الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-192-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٥

المؤرخين. فهل كان ذلك غفلة منهم عن حقيقة الحال؟! أم أن ارتباك الروايات جعلهم يقتصرون على ذكر المائتي ألف ، أو ما يزيد على ذلك بما لا يصل إلى هذه الأرقام العالية؟!

أم أن كثرة الأعداد ، أوجبت اختلاط الأمور عليهم؟!

إننا لا نستطيع أن نقدم أية إجابة حاسمة على هذا السؤال ، لكننا نقول :

لا شك في أن الجيوش المجتمعة كانت هائلة ، حتى مع الإعتراف بغياب القدرة على تقديم إحصاءات دقيقة عنها ..

وقد يكون سبب عزوف المؤرخين عن التصريح بأرقامها العالية هو استبعادهم أن يكون ذلك قد حصل فعلا. فاكتفوا بذكر ما يسع الناس تصديقه ، ولو بنحو من التكلف وادّعاء التسامح ، وتركوا ما عداه ..

واحتمال تكثير عدد الجيوش إلى هذا الحد الذي ربما يبدو خياليا هو إيجاد العذر لخالد عن هزيمته النكراء التي فوتت على الإسلام والمسلمين أعظم الإنجازات التي ربما لو تحققت لفتح الإسلام بلاد الروم بأسرها. ولكن ذلك وإن كان في محله إلا أن للمبررات حدودها المعقولة ، فلو لم يكن العدد هائلا بالفعل لم تصح ولم تقبل هذه المبالغة من أحد.

غير أن مما لا شك فيه أن النصر كان أكيدا مهما قلنا في عدد الجيوش ، وأن خالدا هو الذي ضيعه ، ويدل على ذلك هذا الموقف الصارم من المسلمين تجاه خالد وجميع من فر معه ، ولم يتدخل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» للتخفيف عنهم ، لأنه رآهم يستحقون أكثر من ذلك ، ورأى أن للمسلمين الحق بأن يعاملوه بما هو أشد.

٢١

فتجمعوا لهم :

ذكرت النصوص المتقدمة : أن المائة ألف الذين جمعهم شرحبيل قد تجمعوا لهم. أي استعدادا لمواجهة المسلمين.

غير أننا نقول :

إن المتوقع ممن يستعد لمواجهة عدو قادم هو أن يواجهه بكمائن ومفاجآت تربك أو تعيق حركته ، وتنهك قوته ، وربما تنجح في حسم الأمور معه بأدنى الخسائر .. غير أننا لم نجد شيئا من ذلك سوى طليعة سدوس التي انتهت بقتله ، وفرار من معه.

مع ملاحظة : أنه ليس فيها أي عمل ذكي من الناحية العسكرية ، بل هي مجرد عمل روتيني فاشل وضعيف.

إما النصر وإما الشهادة :

وعن تشجيعات عبد الله بن رواحة للناس ، وقوله : «هي إحدى الحسنيين ، إما ظهور ، أو شهادة ، وليست بشر المنزلتين» ، نقول :

إن الحديث عن الظهور والغلبة في ظروف كهذه ، وحيث يعدّ عدوهم بمئات الألوف ، وبأحسن عدة ، وأتم تجهيز ، لهو أمر يبعث على الإعتزاز ، والفخر من جهة ، وهو يدل على وجود مبررات لهذا الحديث ، تجعل من توقع حصول النصر أمرا مقبولا ومعقولا .. وعلى أن هذه الأعداد لم تفاجئهم ، بل كانوا يتوقعون حشودا كبيرة جدا ، تقترب من الأرقام التي صادفوها.

لكن ما لم يكن ذلك الجيش الإسلامي يتوقعه هو زيادة رقم الحشود إلى حد جعله يفكر بمراجعة النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لمعرفة ما إذا كانت

٢٢

هذه الزيادة تستدعي توجيها آخر منه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، أم أن الأمور لم تصل إلى حد يدعو إلى ذلك ..

ولكن ما يبقى غامضا بالنسبة إلينا هو حقيقة تلك المبررات التي تدعو جيش المسلمين إلى توقع النصر ، أو احتماله. فإن المادة التاريخية المتوفرة لدينا لا تخولنا معرفة شيء منها.

ولعل السبب في ضآلة النصوص هنا هو الرغبة في الحفاظ على ماء الوجه لبعض من تسبب بحدوث الهزيمة ، فعمد الرواة والمؤرخون إلى إهمال التصريح بأمور كثيرة وخطيرة ، كان التصريح بها مفيدا جدا وضروريا ..

وينبغي أن لا نهمل الإشارة إلى أن مما يوكد ذلك كله : هو التعبير عن الشهادة بأنها «ليست بشر المنزلتين» ، حيث يستبطن هذا التعبير إلماحة إلى أن موضوع الشهادة ، كان هو الأبعد احتمالا عن ذهن جيش المسلمين ، باستثناء استشهاد القادة الثلاثة ..

