الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٠

السيد جعفر مرتضى العاملي

الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله - ج ٢٠

المؤلف:

السيد جعفر مرتضى العاملي


الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر
المطبعة: دار الحديث
الطبعة: ١
ISBN: 964-493-192-0
ISBN الدورة:
964-493-171-8

الصفحات: ٣٥٥

وفي جميع الأحوال نقول : إنه يمكن اعتماد الرواية التي تقول : إن المكان كان قريبا من المدينة .. وذلك للرواية التي تقول : «كان المشركون قد أقاموا رقباء على جبالهم ، ينظرون إلى كل عسكر يخرج إليهم من المدينة على الجادة ، فيأخذون حذرهم الخ ..» (١).

وفي نص آخر : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أرسلهم لغزوة بني سليم ، فإنهم قريب من الحرة (٢).

هل هناك اكثر من سرية؟! :

وهذه الاختلافات في الموارد الأربعة المتقدمة تدعونا للتفكير بجدية في اعتبارها مبررا لتقوية احتمال تعدد الحادثة ، وأن هذه الحوادث قد تشابهت في بعض عناصرها.

إلا أن يحمل هذا الاختلاف على وهم وقع فيه الرواة ، أو عبث مارسوه ، لغاية في أنفسهم .. وفي جميع الأحوال نقول :

إنه لا بد لنا من وقفات تدبر وتأمل في النصوص المذكورة ، فلاحظ ما نذكره فيما يلي :

__________________

(١) البحار ج ٢١ ص ٧٧ والخرايج والجرايح ج ١ ص ١٦٧.

(٢) الإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٦٣ ـ ١٦٥ والبحار ج ٢١ ص ٧٧ ـ ٧٩ و ٨٣ و ٨٤ عنه ، وعن تفسير فرات ص ٥٩٢ والمستجاد من الإرشاد ص ١٠١ وكشف الغمة ج ١ ص ٢٣١.

٢٢١

الإغارة قبل الاحتجاج أم بعده؟!

ونريد أن نرجح هنا : أن عليا صلوات الله وسلامه عليه قد فاجأ الأعداء في اليوم الأول ، ودعاهم إلى ما فيه لهم خير وصلاح ، وفلاح ونجاح ، فأصروا ، فواقعهم ، فقتل منهم ستة أو سبعة ، ثم أغار عليهم في سحر الليلة الثانية ، أو حين الفجر ، فأوقع بهم ، وقتل منهم مئة وعشرين رجلا ، وأسر منهم مئة وعشرين ناهدا ، وغنم ما شاء الله ..

نقول هذا لأننا نعرف : أن عليا «عليه‌السلام» لم يكن يحارب قوما إلا بعد أن ينذرهم ، ويحذرهم ، ويحتج عليهم ، فإذا أصروا على العناد والحرب واقعهم ..

وقد أوصاه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بذلك ـ فيما روي ـ فقال له : «يا علي لا تقاتل أحدا حتى تدعوه إلى الإسلام الخ ..» (١).

بل لقد روي عن الصادق «عليه‌السلام» أنه قال : ما بيّت رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» عدوا قط ليلا (٢).

__________________

(١) البحار ج ١٩ ص ١٦٧ وج ٩٧ ص ٣٤ وج ٩٨ ص ٣٦٤ والوسائل (ط دار الإسلامية) ج ١١ ص ٣٠ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٥ ص ٤٣ وفي هامشه عن فروع الكافي ج ١ ص ٢٣٥ و ٣٣٧ وعن تهذيب الأحكام ج ٢ ص ٤٧ والكافي ج ٥ ص ٣٦ ومستدرك الوسائل ج ١١ ص ٣٠ وج ١٧ ص ٢١٠ وكتاب النوادر ص ١٤٠ ومستدرك سفينة البحار ج ١٠ ص ٥٠٢ ومنتهى المطلب (ط ق) ج ٢ ص ٩٠٤ وتذكرة الفقهاء (ط ج) ج ٩ ص ٤٤ و ٤٥ ورياض المسائل (ط ج) ج ١ ص ٤٨٦ و ٤٩٣ ومشكاة الأنوار ص ١٩٣.

