الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-192-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٥

النور الضئيلة ، التي تسللت إلى الأفق فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.

كما أن لهذا النقع دورا في إرباك حركة العدو ، وفي التأثير على مخيلته ، ويهيء الفرصة لتوهم كيفيات وصور قتالية ضخمة ومهولة ، لا وجود لها في الواقع.

ومن شأن هذا أيضا أن يزيد ذلك العدو ضعفا ووهنا ، ويؤكد هزيمته الروحية ، وربما يكون سببا في مبادرته إلى هدر طاقات ، وبذل جهد في غير الاتجاه الصحيح.

٩ ـ ثم يأتي دور تلك الخيل العادية في الالتفاف على العدو ، ومحاصرته بسرعة حسبما أشير إليه في قوله تعالى : (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (١) ، حتى إذا رأى العدو أنه يواجه القتال في كل اتجاه ، فإنه لا بد أن يصاب بالإحباط ، وباليأس من أن تتيح له المقاومة شيئا ذا بال ، وستتأكد لديه القناعة بأنه لا فائدة من الاستمرار فيها ، لأن حصادها لن يكون في هذه الحال سوى أن يصبح طعمة للسيوف ، وأن يلاقي الحتوف ، وفي مثل هذه الحال سيرى : أن الاستسلام هو الأرجح والأصلح.

وقد أظهرت النصوص المنقولة ، وكذلك نزول هذه السورة المباركة في هذه المناسبة : أن عليا «عليه‌السلام» قد طبق هذه الأمور كلها في غزوة ذات السلاسل.

فصلوات الله وسلامه على علي ، سيد الوصيين ، وقائد الغر المحجلين ، إلى جنات النعيم.

__________________

(١) الآية ٥ من سورة العاديات.

٢٦١

سرية علي عليه‌السلام إلى بني خثعم :

عن سلمان الفارسي رحمه‌الله قال : بينما أجمع ما كنا حول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما خلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» إذ أقبل أعرابي بدوي ، فتخطى صفوف المهاجرين والأنصار حتى جثا بين يدي رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فسأله النبي عن نفسه ، وما جاء به ، فأخبره أنه رجل من بني لجيم.

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «ما وراك بما جاء لجيم»؟

قال : يا رسول الله خلفت خثعم ، وقد تهيأوا وعبأوا كتائبهم ، وخلفت الرايات تخفق فوق رؤسهم ، يقدمهم الحارث بن مكيدة الخثعمي في خمسمائة من رجال خثعم ، يتألّون باللّات والعزى أن لا يرجعوا حتى يردوا المدينة ، فيقتلوك ومن معك يا رسول الله.

قال : فدمعت عينا النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى أبكى جميع أصحابه ، ثم قال : «يا معشر الناس سمعتم مقالة الاعرابي»؟

قالوا : كلّ قد سمعنا يا رسول الله.

قال : «فمن منكم يخرج إلى هؤلاء القوم قبل أن يطؤنا في ديارنا وحريمنا ، لعل الله يفتح على يديه ، وأضمن له على الله الجنة؟

قال : فو الله ما قال أحد : أنا يا رسول الله.

قال : فقام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على قدميه وهو يقول : «معاشر أصحابي هل سمعتم مقالة الأعرابي»؟

قالوا : كلّ قد سمعنا يا رسول الله.

قال : «فمن منكم يخرج إليهم قبل أن يطؤنا في ديارنا وحريمنا ، لعل الله

٢٦٢

أن يفتح على يديه ، وأضمن له على الله اثني عشر قصرا في الجنة».

قال : فو الله ما قال أحد : أنا يا رسول.

قال : فبينما النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» واقف إذ أقبل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» ، فلما نظر إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» واقفا ودموعه تنحدر كأنها جمان انقطع سلكه على خديه لم يتمالك أن رمى بنفسه عن بعيره إلى الأرض ، ثم أقبل يسعى نحو النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يمسح بردائه الدموع عن وجه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو يقول : ما الذي أبكاك؟ لا أبكى الله ، عينيك يا حبيب الله! هل نزل في أمتك شيء من السماء؟

قال : «يا علي ، ما نزل فيهم إلا خير ، ولكن هذا الأعرابي حدثني عن رجال خثعم بأنهم قد عبأوا كتائبهم.

ثم ذكر له ما جرى ، فطلب منه أن يصف له القصور ، فوصفها له.

فقال : أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» : فداك أمي وأبي يا رسول الله ، أنا لهم.

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «يا علي ، هذا لك وأنت له ، أنجد إلى القوم».