وهناك ما هو أصرح وأوضح ، وهو : قول ثابت بن أقرم لأبي هريرة ، حين رأى جموع الروم ، فبهرته كثرتهم وتجهيزاتهم :

«يا أبا هريرة ، كأنك ترى جموعا كثيرة!!

قلت : نعم.

قال : إنك لم تشهد معنا بدرا ، إنّا لم ننصر بالكثرة» (١).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٤٨ وعن مغازي الواقدي ج ٢ ص ٧٦٠ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٦٧ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ١٤ وج ١١ ـ

٢٣

فالنصر كان متوقعا ، وكانت الأمثولة لهم هي غزوة بدر ، والنصر المؤزر الذي تحقق فيها ..

فخرج على قومه في زينته :

وإن قصة أبي هريرة حين رأى كثرة القوم ، والعدّة والسلاح ، والحرير ، والديباج ، والذهب ، حيث برق بصره ـ لتذكرنا بقوله تعالى عن قارون :

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ، وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ) (١).

ويقول تعالى عن فرعون : (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ ، فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) (٢).

فقد أظهرت هذه الآيات الخلل العميق في النظرة وفي المعايير لدى قوم فرعون ، وأمثالهم من طلاب الحياة الدنيا ، وذلك لأن رؤيتهم للزينة الحاضرة ، وللأنهار تجري من تحت فرعون ، وكون أن ملك مصر بيده .. ثم

__________________

ص ١٠٨ وعن الإصابة ج ١ ص ٥٠٠ وشجرة طوبى ج ٢ ص ٢٩٩ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٧٨ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦٨ وعن دلائل النبوة للبيهقي ج ٤ ص ٢٧٨.

(١) الآيتان ٧٩ و ٨٠ من سورة القصص.

(٢) الآيات ٥١ ـ ٥٤ من سورة الزخرف.

٢٤

التفاتهم إلى أن موسى «عليه‌السلام» لا تلقى عليه أسورة الذهب ، ولا تأتي معه الملائكة ، قد جعلهم يتخيلون أن السعادة ، واللذة والحياة ستكون في جانب فرعون ، وأن البؤس والسغب والحرمان سيكون في الجانب الآخر ، فيستثير ذلك غرائزهم ، ويدفع أهواءهم ، للإندماج والانغماس ، في هذا الواقع الزاخر بالشهوات .. ويدفعهم ذلك إلى أن ينأوا بأنفسهم عن الاستجابة لدعوات الحق ، ويزيد من نفورهم منه ، وابتعادهم عنه.

وأما عقولهم ، فلا يكون لها دور ، ولا يسمع لها رأي ، لأنهم يشعرون أن عقولهم تدعوهم للتخلي على اللذة الحاضرة منهم ، من دون عوض حاضر تقدمه إليهم.

وهذا بالذات هو ما جرى لأبي هريرة ، فإنه حين رأى الديباج والحرير ، والذهب ، والعدة والعدد ، والعتاد والسلاح ، استيقظت غرائزه ، واشرأبت أعناق الشهوات وحب الدنيا في نفسه ، لتغرق في هذا الذهب ، وذلك الحرير ، وتعيش الركون إلى العدة والعدد ، والسلاح .. وغاب العقل عن مسرح القرار ، وخف ميزانه ، وضعفت قدرته على التأثير في نفس هيمنت عليها الغرائز ، وتملكها حب الدنيا ، وركنت وانشدت إليها ..

وربما يذكّره ثابت بن أقرم بالمعادلة الصحيحة ، وهي : أن النصر ليس للكثرة ، وأن بدرا هي خير شاهد ودليل على ذلك ..

فسكت أبو هريرة ، ولم يجرؤ على إظهار حقيقة ما يعتلج في نفسه ، ولم يكن لديه حيلة ، ولا وسيلة ، إلا هذا السكوت الساتر لما في الضمائر ..

٢٥

إيذاء الحيوان لا يجوز :

وذكروا : أن جعفرا رضوان الله تعالى عليه قد عقر فرسه .. وهذا ما رواه أبو داود ، من طريق محمد بن سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : عن يحيى بن عبّاد ، عن أبيه عبّاد بن عبد الله بن الزبير ، قال : حدثني أبي الذي أرضعني ، فذكره ، وقال : ليس هذا الحديث بالقوي.

قال الصالحي الشامي : وقد جاء نهي كثير من أصحاب رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» [عن تعذيب البهائم ، وقتلها عبثا] كذا قال أبو داود : إنه ليس بقوي وابن اسحاق حسن الحديث.

وقد صرح بالتحديث في رواية زياد البكائي ، فقال : حدثني يحيى بن عباد ، ويحيى وأبوه ثقتان ، وجهالة اسم الصحابي لا تضرّ ، ورواه أيضا عن ابن اسحاق عن عبد الله بن إدريس الأودي كما في مستدرك الحاكم ، فسند الحديث قوي (١).