(٢) الوسائل (ط دار الإسلامية) ج ١١ ص ٤٦ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٥ ص ٦٣

٢٢٢

وروي عنه «عليه‌السلام» قال : كان أمير المؤمنين «عليه‌السلام» لا يقاتل حتى تزول الشمس.

ويقول : تفتح أبواب السماء ، وتقبل الرحمة ، وينزل النصر.

ويقول : هو أقرب إلى الليل ، وأجدر أن يقلّ القتل ، ويرجع الطالب ، ويفلت المنهزم (١).

فهل يصح بعد هذا كله ، أن يقال : إنه قد فاجأهم ، وقتل وسبا ، وغنم ، قبل أن يحتج عليهم ..

وقد يقال : إن قتال علي «عليه‌السلام» لهؤلاء القوم إنما كان بعد أن غزوا ، وقوتلوا ، وقاتلوا ، وذلك حين سار إليهم أبو بكر ، وعمر ، وعمرو ، ولا يجب دعوتهم في مثل هذه الحال ، كما دلت عليه الرواية عن الإمام الصادق «عليه‌السلام» (٢).

__________________

وفي هامشه عن فروع الكافي ج ١ ص ٣٣٤ وعن تهذيب الأحكام ج ٢ ص ٥٦ ومنتهى المطلب (ط ق) ج ٢ ص ٩٠٩ وتذكرة الفقهاء (ط ق) ج ١ ص ٤١٢ ورياض المسائل (ط ق) ج ١ ص ٤٨٩ و (ط ج) ج ٧ ص ٥١١ وجواهر الكلام ج ٢١ ص ٨٢ وتهذيب الأحكام ج ٦ ص ١٧٤.

(١) الوسائل (ط دار الإسلامية) ج ١١ ص ٤٦ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٥ ص ٦٣ وفي هامشه عن الكافي (الفروع) ج ١ ص ٣٣٥ وعن علل الشرايع ج ٢ ص ٦٠٣ وعن تهذيب الأحكام ج ٢ ص ٥٦ والبحار ج ٣٣ ص ٤٥٣ وج ٩٧ ص ٢٢ والكافي للحلبي ص ٢٥٦ ورياض المسائل (ط ج) ج ٧ ص ٥١١ وجواهر الكلام ج ٢١ ص ٨١ والكافي للكليني ج ٥ ص ٢٨.

(٢) الوسائل (ط دار الإسلامية) ج ١١ ص ٣٠ و (ط مؤسسة آل البيت) ج ١٥

٢٢٣

بل لقد ذكرت بعض الروايات : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ، وأنه صلوات الله وسلامه عليه قد فعل ذلك .. وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم.

تحرزوا!! انهزموا!!

في الحديث رقم (٢) المذكور في صدر هذا الفصل ، يلاحظ : أن الرواية تحاول أن تتحاشى التصريح بهزيمة أبي بكر وعمر ، فتقول :

«حتى إذا صار بها بقرب المشركين اتصل بهم خبرهم ، فتحرزوا ، ولم يصل المسلمون إليهم ..»

وهذا معنا : أن أبا بكر وعمر لم ينهزما بالراية ، بل لم تجر حرب ولا صدام فيما بينهم وبين المشركين ، لأن المشركين تحرزوا منهم.

وأما حين يصل الأمر إلى عمرو بن العاص فإن الحديث يصرح بهزيمة عمرو ..

فما هذا الحنان على أبي بكر وعمر ، الذي لا يستحقه حتى عمرو بن العاص ، مع أنه هو الآخر أيضا من أوليائهم وأحبائهم؟!

على أنك تلاحظ : أنهم حين يصلون إلى عمرو ، لا يشيرون إلى تحرز المشركين ، الذين كانوا أيضا يراقبون العساكر التي تخرج من المدينة ..

__________________

ص ٤٣ وفي هامشه عن فروع الكافي ج ١ ص ٣٣٢ وعن تهذيب الأحكام ج ٢ ص ٤٥ وراجع : جواهر الكلام ج ٢١ ص ١٨ والكافي (ط دار الكتب الإسلامية) ج ٥ ص ٢٠ وتهذيب الأحكام (ط دار الكتب الإسلامية) ج ٦ ص ١٣٥.