فجهزه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في خمسين ومائة رجل من الأنصار والمهاجرين ، فقام ابن عباس رضي‌الله‌عنه وقال : فداك أبي وأمي يا رسول الله تجهز ابن عمي في خمسين ومائة رجل من العرب إلى خمسمائة رجل وفيهم الحارث بن مكيدة يعد بخسمائة فارس؟!

فقال النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «امط عني يا ابن عباس ، فو الذي

٢٦٣

بعثني بالحق لو كانوا على عدد الثرى وعليّ وحده لأعطى الله عليهم النصر حتى يأتينا بسبيهم أجمعين».

فجهزه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» وهو يقول : «اذهب يا حبيبي ، حفظ الله من تحتك ، ومن فوقك ، وعن يمينك ، وعن شمالك ، الله خليفتي عليك».

فسار علي «عليه‌السلام» بمن معه حتى نزلوا بواد خلف المدينة بثلاثة أميال يقال له : وادي ذي خشب ، قال : فوردوا الوادي ليلا ، فضلوا الطريق ، قال : فرفع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» رأسه إلى السماء وهو يقول : يا هادي كل ضال ، ويا مفرج كل مغموم ، لا تقو علينا ظالما ، ولا تظفر بنا عدونا ، واعهدنا إلى سبيل الرشاد.

قال : فإذا الخيل يقدح بحوافرها من الحجارة النار ، حتى عرفوا الطريق فسلكوه ، فأنزل الله على نبيه محمد : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً ..) يعنى الخيل (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) قال : قدحت الخيل بحوافرها من الحجارة النار (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) قال : صبحهم علي مع طلوع الفجر.

وكان لا يسبقه أحد إلى الأذان ، فلما سمع المشركون الاذان قال بعضهم لبعض : ينبغي أن يكون راعي في رؤوس هذه الجبال يذكر الله.

فلما أن قال : أشهد أن محمدا رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

قال بعضهم لبعض : ينبغى أن يكون الراعي من أصحاب الساحر الكذاب.

وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» لا يقاتل حتى تطلع الشمس ، وتنزل ملائكة النهار.

قال : فلما أن دخل النهار ، التفت أمير المؤمنين «عليه‌السلام» إلى

٢٦٤

صاحب راية النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» فقال له : ارفعها.

فلما أن رفعها ، ورآها المشركون عرفوها ، وقال بعضهم لبعض : هذا عدوكم الذي جئتم تطلبونه ، هذا محمد وأصحابه.

قال : فخرج غلام من المشركين ، من أشدهم بأسا ، وأكفرهم كفرا ، فنادى أصحاب النبي : يا أصحاب الساحر الكذاب ، أيكم محمد؟ فليبرز إليّ.

فخرج إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» وهو يقول : ثكلتك أمك أنت الساحر الكذاب ، محمد جاء بالحق من عند الحق ، قال له : من أنت؟

قال : أنا علي بن أبي طالب ، أخو رسول الله ، وابن عمه ، وزوج ابنته.

قال : لك هذه المنزلة من محمد؟

قال له علي : نعم.

قال : فأنت ومحمد شرع واحد ، ما كنت أبالي لقيتك أو لقيت محمدا ، ثم شد على علي وهو يقول :

لا قيت يا علي ضيغما

قرما كريما في الوغا معلّما

ليث شديد من رجال خثعما

ينصر دينا معلما ومحكما

فأجابه علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» وهو يقول :

لا قيت قرنا حدثا وضيغما (١)

ليثا شديدا في الوغا غشمشما

أنا علي سأبير خثعما

بكل خطّيّ يري النقع دما

وكل صارم يثبت الضرب فينعما (٢)

__________________

(١) هذا الشعر ورد كذلك ، ولا يخفى عدم استقامة الوزن في هذا الشطر.

(٢) هذا الشطر غير مستقيم الوزن.

٢٦٥

ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه ، فاختلف بينهما ضربتان ، فضربه علي «عليه‌السلام» ضربة فقتله ، وعجل الله بروحه إلى النار ، ثم نادى أمير المؤمنين «عليه‌السلام» : هل من مبارز؟

فبرز أخ للمقتول ، وحمل كل واحد منهما على صاحبه ، فضربه أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ضربة ، فقتله وعجل الله بروحه إلى النار ، ثم نادى علي «عليه‌السلام» : هل من مبارز؟

فبرز له الحارث بن مكيدة وكان صاحب الجمع ، وهو يعد بخمسمائة فارس ، وهو الذي أنزل الله فيه : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) ، قال : كفور (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) قال : شهيد عليه بالكفر (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» : يعني باتباعه محمدا.

فلما برز الحارث ، حمل كل واحد منهما على صاحبه ، فضربه علي ضربة فقتله ، وعجل الله بروحه إلى النار.