قال الخطابي عن عقر جعفر لفرسه : وهذا يفعله الناس في الحرب إذا أرهق وأيقن أنه مغلوب ، لئلا يظفر به العدوّ ، فيتقوى به على قتال المسلمين (٢).

قال الحلبي : ومن ثم لم ينكر عليه أحد من أصحابه. وبه استدل من جوز قتل الحيوان خشية أن ينتفع به الكفار (٣).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٧.

(٢) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٧ والسيرة الحلبية ج ٣ ص ٥٧ وعون المعبود ج ٧ ص ١٧٢.

(٣) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٧ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٧٩ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦١.

٢٦

واختلف العلماء في الفرس يعقره صاحبه لئلا يظفر به العدو ، فرخص فيه مالك ، وكره ذلك الأوزاعي والشافعي.

واحتج الشافعي بحديث النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «من قتل عصفورا فما فوقه بغير حقه يسأله الله تعالى عن قتله».

واحتج بنهيه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عن قتل الحيوان إلا لمأكلة.

قال : وأما أن يعقر الفرس من المشركين ، فله ذلك ، لأن ذلك أمر يجد به السبيل إلى قتل من أمر بقتله (١).

هذا ما قاله هؤلاء ، أما نحن فنقول :

عقر الفرس أم عرقبها :

١ ـ مما تجدر الإشارة إليه ، هو : أن ما يذكرونه عن جعفر بالنسبة لفرسه ، قد ورد بصيغتين :

إحداهما : أنه عرقب فرسه (٢).

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٧ وكتاب الأم ج ٧ ص ٣٧٥.

(٢) راجع : المحاسن للبرقي ص ٦٣٤ والكافي ج ٥ ص ٤٩ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١١ ص ٥٤٤ ومنتهى المطلب (ط ق) ج ٢ ص ٩١٣ وجواهر الكلام ج ٢١ ص ٨٣ عن الوسائل ، والتهذيب ، والمحلى ج ٧ ص ٢٩٦ وتهذيب الأحكام ج ٦ ص ١٧٠ والبحار ج ٤٥ ص ١٤ وج ٥٨ ص ٢٢٣ وج ٩٤ ص ٢٥ وراجع : التنبيه والإشراف ص ١٣١ ومجمع البحرين ج ٣ ص ١٦٨ وعمدة القاري ج ١٧ ص ٢٦٧ والإستيعاب ج ١ ص ٧٧ وتاريخ مدينة دمشق ج ٧٠ ص ٢٨١.

٢٧

والأخرى : أنه عقر فرسه (١).

ولعل الثانية هي الأولى والأقرب إلى الصحة ، لأن عرقبة الفرس لا تتناسب مع ما ورد من النهي الشرعي عن إيذاء الحيوان ، حسبما قدمناه في غزوة الحديبية ، وذكرناه في كتابنا : «حقوق الحيوان في الإسلام» ، ونحن نجل جعفرا عن الإقدام على عمل نهى عنه الشارع ، ويأباه الخلق الإنساني الرفيع.

بل هناك نص عن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يتعرض لنفس هذا المعنى ، فقد روي عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قوله : «إذا حرنت على أحدكم

__________________

(١) راجع : الأمالي للطوسي (المجلس الخامس) ص ١٤١ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٤ ص ٣٨ والمبسوط للسرخسي ج ١٠ ص ٢٨ وعن مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٧٧ والبحار ج ٢١ ص ٥٠ و ٦٢ والنص والإجتهاد ص ٢٨ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٦٩ والدرجات الرفيعة ص ٧٥ والسير الكبير ج ٢ ص ٧٩٦ وعن البداية والنهاية ج ٢ ص ٣٠ وبشارة المصطفى ص ٤٣٢ وقصص الأنبياء لابن كثير ج ٢ ص ٢٩٩ ومقاتل الطالبيين ص ٧ وعن سنن أبي داود ج ١ ص ٥٨٠ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٧٨ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٥٩ وعن عون المعبود ج ٧ ص ١٧٢ والثقات ج ٣ ص ٤٩ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٦٨ ص ٨٨ وعن أسد الغابة ج ١ ص ٢٨٨ وتهذيب الكمال ج ٥ ص ٥٨ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٢٠٩ وتهذيب التهذيب ج ٢ ص ٨٤ وعن الإصابة ج ١ ص ٥٩٣ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٥ ص ٥٨ والمنتخب من ذيل المذيل ص ٢ و ٣ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ٨٣٣ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٦٧.

٢٨

دابة في أرض العدو فليذبحها ، ولا يعرقبها» (١).

أما عقر الفرس فلا يأبى عن إفادة معنى الذبح ، فهو الأقرب والأنسب بسجايا جعفر ، الذي أشبه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» في خلقه وخلقه (٢).