٢٢٤

فإن كانوا قد تحرزوا من أبي بكر وعمر ، فلما ذا لم يتحرزوا من عمرو .. لكي يرجع عمرو كما رجع صاحباه من دون أن يصل المسلمون إليهم؟!.

وإن كانوا لم يتحرزوا وهاجموا عمروا ومن معه ، فلما ذا لم يهاجموا أبا بكر ومن معه ، وعمر ومن معه .. وتركوهم يرجعون قبل أن يصلوا إليهم؟!.

القائد فقط هو السبب :

وذكرت الرواية المتقدمة برقم (٢) أيضا : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لم يزد على أن «أخذ الراية لعلي ، وضم إليه أبا بكر ، وعمر ، وعمرو بن العاص ، ومن كان معه في تلك السرية». فتحقق النصر العظيم على يده صلوات الله وسلامه عليه ، مع أنه لم يجر أي تعديل ، سوى أنه أعطى القيادة لأمير المؤمنين علي «عليه‌السلام» ..

وهذا يشير إلى : أن العيب ، أو فقل التقصير كان من القادة بالدرجة الأولى ..

بل يمكن القول : إن هزيمة نفس هذا الجيش ثلاث مرات متوالية ، من شأنها أن تجعل احتمالات الهزيمة في المرة الرابعة أقوى ، لأن تلك الهزائم قد حطمت معنوياته وزادت من جرأة جيش الأعداء عليه ، ومن شراسته ضده.

وهذا الأمر لا بد من أن يؤثر في زيادة الأمور صعوبة ، من حيث أنه يهيئ الأجواء لهزيمة أتعس ، ولمقاومة من قبل الأعداء أشد وأشرس.

ولكن النتائج قد جاءت على عكس ذلك تماما ، وكان النصر على يد سيد الوصيين ، وقائد الغر المحجلين ، إلى جنات النعيم كما هو معلوم ..

٢٢٥

حسد عمرو أشرّ من الهزيمة وأضرّ :

وبعد ، فقد يمكن أن يلتمس للمهزوم عذر ، ولو كان باهتا وضعيفا ، ولو بادعاء أن يكون خوفه على نفسه ، وشدة الوجل والوهل قد أذهله عن تكليفه الشرعي ، وأضعف عزيمة التصدي والصمود لديه .. ثم هو قد يراجع نفسه ، ويندم على ما فرط منه ، ويكون ما بدر منه حافزا له على أن يرمي نفسه في أشد الأخطار ، ليكفر عن ذنبه ، وليرضي بذلك ربه ..

ولكن أن يبادر الإنسان الذي يعيش في محيط الأمن والأمان ، إلى العمل على تضييع النصر ، وإلحاق الهزيمة بنفسه ، وبجيش المسلمين لمجرد الاستجابة لرذيلة الحسد التي تحركت في نفسه ، فذلك يدل على خلل عميق في الدين ، وفي واقع الإيمان في عمق ذاته ..

استجابة الشيخين لابن العاص :

والذي يثير دهشة كل منصف : أن ينقاد أبو بكر وعمر لابن العاص ، وأن يجيبا طلبه في العمل على ثني علي «عليه‌السلام» عن عزمه ، وحمله على التراجع عن خطته في مهاجمة العدو!!

فهل هما لم يلتفتا إلى حقيقة ما يرمي إليه ابن العاص؟!. وكيف يكون ذلك والحال : أن محبيهما ما زالوا يصفونهما بالحصافة والحكمة والتبصر .. وإن كانا قد التفتا إلى هذا الخطأ ، ثم طاوعاه ، ورضيا بأن يكونا أداة بيده لتنفيذ مآربه ، فالأمر يصبح أدهى وأمر ، وأتعس وأضر ، ولا نريد أن نقول أكثر من ذلك.

٢٢٦

أمير المؤمنين عليه‌السلام يتهم :

ويظهر من جواب أمير المؤمنين «عليه‌السلام» لهؤلاء المعترضين : أنه يعتبر اتباعه «عليه‌السلام» إطاعة لله ولرسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأن الاعتراض عليه عصيان لله ولرسوله ..