ثم نادى علي «عليه‌السلام» : هل من مبارز؟

فبرز إليه ابن عمه يقال له : عمرو بن الفتاك ، وهو يقول :

أنا عمرو وأبي الفتاك

وبيدي نصل سيف هتاك

أقطع به الرؤس لمن أرى كذاك

فأجابه أمير المؤمنين «عليه‌السلام» وهو يقول :

هاكها مترعة دهاقا

كأس دهاق مزجت زعاقا

إني امرؤ إذا ما لاقا

أقد الهام وأجذ ساقا

٢٦٦

ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه ، فضربه علي «عليه‌السلام» ضربة فقتله ، وعجل الله بروحه إلى النار ، ثم نادى علي «عليه‌السلام» : هل من مبارز؟

فلم يبرز إليه أحد ، فشد أمير المؤمنين «عليه‌السلام» عليهم حتى توسط جمعهم ، فذلك قول الله : (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) ، فقتل علي «عليه‌السلام» مقاتليهم ، وسبى ذراريهم ، وأخذ أموالهم ، وأقبل بسبيهم إلى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فبلغ ذلك النبي ، فخرج وجميع أصحابه حتى استقبل علي «عليه‌السلام» على ثلاثة أميال من المدينة.

وأقبل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يمسح الغبار عن وجه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» بردائه ، ويقبل بين عينيه ويبكي ، وهو يقول :

«الحمد لله يا علي الذي شد بك أزري ، وقوّى بك ظهري ، يا علي ، إنني سألت الله فيك كما سأل أخي موسى بن عمران صلوات الله وسلامه عليه أن يشرك هارون في أمره ، وقد سألت ربي أن يشد بك أزري» ثم التفت إلى أصحابه وهو يقول :

«معاشر أصحابي لا تلوموني في حب علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» ، فإنما حبي عليا من أمر الله ، والله أمرني أن أحب عليا وأدنيه ، يا علي من أحبك فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله ، ومن أحب الله أحبه الله ، وحقيق على الله أن يسكن محبيه الجنة ، يا علي من أبغضك فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله ، ومن أبغض الله أبغضه ولعنه ، وحقيق على

٢٦٧

الله أن يقفه يوم القيامة موقف البغضاء ، ولا يقبل منه صرفا ولا عدلا» (١).

ونقول :

إننا بغض النظر عن ركاكة الرجز الذي ذكرته الرواية ، وعدم استقامة أوزان عدد من فقراته نشير إلى ما يلي :

إعتراض ابن عباس :

قد ذكرت الرواية : أن ابن عباس قد قام ، فقال لرسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «فداك أبي وأمي يا رسول الله ، تجهز ابن عمي في خمسين ومائة رجل من العرب ، إلى خمسمائة رجل ، وفيهم الحارث بن مكيدة ، يعد بخمسمائة فارس»؟!

فقال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أمط عني يا بن عباس الخ ..» (٢).

ونقول :

أولا : إن من البعيد أن يصدر ذلك عن ابن عباس ، الذي ولد سنة الهجرة ، أو قبلها بثلاث سنوات ، فيكون عمره في غزوة ذات السلاسل ثماني سنوات أو أحد عشرة سنة على أبعد تقدير .. ولا يتوقع من صبي بهذه السن أن يواجه النبي الأعظم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهذا الاعتراض. وأن يجيبه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بهذا الجواب.

فإن هذا الجواب ، خصوصا قول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «أمط عني يا بن عباس» يستبطن درجة من القسوة على طفل بهذه السن ..

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٨٤ و ٩٠ عن تفسير فرات ص ٥٩٣ ـ ٥٩٨.

(٢) البحار ج ٢١ ص ٨٧ وتفسير فرات ص ٥٩٥.

٢٦٨

كما أن نفس هذا الذي اعترض به ابن عباس والمتضمن لتفصيل واستدلال ، وجرأة ، إنما يتوقع من أناس نشأوا في بيئة غير صالحة ، وممن لا يلزمون أنفسهم بمقتضيات الأدب مع النبي الكريم «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

ثانيا : إنهم يزعمون : أن العباس هاجر قبل الفتح بقليل وهو موضع ريب وشك ، بل هو قد أسلم يوم فتح مكة ، قال في الإستيعاب : «أظهر إسلامه يوم فتح مكة ، وشهد حنينا والطائف وتبوك» (١).

وقال البلاذري : «لقي العباس النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بذي الحليفة ، ـ قال ابن هشام : لقيه بالجحفة ـ وهو يريد مكة ، وقد أظهر إسلامه. فأمر النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يمضي ثقله إلى المدينة ، وقال له : هجرتك يا عم آخر هجرة ، كما أن نبوتي آخر نبوة» (٢).