__________________

(١) الوسائل (ط دار الإسلامية) ج ١٦ ص ٣٠٧ و ٣٠٨ وج ٨ ص ٣٩٦ وج ٥ ص ٥٢ والكافي ج ٥ ص ٤٩ وتهذيب الأحكام ج ٦ ص ١٧٣ وج ٩ ص ٨٢ ، والبحار ج ٦١ ص ٢٢٢ و ٢٣ وج ٩٤ ص ٢٥ عن الكافي ، وعون المعبود ج ٢ ص ٣٣٣ وسنن أبي داود ج ٣ ص ٢٩ والمحاسن للبرقي ج ٢ ص ٦٣٤ ومستدرك الوسائل ج ٨ ص ٣٠١ وج ١٦ ص ١٥٧.

(٢) البحار ج ٢٢ ص ٢٧٥ وج ٣٨ ص ٣٠٧ ومستدرك سفينة البحار ج ٢ ص ٦٧ وج ٥ ص ٣٤٥ ومكاتيب الرسول ج ٣ ص ٦٣٥ وشرح مسند أبي حنيفة ص ٥٣٩ والدرجات الرفيعة ص ٧١ وأسد الغابة ج ١ ص ٢٨٧ ولسان الميزان ج ٤ ص ٢٦٩ وذخائر العقبى ص ٢١٥ والغدير ج ١٠ ص ١٣٠ وغنية النزوع ص ٧٦ وتحرير الأحكام (ط ج) ج ١ ص ١٣٦ وأنساب الأشراف ص ١٥٣ وسبل الهدى والرشاد ج ١١ ص ١٠٧ و ١٠٨ وعن مسند أحمد ج ٥ ص ٢٠٤ والمستدرك للحاكم ج ٣ ص ٢١٧ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٧٥ وعن فتح الباري ج ٧ ص ٣٩٠ وتحفة الأحوذي ج ١٠ ص ١٨٤ والمصنف للصنعاني ج ١١ ص ٢٢٧ وكنز العمال ج ١١ ص ٦٣٩ و ٦٦٢ و ٧٥٥ وج ١٢ ص ٢٥٥ والطبقات الكبرى لابن سعد ص ٣٦ وتاريخ بغداد ج ٩ ص ٦٣ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ١٩ ص ٣٦٢ وتهذيب الكمال ج ٢٤ ص ٣٩٥ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٢١٤ والمجدي في أنساب الطالبيين ص ٣٢٠ والمناقب للخوارزمي ص ٦٦ وكشف الغمة ج ١ ص ٩٧ وينابيع المودة للقندوزي الحنفي ج ٢ ص ٢١٩ وجامع الأحاديث والمراسيل ج ١ ص ٩٩ و ٤١٩ وج ١٨ ص ٢٥٣ و ٤٤٤ وج ٢ ص ١٤٠ وعن الفتح الكبير للسيوطي ج ١٤ ص ٢٥١ وعمدة القاري ج ١٦ ص ٢١٤.

٢٩

والذبح لغرض عقلائي ، لا يأباه الخلق الإنساني ، ولا يمنع منه الشرع الشريف.

٢ ـ زعموا : أنه يمكن توجيه مبادرته إلى عرقبة الفرس بأنه أراد أن يحرم العدو من الاستفادة منه (١).

ونقول :

إن ذلك غير دقيق ، فيما لو كان بإمكانه إيكال أمره إلى غيره من مقاتلي المسلمين ، ليستفيد منه في الحرب والنزال ، أو في غرض مشروع آخر ..

٣ ـ أما أسباب المبادرة إلى ذبح الفرس ، فيمكن أن نتلمسها فيما يلي :

ألف : إفهام العدو سرّ البطولة ، ورمزها ، وحقيقتها. وأنها إرادة وتصميم ، وإيمان وجهاد ، وتضحيات ، وأن يملك الإنسان نفسه ، وقرارها ، والقدرة على التصرف فيها ..

وليست الشجاعة هي مجرد امتلاك القدرة على التصرف في قدرات الجسد ، في دائرة هوى النفس ، وعلى خط تلبية متطلباتها.

بل الشجاعة هي امتلاك القدرة على التصرف في الجسد نفسه ، انسجاما مع مقتضيات الإيمان ، وتطبيقا للمبادئ ، وانسجاما مع القيم ، والمثل الإلهية العليا.

إنه يريد : أن يوجه للروم وللعرب الذين معهم إنذارا ، وأن يزرع الإعجاب والرعب في قلوبهم في آن واحد ، ثم أن يعطي المسلمين الذين

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٧٥ وعن عون المعبود ج ٧ ص ١٧٢ وسبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٥٧.

٣٠

جاؤوا معه للجهاد درسا في الشمم والفداء ، ومعنى الشجاعة ، وسر الإباء ، ولكنه درس كلماته الأفعال ، وحروفه التضحيات ، واللسان الناطق به هو إيمان شامخ ، ورأي باذخ ، ويقين راسخ.