وهو يصرح : بأن إصرارهم على اعتراضهم سوف ينتج طردهم من صفوف الجيش الذي يقوده «عليه‌السلام». وعليهم أن يواجهوا عاقبة فعلهم هذا ، وأن يقدموا تفسيرا مقبولا ومرضيا لدى رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ..

وإذا أضيف إلى ذلك جوابه الآخر ، المتضمن لأمرهم بلزوم رحالهم ، والكف عما لا يعنيهم ، فإنه يكون قد أفهمهم :

١ ـ أنه سوف يكون حازما في موقفه هذا بنحو لا مجال فيه لأي جدل ، أو اعتراض ، لأنه في موقف لا مجال لغير الحزم فيه ، وسيكون إفساح المجال للجدل ، وللتشكيك ، والأخذ والرد فيه سببا في خلق مشكلات ونشوء عراقيل قد تؤثر على المهمة التي انتدبه الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله» لإنجازها.

٢ ـ إن الانضباط في المهمات القتالية ، والكون في المواقع المحددة من قبل القيادة ، يعطي القدرة على التخطيط ، والطمأنينة لسلامة التنفيذ ، ويمكّن من تحقيق النتائج ، بعيدا عن المفاجآت التي يهيئ لها الخلل في الإعداد والاستعداد ..

٣ ـ إن تدخل الجنود فيما لا يعنيهم ، وخصوصا فيما يرتبط بالقرارات الحربية للقيادة .. معناه : أن يفقد القائد قدرته على التأثير في فرض تنفيذ قراراته.

٢٢٧

٤ ـ إنه «عليه‌السلام» قد عرّف الناس : أن هذا الاعتراض يهدف إلى تهيئة الأجواء لعصيان أوامر القائد ، والتمرد على قراراته ، وليس من مصلحة المعترضين أن يظهر هذا الأمر للناس ، ولذلك فلم يعد أمامهم أي خيار سوى التراجع عن موقفهم ..

٥ ـ إنه قد عرفهم وعرف الناس : أن ما يتذرعون به من أنهم يعرفون أمرا لم يكن علي عارفا به غير صحيح ، فهو عالم بما يصنع ، ولذلك لا مجال لتضليل الناس بذرائع من هذا القبيل.

خطة علي عليه‌السلام :

إن حذر القوم الذين يراد مهاجمتهم ، واستعدادهم لا بد أن يكون له أسبابه الواقعية .. وهي أحد أمرين هما :

١ ـ أن يكون لهم عين في المسلمين ، يرسل إليهم بما يجري ، ويعلمهم بتوجه السرية نحوهم ، وبطبيعة تحركاتها ..

٢ ـ أن يكون لهم رقباء في الجبال المشرفة ، يخبرونهم بما يرونه ، فيحتاطون ويستعدون للأمر قبل وقوعه ، اعتمادا على ما يبلغونهم إياه من مشاهدات ، أو معلومات.

وقد كان سلوك علي «عليه‌السلام» لطريق آخر يكفي لتعريف أولئك القادة الذين هزموا أو هربوا بأن عليا «عليه‌السلام» يتصرف بحكمة ، وبدقة بالغة ..

ولأجل ذلك عرف عمرو بن العاص : أنه «عليه‌السلام» سيظفر بهم .. فكيف لم يعرف بذلك أبو بكر وعمر؟ ولعل وضوح هذا الأمر وبداهته قد

٢٢٨

جعل عليا «عليه‌السلام» يعتبر المعترضين يسعون إلى مجرد الخلاف عليه ، وأنهم يريدون معصية الله ورسوله بذلك ..

تبييت العدو ليس غدرا :

وقد ذكرت الروايات المتقدمة ، وسواها : أنه «عليه‌السلام» ، قد بيت المشركين وكبسهم ، وهم غارون فظفر بهم ..

ونعتقد : أن ذلك قد كان بعد الاحتجاج عليهم كما دلت عليه رواية القمي الآتية ، التي ذكرت : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أمرا أبا بكر «أن إذا رآهم أن يعرض عليهم الإسلام ، فإن تابعوا وإلا واقعهم».