ونظن أن أحفاده العباسيين هم الذين حاولوا : أن ينيلوه فضل الهجرة ولو بأن يلتقي بالنبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بذي الحليفة ، إذ لا هجرة بعد الفتح. مع أنهم قد غفلوا عن أنه كان لا يزال حين الفتح في مكة ، وهو الذي ضغط على أبي سفيان لكي يظهر الإسلام قبل ضرب عنقه ، وذلك حين

__________________

(١) الإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج ٣ ص ٩٥ وراجع : الجوهر النقي ج ٩ ص ١٠٦ وعن ذخائر العقبى ص ١٩١ ومغني المحتاج ج ٤ ص ٢٣٩ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ٩٨.

(٢) السيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٨٥٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٥٣٤ وأنساب الأشراف ج ١ ص ٢٥٥ وسبل الهدى والرشاد ج ٢ ص ٢١٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٣٢٨ ومواقف الشيعة ج ١ ص ١٧١ عن عيون الخبار لابن قتيبة ج ١ ص ٥.

٢٦٩

استعرض هو وإياه كتائب المسلمين الآتية لفتح مكة فراجع (١).

فإذا كان العباس آنئذ لا يزال يعيش في مكة ، ولم يهاجر إلى المدينة إلا بعد الفتح. وكانت عائلته معه ، فمن أين؟ وكيف ظهر ابن عباس في هذه الغزوة التي سبقت فتح مكة؟

ثالثا : أليس قد عاد الناس لتوّهم من غزوة خيبر ، التي كان جيش المسلمين فيها حوالي ألف وخمس مئة مقاتل ، في مقابل عشرة آلاف من اليهود فضلا عن غيرهم؟

وكان قد شاع وذاع أيضا ما حاق بالمشركين على يد المسلمين في بدر ، وأحد ، والأحزاب ، وفي سائر المواقف ، مع قلة عدد المسلمين في أكثر المعارك ، وكثرة عدد أعدائهم ، الذين كثيرا ما كانوا يزيدونهم بأضعاف ، وقد كان النصر حليفهم باستمرار ..

رابعا : إذا كان ابن مكيدة يعد بخمس مئة فارس ، فإن عليا «عليه‌السلام» يعد بالألوف ، وهو قالع باب خيبر ، وفاتح حصونها بالأمس وحده ، وهو قاتل عمرو بن عبد ود ، الذي كان يعدّ يعد بألف فارس ، وهو هازم جيش الشرك في حرب أحد وحده ، إلى غير ذلك مما هو ذائع وشائع.

عدد جموع الأعداء :

وقالوا لقد كان العدد الذي جمعه بنو خثعم لمهاجمة المدينة هو خمس مئة

__________________

(١) راجع : مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٧٨ والبحار ج ٢١ ص ١٢٨ و ١٢٩ ومستدرك سفينة البحار ج ٨ ص ١٠٨ و ١٠٩ وإعلام الورى ج ١ ص ٢٢٠ و ٢٢١ وقصص الأنبياء ص ٣٤٦ و ٣٤٧.

٢٧٠

من رجل كما ورد في بعض الروايات (١).

ونقول :

ألا يمكن أن يقال : إن خمس مئة رجل قد لا يجرؤون على مهاجمة المدينة ، بعد أن هزم الله يهود خيبر ، وهم أكثر من عشرة آلاف ، بتلك الطريقة المخزية كما تقدم ، وهزم الله المشركين يوم الأحزاب ، وهم ألوف ، وهزمهم الله أيضا في بدر وفي أحد ، وفي سائر المشاهد؟!

إلا إن كان الهدف هو أخذ المسلمين على حين غرة ، قد تنتهي بقتل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وانفراط جمع المسلمين. ولكنه احتمال بعيد ، فإن الإسلام قد انتشر وشاع وذاع ، وكثر له الأتباع في جميع الأصقاع ، ولا بد أن يوجب قتل رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ثورة جميع الناس ضد بني خثعم.

إن هذا يقوي احتمال تعدد هذه الواقعة ، وتعدد فرار أولئك القوم ، أعني أبا بكر ، وعمر ، قد جاء ليزيل به أية شبهة في عدم صحة ما يدّعونه لأنفسهم من فضل وكرامات ، ومواقف وبطولات ، فظهرت هزيمتهم في المواقف المختلفة لكي لا يتخيل أحد : أن ما جرى لهم في بني قريظة ، ثم في خيبر ، ثم في فدك ، وقد كان مجرد حالة عفوية ، طارئة ، فرضتها معطيات مفاجئة ، لم يكونوا يظنون أنهم سوف يواجهونها ..