أما جيوش الروم فوجدت نفسها أمام التحدي الكبير ، فواجهت اندفاع جعفر للتضحية والفداء ، باندفاع غرائزي فيها ، يهدف إلى التنفيس عن حقد دفين ، وعن لؤم مشين وخزي وابتذال مهين ، ولاذت بأسلحتها الفتاكة ، وانهمرت على جعفر بطعناتها وضرباتها .. فقطعت يده اليمنى ، ثم اليسرى .. وذلك حين وجدوا أنفسهم أمام حرب لا تخمد نارها إلا بإسقاط راية القائد ، الذي لن يدعها تسقط ما دام حيا ..

لقد آثر جعفر التخلص من الفرس ، لأنه يريد أن يفهم عدوه مدى تصميمه في حربهم ، ومدى تفانيه في الأهداف التي يحارب من أجلها ..

وأن قادة الجيوش الإسلامية لا يريدون الإحتماء بالأبطال ، ولا يريدون أن يموت الناس في الدفاع عنهم ، بل هم الذين يريدون أن يموتوا قبل الناس ، من أجل حفظ دين الناس ، وحفظ أرواحهم وراحتهم ..

وليست القضية مجرد خطب حماسية ، وشعارات رنانة ، بل هي مبادرة ، واستعداد ، وبذل وتضحية وجهاد ، يرونه رأي العين ..

بل إن هذا القائد لا يريد أن يهرب من الموت ، ولا أن يحمي نفسه منه ، فإنه يراه خيرا وصلاحا ، وسعادة ، ونجاحا ، وفوزا وفلاحا. إنه يريد أن لا تفصله عنه حتى عدوة فرس ، فآثر التخلص منه ، فعقره ..

٣١

أول من عرقب فرسه :

وزعموا : أن جعفرا كان أول من عرقب فرسه في الإسلام (١).

ولكننا قلنا : إن ذلك لم يثبت ، بل الراجح : أنه قد عقر فرسه ، (٢) ، لا أنه

__________________

(١) المحاسن للبرقي ص ٦٣٤ وجواهر الكلام ج ٢١ ص ٨٣ والكافي ج ٥ ص ٤٩ والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج ١١ ص ٥٤٤ والبحار ج ٢١ ص ٥٤ وج ٥٨ ص ٢٢٣ وج ٩٤ ص ٢٥ ومستدرك سفينة البحار ج ٧ ص ١٩٧ وج ١٠ ص ٢٣١ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٦٧ ومجمع البحرين ج ٣ ص ١٦٨ وعمدة القاري ج ١٧ ص ٢٦٧ وعن الإستيعاب ج ١ ص ٧٧.

(٢) راجع : البحار ج ٢١ ص ٥٠ و ٦٢ والنص والإجتهاد ص ٢٨ ومجمع الزوائد ج ٦ ص ١٥٩ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٦٩ والدرجات الرفيعة ص ٧٥ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٢٠٩ وعن تاريخ الأمم والملوك ج ٢ ص ٣٢١ وعن المنتخب من ذيل المذيل ص ٢ و ٣ وعن السيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٣٣ والأمالي للطوسي ص ١٤١ (المجلس الخامس : حديث ٤٣) والمبسوط للسرخسي ج ١٠ ص ٢٨ ومقاتل الطالبيين ص ٧ وعن مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٧٧ والسير الكبير ج ٢ ص ٧٩٦ وعن البداية والنهاية ج ٢ ص ٣٠ وقصص الأنبياء لابن كثير ج ٢ ص ٢٩٩ وعن سنن أبي داود ج ١ ص ٥٨٠ والسنن الكبرى للبيهقي ج ٩ ص ٧٨ وعن عون المعبود ج ٧ ص ١٧٢ والطبقات الكبرى لابن سعد ج ٤ ص ٣٧ والثقات ج ٣ ص ٤٩ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٦٨ ص ٨٨ وتهذيب الكمال ج ٥ ص ٥٨ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٢٠٩ وتهذيب التهذيب ج ٢ ص ٨٤ وعن الإصابة ج ١ ص ٥٩٣ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٦٧ وعن أسد الغابة ج ١ ص ٣٢٧ وعن زاد المعاد ج ١ ص ١١٣ والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ٤١.

٣٢

عرقبه. فرواية الأمالي هي الأصح ، وهي الأوفق بالتزام جعفر لحدود الشرع فيما يرتبط بالتعامل مع الحيوان.

وقد نقل «رحمه‌الله» عن الزهري قوله : وكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر فرسه (١).

آخر محاولة للشيطان!!

ورووا : أنه لما أخذ جعفر بن أبي طالب الراية جاءه الشيطان فمنّاه الحياة الدنيا ، وكرّه له الموت ، فقال :

الآن!! حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تمنيني الدنيا؟!

ثم مضى قدما حتى استشهد. فصلى عليه رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، ودعا له ، ثم قال : «استغفروا لأخيكم جعفر ؛ فإنه شهيد ، وقد دخل الجنة ، وهو يطير فيها بجناحين من ياقوت حيث يشاء من الجنة» (٢).