كما أنه سيأتي : أنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ما كان يقاتل قوما حتى يدعوهم ، ويحتج عليهم. وعلى كل حال ، فإن عليا «عليه‌السلام» ، بعد أن فرض عليهم المعركة ، في الموقع والمكان والوقت والزمان ، الذي أحب وأراد ، لم يعد يمكنهم التخلي عن مواقعهم إلى أي موقع آخر ، لأن ذلك معناه : الاستيلاء على كل ما لديهم ، وعلى منازلهم وأموالهم ، بل هو قادر على سبي نسائهم وأطفالهم ..

فإذا أبوا الاستجابة لأي منطق ، ورفضوا الانصياع لأي خيار مقبول أو معقول ، واختاروا طريق البغي والعدوان ، فلا مانع من أن يكبسهم وهم غارون في أي وقت شاء ..

وليس في هذا العمل أية مخالفة للشرايع ، أو الأخلاق ، بل هو العمل الحكيم الذي يؤيده الخلق الإنساني ، ويرضاه الشرع ، وتقره العقول .. لأنه ليس من حق العدو المحارب ، المعتدي والظالم أن يعتبر نفسه في مأمن ، في الوقت الذي يعطي لنفسه الحق بالغدر بالآخرين ، ويرخص لنفسه في

٢٢٩

تبييتهم ، والفتك فيهم ، ظلما وعتوا ، وبغيا وعلوا ..

بل إن أخذ ذلك الظالم على حين غرة من شأنه أن يقلل من عدد القتلى في صفوف المهاجمين ، وفي صفوف الأعداء أنفسهم ، لأن ذلك يسقط قدرتهم على المقاومة. وينتهي الأمر بالاستسلام.

وإذا كان الاستسلام لأهل الدين. فإن معاملتهم لا بد أن تخضع لأحكام الشرع ، وفق ما تفرضه الأخلاق الفاضلة ، وتقضي به العقول ، ولن يكون متأثرا بالأهواء والنزوات والميول ..

تسمية الغزوة بذات السلاسل :

وقد أظهرت الرواية الثانية المتقدمة : أن سبب تسمية الغزوة بذات السلاسل : هو أنهم حين أسروا الرجال شدوهم بالحبال كالسلاسل ، وقيل : هو اسم ماء يقال له : السلاسل.

ويظهر من أبي عبيد البكري : أن السلاسل رمل بالبادية ، يكون بعضه على بعض كأنه السلسلة (١) ، ولعل هذا هو مرادهم حين قالوا : إن الأعداء قد اجتمعوا بوادي الرمل (٢) ، فراجع.

__________________

(١) سبل الهدى والرشاد ج ٦ ص ١٧٢ وراجع : السيرة الحلبية ج ٣ ص ١٩٠ وعن فتح الباري ج ٧ ص ١٩ وتحفة الحوذي ج ١٠ ص ٢٦٠.

(٢) راجع : البحار ج ٢٠ ص ٣٠٨ وج ٢١ ص ٧٧ والإرشاد للمفيد ج ١ ص ١٦٢ ومناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٧٤ والمستجاد من الإرشاد ص ١٠٠ وموسوعة التاريخ الإسلامي ج ٢ ص ٥٧٤ وكشف الغمة ج ١ ص ٢٣٠ وكشف اليقين ص ١٥١ وتأويل الأحاديث ج ٢ ص ٨٤٠.

٢٣٠

مع احتمال أن تكون هناك أكثر من سرية ، ويكون بعضها إلى وادي الرمل ، وبعضها إلى مواضع أخرى.

محاباة لعمر؟!

وقد صرحت الرواية الثالثة : بأن الأعداء قد قتلوا جماعة كثيرة من المسلمين ، حينما كانت قيادة المسلمين لأبي بكر ..

ولكن الرواية تسكت عن قتل المسلمين حين استلم القيادة عمر بن الخطاب ، وتكتفي بذكر هزيمته .. ثم لما وصل الأمر إلى عمرو بن العاص ، عادت للتصريح بالهزيمة ، وبقتل جماعة من المسلمين!!.