يضاف إلى ذلك كله ، فرارهم المتوالي في سرية وادي يابس ، وسرية ذات السلاسل ، وربما وادي الرمل ، وسوى ذلك مما يتأكد احتماله لدى

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٨٥ و ٨٦ و ٨٨ وتفسير فرات ص ٥٩٣.

٢٧١

الباحث المنصف (١).

بكاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

ثم إن الرواية المتقدمة قد ذكرت : بكاء النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» حتى أبكى جميع أصحابه ، وذلك حين أخبره ذلك الرجل بما عزم عليه بنو خثعم.

والسؤال هو : لماذا هذا البكاء يا ترى؟!

إننا لا يمكن أن نحتمل : أن يكون بكاء الخوف ، أو بكاء الضعف ، فإن هذا مما لا بد من تنزيه رسول الله عنه .. علما أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد واجه أضعاف هذا العدد من الأعداء في وقت كان المسلمون فيه في غاية القلة ، والضعف من حيث العدة والعدد. ولم ينس المسلمون بعد ما جرى في خيبر ، والأحزاب ، وبدر ، وأحد ، وسوى ذلك ..

كما أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أضحى قادرا على حشد اضعاف ما حشده بنو خثعم ..

وحتى لو كان هذا الأمر يستوجب البكاء ، ولنفترض : أنه بكى إشفاقا على بعض أصحابه من أن يصيبهم سوء ، أو لغير ذلك من أسباب ..

ولكن هل يصح أن يكون هذا البكاء علنيا وعلى رؤوس الأشهاد؟!

وألا يوجب هذا البكاء والإبكاء وهنا في المسلمين ، وإطماعا لأعدائهم بهم؟! فيكون بالتالي نقضا للفرض ، وتضييعا بل تفريطا خطيرا ، وغير مقبول؟!

__________________

(١) تقدم مصادر ذلك.

٢٧٢

الإحجام غير المفهوم :

ولا ندري لماذا يحجم المسلمون عن الخروج إلى أولئك القوم ، فلا يجيبون رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله»؟!

ولماذا زهدوا بالجنة التي ضمنها لهم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، مع كثرة جموعهم ، وقلة عدوهم؟!

كيف وقد جهز «صلى‌الله‌عليه‌وآله» إلى مؤتة بالأمس ثلاثة آلاف مقاتل. وجهز قبلها ألفا وخمس مائة مقاتل إلى خيبر ، ومثلها إلى الحديبية قبل ذلك .. ثم لا يجرؤ أحد من أصحابه على إجابته ، والمبادرة إلى امتثال أمره؟!

مئة وخمسون فقط :

وأما بالنسبة لاقتصار النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على مائة وخمسين رجلا في مقابل خمس مئة ، ومنهم بطل يعد بخمس مئة فارس. نلاحظ : أن الرواية أشارت إلى أن ثمة من التفت إلى هذا الأمر ، وسأل عنه ، وقد سمت الرواية ابن عباس ، وقالت : إنه سأل عن أنه إذا كان بإمكان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أن يجهز الألوف إلى الحرب ، فلماذا اكتفى بمائة وخمسين رجلا؟!

فأجابه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بأنه يريد أن يظهر أثر علي «عليه‌السلام» ، وشجاعته ، ومدى استعداده للتضحية؟! وأنه لو ارسله وحده فإن الله ينصره عليهم.

وذلك ليؤكد للناس : أنه «عليه‌السلام» محل عناية الله ورعايته ، وأنه مؤيد بنصره عزوجل .. وما ذلك إلا لشدة تفانيه في ذات الله ، وحرصه على الفوز برضاه تبارك وتعالى.

٢٧٣

الضلال عن الطريق والاهتداء إليها :

ثم إننا نستبعد : أن يكون علي «عليه‌السلام» ، ومن معه ما لبثوا أن ضلوا عن الطريق وهم أهل البلاد ، ويعرفون شعابها ومسالكها ..

ولو فرض : أن بعضهم قد وقع في الشبهة ، فإن من الطبيعي أن يكون بين هذا العدد من الناس الكثيرون ممن يعرفون الطريق ، ويرشدون رفقاءهم إليها ، ويدلونهم عليها ..

يضاف إلى ذلك : أن عليا «عليه‌السلام» قائدهم هو الذي سلك المسالك الوعرة والغامضة في سرية ذات السلاسل ، حتى إن ذلك قد حرك عمرو بن العاص ، وكذلك خالد بن الوليد لتوسيط أبي بكر وعمر لديه ، ليرجع بهم إلى الجادة ، فأجابهم أنه يعلم ما يصنع ..