ونقول :

لا شك في أن الشيطان لا يدع فرصة إلا ويحاول اقتناصها ، وهو يرى : أنه

__________________

(١) الأمالي للطوسي ص ١٤١ (المجلس الخامس : حديث ٤٣) والبحار ج ٢١ ص ٥٠ وبشارة المصطفى ص ٤٣٢.

(٢) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٤ ص ٣٨ والثاقب في المناقب ص ١٠٢ وشرح النهج للمعتزلي ج ١٥ ص ٦٨ والدرجات الرفيعة ص ٧٦ وتاريخ مدينة دمشق ج ٢ ص ١٤ وج ١٩ ص ٣٦٨ وكنز العمال ج ١١ ص ٦٦١ والبداية والنهاية ج ٢ ص ٢٨٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٦٧ وجامع الأحاديث والمراسيل ج ١ ص ٤٢٥ والفتح الكبير ج ١ ص ٨٠.

٣٣

حين تنقطع السبل بالإنسان ، ويواجه الخطر الأعظم في لحظة الموت الرهيب ، تضعف عزيمته ، وتتبلبل أفكاره ، ويضطرب في قراراته ، ويضيع في زحمة المشاعر والأفكار التي تظهر عليها عوارض التناقض والإختلاف.

ولكن هناك رجال مؤمنون ، وأصفياء متقون ، لا يفقدون السيطرة على أنفسهم ، حتى في هذه اللحظات ، بل إن منهم من يجد في هذه اللحظات ما يؤكد يقينه ، ويزيد من وضوح الصورة لديه ، فيزيده ذلك رضا ، قد يصل به إلى حد البهجة والسرور ، على قاعدة : «فزت ورب الكعبة» ، حيث يأنس بالموت كما يأنس الطفل بثدي أمه ، ويراه أحلى من العسل ، لأنه يشاهد ما أعده الله تعالى له ، انطلاقا من حقيقة : «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا» ، وعلى هذا الأساس جاء قول جعفر :

يا حبذا الجنة واقترابها

طيبة وباردا شرابها

والروم روم قد دنا عذابها

كافرة بعيدة أنسابها

علي إذ لا قيتها ضرابها (١)

فقد عبر «سلام الله عليه» في أبياته هذه عن تلهفه للجنة ، واشتياقه البالغ لها ..

__________________

(١) راجع : النص والإجتهاد ص ٢٨ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٣ ص ٨٣٣ والبداية والنهاية ج ٤ ص ٢٧٨ والسنن الكبرى للبيهقي ج ١٣ ص ٥٢٠ وتهذيب الكمال ج ٣ ص ١٢٤ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ١٥٠ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٢ ص ٤٦١ وسبل الهدى والرشاد ج ١ ص ١٥٠.

٣٤

تسقط اليد ويرتفع اللواء :

وحين قطعت يد جعفر وسقطت ، فإن ألم قطعها لم يشغل جعفرا ، ولم يمنعه من المبادرة إلى رفع اللواء باليد الأخرى ، ولم ير «عليه‌السلام» في هذا الذي جرى له عذرا يبرر انكفاءه عن المواجهة.

بل وجد أن واجبه هو : أن يهزم العدو بالرعب من خلال ما يشاهده من إصراره الأكيد على رفع اللواء باليد الأخرى ، وليكون ذلك سببا في مضاعفة حدة اندفاع المسلمين في مواجهة عدوهم.

وحتى حين قطعت اليد الأخرى ، فإنه يواصل جهاده ويبذل قصارى جهده في حفظ جذوة الحماس ملتهبة لدى كتائب الجيش الإسلامي ، الذي لا بد أن يظهر ـ من أجل ذلك ـ من البسالة والإقدام والشجاعة ، ما يحير العقول ، ويذهل الألباب ..

وتصعد روح جعفر إلى بارئها ، ويرتفع جعفر ، ويحلق إلى مقامات القرب والزلفى ، ومواقع العز والكرامة بنفس هاتين اليدين المقطوعتين ، اللتين ألبستاه ـ بفقدهما ـ حلتين من البهاء والجمال ، والعظمة والجلال.

الطيار بعد قطع يديه :

وقد صرحت بعض الروايات : بأن جعفرا قطعت يمينه ، فأخذ الراية بيساره ، فقطعت يساره ، فاحتضن الراية ، وقاتل حتى قتل (١).

__________________

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٧ وتاريخ الخميس ج ٢ ص ٧١ والسيرة النبوية لابن هشام ج ٤ ص ٢٦ وعن عيون الأثر ج ٢ ص ١٦٧ وعن زاد المعاد ج ١ ص ١١٣٤ والعبر

٣٥

ونقول :

إننا نتعقل أن يأخذ مقطوع اليدين اللواء ببقايا يديه ، ويضمه إلى صدره ، ولكن لا يمكن أن نتصوره قادرا على قتال العدو بسيف أو برمح ، سوى مبادرته إلى ركل من يهاجمه بإحدى رجليه ، ليدفعه عن نفسه ، وليلحق به أكبر قدر ممكن من الأذى.