فما هذه المحاباة لعمر في هذا النص على حساب رفيقيه ، أبي بكر ، وعمرو بن العاص؟!.

علي عليه‌السلام كرار غير فرار :

وقد صرحت الرواية الثالثة أيضا : بأن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد وصف عليا «عليه‌السلام» بأنه كرار غير فرار ..

وهذا الوصف هو نفسه : هو الذي أطلقه النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» على علي «عليه‌السلام» يوم خيبر ، بعد أن هزم أبو بكر ، ثم عمر. وأعطى «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الراية لعلي «عليه‌السلام» ، فرجع بالفتح.

وقد شرحنا هناك هذا النص ، فراجع غزوة خيبر الفصل الثالث.

ما جرى في خيبر لم يزل يتكرر :

واللافت والعجيب : أن فرار هؤلاء القوم بالراية والجيش ، ثم حصول

٢٣١

الفتح على يد أمير المؤمنين علي «عليه‌السلام» قد تكرر مرات عديدة ..

فإنا لله .. وإنا إليه راجعون ..

فقد حصل ذلك في :

١ ـ قريظة.

٢ ـ في خيبر.

٣ ـ في فدك.

٤ ـ في وادي الرمل بمشاركة عمرو بن العاص.

٥ ـ أو في ذات السلاسل قرب المدينة ومشاركة خالد.

٦ ـ وربما في بني سليم.

٧ ـ وربما في قضاعة في بلاد الشام.

فهل هذه صدف .. أم أن النبي الحاضر يرى ما لا يراه الغائب ويريد لهذا الأمر أن يتكرر ، وأن يعرف الناس الحقيقة.

علي عليه‌السلام يقبّل قدمي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

وذكرت الرواية الرابعة المتقدمة : أن عليا «عليه‌السلام» أهوى إلى قدمي النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» يقبلهما ..

وهذا يدحض المزاعم التي تقول بعدم جواز التبرك بالأنبياء «عليهم‌السلام» ، وبآثارهم ، لأن عليا «عليه‌السلام» ، إنما فعل ذلك طلبا لرضى الله سبحانه ، ورغبة في ثوابه .. والتماسا للبركة ، التي تعني المزيد من العطاء الهنيء والخير النامي ، والمقام السامي ..

وعلينا أن لا ننسى : أن هذا يشير إلى ترابية أمير المؤمنين «عليه‌السلام» ،

٢٣٢

وشدة خضوعه لله سبحانه ، ولرسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، لم يكن يرى نفسه زميلا لمحمد. كما أنه يشير إلى صفاء ذاته ، وطهارة روحه ، وخلوص نواياه ..

ونجد في مقابل ذلك : أن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» نفسه ، كان يتبرك بالعرق الذي يكون على وجه علي «عليه‌السلام» (١).

الله ورسوله عنك راضيان :

وقد كانت الجائزة العظمى التي نالها علي «عليه‌السلام» هي أن الله تعالى ورسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» راضيان عنه .. وتكون هذه الكلمات هي البشارة الكبرى التي يبكي علي «عليه‌السلام» فرحا بها وشوقا إليها ..

فهو إذن لا يطمع بالقصور ، ولا بالحور ، ولا تهمه الجنان ولا يفرحه كل ما فيها ، بمقدار ما يهمه ويفرحه رضى الله تعالى ، ورضى رسوله ، وفقا

__________________

(١) راجع : مستدرك الوسائل ج ١٧ ص ٣٣٥ ومناقب أمير المؤمنين «عليه‌السلام» للكوفي ج ١ ص ٣٩٤ والمسترشد للطبري ص ٦٠٢ ومائة منقبة لمحمد بن أحمد القمي (ابن شاذان) ص ٥٨ والتحصين للسيد ابن طاووس ص ٥٥٥ واليقين للسيد ابن طاووس ص ١٧٩ و ١٩٦ و ١٩٧ و ٢٤٣ و ٣٦٧ والبحار ج ٣٧ ص ٣٠٠ و ٣٢٤ وج ٣٨ ص ٢ وج ٤٠ ص ١٥ و ٨٢ و ٣١٥ وج ٨٩ ص ٩١ وكتاب الأربعين للشيرازي ص ٥٥ وحلية الأبرار ج ٢ ص ٤٤٦ وكتاب الأربعين للماحوزي ص ٢٤٩ ومناقب أهل البيت «عليهم‌السلام» للشيرواني ص ١١٦ والغدير ج ٨ ص ٨٧ ومستدرك سفينة البحار ج ٧ ص ١٩٤ و ٣٨١ والإمام علي «عليه‌السلام» للهمداني ص ٩٢ و ١٤٨ وتفسير فرات ص ٤٠٦ والمناقب للخوارزمي ص ٨٥ وكشف الغمة ج ١ ص ١١٢ وكشف اليقين ص ٢٦٦ وتأويل الآيات ج ١ ص ١٨٥ وتنبيه الغافلين ص ٢٨.