فلماذا لا يرشدهم علي العارف بغوامض الطرق ، والواقف على المسالك الصعبة ، إلى طريق الجادة ، حتى احتاجوا إلى قدح النار من حوافر خيولهم؟!

وحتى لو قبلنا بأنهم قد ضلوا الطريق .. فإن حديث معرفتهم الطريق بسبب قدح النار من حوافر الخيل ، يبقى هو الآخر موضع ريب ، فإن قدح الشرر لا يوجب رؤية الطريق ، وتمييز معالمها ، كما أنه لا يوجب اشتعال النار ، إلى حد أن تكشف ما حولها ..

إلا إن كان المقصود : أن سيره على الحجارة الذي أوجب قدح الشرر من حوافر الخيل قد عرّفهم بأنهم يسيرون على الطريق. مع افتراض أن يكون وجود الحجارة دليلا على الطريق ، باعتبار أن سائر المسالك لا حجارة فيها ..

ولكن هذا يبقى مجرد احتمال ، قد يعرض له التأييد أو التفنيد ، بحسب ما يعرض له من أدلة أو شواهد. بل هو احتمال بعيد ، وافتراض غير سديد.

٢٧٤

لا يقاتل حتى تطلع الشمس :

وأما ما ذكرته الرواية : من أن عليا «عليه‌السلام» كان لا يقاتل حتى تطلع الشمس ، وتنزل ملائكة النهار ..

فلعله اشتباه من الراوي ، وذلك لما يلي :

١ ـ إن ملائكة النهار تنزل من حين طلوع الفجر ، كما روي عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (١) ، يعني صلاة الفجر ، تشهده ملائكة الليل ، وملائكة النهار (٢).

__________________

(١) الآية ٧٨ من سورة الإسراء.

(٢) راجع : البحار ج ٥ ص ٣٢١ وج ٩ ص ٢٩٦ وج ١١ ص ١١٧ و ١١٨ وج ٥٣ ص ٢١٢ وج ٧٣ ص ٢٥٤ و ٢٦٣ وج ٧٧ ص ٣٠ و ٧٢ و ٧٣ و ٩٩ و ١٠٢ ومستدرك سفينة البحار ج ٦ ص ٣٢٩ وج ٨ ص ١٣٢ وعن مسند أحمد ج ٢ ص ٤٧٤ وراجع : فقه الرضا «عليه‌السلام» ص ٧٢ والمعتبر للمحقق الحلي ج ٢ ص ١٧ ومنتهى المطلب (ط ق) ج ١ ص ١٩٦ و (ط ج) ج ٤ ص ٢٥ و ٢٧ وتذكرة الفقهاء (ط ق) ج ١ ص ٧٢ و (ط ج) ج ٢ ص ٢٧٣ والذكرى ص ١١٣ و ١٢٢ ومدارك الأحكام ج ٣ ص ٢٤ والحبل المتين ص ١٢٢ ومفتاح الفلاح ص ٤ والحدائق الناضرة ج ٦ ص ٢٠٧ ومستند الشيعة ج ٤ ص ٥٣ وجواهر الكلام ج ٧ ص ١٦٨ ومسند زيد بن علي ص ٩٩ والمبسوط للسرخسي ج ١ ص ١٥٧ وفقه السنة ج ١ ص ٩٧ و ١٥٧ والمحاسن ج ٢ ص ٣٢٣ والكافي ج ٣ ص ٢٨٣ و ٤٨٧ وج ٨ ص ٣٤١ ومن لا يحضره الفقيه ج ١ ص ٢٢٢ و ٤٥٥ وعلل الشرايع ج ٢ ص ٣٢٤ و ٣٣٦ وأمالي الصدوق ص ٢٥٤ وثواب الأعمال ص ١٣٦ والإستبصار ج ١ ص ٢٧٥ وتهذيب الأحكام ج ٢ ص ٣٧ وروضة الواعظين ص ٣١٧ ومختصر بصائر الدرجات ص ١٣١ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١ ص ٢٧٣ وج ٤ ـ

٢٧٥

٢ ـ قد تقدم : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما بيّت عدوا قط ليلا ..

بل إن عليا «عليه‌السلام» كان لا يقاتل إلا بعد زوال الشمس ظهرا ، وقد تقدم ذلك ..

لماذا لا يقاتل إلا بعد الزوال؟!