بل إن أخذه الراية بشماله ، بعد قطع يده اليمنى يجعله غير قادر على حمل السيف بها أيضا ، لأنها أصبحت مشغولة باللواء.

وهذا معناه : أنه «عليه‌السلام» قد بذل محاولة لإبقاء الراية مرفوعة ليراها المسلمون ، ويواصلوا القتال أطول وقت ممكن ، لأنه يعلم : أن وقوع الراية على الأرض ، يوجب تضعضع الجيش ، وربما يؤدي ذلك إلى هزيمته ، وهذا ما لا يريده ولا يرضاه ..

الطيار أسوة وقدوة :

وغني عن البيان هنا : أن نفس هذا الذي جرى لجعفر بن أبي طالب «عليه‌السلام» قد جرى ما يشبهه للعباس بن أمير المؤمنين «عليهما‌السلام» في كربلاء ، فإن يمينه قطعت ، فأخذ السيف بيساره ، فقطعت ، فقاتل حتى ضعف ، فضربه ملعون بعمود من حديد على رأسه فقتله (١).

__________________

وديوان المبتدأ والخبر ج ٢ ق ٢ ص ١٤١ والخرائج والجرائح ج ١ ص ١٦٦.

(١) البحار ج ٤٥ ص ٤٠ و ٤١ وينابيع المودة ج ٣ ص ٦٨ والعوالم ص ٢٨٣ وعن المناقب لابن شهر آشوب ج ٣ ص ٢٥٦ ونور العين في مشهد الحسين ص ٤١ و ٤٢ وإبصار العين في أنصار الحسين ص ٦٢ والعوالم (الإمام الحسين «عليه

٣٦

وقد روي : أن الله تعالى عوضه أيضا بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة ، فقد روى الصدوق «رحمه‌الله» بسنده عن ثابت بن أبي صفية ، قال : قال علي بن الحسين «عليه‌السلام» : رحم الله العباس ـ يعني ابن علي ـ فلقد آثر وأبلى ، وفدى أخاه حتى قطعت يداه ، فأبدله الله بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة ، كما جعل لجعفر بن أبي طالب (١).

استشهاد جعفر وهو صائم :

وتقدم عن ابن عمر قال : أتيته (يعني جعفرا) وهو مستلق آخر النهار ، فعرضت عليه الماء ، فقال : إني صائم ، فضعه في ترسي عند رأسي ، فإن عشت حتى تغرب الشمس أفطرت.

قال : فمات صائما قبل غروب الشمس شهيدا ، وعمره إحدى وأربعون سنة ، وقيل : ثلاث وثلاثون ..

ونقول :

ألف : بالنسبة لعمره «عليه‌السلام» فإن صح ما يقولونه من كونه أسن من علي «عليه‌السلام» بعشر سنين (٢). فإن عمر علي «عليه‌السلام» كان

__________________

السلام») ص ٢٨٣ و ٢٨٤ وعن ينابيع المودة ج ٣ ص ٦٧ و ٦٨.

(١) الخصال ج ١ ص ٦٨ (باب الإثنين حديث ١٠١) وتفسير نور الثقلين ج ٤ ص ٢٤٦ والأمالي للطوسي ص ٥٤٨ والبحار ج ٤٤ ص ٢٩٨ والعوالم (الإمام الحسين) ص ٣٤٩ ودرر الأخبار ص ١٩٢ ومقتل الحسين لأبي مخنف ص ١٧٦.

(٢) راجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٩ وشرح أصول الكافي ج ١٢ ص ٥٣٩ والبحار ج ٢٢ ص ٢٧٥ وج ٤٢ ص ١١٥ وتحفة الأحوذي ج ١٠ ص ١٨٣ وعون المعبود

٣٧

آنذاك حوالي ثلاثين سنة ، فلا بد أن يكون عمر جعفر أكثر من ذلك بعشر سنين. فكيف يكون عمره ثلاثا وثلاثين سنة ـ كما يقولون ـ؟!

ب : إن المعركة إذا كانت قائمة ، فلا يكون هناك مجال لأن يستلقي جعفر آخر النهار ، ليعرض ابن عمر الماء عليه. ثم يستشهد قبل غروب الشمس!!

ج : قال الحلبي : «كونه رضي‌الله‌عنه مات صائما لا يناسب كونه شق نصفين» (١).

وهو كلام عجيب ، فهل شقه نصفين يمنع من كونه مات صائما؟! فإن شقه هذا لا يوجب إفطاره ، ولا إفساد صومه ..