٢٣٣

لقوله تعالى : (.. رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (١).

وقوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) (٢).

__________________

(١) الآية ٨ من سورة البينة.

(٢) الآيتان ٢٧ و ٢٨ من سورة الفجر.

٢٣٤

الفصل السابع :

رواية القمي توضح .. بل تصرح

٢٣٥
٢٣٦

ذات السلاسل برواية القمي :

وقد روى القمي عن جعفر بن أحمد ، عن عبيد بن موسى ، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة ، عن أبيه ، عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» ـ ما ملخصه ـ :

إن أهل وادي يابس اجتمعوا اثني عشر ألف فارس ، وتعاقدوا ، وتعاهدوا ، وتواثقوا : أن لا يتخلف رجل عن رجل ، ولا يغدر بصاحبه ، ولا يخذل أحد أحدا ، ولا يفر عن صاحبه ، حتى يموتوا كلهم ، ويقتلوا محمدا «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وعلي بن أبي طالب «عليه‌السلام».

فنزل جبرئيل «عليه‌السلام» على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأخبره بالأمر ، وأمره أن يبعث أبا بكر في أربعة آلاف فارس ، من المهاجرين والأنصار.

فخطب «صلى‌الله‌عليه‌وآله» الناس ، وأخبرهم بما أخبره به جبرئيل «عليه‌السلام» عن أهل وادي اليابس ، وأن جبرئيل أمره بأن يسير إليهم أبو بكر بأربعة آلاف فارس.

ثم أمرهم أن يتجهزوا للمسير مع أبي بكر يوم الإثنين ، فلما حان وقت المسير أمر «صلى‌الله‌عليه‌وآله» أبا بكر : «أن إذا رآهم أن يعرض عليهم

٢٣٧

الإسلام ، فإن تابعوا ، وإلا واقعهم ، فقتل مقاتليهم ، وسبى ذراريهم ، واستباح أموالهم ، وخرب ضياعهم ، وديارهم».

فسار أبو بكر بهم سيرا رفيقا ، حتى نزل قريبا منهم ، فخرج إليه منهم مئتا فارس ، وهم مدججون بالسلاح ، فسألوهم : من أين أقبلوا؟ وإلى أين يريدون؟ ثم طلبوا مقابلة صاحبهم.

فخرج إليهم أبو بكر ، فسألوه ، فأخبرهم بما جاء له.

فقالوا : أما واللات والعزى ، لولا رحم ماسة ، وقرابة قريبة لقتلناك وجميع أصحابك قتلة تكون حديثا لمن يكون بعدكم ، فارجع أنت ومن معك ، وارتجوا العافية ، فإنما نريد صاحبكم بعينه ، وأخاه علي بن أبي طالب.

فقال أبو بكر لأصحابه : يا قوم ، القوم أكثر منكم أضعافا ، وأعدّ منكم ، وقد نأت داركم عن إخوانكم من المسلمين ، فارجعوا نعلم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بحال القوم.

فقالوا جميعا : خالفت يا أبا بكر رسول الله ، وما أمرك به ، فاتق الله وواقع القوم ، ولا تخالف قول رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله».

فقال : إني أعلم ما لا تعلمون. الشاهد يرى ما لا يرى الغائب.