وقد شرح أمير المؤمنين «عليه‌السلام» نفسه أسباب عدم قتاله إلا بعد

__________________

ص ٥٠ و ٥٢ و ٥٣ و ٢١٢ و ٢١٣ و (ط دار الإسلامية) ج ١ ص ٢٦١ وج ٣ ص ٣٥ و ٣٦ و ٣٧ و ٦٠ و ١٥٤ و ١٥٥ ومستدرك الوسائل ج ٣ ص ٥١ و ١٢٠ و ١٢٤ و ١٦٤ وج ٤ ص ٧٥ والإختصاص ص ٣٦ وأمالي ص ٦٩٥ وعوالي اللآلي ج ١ ص ٤٢١ وحلية الأبرار ج ١ ص ١٦٠ وسنن ابن ماجة ج ١ ص ٢٢٠ وسنن الترمذي ج ٤ ص ٣٦٤ والمستدرك للحاكم ج ١ ص ٢١١ والمصنف للصنعاني ج ١ ص ٥٢٣ وعن السنن الكبرى للنسائي ج ٦ ص ٣٨١ وصحيح ابن خزيمة ج ٢ ص ٣٦٥ وصحيح ابن حبان ج ٥ ص ٤٠٩ وكتاب الدعاء للطبراني ص ٥٩ وتفسير أبو حمزة الثمالي ص ٢٣٦ وتفسير القمي ج ٢ ص ٢٥ والتبيان ج ٦ ص ٥٠٩ ومجمع البيان ج ٢ ص ١٢٨ وج ٦ ص ٢٨٣ وتفسير جوامع الجامع ج ٢ ص ٣٨٢ وفقه القرآن ج ١ ص ٨٢ و ١١٤ وتفسير غريب القرآن ص ١٩٧ والتفسير الصافي ج ٣ ص ٢١٠ والتفسير الأصفى ج ١ ص ٦٩٢ ونور الثقلين ج ٣ ص ٢٠١ وجامع البيان ج ١٥ ص ١٧٣ و ١٧٤ و ١٧٥ و ١٧٦ ومعاني القرآن ج ٤ ص ١٨٣ وزاد المسير ج ٥ ص ٥٣ والجامع لأحكام القرآن ج ١٠ ص ٣٠٦ وتفسير القرآن العظيم ج ١ ص ١٣ و ٥٣ وتفسير الجلالين ص ٣٧٤ وعن الدر المنثور ج ٤ ص ٣٩٦ وعن فتح القدير ج ٣ ص ٢٥١ و ٢٥٥ وعن البداية والنهاية ج ١ ص ٥٦ وسبل الهدى والرشاد ج ٩ ص ١٥٠ والنهاية في غريب الحديث ج ٢ ص ٥١٣.

٢٧٦

زوال الشمس .. فركز على الأسباب التالية :

١ ـ إن هذا الوقت أقرب إلى الليل ، فإذا ذاق المقاتلون طعم القتال ، وعرفوا أنه ليس مجرد نزهة ، بل فيه آلام ومصائب ، وكوارث ونوائب ، ثم جنهم الليل ، فإنهم سوف يعيدون النظر في حساباتهم ، وسيقيّمون الأمور وفق أمور عينية ملموسة ، لم تعد مجرد تصورات غائمة ، تكتنفها الكثير من التخيلات التي تقلل من وضوحها ، وتهون من أمرها.

فالألم المتصور والمفترض لا يؤثر في قرار الإنسان بمقدار ما إذا أصبح ماثلا وحاضرا ، والمصاب الذي تسمع به أو تقرأ عنه ليس تأثير بمقدار المصاب الذي تراه وتعيشه ، وتعاني منه ما تعاني ..

فقد يدفعك خيال مّا ، أو يهيجك هائج حمية أو عصبية ، أو يدعوك داعي طمع ، أو جشع ، أو تزين لك أحلام وردية ، ترتكز إلى حسابات خاطئة أن تقتحم أتون الحرب .. فتبادر إلى ذلك .. فإذا مسّك شيء من بلاياها وزراياها ، يرجع إليك صوابك ، وتلتمس الخلاص ، ولات حين مناص .. ثم تطحنك رحى الحرب فيما تطحن ، وتحطم ما صلب منك ، وتلتهم ما رقّ ولان. وتجد نفسك غير قادر على استرجاع ما ذهب ، ولا استدراك ما يأتي ، وتفرض عليك تلك الحرب كل تبعاتها ، وتحملك ما أردته وما لم ترده من جرائمها وموبقاتها ، وتلقي عليك بكلاكلها وأثقالها ، وتبوء بكل مخزياتها ..

٢ ـ إن هذا الوقت القصير ، الذي هو بداية القتال ، يكون فيه رجال الحرب على درجة عالية من اليقظة ، والنشاط والحذر ، ويريد كل منهم أن يختبر قدرات العدو ، وأن يكتشف مكامن قوته ، ومواضع ضعفه.