ذو الجناحين :

وفي بعض المصادر : أنه «قد وردت أخبار في أنه لما رفعوه على الرماح ، منّ الله عليه بجناحين ، فطار من رأس الرماح إلى السماء ، وهو يطير في الجنة

__________________

ج ٦ ص ٢٦٧ وشرح النهج ج ١١ ص ١١٦ و ٢٥٠ والطبقات الكبرى ج ٤ ص ٤٢ وعن تاريخ مدينة دمشق ج ٤١ ص ٩ و ٢٤ وج ٤٢ ص ٥٧٤ وعن أسد الغابة ج ١ ص ٢٨٧ وج ٣ ص ٤٢٢ وتهذيب الكمال ج ٢ ص ٢٣٦ وسير أعلام النبلاء ج ١ ص ٢٠٦ وتهذيب التهذيب ج ٧ ص ٢٢٦ وعن الإصابة ج ١ ص ٥٣٩ والأعلام ج ٢ ص ١٢٥ وعن البداية والنهاية ج ٤ ص ٢٩٢ وج ٨ ص ٥٢ والسيرة النبوية لابن كثير ج ٣ ص ٤٨٤ وعن الإستيعاب ج ٣ ص ٧٣ والمدهش لابن قيم الجوزية ص ٦٤.

(١) السيرة الحلبية ج ٣ ص ٦٩.

٣٨

مع الملائكة» (١).

ولا ندري مدى صحة هذا الحديث ، ولو صح فربما يكون هذا قد جاء على سبيل المجاز ، أو أنه قد طار فعلا إلى السماء مقدارا ثم عادت جثته إلى الأرض ، وبقيت روحه تطير مع الملائكة ، وربما ، وربما ..

نظرة في الكرامات :

إنه تعالى حين يظهر الكرامة لولي من أوليائه ، فإنه لا يريد بذلك أن يقهر الناس على الإيمان ، ولا أن يتهددهم بهذا الأمر ، ليفرض عليهم سلوك طريق الحق ، تحت طائلة التدخل الغيبي في صورة مخالفتهم للأوامر والنواهي الإلهية ..

بل يريد تبارك وتعالى .. أن يثير في نفس الإنسان المؤمن ، الطموح ، لنيل مقامات القرب والزلفى عنده ، وذلك من خلال تقديم نموذج تطبيقي حي وملموس ، يسهّل على المؤمنين اليقين بوعد الله تعالى ، والسكون والركون إلى تحققه حتى كأنهم يرونه ماثلا أمامهم ، من دون أي إخلال أو انتقاص.

ويريد أن يقول لهم : إنه لا مجال لاحتمال المبالغة في البيانات الصادرة ، فإنه إن كان هناك تجوّز في التعبير عن حقيقة ذلك الوعد ، والموعود به ، فإنما هو محاولة لتقريب الصورة الحقيقية ، التي تعجز التعابير المجازية أو الكنايات والإستعارات ، عن الإحاطة بها ، بل تبقى مجرد إشارات وإلماحات لما هو أعظم وأتم ، وأخطر وأهم ..

__________________

(١) تنقيح المقال ج ١ ص ٢١٢.

٣٩

كما أن هذا الإنسان الذي هو مستغرق فيما هو مادي ومحسوس ، إلى درجة أنه إنما يطل على الغيب من خلال ذلك .. يحتاج إلى اختصار المسافة بينه وبين الغيب .. فتأتي الكرامات والمعجزات ، لتقوم بهذه المهمة ، وليكون للغيب أيضا حضوره وشهوده. ليعطي سلاما للروح ، وحياة في الوجدان ، ويقظة في الضمير ، وحركة في العقل بالاتجاه الصحيح ، وعلى أساس من الوعي العميق ، والرؤية الواضحة ، والشمولية ، والواقعية ..

على أن هذه الكرامات تسهل على الإنسان المؤمن أن يعي كيف أن لمسألة الغيب حضورها في كل شيء ، بل هي جزء من حياة هذا الكائن ، وهي مستوعبة لكل المساحات التي ينطلق فيها في حركته نحو الله تعالى ..

فالغيب ليس غائبا عن أي من مواقع حركة هذا الإنسان ، حتى فيما يتخيل أنه مادي صرف ، ولا موقع للغيب فيه ، فإن الغيب كامن في عمق ذاته ، وفي كنه وجوده .. فعليه أن يشعر به في كل المواقع والمواضع من دون استثناء.

ومن جهة أخرى : فقد تمس الحاجة إلى إقامة الحجة على الناس في أمر ظهر فيه تقصيرهم ، أو ظهرت فيهم بوادر هذا التقصير ، كما هو الحال في قضية جعفر «عليه‌السلام» في مؤتة ، فإن ظهور هذه الكرامة له ، بأن يطير جسده إلى السماء ولو مقدارا ما .. لا بد أن يقيم الحجة على الأعداء أولا .. من حيث إنه يفتح أمامهم باب الهداية ، ويسهل عليهم الحصول على القناعة من أقرب طريق .. ألا وهو طريق الوجدان ، والإحساس القلبي ، ويختصر المراحل أمامهم ..

ثم هو تعميم للحجة على جيش المسلمين ، الذين قد يخطر ببالهم : التماس

٤٠