ورجعوا إلى النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، فأعلن على المنبر : أن أبا بكر قد عصى أمره ، وأنه لما سمع كلامهم : «انتفخ صدره ، ودخله الرعب منهم» ثم قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» :

«وإن جبرئيل «عليه‌السلام» أمرني عن الله : أن أبعث إليهم عمر مكانه في أصحابه ، في أربعة آلاف فارس ، فسر يا عمر على اسم الله ، ولا تعمل كما عمل أبو بكر أخوك ، فإنه عصى الله وعصاني».

٢٣٨

وأمره بما أمر به أبا بكر.

فسار بهم يقتصد بهم في سيرهم ، حتى نزل قريبا من القوم ، وخرج إليه مئتا رجل ، وقالوا له ولأصحابه مثل مقالتهم لأبي بكر.

فانصرف ، وانصرف الناس معه ، وكاد أن يطير قلبه مما رأى من عدة القوم وجمعهم ، ورجع يهرب منهم.

فنزل جبرئيل «عليه‌السلام» وأخبر محمدا بما صنع عمر ..

فصعد «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأخبرهم بما صنع عمر ، وأنه خالف أمره وعصاه ..

فلما قدم عمر قال «صلى‌الله‌عليه‌وآله» : «يا عمر ، عصيت الله في عرشه ، وعصيتني ، وخالفت قولي ، وعملت برأيك ، ألا قبح الله رأيك».

ثم ذكر : أن جبرئيل «عليه‌السلام» أمره أن يرسل عليا «عليه‌السلام» مع الأربعة آلاف ، وأن الله يفتح عليه وعلى أصحابه ، ثم دعاه وأخبره بذلك ..

فخرج علي «عليه‌السلام» فسار بأصحابه سيرا غير سير أبي بكر وعمر ، فقد أعنف بهم في السير ، حتى خافوا أن ينقطعوا من التعب ، وتحفى دوابهم ، فقال لهم : لا تخافوا ، فإن رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» قد أمرني بأمر ، وأخبرني : أن الله سيفتح عليّ ، وعليكم ، فأبشروا ، فإنكم على خير ، وإلى خير.

فطابت نفوسهم وقلوبهم ، وواصلوا سيرهم التّعب ، حتى نزلوا بالقرب منهم ..

فخرج إليه منهم مائتا رجل شاكين بالسلاح ، فلما رآهم علي «عليه

٢٣٩

السلام» خرج إليهم في نفر من أصحابه ، فقالوا لهم : من أنتم؟ ومن أين أنتم؟ ومن أين أقبلتم؟ وأين تريدون؟

قال : أنا علي بن أبي طالب ، ابن عم رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وأخوه ورسوله إليكم ، أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، ولكم ما للمسلمين ، وعليكم ما عليهم من خير وشر.

فقالوا له : إياك أردنا ، وأنت طلبتنا ، قد سمعنا مقالتك ، فاستعد للحرب العوان ، واعلم أنّا قاتلوك وقاتلوا أصحابك ، والموعود فيما بيننا وبينك غدا ضحوة ، وقد أعذرنا فيما بيننا وبينك.

فقال لهم علي «عليه‌السلام» : ويلكم تهددوني بكثرتكم وجمعكم؟! فأنا أستعين بالله وملائكته والمسلمين عليكم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فانصرفوا إلى مراكزهم ، وانصرف علي «عليه‌السلام» إلى مركزه. فلما جنه الليل أمر أصحابه أن يحسنوا إلى دوابهم ، ويقضموا ، ويسرجوا.

فلما انشق عمود الصبح صلى بالناس بغلس ، ثم غار عليهم بأصحابه ، فلم يعلموا حتى وطئتهم الخيل ، فما أدرك آخر أصحابه حتى قتل مقاتليهم ، وسبى ذراريهم ، واستباح أموالهم ، وخرب ديارهم ، وأقبل بالأسارى والأموال معه.

ونزل جبرئيل فأخبر رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله» بما فتح الله على علي «عليه‌السلام» وجماعة المسلمين ، فصعد المنبر ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، وأخبر الناس بما فتح الله على المسلمين ، وأعلمهم أنه لم يصب منهم إلا رجلان.

ونزل فخرج يستقبل عليا «عليه‌السلام» في جميع أهل المدينة من

٢٤٠