٢٧٧

فالإقدام فيه محدود ، والحذر فيه على أشده .. ولا تتوفر فيه دواع للاستقتال وطلب الموت ، إذ لم يستحر القتل فيه بالأحبة ، ولا وقع الأسر بعد على الأبناء والإخوة ، ولا السبي أو العدوان على رموز الشرف ، ومواضع الغيرة ..

فلا موجب إذن لثورة حماس الشجعان. ليلقوا بأنفسهم في المهالك ، طلبا للثار ، أو لأجل محو العار.

وإذا كانت الأمور لا تزال في حدودها المعقولة هذه ، فيمكن للعاقل أن يثوب إليه رشده في الليلة التي تعقب هذه البداية ، ويكون ـ في هذه الحال ـ مدركا بعمق حقيقة ما هو فيه ، ونتائج ما يقدم عليه ، فيوازن بين الحالين ، ويتخذ القرار الرشيد ، والموقف السديد ..

٣ ـ وإذا كان هناك من يلاحق مهزوما فسيمنعه حلول الليل من مواصلة سعيه.

٤ ـ ولا ضير في أن ينجو ذلك المهزوم ، فإن هزيمته النفسية ، تكفيه هو الآخر ليعيد حساباته ، ويستأنف حياته ، بنمط جديد ، وحزر شديد.

كما أن المطلوب المهم هو دفع شره ، والتخلص من أذاه .. وقد حصل ذلك فعلا .. وليس المطلوب هو قتله ، أو أسره ، إلا إذا كان دفع شره يحتاج إلى ذلك.

وهذا هو ما قاله علي «عليه‌السلام» : «هو أقرب إلى الليل ، وأجدر أن يقل القتل ، ويرجع الطالب ، ويفلت المنهزم» (١).

__________________

(١) الوسائل ج ١١ ص ٤٦ وفي هامشه عن الكافي (الفروع) ج ١ ص ٣٣٥ وعن تهذيب

٢٧٨

إن الإنسان لربه لكنود في من نزلت؟!

وقد ذكرت الرواية المتقدمة أن قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) (١) قد نزل في الحارث بن مكيدة ، إلى أن قال تعالى : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (٢).

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه‌السلام» : يعني باتباعه محمدا (٣).

وقيل : المراد عمرو بن العاص (٤).

وقيل : غير ذلك ..

ونقول :

إن هذا الاختلاف لا ضير فيه ، إذ لعل السورة قد نزلت أكثر من مرة.

ولهذا نظائر كثيرة ، حسبما أشرنا إليه في موارد أخرى في هذا الكتاب ، وفي غيره.

غير أن تفسير آية : (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) (٥) بعلي «عليه‌السلام». لا

__________________

الأحكام ج ٢ ص ٢٥٦ وعن علل الشرايع ج ٢ ص ٦٠٣ والبحار ج ٣٣ ص ٤٥٣ وج ٩٧ ص ٢٢ والكافي للحلبي ص ٢٥٦ ومنتهى المطلب (ط ق) ج ٢ ص ٩٩٧ والتحفة السنية (مخطوط) ص ١٩٩ ورياض المسائل (ط ق) ج ١ ص ٤٨٩ و (ط ج) ج ٧ ص ٥١١ وجواهر الكلام ج ٢١ ص ٨١ والكافي (ط دار الكتب الإسلامية) ج ٦ ص ١٧٣ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٥ ص ٦٣ و (ط دار الإسلامية) ج ١١ ص ٤٧ والبحار ج ١١ ص ٤٥٣ وج ٩٤ ص ٢٢.

(١) الآية ٦ من سورة العاديات.

(٢) الآية ٨ من سورة العاديات.

(٣) البحار ج ٢١ ص ٨٨ و ٨٩ عن تفسير فرات ج ١ ص ١٦.

(٤) البحار ج ٢١ ص ٧٧ عن الخرايج والجرايح.

(٥) الآية ٨ من سورة العاديات.

٢٧٩

يلائم سياق الآيات. حيث يظهر من السياق أن حب ذلك الكنود للخير ، أي أن حبه للنعم الدنيوية ، مثل المال ، والجاه ، والبقاء على قيد الحياة ، شديد ، ولذلك خاف الذين أرسلهم النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أولا على أنفسهم ، وحسدوا عليا «عليه‌السلام» ، وحاولوا إحباط مسعاه في تحقيق النصر ..

ثم ذكرت الآيات أن هؤلاء المحبين للدنيا سيرون في يوم القيامة كيف أن الله سيظهر ما أضمروه في صدورهم ، وسيفضح ما انطوت عليه قلوبهم. (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ ، وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ ، إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (١).

__________________

(١) الآيات ٩ ـ ١١ من سورة العاديات.

٢٨٠