع ما تقدم في : سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥١ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٤ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٧ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٢.

٥٦

الراية قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «الآن حمي الوطيس» (١).

وروى الحاكم في المستدرك ، عن أبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري ، وهذا الذي ذكره أبو عامر والزهري ، وعروة ، وابن عقبة ، وعطاف بن خالد ، وابن عائذ ، وغيرهم ، هو ظاهر قوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في حديث أنس : «ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ، ففتح الله على يديه» (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥١ وفي هامشه قال : أخرجه مسلم ج ٣ ص ١٣٩٨ كتاب الجهاد (٧٦ ـ ١٧٧٥) من حديث عباس ، وأحمد في المسند ج ١ ص ٢٠٧ وعبد الرزاق (٩٧٤١). وراجع : المغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٤ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٨ وكنز العمال ج ٤ ص ٢٥٣ والطبقات الكبرى ج ٢ ص ١٢٩ وج ٤ ص ٢٥٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ٢٣٨ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦٧.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥١ و ١٥٣ وفي هامشه قال : أخرجه البخاري (٤٢٦٢) ، وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٧ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦٨ و ٤٨٢ و ٤٧٦ و ٤٦٩ وعن البداية والنهاية ج ٧ ص ١٢٩ وج ٤ ص ٢٨٣ و ٢٨٨ و ٢٩١ ومسند أحمد ج ١ ص ٢٠٤ وعن صحيح البخاري ج ٤ ص ٢١٨ وج ٥ ص ٨٧ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٢٩٨ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٣٤٩ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٩٤ وتحفة الأحوذي ج ٨ ص ١١٣ وج ١٠ ص ٢٣٣ والآحاد والمثاني ج ٢ ص ٢٥ وعن السنن الكبرى للنسائي ج ٥ ص ١٨٠ والمعجم الكبير ج ٢ ص ١٠٦ وج ٤ ص ١٠٤ وكنز العمال ج ١٠ ص ٣٨٦ و ٥٥٩ وراجع الدر المنثور ج ٢ ص ٢٤٥ والطبقات الكبرى ج ٤ ص ٣٧ والتاريخ الصغير ج ١ ص ٤٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢٧ ص ٢٥٥ وعن أسد الغابة ج ٢ ص ٩٤.

٥٧

وفي حديث أبي قتادة مرفوعا كما سيأتي : ثم أخذ خالد بن الوليد اللواء ، ولم يكن من الأمراء ، هو أمّر نفسه. ثم رفع رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إصبعه ، ثم قال : «اللهم إنه سيف من سيوفك فانصره» (١).

وعند الحلبي أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قال : «ثم أخذ الراية خالد بن الوليد ، نعم عبد الله وأخو العشيرة ، وسيف من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين ، من غير إمرة حتى فتح الله عليهم» (٢).

فمن يومئذ سمي خالد بن الوليد «سيف الله» (٣) ، رواه الإمام أحمد برجال ثقات.

ويزيده قوة ، ويشهد له بالصحة ، ما رواه الإمام أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والبرقاني ، عن عوف بن مالك الأشجعي ، قال : «خرجت [مع من خرج] مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ، ورافقني مددي من المسلمين من اليمن ، ليس معه غير سيفه. فنحر رجل من المسلمين جزورا ، فسأله المددي

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥١ وقال في هامشه : أخرجه البيهقي في الدلائل ج ٤ ص ٣٦٨ وابن أبي شيبة في المصنف ج ١٤ ص ٥١٣ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٧ وفضائل الصحابة ص ٤٤ وعن مسند احمد ج ٥ ص ٢٩٩ و ٣٠١ وراجع : المصنف لابن أبي شيبة ج ٨ ص ٥٤٦ وسنن النسائي ج ٥ ص ٦٩ وصحيح ابن حيان ج ١٥ ص ٥٢٣ وتاريخ مدينة دمشق ج ١٦ ص ١٦ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٢٠٩ وج ٤ ص ٦٠ وعن تاريخ الطبري ج ٣ ص ٣٢٢ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨١ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦٦.

(٢) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٨.

(٣) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥١ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧٢.

٥٨

طائفة من جلد ، فأعطاه إياه ، فاتخذه كهيئة الدرقة ، ومضينا ، ولقينا جموع الروم ، فيهم رجل على فرس له أشقر ، عليه سرج مذهب ، وسلاح مذهب ، فجعل الرومي يسل على المسلمين ، ويغري بهم ، فقعد له المددي خلف صخرة ، فمر به الرومي ، فعرقب فرسه بسيفه ، وخر الرومي ، فعلاه بسيفه فقتله ، وحاز سلاحه ، وفرسه.

فلما فتح الله تعالى على المسلمين بعث إليه خالد بن الوليد ، فأخذ منه بعض السلب.

قال عوف : فأتيت خالدا ، وقلت له : أما علمت أن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قضى بالسلب للقاتل؟

قال : بلى ، ولكني استكثرته.

فقلت : لتردنه ، أو لأعرفنكها عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فأبى أن يرد عليه.

قال عوف : فاجتمعنا عند رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد ، فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ما صنعت»؟

قال : استكثرته.

قال : «رد عليه ما أخذت منه».

قال عوف : دونكها يا خالد ، ألم أف لك؟

[فقال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «وما ذاك»؟

فأخبرته].

فغضب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وقال : «يا خالد ، لا ترد عليه.

٥٩

هل أنتم تاركون أمرائي؟ لكم صفوة أمرهم ، وعليهم كدره» (١).

الغنائم دليل النصر :

وقالوا أيضا : روى محمد بن عمر ، والحاكم في الإكليل ، عن جابر رضي الله تعالى عنه ، قال : أصيب بمؤتة ناس من المسلمين ، وغنم المسلمون بعض أمتعة المشركين ، وكان فيما غنموا خاتم جاء به رجل الى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فقال : قتلت صاحبه يومئذ.

فنفله رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إياه (٢).

وتقدم في حديث عوف بن مالك ما يشير إلى ذلك آنفا.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥١ و ١٥٢ وقال في هامشه : أخرجه مسلم ٣ ص ٤٧٣ كتاب الجهاد وذكر بعضه الواقدي في المغازي ج ٢ ص ٧٦٨.

وراجع : نيل الأوطار ج ٨ ص ٩٦ و ٩٧ وعن صحيح مسلم ج ٥ ص ١٤٩ ومسند أبي داود ج ١ ص ٦١٨ وعون المعبود ج ٧ ص ٢٧٨ وكنز العمال ج ١٠ ص ٣٨٥ و ٣٨٦ والجامع لأحكام القرآن ج ٨ ص ٨ وسير أعلام النبلاء ج ٢ ص ٤٨٨ والمغني لابن قدامة ج ١٠ ص ٤٣٠ والمحلى لابن حزم ج ٧ ص ٣٣٨ وعن مسند أحمد ج ٦ ص ٢٨ وسنن أبي داود ج ١ ص ٦١٨ وعن المعبود ج ٧ ص ٢٧٨ وشرح معاني الآثار ج ٣ ص ٢٣١ وصحيح ابن حبان ج ١١ ص ١٧٦ ومسند الشاميين ج ١ ص ٢٧٥ وعن نصب الراية ج ٤ ص ٣٠١ وراجع : كنز العمال ج ١٠ ص ٣٨٦ وعن أحكام القرآن للجصاص ج ٣ ص ٧١ وتاريخ مدينة دمشق ج ٦٨ ص ٩٠ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٨٥ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٧٢.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٢ والمغازي للواقدي ج ٢ ص ٧٦٨ والسنن الكبرى ج ٦ ص ٣٠٩ وتاريخ مدينة دمشق ج ٤١ ص ١٦.

٦٠